أكتوبر 1983
الأرجح أنه يوم ثلاثاء، في إحدى قاعات كلية الآداب بالرباط، كان لنا موعد مع درس في تقنيات المكتبة والتوثيق يلقيه علينا أستاذ شاب هو ادريس بلمليح. لا أذكر شيئا من درس ذلك اليوم لكنني أذكر، ولكل داخل دهشة أنه كان أنيقا شيق الحديث منصتا، وكنت قد لمحته قبل ذلك وهو يحادث أستاذه وأستاذنا طيب الذكر أمجد الطرابلسي رحمة الله عليه. سرني وأنا في بداية الدراسة الجامعية أن أرى كيف يحادث هذا المدرس أستاذه وشيخه باحترام وانحناء وكأنه يقبل الأرض بين يديه. لم أستغرب بعد ذلك بعقد من الزمن أن أقرأ كتاب أمجد الطابلسي الفريد: نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة الذي أصدرته دار توبقال سنة 1993 بالعربية مترجما بقلمه في طبعة جميلة وبلغة عربية جزلة واضحة كما هو معروف عنه في كتاباته النقدية والسردية.
فبراير 1994
بلغني عن طريق أحد الأصدقاء سلام حار من الأستاذ ادريس بلمليح والمناسبة مقال صدر لي بمجلة كلية الآداب بالرباط حول نظرية القراءة كان الأستاذ محمد مفتاح هو من أوعز لي بكتابته في سياق صدور كتاب جماعي عن نظرية التلقي والـتأويل، وكان الأستاذ بلمليح مساهما فيه ببحث قيم. التقينا بعيد ذلك ودار بيننا حوار طويل وتوالت اللقاءات المبرمجة أو بالصدفة. كانت دائما لقاءات في حب المعرفة وفي جمال الأدب. وقد أفدت كثيرا من معارفه وتقنياته في المقاربة الشعرية حين أصدر سنة 2000 كتابه القراءة التفاعلية عن دار توبقال للنشر. ادريس بلمليح من طينة الأساتذة والباحثين الذين يدققون المفاهيم ويكتبون بحرص شديد وبدون سرعة ولا أحكام قيمة.
6 يوليوز 2003
بداية صيف حار جدا. ادريس بلمليح يقبل أن يشارك في لجنة علمية لمناقشة أطروحتي لنيل الدكتوراه. التقيته في بهو الكلية وكان بشوشا مرحبا فزال عني بعض التوتر. رجوته ألا يؤخر القراءة والتقرير لما بعد عطلة الصيف فقد كنت قلقا متعبا وزوجتي على أبواب وضع طفلنا الثاني بعد أسابيع قليلة. وعدني بألا يتأخر وكان عند وعده رحمة الله عليه. الأستاذ بلمليح كان قاسيا في مناقشتي، جرى بيننا نقاش علمي طويل وممتع رغم دقة اللحظة والترقب والعياء. خالفني الرأي حين دافعت عن فرضية غير مألوفة في تاريخ الأدب هي أن قيس بن الملوح كان شاعرا عذريا لكنه في الحياة لم يكن كذلك فقد فاز بالتفاحة كما فاز بها آدم. كانت مصادري قوية في استدلالاتها لكننا في الأخير أمام افتراضات قد يصدقها التاريخ وقد ينفيها. انتهت الجلسة وعدنا إلى سابق ما كنا عليه، لقاءات وحوارات كثيرا ما تكون بالصدفة الجميلة. أسعدتني مكالمته يوما حين اتصل بي ليهنئني بصدور الكتاب. كان السي ادريس دمث الأخلاق طيبا كما عرفته منذ درسي الأول في فصله.
27 فبراير 2013
كنت على موعد صباحي مبكر مع صديقين عزيزين هما الأستاذ عبد الفتاح لحجمري والأستاذ محمد الوهابي، تعذر علينا اللقاء خلال اليوم لكثرة المشاغل فاتفقنا على احتساء قهوة الصباح الأولى معا. وصلت إلى المقهى فوجدت السي ادريس جالسا يدردش مع السي محمد الوهابي. سعدت بلقائه وكانت جلسة صباحية طويلة. كان السي ادريس يودعنا ولم نكن نعلم أنها المرة الأخيرة. خرج ثم عاد. لست أدري لماذا خاطبته بلغة مختلفة وفي موضوع لم يسبق أن تحدثنا فيه: السي ادريس هل تعلم أنني قرأت كل رواياتك وبمتعة بالغة منذ أصدرت الوردة والبحر، وخط الفزع، ومجنون الماء، والجسد الهارب. ابتسم وقال: وأنا أعد رواية جديدة للنشر ستصدر قريبا. أتمنى صادقا ألا تؤخر دار النشر إصدارها فقد كان حريصا على ذلك ويسرع في تنفيذه، لكن القلب العليل لم يمهله ليرى آخر ما جادت به مخيلته.
