يحفز كتاب تاريخ الزمن الراهن: عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر المؤرخ التونسي فتحي ليسير على تجديد الأدوات المنهجية للمؤرخ في ظل التحولات التي تعرفها الإسطوغرافيا المغاربية والإقليمية في الوقت الحالي. ومعلوم أن هذه الأخيرة قد حققت تراكما نوعيا هاما ومرت بالعديد من المحطات المفصلية، حيث انتقلت من التصدي للأطروحات الكولونيالية على غرار باقي البلدان التي تعرضت للاحتلال الأجنبي، إلى محاولة التفسير والتحليل بعيدا عن أي تأثير إيديولوجي، لتنتقل إلى الانفتاح على باقي التخصصات في العلوم الإنسانية. وهي اليوم تتطلع إلى التحرر من قيود وإكراهات كتابة التاريخ الراهن، وخوض غماره، محطمةً بذلك أعتى قلاع المؤرخ المرتبطة تحديدا بالمسافة الزمنية، في الوقت الذي راجع فيه العديد من الباحثين ببلدان أخرى مواقفهم من هذه الإشكالية التاريخية منذ عقود خلت.
وارتباطا بالمغرب فإن الساحة الإسطوغرافية انفتحت مؤخرا على هذا الحقل المعرفي من خلال أشغال الندوات التي احتضنتها كل من جامعة الأخوين (الجامعة الأمريكية بإفران) وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، والتي فتحت الباب لأسئلة المؤرخين المغاربيين والأجانب، سافرت بقرائها إلى إبستيمولوجيا التاريخ ومهام المؤرخ، ووموضوعاته، ووسائل عمله، واضعة الباحثين أمام السؤال المهيب الذي يضع التاريخ الراهن أمام تحدي البحث عن الحقيقة التاريخية وإشكاليات إعادة بنائها.
ويكتسي كتاب تاريخ الزمن الراهن: عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر أهميته باندراجه ضمن أولى المحاولات النظرية في هذا التوجه بالعالم العربي بشكل عام والمغرب الكبير بشكل خاص، كما أنه يمثل محاولة ملحة لرصد أهم الإشكاليات التي تعترض كتابة التاريخ الراهن بالإضافة إلى ما يمكن أن يقدمه هذا الأخير من إضافات نوعية كحقل علمي حديث بالعالم العربي، من خلال انفتاحه على ممارسات جديدة وعلى نصوص وخطابات ووسائط مختلفة كالأنترنيت والرواية الشفوية والصحافة والمجلات والصورة والإشهار وغيرها، بالإضافة إلى التراكم الحاصل في باقي العلوم الإنسانية من آداب وعلم اجتماع وأنثروبولوجيا وفلسفة وحقوق، مما يخدم استراتيجيات مؤرخ الزمن الراهن، الذي يرمي إلى فهم وقائع وأحداث التاريخ القريب والإحاطة بجميع جوانبه.
يضم كتاب الباحث التونسي فتحي ليسير، أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسيّة، الصادر في عام 2012، والذي يعمل حاليّا مدرّسا في قسم التّاريخ بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في صفاقس، مجموعة من القراءات لمسار تحولات الإسطوغرافيا الفرنسية، وتجديد مناهجها وإشكالياتها، وصولا إلى كتابة التاريخ القريب مستطلعا من خلالها بعضا من المؤلفات والإنتاجات الفكرية المرتبطة بالموضوع، لينتقل بنا إلى وسائل كتابة التاريخ الراهن ومناهجه وأهم رهاناته وتحدياته، منطلقا من الطلب الاجتماعي الملح على تحليل المؤرخ للأحداث إثر اندلاع شرارة الربيع العربي.
ويستعرض الكتاب، ملامح “طرق المؤرخ لباب الحاضر” بين عدد من المؤرخين والمفكرين في علم التاريخ من العرب ونظرائهم الغربيين، وحدود إنتاج هذا النوع من الكتابة، وتحدياتها المعرفية والفلسفية والعملية.
