السبت , 25 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » التأريخ للترجمة

التأريخ للترجمة

      صدر عن جامعة محمد الخامس أكدال سنة 2010 كتاب (أبراج بابل، شعرية الترجمة: من التاريخ إلى النظرية) للكاتب المغربي حسن بحراوي، وهو الكتاب التاسع في ريبرتوار مشروعه الفكري المتنوّع، حيث صدرت له مجموعة من المؤلفات منها: بنية الشكل الروائي الصادر عن المركز الثقافي العربي سنة 1990، المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية، عن نفس المركز سنة 1994، عبد الصمد الكنفاوي: سيرة إنسان ومسار فنان سنة 1999، ذاكرة المغرب الساخر: حالة بزيز وباز سنة 2001، حلقة رواة طنجة: دراسة ونماذج سنة 2002، جدل الذات والوطن: بصدد السيرة الذاتية عند عبد الكريم غلاب سنة 2004، ومؤلفات أخرى فردية وجماعية. ويدخل كتاب أبراج بابل ضمن كتب التأريخ للترجمة، ويسعى إلى تشكيل تاريخ تقريبي لشعرية الترجمة عن طريق العودة إلى ماضي ممارستها، باعتبارها كياناً نامياً يتحرّك وفق شروط نوعية تمتزج فيها العناصر الذاتية والموضوعية.

ولا يعتبر هذا الكتاب الأول من نوعه في هذا المجال، ذلك أن التأملات التاريخية للترجمة لم تتوقف منذ الأزل، لكنها اتسمت بالندرة النسبية والاختصار، وأحياناً بعدم الدقة وقلة الانسجام. وقد سبق أن       ( لاحظ ميشال بالار (1992) بأن المؤلفات المركزية في نظرية الترجمة تغيّب العنصر التاريخي أو    لا تأبه له بما يكفي من الجدية والاهتمام)(1)، فمن جهة يرجع ضعف الذاكرة التاريخية للترجمة إلى قلة البحوث المنهجية الناجعة والرصينة، ومن جهة أخرى إلى النزوع إلى عزل الترجمة عن محيطها الثقافي والاجتماعي والفكري الذي تنشأ وتترعرع فيه.

من هنا، يشكّل هذا المؤلف قفزة نوعية نحو توسيع وتعميق الرؤية التاريخية للترجمة، تبلورت من خلال الفصول الخمسة التي ضمّها بين دفتيه، والتي جاءت على النحو التالي:

  1. ما قبل تاريخ الترجمة
  2. تاريخ ما قبل نظرية الترجمة
  3. تاريخ نظرية الترجمة
  4. حركة الترجمة في مدرسة الألسن بمصر: القرن التاسع عشر
  5. نظرية الترجمة في القرن العشرين

يتبيّن من القراءة الأفقية للعناوين، والقراءة العمودية للمضمون أن صاحب كتاب مدارات المستحيل: دراسات في ترجمة الشعر، نقب عميقاً في تاريخ الترجمة واعتبر أن حلّ مأزق التحقيب، الذي عرفه بعض الباحثين فيما قبل، يكمن في القبول المبدئي بالتقسيمات التاريخية المتداولة            ( العصور القديمة، العصر الوسيط، عصر النهضة، ق. 17 و ق. 18…إلخ) والارتكاز عليها للتوصل إلى أسس ودعائم الترجمة في الماضي، وتحديد آليات إنتاجها بغية إدراك الطرق والحيثيات والوسائل المتبعة لإنتاج التأملات النظرية عبر التاريخ.

من هذا المنطلق، اهتم الفصل الأول بحقبة ما قبل تاريخ الترجمة، التي حدّد بدايتها المؤلف منذ حوالي 5000 سنة ق.م، مع قدماء المصريين، حيث كانت الترجمة تتمّ بطريقة حدسية، ولأهداف دينية أو نفعية تواصلية بحكم علاقاتهم السياسية والاقتصادية مع جيرانهم. وتميّزت حقبة السومريين فيما بعد، 3000 سنة ق.م، بظهور نمط الترجمة الأدبية لأول مرة ( ترجمة جلجامش إلى لغات الشرق الأوسط). وبما أن قوة الثقافة والدولة تحدّد حاجتها إلى الترجمة، فقد استغنى عنها اليونان لازدهار أوضاعهم، في حين لجأ إليها الرومان لبناء ثقافتهم الناشئة.

