نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يوماً دراسياً حول الكتاب الذي صدر أخيراً(2010) للأستاذ محمد مفتاح، بعنوان: مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة-الموسيقى-الحركة، في ثلاثة أجزاء، وحصل به على جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع الآداب. والغاية من هذا اليوم الدراسي، هو تكريم محمد مفتاح الأستاذ العالم الباحث المربي، واحتفاء به، مثلما هو تقدير علمي واعتراف أكاديمي من طرف كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط التي اشتغل فيها لعدة عقود، وكوَّن فيهاً أجيالاً من الطلبة والأساتذة والباحثين، بل وأصَّل فيها الدرس السيميائي وتحليل الخطاب، بشكل خاص، والدرس الأدبي الحديث، بشكل عام، وامتد ذلك إلى الجامعات المغربية والجامعات العربية كذلك، بفضل مؤلفاته العديدة الأصيلة خلال أربعة عقود.
اجتمعت هنا مجموعة من الأساتذة الباحثين، تتلمذ معظمهم عن محمد مفتاح بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لقراءة كتابه “مفاهيم موسعة لنظرية شعرية”، ودراسته وتحليله وتقييمه، وإبراز أهميته وقيمته العلمية في مجال التنظير للشعر، علماً أن هؤلاء الباحثين قد تابعوا كلهم، تقريباً، مؤلفات محمد مفتاح واستفادوا منها بطرق مختلفة. ولعل أجمل ما يمكن أن يهديه هؤلاء الأساتذة الباحثون للمؤلف الأستاذ العالم الباحث المربي محمد مفتاح، هو هذا الروح العلمية والمنهجية التي قرؤوا بها كتابه، بدرجات متفاوتة، وما تحمله من بصماته وآثاره الدالة على ذلك. ولعل ذلك هو مبلغ قصد كل أستاذ عالم يسعى إلى المساهمة في تطوير المعرفة العلمية وتقدُّمِها في مجتمعه، وبخاصة في عالمنا العربي الذي يبحث عن أزمنة جديدة للمعرفة العلمية الحديثة.
يضم هذا الكتاب اثنتا عشرة مقالة وتعقيب للأستاذ محمد مفتاح على العروض التي سمعها حول كتابه. هي مقالات تناولت بالدرس والتحليل كتاب محمد مفتاح: مفاهيم موسعة لنظرية شعرية. وقرأته من مداخل مختلفة ومتنوعة؛ فلسفية، تاريخية، سيميائية، شعرية، ونقدية. ولكن الذي أجمعت عليه كل هذه المقالات هو مدى أهمية كتاب محمد مفتاح وقيمته العلمية النظرية والعملية، وكذا رؤيته الجديدة الواسعة للشعر. ومن القضايا التي الأساسية التي ركزت عليها هذه المقالات، نذكر ما يلي:
– أن المؤلف يقدم لنا في هذا الكتاب مشروعه العلمي بشكل متكامل ومحكم. فهو يجمع فيه، من جهة، خلاصة تجاربه العلمية والمنهجية والتحليلية السابقة، منذ كتابه الأول، في سيمياء الشعر القديم (1982)، حتى كتابه الأخير، قبل هذا، رؤيا التماثل (2006)، ولكنه، من جهة أخرى، يوسع ويغنى تلك التجربة السابقة، بل ويتميز بجرأة علمية ومنهجية كبيرة، أو بالأحرى هو مغامرة نظرية واعية.
– أن الكتاب يحافظ على حرصه المنهجي، من حيث الاعتماد دائماً على التصور النظري الذي يضيء به موضوعه، وعلى ممارسته العملية والتطبيقية الدالة على فرضياته وتصوراته النظرية؛ مع تنويع، هذه المرة، في تطبيقاته على نصوص شعرية حديثة دالة؛ مشرقية ومغربية، وبخاصة فيما يخص النصوص الشعرية المغربية.
– أن الكتاب، وإن كان يمثل مرحلة متقدمة في الإنتاج الفكري والعلمي للمؤلف، فإنه، مع ذلك، لم يَهِن ولم يَستَكِن ولم يتراجع، بل فيه جرأة ما وُصف، “بالأسلوب الأخير“، وتوقد ذهن المفكر المبدع الجسور، وسَعَة رؤية المتبصر الحكيم. وأنه ينطلق من رؤية نقدية وطنية لها غايات إنسانية وقومية ووطنية.
– ينطلق الكتاب من تصور أساسي تتعالق فيه الميادين المعرفية التي ينهل منها، ومن مسلمة تناغم الكون وانتظامه، وأن كل ما في الكون عبارة عن متصل يقطع إلى أجزاء. وبذلك يتبنى مفتاح الاختيار الفيثاغوري المنفتح باعتبار الموسيقى نحو الشعور وأم اللغة الإنسانية، والأساس الذي يمكن الاعتماد عليه في دراسة الشعر والتنظير له.