وتتوزع مشاغل كتاب فتحي ليسير بين مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة وملاحق وتوجيهات بيبليوغرافية، يبدأه بمقدّمة ذات منزع روائيّ تذكّر بطريقة الكتابة عند الأمريكيين، من حيث تحديد المكان والزمان ومناسبة القول. وبأسلوب أدبيّ راق تطرقت المقدمة لبحث فرص كتابة التاريخ القريب من خلال الاستجابة لمختلف التجارب الرائدة في هذا المجال خاصة المدرسة التاريخية الفرنسية التي أضحت بفعل مختلف التحولات التي طرأت عليها مؤسسة رائدة قائمة الذات، متربعة على عرش العلوم الإنسانية بفضل تجديد حقولها المعرفية وتنويع أسئلتها، وانتقالها من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، إلى المدى الطويل، ثم إعادة الاعتبار للتاريخ السياسي، والتساؤل حول التاريخ السردي، وتاريخ الثقافة والمخيال، بالإضافة إلى إبراز مكانة الأقليات في التاريخ، وغيرها من الثيمات. لقد ربط ليسير كتابة التاريخ الراهن في مقدمته بإمكانات تحديد ملامح المستقبل، والمسؤوليات الملقاة على عاتق المؤرخ فيما بات يعرف بالتاريخ الاستطلاعي.
يختم فتحي ليسير مقدمته بإبداء رغبته الجادة في إعطاء هذا الحقل المعرفي ما يستحقه من اهتمام، خاصة مع شبه الغياب الذي يعرفه في الجامعات العربية ومراكز البحوث، على الرغم مما يمكن أن يحققه من “ثورة إسطوغرافية”.
في الباب الأول، “مسار علم التاريخ أو تاريخ التاريخ”، يظهر الحقل الإسطوغرافي كرافد حقيقي لتكوين الهوية المشتركة، انتقلت من خلاله القيم الوطنية، مع التهميش ومختلف أنواع الانتقاد الذي تعرض له بين متهيب ومتخوف من كتابة غير “عقلانية” وغير “علمية”، لأحداث لازالت في طور الغليان، بسبب غياب المسافة الضرورية، واستحالة الوصول إلى نسبة هامة من الأرشيف، مع هيمنة المدرسة المنهجية/ الوضعية التي استمرت من نهاية القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، مركزة على التاريخ السياسي والدبلوماسي والعسكري. لكن مع ظهور مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي ابتداءً من سنة 1929 كانت قد بدأت دينامية تاريخية جديدة ترتسم في الأفق، لكن قضايا التاريخ الراهن لم تحض بالاهتمام الكافي من طرف الجيل الثاني لمدرسة الحوليات، خاصة مع فيرناند بروديل وأزمنته الثلاثة التي لعبت دورا أساسيا في تأجيل اهتمام هذه المدرسة بالتاريخ الراهن.
ومع كل الأحداث الدامية والمؤلمة التي طبعت القرن العشرين، كان من الصعب التغاضي على هذا النوع من الكتابة الإسطوغرافية، نظرا لأهميتها في الاستجابة للطلب الاجتماعي الملح الذي كان يطرح العديد من الأسئلة، بالإضافة إلى ضرورة حفظ ما تختزنه الذاكرة من آلام وأحداث، في سياق ما يسميه فتحي ليسير “بتيار العودات”، عودة الحدث، عودة المحلي، عودة الفرد، عودة المدة القصيرة وعودة التاريخ السياسي بكل بريقه. الأمر الذي بات من الضروري معه مضاعفة الصرامة العلمية في مقاربة هذا القطاع الإسطوغرافي المليء بالعقبات.
لفت فتحي ليسير الانتباه في هذا الباب أيضا إلى التداخل الكبير بين تناول الصحفي ومؤرخ الزمن الراهن للأحداث، وبين إمكانيات عمل تكاملي بين الحرفتين؟ هي أسئلة ضمن أسئلة أخرى حاول هذا الجزء الإجابة عنها، معتبرا أن الصحافة هي مسودة التاريخ الأولى بما أن التاريخ هو إعادة بناء مستمر للأحداث، أو بعبارة أخرى هو كتابة مستمرة لكتابات سابقة حسب كلام بول ريكور، على أساس أنّ التشابه بين الاثنين هو غير ممكن، إذ يظلّ المؤرّخ مؤرّخا، والصحفيّ صحفيّا. هذا على الرغم من تفاؤل بعض الصحفيين على غرار جون لاكوتير من حيث التقارب المفترض بين النشاطين، لأن المؤرخ وحده حسب فتحي ليسير باستطاعته أن يضمن حدا أدنى من الكتابة التاريخية العلمية للراهن.
في الباب الثاني، “التاريخ الراهن بين سؤال التفرد ورفع التحديات”، يعرض فتحي ليسير لمختلف الإشكاليات والتحديات التي يطرحها هذا القطاع الإسطوغرافي، وقد لخصها في أربع عقبات اختار تسميتها ب”البدونات”. التحدي الأول هو إشكال غياب المسافة الزمنية، حيث عمل مؤرخو الزمن الراهن على غزو فترات قريبة زمنيا وبالتالي المس بإحدى أهم مبادئ الكتابة التاريخية التقليدية، والتي ردّ عليها بكونها مسألة نسبية ليس إلا.
