الإثنين , 11 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » العدالة وتعدد العقل والعقلانية عند أمارتيا أ. صن

العدالة وتعدد العقل والعقلانية عند أمارتيا أ. صن

 مقدمة:

لا يمكن إدراك حقيقته اسم العدل أو العدالة إلا بالإضافة إلى نقيضه الظلم وبالصراع الذي يبذله الإنسان للتخفيف من وطأته والتقليص من أسبابه. وهذه الإضافة إلى ضده هي التي جعلت العدالة اسما ملتبسا يجمع بين التعالي عن الثقافة والزمان، واستمداد معناه من التاريخ ومن ثقافات الشعوب، وبالتالي لا يمكن أن نتكلم عن “العدالة بما هي عدالة”، أي بما هي ماهية واحدة في ذاتها، وإنما عن عدالات متباينة حسب الثقافات. ولا يقتصر معنى هذا التعدد على الاختلاف المجالي بين عدالة اجتماعية، وعدالة قانونية (عدل المحاكم)، وعدالة اقتصادية (العدالة التوزيعية)، وعدالة سياسية (الديمقراطية)، وعدالة ثقافية (الإنصاف بين الهويات)، وعدالة شرعية وعدالة عقلية الخ.، بل يتجاوز ذلك إلى الاختلاف الدلالي؛ فالقضاء بالحق عدالة، والعقاب عدالة، وفعل ما يجب عدالة، واجتناب ما هو محظور عدالة، والتوسط والاعتدال عدالة، وغلبة الحق عدالة، والعدل مساواة وإحسان الذي هو تجاوز المساواة في المكافأة. كما أن العدالة لا تقال بمعنى واحد في الأزمنة والثقافات والمذاهب المختلفة. فقد كانت الثقافات القديمة والوسطوية وحتى الحديثة تعتبر الاستعباد تجارة مشروعة وضرورية لبقاء الحضارة، في حين أصبحت هي عين الظلم عندما اكتُشفت وسائل وقوى الإنتاج الآلية الحديثة، وحينما انتشرت وتوطدت أفكار حقوق الإنسان بين الجمهور. والميز العنصري لم يتم القضاء عليه فعليا في الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا إلا مؤخرا بسبب اعتقاد البيض أنه من العدل استرقاق السود.

العدالة بطبيعتها، إذن، تاريخية. فهي وإن كانت تحوز على الإجماع بين كل البشر بوصفها أعز القيم لدى الإنسان، فإنها ستبقى دائما مثالا أعلى ينتظر التحقيق، مما يعني أن الصراع حول طرق ومعايير تحديدها وإنجازها لن يتوقف بين الأفراد والجماعات والثقافات والأديان والإيديولوجيات والدول. فما يُعد عدالة في حق المرأة في الهند أو في الإسلام هو عين الظلم في نظر الثقافة الغربية، وما يعد عدلا في حقها في الثقافات الغربية المعاصرة يُعتبر انحلالا وخروجا عن القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية السامية لدى بعض الاتجاهات الإسلامية والهندوسية المتشددة. من هذه الجهة، لا يوجد إجماع حول معنى العدالة بين الثقافات والأزمنة، لكن الجميع يتغنى باسمها ويتوق إلى تحقيقها كأفق أعلى.

إن تغني الجميع باسمها يخفف من نسبيتها التاريخية وتعددها الدلالي ويسمح بالتوافق على معايير عامة ومشتركة حولها مهما اختلفت الأزمنة والحضارات والمذاهب. فالإجماع يكاد ينعقد على أنه لكي تكون العدالة عدالات، ينبغي على الأقل أن تقوم على: أولا على الحرية وعلىالعقل وعلى الحق وعلى الإنصاف وعلى المساواة، وهي أن تُنزل الآخر منزلة نفسك، وعلىالحق في الاختلاف.

والعدالة إذ ترتكز على هذه المعايير الستة فلغاية ضمان شروط العيش المشترك، وتوفير الظروف الملائمة للتفكير تفكيرا عقلانيا حرا، وتأمين البيئة المناسبة للشعور بالتعاطف مع المظلوم، وفتح أفق شفاف يمكّن الناس من رؤية الظلم ظلما، والتنديد به والعمل على استئصاله قدر الإمكان. ذلك أن البيئة المحرومة من ظروف مواتية للإحساس بضرورة العدل وللتفكير فيه تفكيرا عقلانيا قد تجعل الناس غير قادرين على الشعور بالظلم حتى بالنسبة لأنفسهم، عِلماً بأن هذا الوضع ليس معناه أنهم لا يملكون أصلا القدرة على هذا التفكير أو الاستطاعة على الإحساس بالظلم. فالجماعات الثقافية (الطالبان) التي تحْرِم الفتاة الأفغانية من حقها في التعلم والمعرفة باسم “العدل الإلهي”، أو ترغمها على الزواج وهي لم تتجاوز عتبة الطفولة، تبدو وكأنها غير قادرة على الشعور بفداحة الظلم الذي ترتكبه ولا مؤهلة على التفكير تفكيرا عقلانيا وحرّا. بل إن هذا العجز عن الانفعال بالظلم وتشخيصه تشخيصا عقليا ينتقل إلى الفتاة نفسها، دون أن يعني ذلك أنها غير قادرة أصلا على التفكير العقلاني أو على الشعور بالظلم والحرمان الذي تعانيه منه، وإنما معناه أنها حُرِمت من الشروط الضرورية التي تسمح لها بتفعيل قدراتها الفطرية. ولذلك، فإن إمكانية الانفصال عن تأثير الجماعة والهوية الموروثة والانتفاض ضد وصايتها أمر وارد دائما بالنسبة لها، لأن القدرات العقلية والأخلاقية ما زالت كامنة فيها.

من جهة أخرى، تميز تاريخ العدالة المعاصر بتفجير الفيلسوف الأمريكي جون راولز (John Rawls) النقاش حولها منذ سنة 1958 بمقاله المشهور “العدالة من حيث هي إنصاف”، حيث صارت العدالة بؤرة النقاش في الفلسفات السياسية بمختلف اتجاهاتها. وكان أحد أهم الكتب الأخيرة التي ناقشت كتاب راولز نظرية العدالة كتاب فكرة العدالة للمفكر الهندي أمارتيا صن (Amartya Sen). كانت مناقشة هذا الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل لكتاب راولز مناسبة لمناقشة عدد كبير من المبادئ والأفكار والمدارس المتصلة بالعدالة. وبسبب هذا التعدد الغنيّ، ارتأينا أن نخصص هذا المقال لجانب واحد من جوانب الكتاب هو علاقة العدل بالعقل، أو صلة العدالة بالعقلانية وما يتصل بها أو يتعارض معها.

ولكي نستوعب جيدا مدى التجديد الذي قام به صاحب كتاب فكرة العدالة في التعاطي مع علاقة العقل بالعدالة سيكون من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على طبيعة هذه العلاقة في الفلسفات السياسية اليونانية والعربية والتي شيدت حلمها للعدالة المحضة على أساس العقل النظري؛ والتخلي عن هذا الحلم بواسطة العقل العملي كان هو إنجاز الحداثة في مجال العدالة؛ بعد ذلك سيكون علينا أن نقف على دور العقل في الانتقال من الشعور بالظلم إلى تشخيصه النظري؛ بعد هذا الاعتراف بدور العقل في تشخيص الظلم سننتقل إلى نقد العقل التنويري لفتح الباب أمام إثبات تعدد العقول والأنوار؛ وهذا التعدد سيُسلِمنا للكلام عن تعدد الموضوعية والنزاهة؛ ولإثبات الطابع المرن والمنفتح للعقلانية التي سيؤسس عليها أمارتيا صن مفهومه للعدالة، سيكون علينا أن نبرز دور العاطفة واللاعقل في العدالة ؛ وأخيرا نتكلم عن العدالة بين المؤسسات والسلوكات الحياتية.

1. العقل النظري البرهاني وحلم العدل المحض في الفلسفتين اليونانية والعربية

اخترت أن أتحدث عن جانب واحد من الجوانب المتعددة التي يستعرضها كتاب فكرة العدالة، هو علاقة العدالة بالعقل ومشتقاته (كالعقلية والمعقولية والعقلانية والتعقل والتفكير) وتوابعه (كالحق والموضوعية والنزاهة والنقاش العمومي)، لما له من أهمية أساسية في النقاش الذي يدور اليوم في العالم العربي، ولما يقوم به من دور في بلورة فكرة العدالة بعامة، ولدى أمارتياصن بخاصة. ومن المعلوم أن مشكل العلاقة بين العقل والعدالة مشكل قديم، وهو ما عبّر عنه أ. صن بقوله إننا »نواجه مشكل جدوى العقل وحدوده منذ قرون، ومع ذلك عقدنا العزم على معالجته هنا، لأنه بالاستدلال العقلي سنتناول، في هذا الكتاب، فكرة العدل« (ص63).

