الإثنين , 20 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » كونية الخطاب

كونية الخطاب

1– تقديم:

kiraat_14.5أطل الكاتب الجزائري واسيني الأعرج على قرائه خلال سنة 2012، برواية مميزة، تحمل عنوانأصابع لوليتا. تقع في أربعمائة وثلاثة وستين صفحة، وتتكون من خمسة فصول، وتتضمن أحداثاً محبوكة بحرفية كبيرة، تدور في فضاءات متنوعة أهمها مدينة باريس الفرنسية، ومدينة مارينا الجزائرية، ومدينة فرانكفورت الألمانية، وفي سياق زمني ينطلق مع انقلاب العقيد هواري بومدين سنة 1965، على أول رئيس شرعي للجمهورية الفتية، الرئيس أحمد بن بلة، ويمتد إلى الزمن الحاضر في منفى الكاتب يونس مارينا بفرنسا. وتُحرّك أحداث هذه الرواية مجموعة من الشخصيات، من أهمها بطل الرواية يونس مارينا (سلطان حميد السويرتي)، لوليتا (نوة)، المترجمة الألمانية إيفا، المومس مريم ماجدلينا، دافيد إيتيان، ماري، ازميرالدا، يمّا جوهرة، موسى أيت محنّد لحمر، عمي أحمد الشايب، مولاي أحمد، الرايس بابانا (أحمد بن بلة)، العقيد (هواري بومدين) وأخرون. وتترابط بعض هذه الشخصيات فيما بينها، بعلاقات انسجام وتجاذب، وبعضها الآخر بعلاقات صراع وتنافر. أما البناء السردي للرواية، فيخرق قاعدة السرد الكلاسيكي المتوالي، بسرد متداخل، تتخلله في الكثير من مواضع الرواية، استذكارات طويلة للشخصيات الرئيسية، تعود فيها حركة السرد إلى الخلف، قبل أن تعاود تقدمها بتوازي مع زمن القراءة. كما يقوم المؤلف بتنويع وجهات النظر السردية، حيث يغير السارد المصاحب للأحداث، غالباً، موقعه السردي أحياناً، ليستبطن الشخصيات، حتى يكشف دواخلها ومكنونات صدورها. وتتميز هذه الرواية كذلك، بتهجين خطابها، عبر المزج بين لغات وخطابات متنوعة، تترواح بين العامي والفصيح، واللغتين العربية والفرنسية والانجليزية، كما تستنطق الذاكرة الشعبية، عبر استعادة أمثالها وحكمها ومحكياتها الخرافية.

وتحبل الرواية أيضاً، بالعديد من المعطيات السياسية والتاريخية، كالوقائع السياسية والتاريخية لفترة ما بعد استقلال الجزائر، والممتدة في الزمن الراهن. إضافة إلى الكثير من القضايا السياسية المتعلقة بالساحة الفرنسية، كقضايا الإرهاب ومعاداة المسلمين واليهود. والمعطيات الاجتماعية، كظاهرة البغاء وتهميش النساء. والمعطيات الجمالية، كالتشكيل وعوالم الموضة والأزياء والعطور والكتابة الروائية. والمعطيات النفسية، من خلال استبطان العوالم النفسية للشخصيات، واعتماد مرجعيات التحليل النفسي الفرويدي، التي تتجللى بوضوح، في اعتماد عقدتي أوديب وإلكترا.

وعليه، فقد آثرنا في قراءتنا لهذه الرواية، التركيز على الموضوعات الأكثر هيمنة في الرواية، والمتمثلة بالتحديد، في مقولات الجسد والدين والسلطة والفن، مع محاولة استجلاء دلالاتها وأبعادها، في ارتباطها ببناء الرواية ومعناها العام.