أما الاعتراض الثاني أو التحدي الثاني فهو مرتبط باشتغال مؤرخ الزمن الراهن على أحداث لم تكتمل بعد ولازالت في طور الغليان، الأمر الذي يضعه أمام تفسير ظواهر مبتورة وغير كاملة، مما ينعكس بالضرورة على عمله، إلا أن أي عمل تاريخي في نظره يظل غير كامل ومؤقت إلى حين إعادة النظر فيه.
البدونة الثالثة أو التحدي الثالث هو عدم تمكن الباحثين في هذا الحقل المعرفي من الاطلاع على الأرشيف، لاعتبارات أمنية، سياسية وغيرها، معتبرين أن الأرشيف شرط لابد منه لإنجاز أعمال تاريخية تحمل صفة الموضوعية والعلمية. من هذه الناحية تبقى أسانيد التاريخ الراهن هي الأغنى من حيث تنوعها ووفرتها خصوصا ما توفره وسائل الاتصال الحديثة من معطيات هائلة، كما أن كتابة التاريخ الراهن مرتبطة بذكاء المؤرخ وقدراته على استنباط واقع الأحداث.
أما الإشكال الرابع والأخير فقد ربطه فتحي ليسير بمسألة غياب الموضوعية، خاصة وأن المؤرخ مزامن للأحداث ومعايش لها، وهذه صفه يمكن إضفاؤها على باقي العلوم الإنسانية التي بدأت تتخلى، تدريجيا منذ مطلع القرن العشرين، عن طموحاتها فيما يخص مضاهاة العلوم الحقة، بما أن الظاهرة الاجتماعية هي نسبية أصلا. ثم ينتقل الكاتب في مبحث ثان لهذا الباب للحفر في خصوصيات كتابة التاريخ الراهن، والتي تمثلت في أهمية ما تختزنه الذاكرة من جهة، وضرورة وعي المؤرخ بالتشوهات التي تصيبها من جهة أخرى، مؤكدا على العلاقة المزدوجة والدائمة بين التاريخ والذاكرة، مستحضرا في هذا الصدد العمل الكبير للمؤرخ الفرنسي بيير نورا.
أما المسألة الهامة الأخرى التي تميز الكتابة في هذا المجال، فهي مسألة حتمية التعامل مع “الشاهد” سواء بصفته كمعاصر للأحداث، أو كمزاحم لما يكتبه المؤرخ، مع ما يطرحه هذا الأمر من تفاعل، مما يستدعي المزيد من الحذر والحرص العلميين.
وعالج فتحي ليسير في نقطة ثالثة عودة التاريخ السياسي، إلا أنه يربط هذه العودة بالمقاربات الجديدة والغنية التي عرفتها الساحة المعرفية في الغرب بالخصوص، هذا بالإضافة إلى توضيح الالتباس الحاصل بين التاريخ الراهن والتاريخ السياسي، وبين الحدث والتاريخ السياسي، وذلك بالتركيز على مسألة أساسية، كون أن الحدث ليس سياسيا بالضرورة، فقد يكون اقتصاديا أو اجتماعيا.
ولم يفت فتحي ليسير أن يعالج في هذا المبحث قضيةً مرتبطة بالدور الجديد الذي أصبح يضطلع به المؤرخ اليوم في إطار ما عرفته العلاقة بين المؤرّخ والفضاء العام من تحولات خلال السنوات الأخيرة، والتي منحت للمؤرّخ بشكل تلقائي وظيفة اجتماعيّة جديدة، مادام يشتغل على حقول إسطوغرافية حسّاسة، مما أدى إلى خلط كبير في الأدوار لدرجة أن هناك من يطلب من المؤرخ أن يصبح قاضيا. ففي آخر هذا المبحث حذر فتحي ليسير من العديد من التسميات التي قد توظف ضد البحث التاريخي والمؤرخ أيضا، كمسألة المؤرخ الخبير أو الطلب الاجتماعي.
وأوضح المؤلِّف في الباب الثالث، “مصادر التاريخ الراهن بين الوفرة والقيمة العلمية”، أن هذه المصادر، سواء المكتوبة أو المصوّرة أو السمعية-البصرية، تتسم بالوفرة، وبالتالي فهي تطرح مشاكل متعددة للباحثين، من حيث صعوبة تحديد قيمتها العلمية، ونسبة حيادها، وحتى التصرف فيها نظرا لكمِّها الهائل، مما يجعل التعامل معها صعبا للغاية في هذا النوع من الكتابة.