وقبل أن أعرض للعلاقة المتشابكة بين العقل والعدل كما يعرضها أ. صن، فإني رأيت من المفيد أن أعرّج، ولو بسرعة شديدة، على التراث الفلسفي في صيغتيه اليونانية والعربية، أولا جريا على عادة أ. صن في الانفتاح على مختلف تجارب العقل الإنساني المنتمية لثقافات متباينة تلافيا للتقوقع في تفكير محلي ضيق كما حصل للفكر الغربي، وثانيا حرصا منّي على تأطير الموضوع في تاريخ الفلسفة كيما نستطيع قياس المسافة الكبيرة التي تفصل بين طرح القدماء وطرح المحدثين فيما يتصل بعلاقة العدل بالعقل.

اتخذت علاقة “العدالة بالعقل” دائما طابعا إشكاليا منذ أن وضع أفلاطون الأسس الأولى لنظرية العدالة في محاورة الجمهورية. في حين لم تَطرح العلاقة بين “العدالة والحق” مشكلة كبيرة في تاريخ الفلسفة اليوناني والعربية الإسلامية، بحكم ارتباطهما الذاتي، سواء بالمعنى الشرعي الذي يجري تداوله في أقبية المحاكم، أو بالمعنى الاجتماعي والسياسي الذي تجري ممارسته والصراع حوله في الفضاءات العمومية. فلا يمكن الحديث عن العدالة بهذين المعنيين القضائي والسياسي بدون الإحالة على الحق، والعكس صحيح.

في هذه المحاورة التي نذرها أفلاطون للنظر في مفهوم “العدالة”، أبَى إلا أن يربط مصيرها بمفهوم العقل، وبخاصة بمفهوم معين هو العقل البرهاني، عقل الرياضيات والطبيعيات، لا بعقل الجدل والسفسطة والخطابة. فبعد أن أعطى العقل الأسبقية على القوى الانفعالية الثلاث، الغضبية والشهوية والنزوعية، بحكم اتصافه بالنزاهة والموضوعية وقدرته على الوقوف على الحقيقة المجردة، وبعد أن وضع تناظرا بين القوى النفسية والقوى الاجتماعية، استخلص بأن العدالة السياسية هي التي تقوم على مبدإ التفاضل والتفاوت بين القوى الاجتماعية الثلاث، الحكام والجيش والفئات المنتجة، وعلى خدمة الأدنى للأعلى، وخدمة الجميع للحاكم الأول الذي يمثل العقل. ولعل هذا الربط هو الذي أفضى به إلى مناهضة المساواة والحرية المطلقتين بين المواطنين في هذه المحاورة. هكذا تحكمت هذه الرؤية العقلية للعدالة في مصير سؤال العدالة في الفلسفة اليونانية وفي الفلسفات اللاحقة عليها زهاء 20 قرنا من الزمان.

في العصور الوسطى العربية الإسلامية، التي عرفت تضخم نظرية العقل بموازاة نظرية البرهان، ودخول العقل الشرعي الديني بقوة حلبة التفكير في كيفية تنظيم وجود الإنسان الاجتماعي والسياسي، تَعزَّز وضع العقل باعتباره ميزانَ العدالة في بعض الاتجاهات الكلامية (المعتزلة) والفلسفية، وذلك على حساب الانفعالات والعواطف وكل ما يتصل أو ينتمي إلى الجسم. وبسبب تعاظم أهمية نظرية البرهان بمعية نظرية العقل، جرى التفكير في العدالة من لدن جماعة من المتكلمين والفلاسفة العرب من خلال العقل النظري خاصة، أي من خلال وظيفته القوية: القياس البرهاني، لا عبر وظائفه المرنة (كالقياس الجدلي والسفسطائي والخطابي والشعري). في هذا الجو المشحون بهذا النوع من العقل، الذي يوجد في أصل الوجود، جرى ربط المدينة الفاضلة بالحقيقة باعتبارها تطابقا ذاتيا بين المبادئ والنتائج، أو تطابقا بين ما في الذهن وما في الواقع. وكانت الحقيقة هي المدخل لاحتلال عقل ميتافيزيقي، هو “العقل الفعال” أو “العقل المستفاد”، مرتبة الصدارة في تصور الفلاسفة للعدالة، عوض العقل العملي، عقل المعاملات الخطابية والاجتماعية والسياسية التي تجري في المدينة. بهذا النحو صارت غاية المدينة في نظر الحكماء هي تحقيق سعادة “الاتصال” بعالم ما بعد الطبيعة المتميز بالخلود والثبات، لا تغيير الوضع المفعم بشتى أنواع الإكراه والاستبداد والتحكم والظلم والآلام. كل هذه العناصر شكلت البيئة المناسبة لهجاء الحرية واعتبار المساواة المطلقة بين الناس (الديمقراطية) أصل فساد الدولة الفاضلة لأنها تؤدي إلى بطلان الناموس.

عندما نتأمل المدينة الفاضلة للفارابي، وتلخيص سياسة أفلاطون لابن رشد، نجد العدالة تتجاوز كونها قيمة اجتماعية أو مبدأ أخلاقيا أو غاية سياسية، لتتخذ وضعَ المبدأ الميتافيزيقي الذي يربط الفئات والوظائف الاجتماعية ويدفعها للتضامن والخلق لخدمة مبدإ أسمَى يمثله الفيلسوف الرئيس. في هذا الأفق لم يكن غرض النظر في العدالة البحث في “كيف” يعيش الإنسان، وإنما عن كيف “ينبغي” أن يعيش على أساس العقل، وذلك من خلال تَمثّلٍ للعدالة قائم على خضوع الكل لنظام العقل، باعتباره أداة للتوحيد والترتيب والتفاضل. بهذا النحو يحق لنا أن نقول بأن العقل تحوّل عند هؤلاء الفلاسفة إلى مبدإ مضاد للعدالة، إذا اعتبرناها مساوية للحق في الحرية والمساواة. بينما سنجد علماء الكلام يجعلون الشرع ميزانا للعدل الحق، وهذا ما عبّر ابن خلدون بعبارة كلامية حينما قال بأن »العدل المحض هو في الخلافة الشرعية، وهي قليلة اللبث«، أي نادرة الوجود.

2. العقل العملي والتخلي عن حلم العدالة الكاملة:

أما المحدثون من فلاسفة ومفكري الغرب، فقد استهلوا حداثتهم في النظر إلى مسألة العدالة بالتخلي عن نظرية العقل بجهازها النظري المتشعب، والابتعاد قدر الإمكان عن آليات العقل النظري، وبخاصة الاستدلال البرهاني، في مقابل التركيز على العقل العملي، مع الحرص على فصل السياسي عن الأخلاقي. وقد أفضى هذا الانتقال من الاعتماد شبه الكلي على العقل النظري إلى استعمال وسائل العقل العملي في النظر إلى سؤال العدالة، إلى تبني تصور جديد للعقل يسمح للجدل والحوار بأن يلعبا دورا أساسيا في التفكير في أمور العدالة التي تتصل بتأسيس الدولة الحديثة. وبذلك تكون العدالة قد استبدلت الجزم واليقين بالإقناع والتوافق. وكان من ثمرات هذه الانقلابات في طرائق التفكير وجِهاته إعادة الاعتبار للذات على حساب الموضوع، وإعطاء الأولوية للإرادة والحرية والمساواة على حساب الولاء المطلق للدولة أو للشريعة. ولا شك أن ربط العدالة بالحرية وبالعقل العملي سيؤثر على مفهوم الحق والحقيقة. فلم يعد الحق ثمرة برهان فقط، أي ثمرة مقدمات ذاتية وضرورية وكلية لا تقبل النقاش والعناد والإبطال، وإنما صار نتيجة انفتاح على كل مكونات الواقع، ووليد توافق عليه عبر الحوار والنقاش العقلاني والحر بين مختلف المرجعيات العقلية، مما أدخل الحق، وبمعيته العدالة، في منظور النسبية والتاريخية والتعدد.

ومع ذلك، يمكن القول بأن التفكير في العدالة منذ تدشينه الرسمي على يد أفلاطون ظل يدور في فلك النموذج (الباراديغم) الأفلاطوني-الأرسطي بهذه القوة أو تلك، إما على شكل شرح وتأويل أو على شكل نقد وتعديل وتنويع، إلى أن جاء جون راولز (John Rawls 1912-2002). فقد أحدث هذا الفيلسوف الأمريكي انقلابا في التفكير في العدالة في أواسط القرن العشرين أفضى به إلى تأسيس نموذج جديد قائم على شعار “العدالة كإنصاف”. بعد هذا الانقلاب وجد الفلاسفة المعاصرون أنفسهم، على حد قول روبرت نوزيك (Robert Nozick)، مضطرين أن يختاروا إما التفكير في العدالة داخل نموذج “العدالة كإنصاف”، أو أن يفسروا لماذا لا يفضلون التفكير داخله. ومما يبرر جدة رؤية “العدالة كإنصاف” أن راولز بناها على شبكة جديدة من المفاهيم والفرضيات، دون أن يمنع نفسه من الاستئناس بالعدة الفلسفية القديمة للتفكير في العدالة بعد أن يكيف معانيها حتى تتلاءم مع مقتضيات نظريته الجديدة. وكما سبق أن قلنا، أثارت نظرية “العدالة كإنصاف” موجات من الشرح والتأويل والنقد، إما موالية أو منتقدة لها. ومن بين ردود الفعل الهامة على نظرية راولز كتاب أمارتيا صن الأخير فكرة العدالة.