2– القصة:                                 

تدور قصة رواية أصابع لوليتا في أحد الأحياء الباريسية، حيث يعيش الكاتب الجزائري يونس مارينا (سلطان حميد السويرتي)، البالغ من العمر ستين سنة، والذي فر من جحيم الاضطهاد والديكتاتورية في جزائر ما بعد الاستقلال، بعد خلع الرئيس الشرعي “الرايس بابانا” (أحمد بن بلة)، صديق والده في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، من طرف العقيد هواري بومدين وذئابه. خَلْعُ الرئيس بن بلة، دفع بطل الرواية إلى الانخراط في المعارضة السياسية، للدفاع عن بابانا المودع في سجن العقيد، وللتعريض بالطغيان السياسي، عن طريق الكتابة في جريدة المعارضة، باسم مستعار هو “يونس مارينا”. لكن بطش العقيد وتنكيله بعناصر المعارضة والمقربين منها، وعلى رأسهم والدة الكاتب “يمّا جوهرة”، جعل يونس مارينا مُلزماً بالفرار صوب فرنسا، كلاجئ سياسي. وهنالك ألّف الكاتب كل رواياته التي حققت حضوراً متميزاً في الساحة الأدبية العالمية. في هذه اللحظة السردية بالذات، تنتهي تقنية الاسترجاع، ويبدأ عداد السرد الآني انطلاقاً من معرض فرانكفورت للكتاب، حيث يوقّع الكاتب مصحوباً بمترجمته الألمانية ايفا، آخر رواياته “عرش الشيطان”، وفي هذا الفضاء التقي بإحدى قارئاته، عارضة الأزياء “نوّة” (لوليتا) البالغة من العمر أربعاً وعشرين سنة، والتي أذهلته بجمالها ورقتها ويفاعتها التي تُذكّر بـجمال وغضاضة “لوليتا” فلاديمير نابوكوف1. حيث ارتمى بعد عودته إلى باريس، في أحضانها تاركاً رفيقته الألمانية إيفا. ثم تتجه الأحداث صوب حالة الاستنفار المعلنة من طرف الفرقة الأمنية المكلفة بحراسة مارينا، بعد عِلْمِها بمخطط إرهابي يستهدف الكاتب، بسبب زعم حراس النوايا وسدنة الدين بتطاول رواياته على الذات الإلهية. وفي خضم هذا الجو المضطرب، تبدأ علاقة الكاتب مارينا بشخصية لوليتا في التعقّد، حيث أخبرته بحياتها الشقية، وكيف أنقذتها رواياته من الانتحار، بعدما أنهى صديقها جيروم، مدمن الدمى الجنسية، حياته منتحراً، وبعد الاغتصاب الذي تعرضّت له من طرف الأب مولاي أحمد تاجر الألبسة. بهذه الكيفية توطدت العلاقة بين الشخصيتين، بعد بلوغها مستويات الوله والمغامرات الجنسية الآسرة. ليتواصل في نفس الوقت، التوتر المرتبط بحالة التأهب المعلنة من طرف الشرطة الفرنسية حول الإرهاب المهدّد لحياة مارينا، وكذلك النقاش بين أفراد الشرطة، حول مدى أهمية الجهود المبذولة من طرف الجمهورية الفرنسية لحماية اللاجئين سياسياً، وخصوصاً جدوى التدخل في التطاحن المتخلف، بين المسلمين. وعند اقتراب الرواية من نهايتها، يلْحظ الكاتب المفتون بالعطور والتشكيل وجسد لوليتا، تحولاً غريباً في شخصية الشابة، وظهور بذور الإيمان الديني فيها، بعد عودتها من جولة لعروض الأزياء في دولة ماليزيا، ولقائها بأحد الشيوخ الدينيين هنالك. في نهاية الأحداث انفجرت لوليتا عشية أعياد ميلاد المسيح، بشارع الشونزي ليزي، بعدما أحبّت الكاتب مارينا بصدق وأعجزها اغتياله، لتنفكّ بذلك، عقدة هذه الشخصية التي كانت مرتبطة بمخطط إرهابي يستهدف الكاتب الجرّيء. بعد نجاته وغرقه في تأمل ملامح لوحة جورج دولاتور “توبة مريم المجدلية” الغارقة في العتمة، انتهت الرواية، بقرْع عناصر المخابرات الجزائرية التي لم تنس تعريضه بالنظام البوليسي، باب غرفته، بعدما هرعت عناصر الشرطة إلى مكان التفجير الانتحاري.