وصنّف الباحث في هذا الباب مصادر تاريخ الزمن الراهن في أربع مجموعات هي التي كانت حديث المباحث الأربعة، تعرض فيها أوّلا للمصادر المكتوبة والمطبوعة، وخاصة الوثائق الرسميّة التي تطرح الكثير من المشاكل نظرا لصعوبة، وأحيانا استحالة الوصول إليها. ثم انتقل بعد ذلك للتطرق للأرشيفات الخاصّة وأهميتها، لما تتيحه من فهم للمسار الفردي للعديد من الفاعلين السيّاسيين وغيرهم. وفي نقطة أخيرة من هذا المبحث تعرض للسلطة الرابعة/الصحافة، بكل أنواعها وتجلياتها سواء المستقلة منها أو الحزبية أو تلك التي تهتم بفئات بعينها.
وتصدرت المصادر الشفوية عنوان المبحث الثاني، التي من الصعب الاستغناء عنها بما أن عددا كبيرا من الشهود لا زالوا أحياء. في هذا السياق ميز فتحي ليسير بين التاريخ الشفوي والرّواية الشفهية، مؤكدا على أهميّة المصدر الشفوي والإضافات التي يمكنه إضفاءها على هذا النوع من الكتابة. وإذا كان اعتراف صاحب الكتاب بأهمية الأرشيف الشفوي مؤكدا، فإنه نبّه لحدود هذا المصدر، راسما بذلك أهم الخطوات والشروط العلمية التي قد تتيح استغلال هذا المصدر بنوع من التصديق العلمي.
وفي ختام هذا الباب تطرق الكاتب للمصادر المصوّرة، حيث ذكر المصادر السمعيّة البصريّة، متنقلا بين الصور الفوتوغرافية، وأهمية الكاريكاتير في تأثيث هذا النوع من الكتابة، مؤكدا على أهمية المصادر السمعية البصرية وما تختزنه من معطيات لا غنى عنها. كما لفت الانتباه إلى أهمية الأنترنيت والمصادر الرقمية، وضرورة مواكبة المؤرخ لهذه التكنولوجيا لما تحمله من كم هائل من المعلومات، كالمواقع الرسمية الوطنية والعالمية ومواقع الصحف ومواقع المنظمات وغيرها.
وفي خاتمة الكتاب تساءل المؤلّف حول محدودية التأليف التاريخي العربي في هذا الحقل المعرفي، والذي أسفر عنه وعي ضعيف بالعديد من القضايا والإشكاليات التي يحفزها الاشتغال في هذا المضمار
لقد أبرز كتاب فتحي ليسير خصائص تاريخ الزمن الراهن ومزاياه ونواقصه، وقدّم تاريخا لمسار البحث التاريخي والتحولات التي طرأت عليه. وهذه المقاربة تجعل من الكتاب خريطة طريق أولية تفتح العديد من الآفاق، وتلقي الضوء على العديد من النقط المظلمة في حقل مازال فتيا في عالمنا العربي. ومن حسنات هذا العمل أيضا أنه يحفل ببليوغرافية غنية تملأ نهاية كل باب، بالإضافة إلى تلك التي أغنت الصفحات الأخيرة للكتاب. كما تميز هذا العمل بإدراج العديد من النصوص المترجمة لكبار المؤرخين والمفكرين العالميين الذين كتبوا حول التاريخ الراهن، سواء تلك التي تنتقده وتعترض عليه، أو تلك التي تشجعه وتثني عليه.
امتدادات بيبليوغرافية:
بالعربية:
1- فتحي ليسير، تاريخ الزمن الراهن، عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر، جامعة صفاقس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، دار محمد علي للنشر، 2012.
2- حبيدة محمد، كتابة التاريخ قراءات وتأويلات، الرباط، دار أبي رقراق، 2013.
بالفرنسية:
1- Kenbib (Mohammed), éd., Du protectorat à l’indépendance. Problématique du Temps présent, Publications de la Faculté des Lettres et des Sciences humaines de Rabat, Rabat, 2006
2- Kenbib (Mohammed), “Histoire du Temps Présent dans le contexte marocain” (inédit, 2011, conférence, Université Paris I – Sorbonne)
3- L’histoire Aujourd’hui, Nouveaux objets de recherche, Courants et débats, Le métier d’historien. Editions Sciences Humaines, Auxerre, 1999
4- Soulet (Jean-François), L’histoire Immédiate, historiographie, sources et méthodes, Editions Armand Colin, deuxième édition, 2012
5- Temps présent et fonctions de l’historien, Publications de la Faculté des Lettres et des Sciences humaines de Rabat, Série Séminaires et Colloques, Rabat, 2009