يعترف أمارتيا صن صراحة بأن تفكيره في العدالة يندرج في أفق تفكير جون راولز، وخير دليل على هذا الاعتراف إهداؤه كتابه فكرة العدالة إليه. وكان حريصا على أن لا يترك فرصة إلا ويعرب فيها عن إعجابه الشديد وتقديره العميق لنظرية “العدالة كإنصاف” معتبرا إياها النظرية » الأكثر تأثيرا في الفلسفة الأخلاقية الحديثة « (ص89). أما اعترافاته بدَيْنه لهذه النظرية فعديدة من بينها قوله» بعض المفاهيم التي حددها [راولز] بوصفها مفاهيم أساسية توجد في بنية تأويلي الخاص للعدالة، وإن كان توجيه وخلاصات عملي مختلفة « (ص82). ومع ذلك، فقد كتب كتابه الذي نحن فيه من أجل انتقاده أو على الأقل اتخاذ مسافة منه، وبخاصة من منهجية “العَقد الاجتماعي” التي ينتمي إليها جون راولز. فقد عرّف طريقته لمناولة العدالة بأنها أقرب إلى طريقة “المقارنة الثقافية”، التي تسمح بالانفتاح على تجارب ثقافية متعددة ومختلفة لتطبيق العدالة، وتساعد بشكل أفضل على تطويرها ومقاومة الظلم أينما كان في العالم (ص21). ويبرر جمعه بين الإعجاب براولز ونقده إياه قائلا: »من الممكن أن تكون في نفس الوقت معجبا وناقدا نقدا حقيقيا حيال نظرية ما؛ ولا شيء يحرمني من أن أكون أكثر سعادة أن أقوم بمرافقة راولز، إذا كان ذلك ممكنا، بهذا التقييم المزدوج لنظرية العدالة كإنصاف« (ص89).

ولم تكن غاية أمارتيا صن من التفكير في مسألة العدالة الوقوف على ماهيتها، وإنما الوصول إلى تشخيص أعراضها وتجلياتها في نفس الأمكنة والآفاق الثقافية المختلفة التي تظهر فيها. بل إن الأهم، بالنسبة لهذا المفكر الهندي، التركيز بشكل خاص على المظاهر المضادة للعدالة التي تعاني منها البشرية من ظلم وحيف وغصب وبغي وإثم وتجاوز وإقصاء وهدر للحق واعتداء عليه. » فما يحركنا إذن، على نحو شامل، ليس هو ملاحظة أن العالَم لم يصل إلى أن يكون عادلا تماما (مَن منّا ينتظر هذا؟)، ولكن وجود ألوان من الظلم حولنا يمكن تجنبها، والعمل على اتقائها« (ص11) من كل بقاع العالم، وليس فقط في حضارة معينة كالحضارة الغربية. فكما أن العدالة، كما كان يقول ابن رشد، لم تعد تمتد إلى كل أجزاء المدينة، بل إلى كل أجزاء المعمور، فكذلك الظلم. وأ. صن لم يكن يعتبر » تحديد طبيعة المظالم (injustices) القابلة للعلاج حافزا لنا فقط على التفكير بألفاظ العدل والظلم، بل وأيضا مركز نظرية العدل – وهذه هي أطروحة هذا الكتاب على الأقل. ففي هذا البحث الذي أقدمه هنا، تُستعمَل تشخيصات الظلم عادة كنقطة انطلاق لتحليل نقدي « (ص12). لكن لم تكن الغاية القصوى لأمارتيا صن تحقيق ما سمّاه ابن خلدون “بالعدل المحض”، أو “العدالة الكاملة”، وهو الحلم الذي ظل مسيطرا حتى على تيارات من الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة، وإنما كان قصده البحث عن وسائل وكيفيات تطوير العدل وتقليص الجَوْر ما أمكن. وفي إطار استحالة تحقيق العدل الكامل ينقل لنا أمارتيا صن ما قاله أحد قادة الرومان: “لو تم تحقيق العدالة لانهار العالم” (ص47)، وهو قول يتوافق مع ما قاله الغزالي فيما بعد: »الحكمة [في مجال العدل] تقتضي شمول الغفلة. بل لو أكل الناس الحلال أربعين يوما لَخَرِبت الدنيا لزهدهم فيها، وبطلت الأسواق والمعايش، بل لو أكل العلماء الحلال لاشتغلوا بأنفسهم، ولوقفت الألسنة والأقلام عن كثير مما انتشر من العلوم، ولكن لله تعالى فيما هو شرٌّ في الظاهر أسرار وحِكم، كما أن له في الخير أسراراً وحكما، ولا منتهى لحكمته، كما لا غاية لقدرته».

من جهة أخرى، يتمحور تفكير أ. صن في العدل والظلم على القضايا التي تتصل بالعقل العملي، أي بإجراءات عملية لا نظرية، على أحوال السلوك الملموسة، وعلى كيفيات ممارسة الناس لحياتهم الخاصة حتى تكون العقلانية التي ينادي بها أكثر مرونة. في مقابل ذلك، اتهم عقلانية “العدالة من حيث هي إنصاف” (راولز) بأنها كانت عقلانية نظرية لأنها فضّلت التركيز على المبادئ والمؤسسات المجردة والمتعالية لا على الوقائع والسلوكات. ومع ذلك، استمر أمارتيا صن في جعل ما هو عقلي أمراً أساسيا في مشروعه للعدالة. فهو لا يهرب من التنظيرلفكرة العدالة، وإنما يحاول تفادي الانغلاق في نسق حديدي مغلق.

ومما يدل على ما قلناه أن العدالة لا تظهر في كتاباته على هيئة مفهوم منسجم ومتماسك، وإنما على شكل فكرة إشكالية جامعة بين جملة من المتضادات، كالمساواة والاختلاف، النفعية والغيرية، الحرية والحتمية. ولعل هذا الطابع الإشكالي لفكرة العدالة كان بسبب اقتران العدالة بالإنصاف، ذلك أن الإنصاف وإن كان لا يوزِّع الحقوق، أي المصالح والمنافع بين الأفراد والفئات والجماعات بحسب مرتبتهم الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أو الثقافية، وإنما بحسبمجهودهم وبذلهم وعطائهم، فإنه (الإنصاف) مع ذلك ينطوي على قدر كبير من اللامساواة التي تعارض مبدأ المساواة في العدالة. فالإنصاف ينشد تحقيق التكافؤ في معاملة الناس دون الإحالة على حيثياتهم العرقية والثقافية واللغوية والطبقية، إلا أنه يمارس قدرا من اللامساواة والميز فيما يخص مكافأة الناس حسب مجهودهم وعطائهم ومقدرتهم ومهارتهم التي تختلف من فرد لآخر ومن جماعة لأخرى.

ونفس الإشكال الذي وقفنا عليه بالنسبة للجمع بين المساواة والاختلاف (اللامساواة)، يمكن الوقوف عليه بالنسبة لجمع العدالة بين النفعية والغيرية. فالعدالة تدفع الناس إلى البحث عن مصالحهم دون المساس بمصالح غيرهم سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو دولة. ومع ذلك، فإن البحث عن المنفعة الشخصية لا ينبغي أن يتحول إلى أنانية، بل يتعين أن يتحول البحث عن المنفعة الشخصية إلى غيرية. والمفارقة ستكون أوضح بالنسبة لجمع العدالة بين الحرية والحتمية الاجتماعية والتاريخية والنفسية، فالفرد أو الجماعة حرة بقدر مراعاتها لإكراهات المجتمع وآليات تنزيله للمبادئ على أرض الواقع.