3– الجسد الأنثوي كفضاء للإقصاء والتنكيل:

يحضر الجسد الأنثوي بقوة في الرواية، باعتباره الجسد الهش الذي يتعرض لكل أشكال التمييز والإقصاء والتنكيل، فكل الشخصيات الأنثوية في العمل الروائي، هي مجرد موضوعات لنزوات الذكورة وعُصاباتها، بدءاً بتفريغ المكبوت الجنسي وانتهاء بالتعذيب والتعنيف والاستغلال الديني، فجسد لوليتا يُعرض في الرواية كجسد مليء بالشروخ، نتيجة الاغتصاب والتعنيف الأبويين، وعلاقة الحب الفاشلة مع شخصية جيروم الغريبة، مدمنة الدمى الجنسية، ونتيجة سلْعنة الجسد في شركات الموضة. كل تلك الندوب النفسية جعلت من الجسد قرباناً بيد التطرف الإسلامي، ومن هذا المسلك المدمر، وسيلة للشفاء والتطهر من الدنس الذي لحق الجسد، وحوله إلى كيان غريب بلا ذاكرة، كما تؤكد الشخصية: “يكاد هذا الجسد أن يكون بلا ذاكرة؟ مجرد ظلال عابرة سرقت بعضاً من ألقه ثم انسحبت.”(ص 227) ومن ثم، يكون ارتماء الجسد الطري في أحضان الكاتب مارينا بغاية تدميره، خدمة لأجندات الإرهاب الإسلامي، ثم نهايته بالانفجار في شارع الشونزيليزي، نوعاً من التسامي عن الانتهاك الصارخ الذي لحقه، وطريقة لرفع الصوت في وجه المستغلين والمغتصبين، فمحو الجسد هو أداة لتفريغ كبْت بلغ حدوده القصوى، كبتٌ فُرض على الجسد الأنثوي من طرف الأب مولاي أحمد المغتصب، والبطريركية الدينية المتمثلة في شخصية الشيخ الاندونيسي، وشركات الموضة التي حولته إلى سلعة محدودة الصلاحية، ودمية تسري فيها بعض الحياة، كما يتضح في تصريح لوليتا: “أدركت أنني، أنا وغيري من النساء العارضات، لم نكن أحسن من دميتي جيروم: كلارا وراما. كنا مجرد قطع بلاستيكية مطاطة تسر العيون، مصنوعة من لاتيكس أو السيلكون. فيها بعض الحياة.”(ص 212)

أما شخصية مريم ماجدلينا، والتي تحيل إلى مريم ماجدلينا (Marie-Madeleine) أو مريم المجدلية (Marie la Magdaléenne) البغي التي تابت على يد المسيح، والتي تعد من أقرب الحواريين إليه، فتمثل دور العاهرة الذي دفعتها الظروف الاجتماعية إلى امتهان الدعارة في ماخور عيشة الطويلة، فكانت الجسد الأول الذي لامس الكاتب مارينا أصابعه الدافئة في عتمة الماخور الذي اختبأ فيه خوفاً من بطش ذئاب العقيد، فاحتّل بذلك موقع “جسد الذاكرة”. وتُعرض هذه الشخصية السردية في الرواية، كجسد مُطارد نتيجة عدم ولائه للعادة والعرف الفِصامي، المصاغ بطريقةٍ ذكوريةٍ تحّرم الجنس خارج أطرٍ “شرعيةٍ” على الأنثى، بينما تمنح الذكر حق الممارسات الجنسية بكل أشكالها، وحق الوصاية على مجتمع النساء، وحماية العرف من التحريف والتأويل المغرض. لهذا طوردت مريم ماجدلينا من طرف الأهل والعشيرة، بتهمة تلطيخ شرف العائلة، الموجب لسفك دم القربان الأنثوي، تطهيراً لشرفٍ لا يلطّخ نقاءه ذكرٌ ظل طاهراً منذ البراءة الأولى. لكن جسد ماجدلينا في زاوية نظر السارد، هو جسد مزدوج يجمع بين الطهر والعهر والملاك والشيطان:  كانت أقل من امرأة في عرف السفهاء الذين لا يعرفون شيئاً عن المرأة إلا ثقباً تضعه تحت تصرفهم عند الحاجة ينهشونه، بينما تصطف هي مع الملائكة وتتأمل المشهد وكأن الأمر لا يعنيها مطلقاً.”(ص 76) وبذلك، يكون الازدواج الذي يسم شخصية مريم ماجدلينا، والشخصية التاريخية مريم المجدلية(2) التي استعار الكاتب اسمها هنا، خاصية إنسانية ضرورية، إذ لا وجود لطهر دون عهر، ولا ملائكة بدون شياطين، ولا فضيلة بدون خطيئة، وهذا ما يتأكد في قول شخصية ماجدلينا: “رأيت فيك مسيحي الذي(…) يملك جرأة الصراخ في وجه القتلة: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر؟”.(ص 73)