15 مارس 2013
السي محمد الوهابي الحاضر دوما في السراء والضراء، يهاتفني وعلى غير عادته يستفسرني عن هاتفي الذي لم يكن يرد قبل يومين. نزلة برد لعينة ألزمتني الفراش أياما، وحاولت أن أمازحه بلا جدوى: “السي ادريس قام بالواجب وودعنا، حاولت الاتصال بك في الساعات الأولى بعد الرحيل”. مازال يحضرني الانطباع أنني سأقرأ الرواية وإهداؤه مرسوم على صفحتها الأولى. كثيرا ما يصعب علينا أن نستوعب رحيل بعض الناس حتى لو لم نكن نلقاهم باستمرار. السي ادريس من هذه الفئة. لم يحصل يوما أن تنكر لسلام أو تحية وهو يعبر الطريق من وإلى كل الأمكنة.
جسده الآن يرقد في تراب فاس. فاس التي أحبها وأفرد لها مكان الصفوة في عالمه الحكائي الشيق.
سرد بسعة الحياة
كان السي ادريس بارعا في كتابة السرد، سرد دافئ قوي عميق الوصف بكل المقاييس. من خلال رواياته عرفت فاس الجميلة الأنيقة بعيون أخرى، في سرده حضور قوي للمرأة بكل أوصافها ومزاجها وتناقضاتها وضعفها وجور الزمن عليها. في رواياته لا تستطيع فصل عمل المخيلة عن الواقع الذي يحيل عليه المحكي. شخصياته منغرسة في تاريخ المغرب الأصيل والعميق تعبر الزمن كما تعبر الروح والمعنى. حتى الفشل والخيبة تصير لهما قيمة بقوة اللغة وجمالية المحكي وتتبع التفاصيل والأمكنة والعلاقات والأزقة والباعة والتحول:
“كان لدي زعم كبير يسيطر علي، كنت أظن أن المحبة تستطيع أن تتعايش مع المستحيل، الآن ذهب هذا الوهم الذي بنيته في خيالي، فأراني أجتر خيبتي وأمضي مع كل من مضى لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا عشق في هذه الحياة التي تشبه الوهم أو هي الوهم نفسه. سأتلفع بالصمت وأقبل عن طواعية حالة حجزي وأنتظر زمنا ثالثا إذا كان هناك زمن ثالث. أنا أعرف أن الأزمنة كلها تؤول إلى زمن واحد هو الإنسان، ولكنني فقدت هذا البعد من داخلي فصرت أبحث عن أزمنة متعددة لا أصل لها تعود إليه، ولا فصل يتفرع عنها، إنها أزمنة الرداءة بالجملة والتقسيط” الجسد الهارب (ص 222).
ادريس بلمليح لم يكن روائيا فقط، كان شاعرا رقيقا، لم ينشر ديوانا لكن من يقرأ روايته الجسد الهارب سيلاحظ أولا قوة المحكي الشاعري، وسيلاحظ ثانيا جمالية تضمين السرد مقاطع شعرية تخدم مناخ الكتابة ومقاصد الكاتب وعلاقة الشخصية بالأنثى حين يصف الجسد/الأجساد الهاربة وكأننا أما القابض على الماء خانته فروج الصابع:
سأشرب ماء العذوبة من
شفتيك
أنام قليلا ثم أصحو
على دفقة حب من عينيك
خذيني إليك
ثم احتملي مني هذا العشق
واسألي:
كم أنا أصبو إليك؟
أو أسكن في رؤاك؟
اعشقي كل ورد فيك
أنا الذي سقيتِه من ماء جفنيَّ
وخطي على جبيني
حروفا من أشعة
لهذا الصباح
كوني كما رأيتك نرجسة
مأخوذة
بمرايا الماء
وانسي جمرك
لا وقت
للجرح
منكِ إليًّ
خذيني بعيدا
لا تكترثي
أنت العاشقة المستحيلة
وبين جفنيكِ اشتياقي
كوني زهرة الياسمين
وهذي عينايَ دالية أو حديقة
افترشي للبنفسج عرشا
وسريرا من ماء
أو شعاع يشبهك
أنتِ كل ما أملك من رؤىً
ونبضٍ دافقٍ
لرؤاكْ
استحيلي زنابق، أو نجما عابرا يسكنني،
لوقت ثم يغيبُ
فيكِ منكِ إليكِ.
الجسد الهارب (ص 58)
السي ادريس بلمليح لك مني كل التحية.