3. العقل أداة الانتقال من الشعور بالظلم إلى تحليله:

بعد أن ميز بين الشعور بالعدل وتحليله تحليلا عقليا، طرح أمارتيا صن سؤالا مزدوجا: » ما هي الحاجة التي تدفعنا إلى الذهاب وراء شعورنا بالعدل والظلم؟ ولماذا ينبغي أن تكون لنا نظرية في العدالة؟ « (ص12). توطئة للإجابة على هذين السؤالين وجريا على عادة أمارتيا صن في انتقاء أقوال عتيقة وطريفة يقتبسها من ثقافات متباينة يزين بها تحليلاته ومواقفه وانتقاداته لنظريات العدالة، استشهد بقولين ملغزين أحدهما لإدمون بورك والآخر لفتغتنشين. القولة الأولى وردت في خطاب الفيلسوف والخطيب الإنجليزي أمام البرلمان الإنجليزي قبل الاستيلاء على الباستيل وانطلاق الثورة الفرنسية بشهرين، أي في 5 مايو 1789، قال فيه إنه: »طرأ حادث من الصعب الكلام عليه ومن المستحيل السكوت عنه«. (ص25)؛ و القولة الثانية لفتغنشتاين نص فيها على أن »كل ما يمكن قوله بإتقان يمكن التعبير عنه بوضوح، وما نعجز عن الكلام عنه ينبغي أن نحتفظ بالسكوت حياله  (ص58).

استخلص أ. صن من قولة بروك الملغزة بأن »استحالة السكوت يمكن أن تنطبق على كثير من حالات الظلم الصارخة التي تجعلنا نشعر بحنق شديد إلى درجة أننا لا نجد من الكلمات ما يمكن وصفها التعبير عنه«؛ إلا أنه أضاف »لكن تحليل ظلم ما ينبغي أن يصاغ بوضوح وأن يُنظَر إليه بكيفية عقلانية« (ص25). إذ المهم بالنسبة لنا ليس أن يكون لدينا شعور قوي بالظلم، ولكن»أن يمنحنا هذا الشعور حافزا قويا لتشخيص هذه الحالة أو تلك من حالات الظلم« (ص26-27). بعبارة أخرى، لا يجادل أ. صن في أن موضوع العدالة ينتمي أساساً إلى مجال الحساسية والشعور، لا إلى مجال الاستدلال والتفكير، لكن من أجل تفادي الحيف والانتقال من مستوى الإحساس والشعور به إلى مستوى تشخيصه العقلي، ينبغي التسلح بالعقل (ص29).

وقد تميزت مقاربة أ. صن بصفة خاصة، باستعمالها العقل بشكل ملحوظ على المستوى الاقتصادي لوضع مؤشر لقياس غنى وفقر الأفراد بكيفية دقيقة، وهما (الفقر والغنى) جانبان من جوانب العدالة. كما يمكن للتعقل أن يكون مصدرا غنيا بالأمل والثقة في إمكانية العدالة في عالم مشحون بالحركات الظلامية من كل الأصناف والأنواع، لأنه يمكّننا من الرؤية المتفهمة للثقافات الأخرى بمطالبها المختلفة ويسمح لنا باكتشاف سبل جديدة للاحترام والتسامح. هذا علاوة على أن » العقل هو محك لتحديد الأضرار التي لا تكون نتيجة إرادة إحداث الضرر، وإنما مضرة موضوعيا« (ص74).

ولإدراك الفرق بين الشعور بالظلم وتحليله تحليلا عقليا، يضرب جملة من الأمثلة، من بينها أنه ليس المهم أن نشعر بسخط شديد إزاء احتلال العراق من لدن الأمريكان وما ترتب عنه من تفكيك للدولة وتخريب لوحدة الأمة العراقية ونهب لمتاحفها وتدمير لمعالمها التاريخية والحضارية، بل المهم أن ننتقل من مجرد الشعور الانفعالي بالسخط والحنق إلى تحليل العدوان الأمريكي الغاشم بالوسائل العقلية حتى نتفادى وقوع مثل هذا العدوان الوحشي في المستقبل. ومن أمثلته المفضلة لتوضيح الفرق بين الشعور الانفعالي والتحليل العقلي، مثال المجاعة، الذي يحلو لأمارتيا صن أن يعود إليه المرة تلو الأخرى. استثمر مثال المجاعة للتعرف على وظيفة أخرى للتشخيص العقلي، وهي وظيفة التوقع التي تمهد لتفاديها في المستقبل. نعم، هو يعترف أنه من غير اللائق، أثناء انتشار مجاعة في بلد ما، الانخراط في مناقشات عقلية متشعبة ومضنية حول طبيعة العدل والظلم، وأن الأليق، بدلا من ذلك، أن نعلن احتجاجنا وشجبنا لمن كانوا وراءها. لكن المصيبة تتحول إلى ظلم عظيم عندما يكون في إمكان من يتوقع المجاعة أن يتفاداها، إلا أنه لا يقوم بأي مجهود من أجل ذلك. ولذلك، » ينبغي إدخال الاستدلال العقلي بطريقة أو أخرى للانتقال من الشعور بتراجيديا ظلم إلى تشخيصه « (ص28).

هذا الانتقال من الشعور الانفعالي إلى التحليل العقلي هو ما يسمى “بنظرية العدالة”. إذ أن النظرية تسمح لنا، من جهة، استعمال التفكير العقلي الصارم للكلام في موضوع “من الصعب الكلام فيه” كموضوع الظلم كما قال بروك، ومن جهة ثانية، الكلام فيه كلاما واضحا كما قال فتغنشتين.

 نعم، قد يكون العقل سببا مباشرا أو غير مباشر في مآسي هائلة كالحروب والإبادات الجماعية للشعوب والأسلحة الفتاكة التي تهدد وجود الحياة في الأرض. ومع ذلك، يظل »التفكير هوحليفنا، وليس تهديدا يعرّضنا للخطر« (ص76)، طالما أن المآسي التي تترتب أحيانا عن استعمال التعقل: »تأتي بالتأكيد من يقين متسرع ومفكَّر فيه بطريقة سيئة، وليس بسبب اللجوء إلى العقل. لذلك يكون علاج التفكير السيئ بالتفكير الجيد، ومهمة الفحص العقلي هو في الانتقال من الأول إلى الثاني« (ص76).

4. نقد العقل التنويري وتعدد العقول والعقلانيات:

انطلق أ. صن من قولة لفتغنشتاين لينتقد مزاعم العقل التنويري. في هذه القولة ادّعى هذا الفيلسوف النمساوي الإنجليزي بأنه سيصبح في آن واحد أذكى الناس وأكثرهم أخلاقا، مما يعني أنه كان يوحد بين الذكاء والفضيلة، بين العقل والأخلاق (ص57). علّق المفكر الهندي على قولة فتغنشتاين بأنها »تندرج ضمن تقليد تنويري أوروبي يَعتبر العقل حليفا عظيما في مجهود تطوير المجتمعات« (ص61). لكن مجموعة من المنتقدين للعقلانية التنويرية ينتمون إلى أطياف فكرية متباينة تصدوا للبرهنة على أن رؤية التنوير التقليدي للعالم كانت رؤية ساذجة وميكانيكية، لاسيما حينما تتحدث عن التقدم المطرد والأكيد الذي سيحصل للإنسانية متى اتبعت تعاليم العقل، ومتى استمر العقل في كشوفاته العلمية وفي تكريس نزعته الإنسية بين الناس. ومن هؤلاء المنتقدين الفيلسوف يوناتان غلوفر (Jonathan Glover) الذي أبَى إلا أن يربط الأنوار مباشرة بأسوأ الديكتاتوريات الحديثة (الستالينية)، وبطريقة غير مباشرة بأفظع الأنظمة الاستبدادية (نظام بول بوت Pol Pot).

لم يجد أمارتيا صن إزاء هذه الانتقادات العنيفة بدّا من الاعتراف بأن »الأنوار بالغت في تقديرها لقدرات العقل«  (ص61)، وفي فرض دوره المطلق بالقوة على تاريخ الإنسانية؛ كما أنها كانت ساذجة للغاية عندما عبّرت عن تفاؤلها العارم في الانتشار المحتوم والمطرد للتقدم والعدالة مع تقدم الزمن العقلاني. إلا أنه مع ذلك، وكما قال غلوفر نفسه، »لا مفر لنا من التنوير« (ص61)، الذي، بالرغم من انتقاده الشديد له، لم يَدْعُ أبداً للهروب منه نحو الدين والتراث. وفي جميع الأحوال، يلاحظ أ. صن، أن »العقل لم يكن هو الحليف القوي لبول بوت (Pol Pot)، ولكن العقيدةالمسعورة واللاعقلانية التي لا تترك أي مجال للمساءلة العقلية« (ص62). ومن ثم لا يمكن اتخاذ الأضرار والكوارث، التي لعل الأفكار الخاطئة كانت سببا فيها، ذريعة للنيل من طاقة العقل وقدرته عموما، والتنوير على الخصوص، على حل المشاكل البشرية والطبيعية وتغيير وجه التاريخ نحو الأفضل.