وتؤثت أحداث الرواية شخصية أخرى هي إيفا، المترجمة الألمانية لروايات يونس مارينا، وهي عشيقة الكاتب. هذه الشخصية غابت بعد ظهور لوليتا في المشهد، حينما انساق مارينا وراء الجسد الأنثوي الغض، لأن جسد ايفا مجرد موضوع للرغبة المؤقتة، واللحظات الهاربة، فالبطل حتى وإن كان شخصاً مثقفاً، إلا أنه لا يشدّ عن الذهنية الذكورية المتصلبة التي تتخيل الجسد الأنثوي، مجرد مجازٍ للذّات العابرة، لأن التصور الذكوري الأبوي أكثر عمقاً وارتباطاً بحالة البداية والنماذج الأصلية للبشرية التي تعلي من شأن الذكورة، وتحط من شأن الأنوثة باعتبارها مصدر الخطيئة والخروج من الفردوس المفقود، رغم ضرورتها كآخر لا تتحقق الذات إلا بوجوده. فالإله والملائكة نفسها مصاغة بشكل ذكوري، كما ترى المترجمة إيفا: “تخيل؟ حتى الله مصاغ ذكورياً في لاوعي البشر في كل لغات الدنيا، الأمر الذي يجعلنا في الكثير من الأحيان بعيدين عنه. من يتخيل الملائكة إناثاً؟ جبرائيل؟ ميخائيل؟ عزرائيل؟كيف يعيش الملائكة بلا إناثهم؟ لا بد أن تكون حياتهم جافة.”(صص 51-52).

أما شخصية يمّا جوهرة، والدة الكاتب مارينا، فتمثل الجسد الأنثوي الشرقي الهش المتداعي، الذي تعرض للتعذيب والتنكيل حتى الموت في جزائر العقيد بومدين. فالجسد الأنثوي هنا دفع ثمن الاختلاف مع الخطاب السلطوي المتصلب في الدولة البوليسية، فالاختلاف مع المؤسسة السياسية الكليانية، لا يلقي المختلفين في الهامش فحسب، بل يدمرهم ويدمر من في دائرتهم، فاختلاف البطل مع العقيد وذئابه، دفع ثمنه جسد يمّا جوهرة. وهنا يتجلى الفرق، فإذا كان خطاب السلطة الأبوي في فرنسا يقصي الأنثى رمزياً، في غالب الأحيان، فإن الخطاب السلطوي في الجزائر، كما تعرضه الرواية، يلغي الأنثى رمزياً ومادياً.