– انفتاح المؤلف، مرة أخرى، على معارف وعلوم جديدة وحديثة – وهو نهجه دائماً في كل إنتاجاته – وبخاصة علم الأعصاب وعلم التشريح وعلم النفس والعلوم المعرفية وفلسفة الذهن، وكذا المؤلفات الموسيقية الحديثة، والدراسات الشعرية المعاصرة المنفتحة بدورها على علوم الموسيقى، وتبنيه لتوجهاتها.
– اعتماده على وثيقة موسيقية يونانية قديمة هامة جداً، ولكنها مغمورة، ولم يكن لها صدى واضح في الدراسات الفلسفية والموسيقية العربية القديمة، ولم يتم التركيز عليها، رغم تشاكل نظرياتهم معها، ويمكن قراءة التراث الموسيقي العربي بها.
– اعتماد المؤلف على السيميائيات المركبة التي تجمع بين التصورات الأوروبية والأنجلو أمريكية، فكون بذلك جهازاً تركيبياً يقوم على الاتصال والتناسب والتقابل والتدريج. وقد ساعده هذا التصور السيميائي المركب على دراسة النظريات المتعلقة باللغة والموسيقى من خلال النظرية التوليدية التعبيرية الإيقاعية، ودراسة الأنساق والتراكيب والدلالات. وقد ناقشت جل المقالات، بشكل دقيق، ما جاء في الكتاب من قضايا تتعلق بالشعر والموسيقى والإيقاع والعروض، وبخاصة في مستوى التحليلات التطبيقية على الأشعار الحديثة المختلفة والمتنوعة.
– توسيع النظر في الشعر من خلال تبني المؤلف للمشتركات الإنسانية التي تجمع الشعر بغيره من الفنون التعبيرية، وبخاصة التعبير بالجسد والحركة. وبهذا يكون المؤلف أعاد للتصور الشعري أصوله المعتمدة على الإلقاء والإنشاد، ودور الحركة في التعبير بالجسد عن مكنونات اللغة الشعرية. ويظهر هذا، بشكل خاص، عند الشعراء الذين يوظفون هذا العنصر الحركي والجسدي في إلقائهم بشكل جيد.
– ونظراً لما كشف عنه المؤلف من أهمية الموسيقى في الحياة البشرية، وما تتضمنه من أبعاد تربوية وتهذيبية وأخلاقية وعلاجية، فقد اقترح إدراج علم الموسيقى في المنظومة التربوية يتولى تلقينها المختصون في الموسيقى. وكذا تزويد المتعلم بمعلومات أولية تتعلق بعلوم الأعصاب والتشريح لكي يدرك المتعلم أن الخطاب الشعري وليد مكونات دماغية متشابكة ومتصلة، تعمل فيها العناصر الموروثة التي تتفاعل سلباً أو إيجاباً مع المحيط، قد تعمل على تطويرها أو طمسها.
– أشارت جل المقالات إلى أهمية اللغة المصطلحية الجديدة المستعملة في الكتاب، سواء تلك التي نحتها المؤلف أو عربها أو ركبها تركيباً مزجياً. وقد أغنى بذلك المصطلح العربي المستَنْبَت في لغة التحليل الشعري والثقافي العربي. وقد تفتح هذه اللغة المصطلحية مجالاً آخر في البحث المصطلحي الشعري مستقبلاً.
هذه العوالم الجديدة المختلفة؛ العلمية والتاريخية والمنهجية هي التي غذت تصور المؤلف للشعر وأغنت دراسته. هناك، إذن، مرجعية نظرية علمية عميقة وحديثة وراء رؤية المؤلف في هذا الكتاب. إضافة إلى ما بذله المؤلف من جهد خاص في تعلم الموسيقى، وكذلك الاستعانة بخبير في شؤون الموسيقى. ورغم ما قد يثيره هذا التعامل في الشعر مع العلوم الدقيقة الصعبة من تساؤلات، فإن المؤلف يؤكد بأنه على وعي بذلك في صناعته النظرية والعملية، وأنه يعتمد على الخلاصات الدقيقة التي توصلت إليها تلك العلوم، وتلك التي يتحكم فيها ويدرك جدواها وأهميتها في تطوير عمله وصناعته النظرية والعملية.
وأشير، في الأخير، إلى أن تعقيب المؤلف في الأخير، قد أضاء كثيراً من القضايا التي تطرق إليها الباحثون، أو أثاروها، في تحليلاتهم. كما يساعد، أيضاَ، على تَبَيُّن كثير من الجوانب الدقيقة في الكتاب عندما يضعها تعقيب المؤلف في سياقها، أو يوضحها أكثر.