غير أنه بالرغم من تبرئة العقل هذه، يبقى هناك سؤالان أساسيان طرحهما غلوفر (Glover) ينبغي الاهتمام بهما، وهما: ما هو علاج التفكير السقيم والاستدلالات الخاطئة؟ وما علاقة العقل بمشاعر الرحمة والشفقة؟ ويقود هذان السؤالان إلى طرح أسئلة أخرى من قبيل :»ما المبرر النهائي للّجوء إلى العقل؟ هل نقدره لكونه أداة جيدة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلأي غرض تصلح هذه الأداة؟ أو بالأحرى هل العقل لا مبرر له إلا ذاته، وفي هذه الحالة، بماذا يتميز العقل عن الإيمان الأعمى وغير العقلاني؟ «(ص62).

تمهيدا للإجابة على الأسئلة التي تتصل بجدارة العقل، نتطرق أولا لمسألة وحدة العقل والعقلانية وتعددهما. يحرص أمارتيا صن، متابعا في ذلك ج. راولز، على التمييز بين مشتقات اسم العقل وفعله، إذ نجده يستعمل ألفاظ العقلي (rationnel) والمعقول (raisonnable) والمعقولية (rationalité) والاستدلال أو التفكير (raisonnement) الخ. وقد استخلص من تعدد مشتقات العقل تعددا في العقول وأنحاء التفكير.

فهو على العكس من ج. راولز الذي كان يبحث عن الشمولية (universalisme) وينتصر لها، فضّل أن ينحاز إلى الخصوصية، اعتقادا منه أننا لا نستطيع أن نفكر إلا داخل تقليد ثقافي معين، أي داخل هوية نوعية. مما يعني أنه كان من المناهضين للقول بوجود عقلانية تنويرية واحدة ووحيدة تُنسب إلى زمن محدد هو القرن الثامن عشر، وإلى ثقافة وجغرافية معينة حصرية هي الثقافة والجغرافية الغربية. في مقابل ذلك دافع عن إمكانية الحديث عن أكثر من عقلانية وأنوار واحدة.

وضمن هذا المنظور التعددي للعقلانيات طرح أمارتيا صن في مدخل كتابه فكرة العدالة جملة من الأسئلة التي تدور كلها حول العقل وعملية تنسيبه حسب تنوع الثقافات، من بينها: »ما هيأنماط الاستدلالات التي يجب أن تتدخل في تقييم المفاهيم الأخلاقية والسياسية كالعدل والظلم؟ بأية كيفية يمكن أن يكون تشخيص ما لظلم معين… موضوعيا؟ هل يمكن ممارسةنزاهة من نوع خاص، كالابتعاد عن المنافع الشخصية؟ من جهة أخرى، هل من الضروري إعادة فحص بعض المواقف، ولو أنها ليست مرتبطة بالمصالح الخاصة، لكنها تعكس أفكارا مسبقة وأحكاما محلية، التي ربما لا تصمد أمام مواجهة معقولة مع حجج غير محدودة بنفس الفكر الضيق؟ ما الدور الذي يلعبه العقلي (rationnel) والمعقول (raisonnable) في فهم مقتضيات العدالة؟« (ص12-13).

في محاولته للإجابة على هذه الأسئلة، لاحظ أمارتيا صن أن الغرب في بحثه عن العدالة اقتصر على تقاليده الغربية، الأمر الذي جعل تصوراته وتأويلاته لها محدودة وأحيانا مَحَلية (ص18). من أجل تلافي هذه المحلية، عمل على إدخال العدالة إلى فضاء العقل نفسه، أي المطالبة بالعدالة في التعامل مع العقول الأخرى غير الغربية، ومع ضروب مختلفة من المنطق والاستدلال. وفي هذا الإطار وصف كتابه قائلا: »… من أهم ميزات هذا الكتاب غير المعتادة… بالمقارنة مع كتب أخرى حول نظرية العدالة، اعتماده الواسع على الأفكار الآتية من مجتمعات غير غربية، وبخاصة من تاريخ الهند الفكري، ولكن أيضا من غيره« (ص18). ذلك أنه توجد ثقافات عديدة ذات تفكير قائم على حجج منطقية، حيث تُفَضِّل المنطق على الإيمان والمعتقدات اللاعقلية.

هل معنى هذا أن أمارتيا صن تخلى نهائيا عن العقل التنويري؟ أبدا. فهو يعلن باعتزاز بأن»تحليلي للعدالة مستلهم من سبل التفكير التي تم اكتشافها خاصة في العصر الثائر للأنوار الأوروبية« (ص18)، وبخاصة من كانط الذي يَعتبر الأمر الأخلاقي… بمثابة الفكرة الملهمة لمشروعه. وبالتالي فالعقل، بالنسبة إليه، لا يمكن أن يكون إلا كليا، إلا أنه »يمكن أن يتخذ صورا متباينة، واستعمالات مختلفة« (ص73). لكن عندما يدعو إلى ضرورة الاعتراف بوجود عقول وأنوار أخرى غير العقل والتنوير الغربي، »فليس معناه … وجود تنافر جذري بين الفكر “الغربي” و”الفكر الشرقي” (أو غير الغربي) حول هذه الموضوعات. فهناك كثير من التباينات داخل الغرب، كما هو الحال في الشرق، كما أنه من الوهم تماما تخيل غرب واحد يجابه أولويات “شرقية بالماهية”… بالنسبة لي أعتبر أن هناك مواقف شبيهة – أو ذات صلة وطيدة – حول العدل والإنصاف والمسؤولية والواجب والخير والاستقامة، تم تطويرها في مناطق متعددة من العالم، وأنها يمكن أن تمدد مدى الحجج التي استعملت في الأدبيات الغربية … والتي تم إهمالها أو تهميشها في الغالب في التقاليد المهيمنة للخطاب الغربي المعاصر« (ص19).

بالإضافة إلى حجة تعدد العقول داخل الغرب نفسه بين مناصر للعقل ومناوئ له، يمضي أمارتيا صن أبعد من ذلك لإثبات أن الأنوار نفسها لم تتكلم بصوت واحد، بل على الأقل بصوتين مختلفين عندما كانت بصدد العدالة، فهناك » مقاربة [أولى] ركزت جهودها على البحث عن آليات اجتماعية عادلة تماما وجعلت من تعريف “المؤسسات العادلة” المهمة الأساسية – وغالبا الوحيدة – لنظرية العدالة. وقد نُسِجت حول فكرة افتراضية “لعقد اجتماعي” وبكيفيات متباينة مساهمات كبرى تجسدت في هذا المنجز الفكري: من بينها مساهمات توماس هوبز في القرن17م، وجون لوك، وجان جاك روسو، وإيمانويل كانط. وقد مارس منظور العَقد الاجتماعي تأثيرا مهيمنا على الفلسفة السياسية المعاصرة، وبخاصة منذ مقال رائد لجون رولز ظهر سنة 1958… في مقابل ذلك، هناك عدد آخر من فلاسفة الأنوار (مثلا أدم سميث (Adam Smith)، كوندورسي (Condorcet)، ماري فولستوثكرافت (Mary Wollstonecraft)، بنتام (Bentham)، ماركس (Marx)، جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill) اتخذوا طرقا أخرى تشترك في الاهتمامبمقارنة أنماط الحياة المختلفة التي يمكن أن يسلكها الناس، تحت تأثير المؤسسات، لكنها تهتم أيضا بالسلوك الملموس للأفراد، بتداخلاتهم الاجتماعية وعوامل أخرى محددة. وهذا الكتاب يستلهم على نطاق واسع هذا التقليد “البديل”. وينتمي إلى هذا المسار الثاني، المبحث التحليلي – والموغل في نزعته الرياضية– “لنظرية الاختيار الاجتماعي”، التي تعود بأصولها إلى كوندورسي في ق18م، والتي اتخذت صورتها الحالية بالمساهمات الرائدة لكينيث أرَّاو (Kenneth Arrow) في أواسط القرن 20م. هذه المقاربة، عبر تعديلات ضرورية، يمكن أن تقدم مساهمة هامة للفكر الذي يسعى إلى تطوير العدالة والقضاء على الظلم في العالم «، (ص20-21). لكن بالرغم من اختلاف المدرستين، مدرسة “العقد الاجتماعي” ومدرسة “المقاربة المقارناتية” (بما فيها نظرية الاختيار الاجتماعي)، فهما يشتركان في الإعلاء من شأن العقل والحوار العمومي.

وإذا كان أ. صن يميل إلى منهجية المقارنة، فإنه لا ينفصل عن روح المدرسة الأولى، إذ »على الرغم من أن هذا الكتاب يحيل أساسا على المقاربة الثانية، وليس على منطق العَقد الذي طوره كانط، من بين من طوروه، فإن إحدى نقاط قوته المحركة الكبرى هو الحدس الكانطي الأساسي (مقتبسا عبارة Christine Korsgaard): »حمل العقل إلى العالم أصبح شأن علم الأخلاق ولم يعد شأن الميتافيزيقا، إنها مهمة بقدر ما هو أمل الإنسانية« (ص21-22).