وعليه، يبدو أن الجسد الأنثوي كما يحضر في الرواية، هو موضوع إقصاء واستغلال وتعسف الذكورة سواء بصيغة المفرد أو بصيغة الجمع المتمثلة في الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فأجساد الرواية هي أجساد هشة، ومتداعية، وقلقة، تقف عند حواف تدمير الذات، نتيجة الإقصاء والتنكيل والهيمنة الذكورية في الغرب والشرق، لذلك تبدو رواية أصابع لوليتا هنا، عابرة للحدود، ومؤسسة لحوارية تُسائل الذهنية البشرية عامة، وتحاول منح الأجساد الأنثوية في الشمال والجنوب، مساحة للتفكير بصوت عال، في محاولة لفهم الذات وعلاقتها المتوترة بالذكورة والأبوية في شتى تجلياتها، وذلك لأن الفن الروائي في نظر واسيني الأعرج، من وظائفه الأساسية التأسيس لحوار كوني منخرط في مساءلة ومعالجة هموم الإنسانية: “الرواية كأحد أهم فنون التواصل الحضاري ومحاورة الآخر… تدرك سلفاً أنها تملك وسيلة القبض على أكثر اللحظات حياة ونبضاً، غير معترفة بالحدود ولا “الفيزات” والجوازات، ولا حتى خصوصية الشعوب الثقافية والحياتية.”(3)

4– السلطة بين المقدس والدنيوي:

تعرض السلطة في الرواية داخل فضائين متمايزين، ومن خلال زاويتين متعارضتين، السلطة في الجزائر التي تبدو في أسوء تجلياتها الممكنة: الانقلاب على السلطة السياسية الشرعية، الديكتاتورية، مصادرة الرأي وحق التعبير والاختلاف والمعارضة، والتنكيل بالمعارضين وتعذيبهم ونفيهم، وملاحقتهم في كل مكان كما هو الحال مع بطل الرواية، وذلك لأن السلطة في الجزائر مقدس لا ينبغي مناقشته أو إبداء الرأي الحر فيه، فالعقيد هو ولي الأمر والمخول الوحيد لممارسة التسلط والوصاية على الآخرين، لأنه وحده من يمتلك الحق المطلق، كما يؤكد ذئابه: “الحق هو ما يخرج من فم العقيد. ما عداه كذب وبهتان.”(ص.100) فسلطة العقيد في الجزائر لا تعترف بالمختلف والمعارض الذي يهاجم خطابها المتهالك والضعيف الحجية، بخاصة الفئات المتعلمة التي تتحول في نظر المؤسسة السياسية المتخلفة إلى عدو يهدد الوطن، ويحمل بذور تشتيته وخرابه، كما يتجلى بوضوح في قول سارد الرواية عندما يعرض مذكرة البحث عن الكاتب مارينا: “إن الله لا يضيع أجر المحسنين. تطلب السلطات العسكرية من كل من رأى أو تعرف على العميل المسمى: يونس مارينا، ومجموعته التي يشتغل معها، وهو من سلالة الحرْكة والخونة الذين يتحكمون بأوامر أسيادهم من وراء البحار، أن يعلم السلطات عنه أو يتصل بأي مركز أمني أو أيه ثكنة عسكرية قريبين منه. السرية مضمونة. لقد استكثر الخونة على بلادنا استقلالها، ولكن يد الدولة ستضرب بقوة الفولاذ والنار.”(ص. 138)

أما السلطة في فرنسا فتعرض كمنتوج دنيوي قابل للتداول ومجال للتدافع السلمي والنقاش، فرجال الأمن المكلفون بحراسة يونس مارينا من التهديدات الإرهابية، يناقشون بكل حرية قرارات الدولة الفرنسية وتعاملها مع المسلمين والأجانب، ومن الشخصيات الأمنية من يؤيد فكرة حماية الأقليات، ومنهم من يدافع عن الفكر اليميني الذي يرى في المهاجرين، والمسلمين أعداء للجمهورية وتهديداً لهوية الفرنسي الأصلي، وعبئاً سياسياً واقتصادياً على الدولة، وجب عليها التخلص منه، كما تعبر عن ذلك شخصية ماري، إحدى عناصر الفرقة الأمنية المكلف بحماية مارينا. فنقد السلطة ومؤسساتها يتم في الجانب الفرنسي بكل حرية، لأنها منتوج إنساني نسبي ومتناهي، يحتكره الأكثر عقلانية وقدرة على الإقناع، كما هو الأمر مع شخصية دافيد إيتيان، رئيس المجموعة الأمنية المكلفة بمحاربة الإرهاب، وحراسة يونس مارينا. وهذا خلافاً للسلطة في الضفة الجنوبية التي تأخذ طابعاً مقدساً، ينزهها عن النقاش والتداول والاختلاف.