سبق لنا أن بينّا أن الحاجة إلى نظرية في العدالة تمليها ضرورة استعمال العقل »لتشخيص العدالة والظلم… ووضع قواعد عقلية تسمح بالانتقال من الشعور العام بالظلم إلى التشخيص العقلي لهذه الحالة أو تلك من حالات الحيف« (ص29). غير أن العقل، كما مر بنا، لا يقال بمعنى واحد، ولا يستعمل في غاية واحدة، بل هناك »… عدة أنواع مختلفة من منطق للعدل تصمد كلها أمام الامتحان النقدي، لكنها تنتهي إلى نتائج متباينة. إنها أحكام معقولة ومع ذلك فهي متظافرة تصدر أحيانا عن أشخاص لهم تجارب وتقاليد مختلفة، لكن يمكن أيضا أن تصدر عن نفس المجتمع، بل عن نفس الفرد« (ص14). وهذا ما حمله على أن يلاحِظ أن نظرية العدل الراولزية إن لم تسمح “وضعيتها الأصلية” بانبثاق عقول متعددة، فإنها ستصاب بالفشل (ص36). باختصار، من الضروري التخلي عن الادعاء بأحادية مبادئ العدالة (ص37)، طالما أن هناك تعددا في العقول والأنوار.

ومن أجل البرهنة على تعدد الأنوار، ضرب مثالين، أحدهما من ابتكاره، والآخر استمده من التراث. المثال الأول الذي أصبح إيقونة كتاب فكرة العدالة، هو نزاع الأطفال الثلاثة حول من له الحق في ملكية الناي، وهو مثال يبين تعدد مبادئ الحق (بين النظرة الليبرالية والنفعية والماركسية) (ص38-40). » في المثال الذي ضربناه في المقدمة، الأطفال الثلاثة الذين يتنازعون ملكية الناي، نلاحظ أن لكل واحد من الأوضاع الثلاثة حججا لصالحه لا يمكن رفضها رفضا عقليا، حتى بعد كثير من التداول والمساءلة. التبريرات التي تنبني عليها أطروحات الأطفال الثلاثة تتخذ صورة “نزيهة”، صورة مؤسسة على قواعد متباينة ولاشخصية. أولى المطالب ترتكز على قيمة التفتح والسعادة، والثانية حول أهمية الإنصاف الاقتصادي، والثالثة حول حق التمتع بثمار العمل… الحجج المتنازعة ترتكز كلها على مبدإ نزيه« (ص251).

المثال الثاني يتعلق بالإمبراطور المغولي المسلم المتنور جلال‏الدين محمّد أكبر Akbar حاكم الهند، الذي وضع ما يشبه صيغا متعددة لأسس اللائكية والحياد الديني للدولة (ص64-66). فمن أجل تدعيم تصوره لتعايش الديانات في الهند، أعطى هذا الإمبراطور » مكانة سامية ومطلقة للعقل: إذ حتى من أجل معارضة العقل ينبغي تقديم أدلة عقلية« (ص65)، ونقل أمارتيا صن عنه قوله: »اختيار العقل ورفض التقليد أمر بديهي للغاية إلى درجة لا تحتاج إلى دليل« كما قال»طريق العقل ينبغي أن يكون معيارا لكل سلوك عادل، وينبغي كذلك أن يكون إطارا مقبولا للحقوق والواجبات الشرعية« (ص65-66).

5. بين العقل والعاطفة، والعقل واللاعقل:

نعود إلى سؤال العقل والعاطفة لنعيد صياغته: هل تعني الأهمية الكبيرة للعقل في تشخيص العدالة أن لا مدخل للانفعال والعاطفة، وبالتالي للاعقل، في التحديد االنظري للعدالة؟ ثم »إلى أي حد يمكن أن يقدم الاستدلال العقلي أساساً موثوقاً لنظرية العدالة؟« (ص22).

من المعروف أن أفلاطون نسب حكم الحرية (الديمقراطية) إلى الجانب الانفعالي من الإنسان، في مقابل حكم العدالة الذي عزاه إلى جانبه العقلي، مقيما بذلك تضادا لا يمكن أن يلتئم بين الحرية والعدالة. أكثر من ذلك، نجد أفلاطون يحمّل مسئولية مظاهر الظلم والحيف، وما ينتج عنه من استبداد وقهر وإقصاء، للجانب الانفعالي، بينما ينسب العدل والحق وما يتصل بهما من قيم فاضلة إلى العقل. لم يَرُق لأمارتيا أ. صن هذا النموذج التقابلي بين الحرية والعدالة من جهة، وبين الانفعال والعقل من جهة أخرى. وباستلهام من أدم سميث (ص239) قدم نموذجا مضادا له يقوم على البحث عن نقط التقاء بين الانفعال والعقل، ومن ثم بين الحرية والعدالة. وقد رأينا أن الفعاليات العقلية يمكن أن تكون وراء مواقف وأفعال ظالمة، كما يمكن أن تكون المشاعر والعواطف مصدرا لمواقف عادلة وفي غاية النبل. معنى ذلك أنه يمكن أن تكون هناك دوافع أخرى للقيام بأفعال العدالة غير العقل.

وينبغي الإقرار بأن العقل وحده بحساباته الباردة لا يكفي لضمان أمن وعدالة الإنسان، هذا علاوة على أنه لا يمكن الثقة به دائما. والعقل نفسه يعترف أحيانا بهذا العجز (ص77). لذلك لا ينبغي استبعاد الجوانب العاطفية والغريزية والتلقائية من دائرة البحث عن العدالة: »بالفعل، ليس هناك أي سبب معين لإنكار الدور الهام للسيكولوجيا الغريزية، ولردود الفعل التلقائية. المظهران متكاملان، وأن تعمل على فهم الدور المثري والمحرر لعواطفنا هو في الغالب موضوع من موضوعات التعقل. أدم سميث، أحد كبار وجوه التنوير الإيكوسي (والمؤثر كثيرا في التنوير الفرنسي)، حلل طويلا الدور المركزي للعواطف وردود الأفعال السيكولوجية في كتابه نظرية العواطف الأخلاقية. ألم يذهب حتى إلى إثبات، مع دافيد هيوم، “بأن العقل والعاطفة يتعاونان في معظم التحديدات والنتائج في الميدان الأخلاقي”، لكن، بالنسبة للفيلسوفين، التعقل والاحساس هما فعلان مرتبطان ارتباطا وثيقا« (ص77). وقد ذهب أدم سميث أبعد من ذلك عندما أثبت »بأن إدراكاتنا الأولية للخير والشر لا يمكن أن تكون موضوع العقل، بل موضوع إحساس أو شعور مباشر« (ص78). وهنا يستأنس أ. صن بالتراث ليذكّرنا بأن »ما يسميه “أكبر” “طريق العقل” لا يمنع أبدا من الأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل التلقائية، ولا يهمل أيضا الدور المفيد غالبا الذي تلعبه ردود أفعالنا الغريزية. وهذا يتفق تماما مع أمر أن لا نترك الكلمة الأخيرة لغرائزنا« (ص79). وهذا ما يشجع على إعادة الاعتبار للانفعالات مادام »العقل والعاطفة متكاملين« (ص66)، وأنه لا يوجد نزاع بينهما غير قابل للحل. أما بالنسبة لمن يقدم حجة طغيان حضور اللاعقل في العالم وهيمنة الشعور المرير بأنه لا معنى للأمل في العقل في المستقبل، فقد مر بنا أ. صن، وإن كان يعترف بصحة هذا التشخيص، لا يجد »مبررا قويا للشك في الفعالية العملية للحوار المبني على الحجة العقلية حول موضوعات اجتماعية غامضة (كالسياسة الهوياتية)« (ص20)، مؤكدا أن » التشكيك في قوة العقل… لا يحمل أي دافع كيلا نستعمله« (ص23). والدليل على أن الجميع مضطر لاستعمال العقل، أنه حتى المتعصبين لأحكامهم المسبقة ومعتقداتهم المتشددة والفظة (حول العِرْق، الجنس، الطبقة، الطائفة)، يعتمدون على حجج عقلية، وإن كانت ناقصة أو تحكمية. بعبارة أخرى، »اللاعقل لا يقوم أساساً على الاستغناء تماما عن الاستدلال [العقلي]، وإنما يستند إلى استدلال بدائي جدا وناقص جدا. وهذا ما يترك لنا أمالا، لأن الاستدلال الناقص يُحارَب بالاستدلال الجيد«، (ص23).

ومع ذلك، أي بالرغم من أن أمارتيا صن كان على يقين بأن »الحكم الأخلاقي يحتاج إلى استعمال العقل«، فإنه يلح على طرح هذا السؤال: »لماذا ينبغي أن يكون العقل حَكَما بين المواقف الأخلاقية؟… فما دام دعم العقل لا يكفي في حد ذاته لإضفاء الجودة على الأحكام الأخلاقية، فإنه يتعين علينا أن نتساءل لماذا نعلّق أهمية كبرى على هذا الدعم؟ هل لأن الفحص العقلي هو نوع من الضمانة للحصول على الحقيقة؟« (ص66). لعل الإجابة على هذا القلق هي في قوله»ليس المهم أن يكون العقل حاضرا حضورا شاملا في فكر الجميع منذ الآن. هذا المطلب ليس لا ممكنا ولا ضروريا… وإنما المهم قبل كل شيء هو فحص كيف ينبغي أن نتعقل من أجل البحث عن العدالة – مع القبول بأنه يمكن أن تكون هناك عدة أوضاع عقلية متباينة… التفكير حاسم لفهم العدالة حتى في عالم مطبوع “باللاعقل”. وبخاصة في هذا العالم« (ص24).

6. النزاهة المُغلقة والنزاهة المنفتحة:

من المعلوم أن ما يعطي المعقولية والعقلانية أهميتهما في المعرفة والحياة البشرية هوالموضوعية أو النزاهة. لكن لا نعني هنا بالموضوعية تلك المتداولة في مجال العقل النظري، وإنما تلك التي تُستعمل في العقل العملي، والتي تتخذ معنى التجرد والنزاهة في الحكم، أي السعي لكي تكون الأحكام مبتعدة قدر الإمكان عن الهوى والولاء والتعسف في اتخاذ القرارات والتحكم والتقييمات.

ولا يُخفي أ. صن أنه اقتبس فكرة النزاهة من راولز، حيث كانت تشكل ركنا أساسيا في نظريته في “العدالة كإنصاف”، إذ هي التي كانت وراء استحداثه لمفهوم مرادف لها هو مفهوم “حجاب الجهل” (ص69). وهذا الحجاب هو، كالعَقد الاجتماعي، حالة افتراضية تقتضي من الأفراد المتفاوضين حول إنشاء مؤسساتهم ومبادئهم العادلة أن يقوموا بذلك ضمن شروط متساوية داخل ما يسميه “بالوضع الأصلي”. إلا أن أ. صن حينما استعار فكرة الموضوعية والنزاهة الأخلاقية والسياسية من جون راولز، فإنه فعل ذلك كي يقوم بتعديلها التعديل الضروري الذي يجعلها تتلاءم مع منظوره للعدالة. وتعديل مفهوم ما يتطلب أولا نقده. وهذا ما فعله مع مفهوم النزاهة كما تصوره راولز، حيث لاحظ أن أهم مأخذ يمكن أن يُؤخذ عليها هو أنها “نزاهة مغلقة”. فهي مغلقة أولا لأنها محدودة في أعضاء جماعة سياسية محددة، وثانيا لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار النتائج التي يمكن أن تترتب عليها النزاهة في جماعات أخرى، ولا المنظورات الآتية من تلك الجماعات المغايرة والتي يمكن أن تنير وتغني الجماعة الأولى. كما أنه في الوقت الذي يربط فيه راولز بين الموضوعية والاستدلال العقلي القادر على إقناع كل العقلاء، إذ »الحكم على قناعة سياسية بأنها موضوعية، معناه أن تقرر بأن هناك أسبابا محددة بتصور سياسي معقول ومعترف به بشكل متبادل… كافية لأن تقنع كل العقلاء بالطابع المعقول لتلك القناعة«، يتساءل أ. صن مَن هم هؤلاء العقلاء، وهل لهم أمور مشتركة مع “باقي الإنسانية”؟ يجيب بأن جميع الناس عقلاء، أي قادرون على جمع المعلومات والمعطيات، وعلى الانفتاح الذهني، وعلى فحص واختبار الحجج، وعلى الانخراط في حوار عمومي غير مقيد، ولكنه مبني على أدلة كافية. كل هذه الخصال تلعب دورا مركزيا في أي سياسة ديمقراطية وفي أي بحث عن العدالة. لذلك لا يكتفي أ. صن بنمط التفكير الذي اقترحه جون راولز كشرط للموضوعية والمتمثل في “حجاب الجهل”، بل نجده يستأنس بنمط آخر من التفكير قدمه أدم سيمث هو نمط “المشاهد النزيه” (ص71-72). هكذا نكون أمام موضوعيتين، موضوعية قائمة على أساس “حجاب الجهل”، وأخرى قائمة على أساس “المشاهد النزيه”.

ولا شك أن الطابع المركب للمعتقدات الأخلاقية والسياسية هو الذي يدعو إلى فتح الاستدلال العقلي على كل زوايا النظر وآفاق التفكير. فلكي يكون الحكم على أمور العدالة الأخلاقية والسياسية موضوعيا، وجب على الفحص العقلي أن يأخذ بعين الاعتبار مختلف وجهات النظر، أي استدماج مختلف العناصر الضرورية التي تقتضيها النزاهة، لأن العدل والظلم متشابكان وغير قابلين للانفصال. وهذا التوسيع الدلالي لمفهوم الموضوعية هو ما يظهر في تعريفه لكتابه:»الفحص العقلي لمختلف وجهات النظر في إطار منطق هذا الكتاب، هو مكون أساسي من متطلبات الموضوعية بالنسبة للمعتقدات الأخلاقية والسياسية« (ص73). ويسمح هذا الاحتضان لوجهات النظر المختلفة بتعايش المواقف المتضادة، دون أن تكون مضطرة لأن تكون منسجمة. وضمن هذا المنطق التعايشي، يحتاج كل تواصل، وكل تفكير عمومي في مجال الأخلاق، إلى متطلبات أكثر خصوصية للموضوعية والنزاهة: »الحاجة إلى الموضوعية في التواصل وفي لغةالتفكير العمومي هي متبوعة بمتطلبات أكثر خصوصية في الموضوعية المستعملة في التقييمالأخلاقي، التي تشتمل على شروط النزاهة. مفهوما الموضوعية يلعبان دورا في تفعيل التفكير العمومي، وهذان الدوران مرتبطان، إلا أنها لا يختلطان« (ص161).

في مقابل “النزاهة المغلقة” والمحصورة في نخبة هلامية لا هوية ولا شكل ولا مكانة لها ولا مستقبل تتطلع إليه ولا مصالح تسعى لتحقيقها، اقترح أ. صن “نزاهة مفتوحة” لا تنحصر في جماعة بعينها توجد في “وضع أصلي” افتراضي متساوي الأطراف، بل في جماعة منفتحة على منظورات الجماعات القريبة والبعيدة، وتكون قراراتها قابلة للنقد والمساءلة وإعادة نظر من لدن الخبراء من مختلف المجالات والحساسيات (ص168).

هكذا يتعين، في مجال الأخلاق، اعتماد “موضوعية مركبة”، أو “نزاهة مفتوحة” لكي يكون الحكم فيها نزيها. ذلك أن العدل مرتبط ذاتيا بقيم النزاهة والتجرد والحياد، وهي قيم لا يكفلها سوىالعقل، وبخاصة العقل العملي. بعبارة أ. صن نفسه، »ما يدفع اللجوء إلى العقل للقيام بأحكام الأخلاق هو، كما أعتقد، مطلب الموضوعية، من حيث إنها تتطلب نوعا من الانضباط الاستدلالي. ذلك أن الدور الكبير الذي يلعبه الحجاج في هذا الكتاب مرتبط بالحاجة إلى التفكير تفكيرا موضوعيا عندما نمعن النظر في مشاكل العدل والظلم« (ص68). نعم، يوجد فرق واضح بين فعل الوصف (وظيفة العقل النظري) وفعل التقييم (وظيفة العقل العملي)، إلا أن هذا الفرق لا يمنع وجود تداخل بينهما. وهذا ما أكده بوتنام (Putnam) قائلا: »المسائل الأخلاقية الواقعية هي نوع من المسائل العملية، والأسئلة العملية تستدعي ليس فقط تدخلالتقديرات، بل أيضا خليطا معقدا من المعتقدات الفلسفية، والدينية والواقعية« (ص68-69).