5- الدين مجال لاحتكار التأويلات:

يحضر الدين الإسلامي في رواية أصابع لوليتا باعتباره مقدس الضفة الجنوبية الأول، الذي لا ينبغي المساس حتى بتأويلاته الإنسانية، التي يُدافع عنها حتى الموت من طرف حراس العقيدة ومحاكمي النوايا، فاحتكار التأويل واحتلال الرمز هو إحدى المعضلات التي تعرض لها الرواية، لكونها من أهم الوسائل التي تستغل من طرف المتسلطين المتحالفين مع ما يسميهم سارد الرواية بحراس العقيدة، فشخصية مارينا تُتّهم بالإساءة إلى الإسلام لأنها تطرقت للدين في رواية “عرش الشيطان” من زواية لا يتفق معها الأرثودوكسيون الإسلاميون، وبهذا الشكل يمكن أن يتحول فهم وتأويل النص المقدس إلى أداة خطيرة وقاتلة، فالكاتب ملاحق ومهدد في حياته بفرنسا بسبب اختلافه مع الفهم والوصاية الأرثودوكسييْن “للمقدس”. تقول الشخصية محاولة تعميم الخطاب، وربط قضية الفهم الأرثودوكسي للدين بكل الملل، والذي قد يكون قانوناً من قوانين الحياة: “مشكلتي ليست مع الأديان ولكن مع بشر يلبسون هذه الأديان كما يشتهونها ويفرضون علينا الشكل الذي ارتضوه لها. ولهذا لا يخلو أي دين من الملائكة والضحايا، ولا يخلو أي دين أيضاً من الشياطين والقتلة. يكاد يكون ذلك هو قانون الحياة.(ص. 188)

إن احتلال الرمز الديني واحتكار تأويله وفهمه، من الموضوعات الأساسية التي يطرحها واسيني الأعرج في عمله أصابع لوليتا، في حوارية كونية، لا تختزل المشكلة في الدين الإسلامي فحسب، كما هو شأن الكثير من مثقفي هذا العصر، حيث يرى الكاتب أن هذه المعضلة تعد من أخطر ما يمكن أن يعصف بحاضر ومستقبل الأمم، ويسقطها في دوامة من العنف والصراع الأعمى، فـــــ“عندما يتم احتلال الرمز ويتم تأويله بحسب الرغبة والحاجة، لن يحتاج الاستعمار الحديث لأي تدخل لأننا سنأكل أنفسنا بوسائلنا الأكثر فتكاً وندمر الرموز التي تجمعنا ونتفكك لنصبح قبائل وشيعا متقاتلة متذابحة.”(4) وبهذا الشكل تكون الرواية واحدة من أهم الوسائل الفنية لمكافحة الظلام الزاحف، وتنسيب وأنسنة تأويل المقدس، “لأنها أكثر الأشكال الفنية جرأة، ولا مقدس لديها.”(5)

6– الفن كأداة للنسيان ومواصلة العيش:

يبدو واسيني الأعرج في هذه الرواية على دراية كبيرة بالفن التشيكلي وتاريخه ومدارسه، حيث يحضر التشكيل في الرواية من خلال الاستثمار الجيد والكفء للوحة “مريم المجدلية على ضوء القنديل” لجورج دولاتور(6)، عبر تأويلها وربطها بموضوع الجسد الدنيوي العابر والهش. اللوحة وجدها الكاتب مارينا مخبأة بعناية فائقة بين الطبقات الخشبية لطاولة عتيقة اقتناها من سوق المتلاشيات، فلم يستطع في البداية تحديد هويتها، ليطلق عليها اسم “لوحة الذبابة” كإحالة إلى الذبابة التي آنست وحدة الرايس بابانا (أحمد بن بلة) في عتمة السجن، وحالت دون انتحاره. وبهذه الطريقة أصبحت اللوحة مع مرور الوقت علامة دالة على الأمل بالنسبة للكاتب، ومعيناً أساسياً له على مواصلة الحياة رغم عذاب الوحدة والمنافي والتهديدات العمياء، كما يؤكد مارينا “منذ سنوات وهي (اللوحة) هنا خرساء، ولكنها كانت رفيقتي مثل ذبابة الرئيس التي ظلت تؤنس عزلته. كلما رأيتها، شعرت أن العالم ببعض الخير.”(ص. 337) وبذلك يكون الفن عنصراً أساسياً لمواصلة الحياة، ولممارسة لعبة النسيان، وإضفاء المعنى على واقعٍ حرْفي، يشوبه التشويش والعماء. إن الفن، حسب نيتشه، هو “المحفز الأكبر للحياة”، بما أنه يعين على العيش، ويعطي نكهةً وطعماً للحياة”.(7)

أما التجلي الثاني الأبرز، للفن في الرواية، فيتمثل في الكتابة باعتبارها أداة استشفائية، مساعدة على تمرير العنف والاحتقان الناتجين عن إحباطات واقع الدولة البوليسية في الجزائر، وسطوة التأويلات الدينية القاتلة، كما رد على لسان مارينا: “الكتابة هي أيضاً تسريب للعنف وإشراك للناس في هذا التسريب”.(ص. 345) ومن ثم تكون الكتابة والبوح بمكنونات الذات من خلال فن الرواية، هما سبيل استمرار يونس مارينا ككاتب ولولتيا كقارئة في الحياة، فالشخصية كانت ترغب في الانتحار لكن الكتب أنقذتها. تقول: “لم أكن أمزح حينما قلت لك أني كنت أريد الانتحار، وأن كتبك أنقدتني من ذلك. منحتني فرصة أخرى لرؤية الحياة خارج حاضر قاس.”(ص. 193) وبناء عليه، يكون الفن في الرواية هو الأداة الرئيسية المساعدة على مواصلة الحياة، وبث الأمل في النفوس المنكسرة، والتسامي عن الواقع المليء بالعنف والتسلط والتعسف والاستغلال والفوضى.

وإجمالاً يبدو أن العنصر الأساسي الذي يخترق كل الموضوعات السالفة الذكر، هو عنصر الكونية، فالسرد الروائي يتناول كل الموضوعات المهيمنة في ارتباطها بالإنسان في مختلف الفضاءات والأنساق الثقافية، ذلك أن الجسد والسلطة والدين والفن كلها موضوعات تُتَنَاول في علاقتها بالكائن البشري في الضفتين الجنوبية والشمالية على حد سواء، كنوعٍ من المقاومة لكل الصور المقولِبة والمنمّطة لتمظهراتها المختلفة، وبذلك يبدو واسيني الأعرج في هذه الرواية مقتنعاً بأهمية تصويب النقد تجاه خطابات السلطة سواء أ كانت سياسية أو ثقافية، لأن “الكفاح يكون مجدياً حين يكون موجهاً ضد خطابات السلطة كافة.”(8)

هــوامــــــش:

1- لوليتا (دولوريس هايز) الشخصية الرئيسية في رواية فلاديمير نابوكوف لوليتا والتي هي عبارة عن اعترافاتٍ للكهل الفرنسي همبرت همبرت، أستاذ اللغة الانجليزية، المهووس بالطفلات القاصرات. فبعد طلاق همبرت همبرت من فاليري زبوروبسكي، سافر إلى الولايات المتحدة، ليلتقي هنالك الأرملة شارلوت هايز (صاحبة النزل) وطفلتها دولوريس (لوليتا، اثنتا عشرة سنة). وفي هذا النّزل سقط همبرت همبرت في حب الطفلة لوليتا، وتزوج والدتها بغاية التقرب منها. بعد وفاة الأم شارلوت في حادث سير، أصبح همبرت همبرت الوكيل الوحيد للطفلة اليتمية. وهنايبدأ رحلة مجنونة بالسيارة في الغرب الأوسط الأمريكي، ليعيش مجموعة من المغامرات الجنسية بصحبة الطفلة لوليتا، مستمتعاً، بشكل مرضي، بالجسد الغض. وفي سياق هذه الرحلة لاحقهما كلار كويلتي، وهو عاشق طفلات بدروه، وقام بتهريب لوليتا، في إحدى الليالي، بينما كانت تُعالج من نزلة برد قاسية، وهكذا صدم همبرت همبرت بفرار حوريته رفقة كويلتي، تاركة إياه هائماً، يبحث عنها لمدة سنتين. وبعد تقصٍ مضنٍ عثر همبرت همبرت على طفلته متزوجة وحاملاً من الشاب ديك شيلار، بعد توصله برسالة منها، تطلب فيها مساعدة مادية. بعد اللقاء، ورفض لوليتا مرافقة والدها الكفيل في رحلاته المجنونة، دلته على مكان غريمه كويلتي الذي سرق منه عشقه الأبدي. ليواجههُ همبرت في منزله ويقتله بوابل من الطلقات النارية. وفي انتظار الحكم عليه، كتب همبرت همبرت مذكراته الغريبة، ومات بستكة قلبية قبل موعد إدانته.  فلاديمير نابوكوف، لوليتا، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بيروت- بغداد 2012.

2- يحيل اسم هذه الشخصية إلى مريم المجدلية (Marie la Magdaléenne) إحدى الشخصيات الغامضة في التاريخ المسيحي. تظهر إلى جانب المسيح في لوحة ليوناردو دا فينشي الملغزة العشاء الأخير. اتهمها البابا غريغوري منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، بالعهر والزنا، بينما ترى الأناجيل الأربعة (العهد الجديد) أنها من أهم حواريي المسيح والشاهدة على قيامته وأول الذاهبين لقبره. وهي رمز للإنسان الخطّاء الذي يتوب. لكن يرى آخرون ومن بينهم الروائي الأمريكي دان براون في روايته الشهيرة شفرة دافنشي أن المجدلية تزوجت المسيح، ولها منه درية أخفتها الكنيسة الكاثوليكة، ولفقت لها تهمة الخطيئة، من أجل الحفاظ على صفة الألوهية لدى شخصية المسيح. لذلك نعتقد أن توظيف الكاتب لهذه الشخصية التاريخية، غايته التدليل على أن نموذج مريم المجدلية والازدواج والتداخل الذي يطبع شخصيتها (الخطيئة والفضيلة، ومن الزنا إلى أقرب مقربي المسيح)، والذي تتقاسم جزءاً منه مع شخصية مريم ماجدلينا في الرواية، يتكرر باستمرار في تاريخ الإنسانية، فلكل زمن مجدليته، ولعل التداخل والازدواج، بشكل عام، هو سمة إنسانية، فليس هناك نقاء كلي، ولا وجود لإنسان على صورة الإله.

3- واسيني الأعرج، السرد في مواجهة أعطاب الحداثة، الرواية العربية ورهانات الحرية/الأخر/الأنا؟ ضمن: السرد وأسئلة الكينونة، بحوث مؤتمر عمان الأول للسرد، منشورات مجلة دبي الثقافية، دار الصدى، 2013، صص. 12-23.

4– نفسه، صص. 12-23.

5- نفسه. صص. 12-23.

6- La Madeleine a la veilleuse, George de La Tour, vers 1640-1645, huile sur toile, 128 cm x 94 cm.

7- Mathieu Kessler, “La vie est elle une œuvre d’art?” Le nouvel observateur, hors-série, N. 48, Septembre/octobre 2002, pp. 74-77.

8- ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، نقلاً عن: إدريس الخضراوي، الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012، ص. 142.

- خاليد مجاد

باحث في الدراسات السردية / الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.