إلا أنه رغم الفروق المشار إليها بصدد تصور الموضوعية بين الفلاسفة، فإن أ. صن يسجل تشابهَ تصورات كل من أدم سميث، ويورغن هابرماس، وجون راولز للموضوعية باعتبارها صمودا أمام امتحان نفيها (ص72-73). بيد أنه فضّل أن يتبنى استعارة “المُشاهد المحايد” لأدم سميث، على استعارة “الوضعية الأصلية” لجون راولز، لأن طمس هوية المجموعة الأصلية البؤرية لا يكفي. إذ»بالرغم من أن “حجاب الجهل” الراولزي يستجيب لحاجة استبعاد تأثير المصالح المادية والأحكام المسبقة الشخصية للأفراد الذين تتكون منهم المجموعة البؤرية، فإنه يرفض الاحتكام إلى… “عيون باقي الإنسانية”« (ص165). وإذا كان كانط وراء إبراز أهمية فكرة النزاهة في المجالين الأخلاقي والسياسي، فإن أدم سميث كان سباقا إلى بلورتها وتأويلها وصياغة متطلبات الإنصاف بشكل أغرى الأنوار الأوروبي، بفضل “المشاهد النزيه” (ص163). والطريف في آلية “المشاهِد النزيه” أنها تحقق النزاهة باللجوء إلى حَكَم “غير منحاز من غير أن يكون عضوا في المجموعة المركزية”. ويقارن أ. صن بين آليتي “حجاب الجهل” و”المشاهد النزيه” قائلا: »إن آلية “حجاب الجهل الراولزية في “الوضع الأصلي” فعالة جدا في دفع الناس أن يروا فيما وراء مصالحهم المادية وغاياتهم الشخصية. لكنها قليلة النفع فيما يتصل بضمان فحص مفتوح للقيم المحلية وربما كانت بخيلة في ذلك… [بينما] آلية سميث تلح… بأن تكون رقابة النزاهة مفتوحة (وليست مغلقة محليا)، لأننا “لا نستطيع أن نقوم بها بأي طريقة إلا بأن نحاول ملاحظة هذه الدوافع والعواطف بعيون الآخرين، أو كما يلاحظها الآخرون« (ص168). ينتهي أ. صن إلى اعتبار زوج “التفكير والحوار” مقاربة حاسمة في إنجاز كتابه عن العدالة (ص160).

وبالفعل، يلعب الحوار الحجاجي والحقيقي مع الذات ومع الغير دورا أساسيا في حقل العدالة، الذي تتنافس فيه المطالب وتتباين الأنظمة المنطقية للحجاج. ويعني الحوار الحقيقي ممارسة التفكير والفحص الدقيق، والابتعاد عن الموقف السهل، وهو “التسامح غير الملتزم”، الذي يدفعك أن تقول للخصم الثقافي “معكم الحق في جماعتكم وأنا معي الحق في جماعتي”، إذ هذا الموقف الكسول يدل على غياب التفكير (ص15).

وبارتباط مع هذا السياق، لم ينظر أ. صن إلى الديمقراطية، التي هي حوار عقلاني عمومي، كأحد عناصر العدالة، بل هي شرطها الأول، إن لم يكن جوهرها. ذلك أن الديمقراطية هي التفكير العمومي، أو هي حكومة النقاش بالحجة والدليل، بعد الحصول على الحق في الولوج إلى المعلومة. الديمقراطية هي حوار يجمع بين الأفكار الخاصة للمتحاورين والأسئلة الأولية ذات الطبيعة العمومية والسياسية1.

وبجانب الحوار، تقوم نظرية العدالة الاجتماعية والاقتصادية لأمارتيا أ. صن على الاهتمامبالقدرات وبوضع أسس جديدة لعقلانية اقتصادية تستند إلى الأخلاق، أي على سيرورة اقتصادية قائمة على التعاطف والتوافق والقيم. هذا التجديد في العقلانية هو في نهاية الأمر نوع من استرداد للتأويل الأخلاقي لأعمال أدم سميث”.

خاتمة

للعلاقة بين العدل العقل، وبين والعدالة والعقلانية تاريخ طويل ومعقد. فقد كانت العلاقة بينهما على الدوام علاقة ذاتية، بحيث كان العقل بتوابعه المختلفة، كالوحدة والنظام والحق والنزاهة، من مقومات مفهوم العدالة على مر التاريخ، وكان العدل شرطا ذاتيا لكي يكون العقلُ عقلا حقا. غير أن مفهوماً معينا للعقل، وهو المفهوم النظري البرهاني والمتعالي، والذي ساد في الحقب العقلانية اليونانية والعربية الإسلامية واللاتينية المسيحية، أدى إلى إفراغ العدالة من مقوماتها الأساسية كالحرية والمساواة والحق في الاختلاف. لكن بعد أن أعادت ثورات الحداثة النظر في مفهوم العقل، بوضع الأنا المفكرة في صدارة المشهد العقلي، وهي ما اصطلح عليه بالأنوار، تم ربط العدالة بالحرية وبالحق في المساواة والاختلاف بشكل وثيق. هكذا تم استبعاد العدالة في نفس الوقت عن العقل بمعناه الكلاسيكي وعن الطبيعة وعن الشريعة الإلهية، وأضحت مرتبطة بعَقد اجتماعي حر يعقده الناس مع الحاكم أو فيما بينهم لتدبير شؤونهم السياسية وتنظيم شئونهم الاجتماعية والاقتصادية.

ومع ذلك لم يعد “العقد الاجتماعي” يكفي لاستيعاب إشكالية العدالة، لاسيما بعد الانتقادات الشديدة التي وجهتها تيارات ما بعد الحداثة وما بعد الأنوار إلى عقل الأنوار وما أفرزته من قيم ومعايير كونية. ضمن هذا السياق انبرى أمارتيا صن إلى انتقاد أهم نظرية في الفلسفة المعاصرة في العدالة، وهي نظرية راولز، بسبب اقتصارها على مرجعية واحدة هي مرجعية الأنوار الغربية لصياغة آلياتها ومؤسساتها الضامنة لتحقيقها. ولتجاوز هذا القصور، عمل المفكر الهندي على فتح العدالة المعاصرة على مختلف الآفاق الثقافية بعقلانياتها وأنوارها المتعددة، وبالتالي على إعادة النظر في معايير العدالة ومقوماتها، كالموضوعية والعلمانية والانفعال وحتى اللاعقل.

لكن الأهم من ذلك، أن مقاربة أمارتيا صن تميزت، ربما بحكم تكوينه الاقتصادي، باهتمامها بمناهضة أسباب الظلم أكثر من عنايتها بإقامة مؤسسات عادلة. من هنا جاء حرصه الكبير على إحلال العقل والمعقولية والعقلانية مكانة كبيرة في صرحه الفكري. فقد كان يعتبر الظلم من الموضوعات التي من “الصعب الكلام فيها”، لكن من الصعب “السكوت عنها”، لأنه يثير من الانفعال والإحساس بالحنق الشديد أكثر مما يدفع إلى التفكير والتأمل. لذلك جاءت دعوته الملحة إلى وجوب التسلح بوضوح التفكير وصرامة الاستدلال عملا بنصيحة فتغنشتين، لنقل وتحويل الإحساس بالظلم إلى تحليل عقلي واضح ومقنع له. فالعقل ضروري لفضح المظالم بطريقة عقلانية، أي مقنعة، والتعبير عن العدالة بكيفية معقولة وممكنة.

وإذا كانت العدالة هي ما يجعل الحياة ممكنة وفاضلة، والظلم هو ما يحوّلها إلى جحيم لا يطاق، فسيكون من الواجب العمل على التقليل من أسباب الظلم ومظاهره عبر ممارسة نقد شامل قادر على أن يَمس ما لا يمكن أن يُمَس، أي الغوص في أعماق الظلم وعدم الاكتفاء بالبقاء في مستوى مظاهره ونتائجه. لم يكن هدف كتاب فكرة العدالة التنظير لكيفية تحقيق حلم العدالة الكاملة والمجتمع الفاضل بمؤسساته المثالية، كما كان الحال لدى فلاسفة المدن الفاضلة ومفكري العقود الاجتماعية، وإنما كان يبحث عن الإصلاحات التي من شأنها أن تمنع حدوث ظلم فادح أو على الأقل جعل العالم أقل ظلما وأقل انتهاكا لحقوق الإنسان.

من أجل تحقيق هذه الغاية “المتواضعة”، غاية التقليل من الظلم واللاعدالة، كان أمارتيا صن يرى ضرورة تضافر كل العقلانيات الممكنة عبر حوار ديمقراطي تشاوري، إيمانا منه بأن قيم الغرب والشرق المتصلة بالعدالة (كالإنصاف والمسئولية والحق والواجب والخير والاستقامة) ليس بينها تناف، بل يمكن أن نجد في ثقافات غير غربية عناصر يمكن أن توسع مدى مفهوم العدالة وأن تقدم لأسباب خرقها حلولا خلاقة. لكن إذا كان منطق هذا التفكير يتجه نحو القول بأنه ليس هناك معنى واحد للعدالة، وإنما هناك عدالات، وأنه ليس هناك عقلانية واحدة هي معيار كل العقلانيات بل هناك عقلانيات، فإنه مع ذلك لم يفرط في مبدإ الكونية العزيز على فلسفة التنوير.

الهوامش:

1-    .cf. Amartya Sen, La démocratie des autres, traduit par Monique Begot, Paris, Rivages Poche, 2006, p. 12-13 ; cf. Sen, Amartya, L’idée de justice, p. 17.

- محمد المصباحي

30

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.