وقد تطرّق الفصل الثاني من الكتاب لتاريخ ما قبل نظرية الترجمة، وحدّده الكاتب في الفترة الممتدة ما بين القرنين التاسع والثاني عشر. هذه الفترة عرفت ظهور بيت الحكمة ببغداد، ما بين القرنين التاسع والعاشر، حيث شهد ازدهار ترجمة التراث العلمي والفلسفي اليوناني والفارسي والهندي إلى اللغة العربية. كما عرفت بروز مدرسة طليطلة الأندلسية، ما بين القرنين العاشر والثاني عشر، والتي كان لها دور فعال في إعادة النقول العربية والعبرية إلى اللغة اللاتينية والقشتالية، وبالتالي إحياء الفكر الأوربي وتمكينه من خوض غمار النهضة. وقد اكتفى المشتغلون بحقل الترجمة في هذه الفترات بالممارسة وابتعدوا عن التأمل النظري الذي تناوله المؤلف في الفصل الثالث، وعين تاريخه من القرن الثاني قبل الميلاد إلى الآن، على حدود جغرافية متنوّعة ركّز فيها على البلدان التي برز فيها وتطوّر تقليد التنظير للترجمة، وهي فرنسا وانجلترا وألمانيا، وذلك دون أن يهمل الجهود العربية في نفس المضمار.

هكذا، تناول في الفصل الرابع حركة الترجمة في مدرسة الألسن بمصر (القرن التاسع عشر)(2)، حيث (كان لحركة التحديث التي أتعبت الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801م) وخاصة في عهد محمد علي (1805-1849م) آثاراً مشهودة على نهضة الترجمة في الميادين المنفعية ذات الصلة بتطوير النظم والقوانين وتجديد المعارف وترجمة العلوم الحديثة، التي لها مساس بالإدارة والاقتصاد والجيش والطب…إلخ)(3). أما الترجمة الأدبية فقد كانت ضئيلة نظراً لمتطلبات المجتمع وللظروف السياسية السائدة آنذاك. وبالرغم من أهمية هذه المدرسة ومن حجم الكتب المترجمة وأهميتها فقد عرف العمل بها بعض الثغرات ساعدت الاحتلال البريطاني على الإجهاز عليها نهائياً. ولم يتطوّر كثيراً حال الترجمة إلى العربية إلا في أفق القرن العشرين حيث تميّزت هذه الفترة بانخراط نخبة ممتازة من الأساتذة والمترجمين المشارقة في حركة الترجمة، التي أثمرت عشرات المؤلفات ذات القيمة العالية في مضمار الثقافة والأدب والفكر والسياسة بحضور إرادة سياسية جادة ساعدت على بلوغ المراد وتحقيق المعاصرة والتحديث. وقد أشار المؤلف خصوصاً إلى جهود الباحثة ندى طوميش التي سجّلت أن الترجمة اقتصرت عموماً على اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وأن المترجمين انتقلوا من ترجمة الكتب التقنية والنفعية إلى المؤلفات الأدبية، الروائية والشعرية خصوصاً. أما الترجمة عن لغات أخرى كالألمانية والإيطالية والإسبانية، فلم تتم إلا في وقت متأخر.

وقد فتحت هذه الترجمات أبواب الاطلاع على الأدب الغربي، أمام القارئ العربي وأمام نقاد الترجمة الذين تصدّوا لقضايا ممارستها، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر يعقوب صروف وطه حسين اللذين ذكر المؤلف مساريهما في هذا الإطار، كما تطرّق لمسارات الترجمة في المغرب خلال حقبة الحماية وما قبلها، هذه الفترة التي اتسمت بندرة المعطيات حولها بالرغم من علاقة الجوار الأوربي، وبالرغم من المعاملات الاقتصادية والسياسية بينهما. لكن كل الإشارات تدلّ على أن حركة الترجمة تطوّرت وإن بشكل بطئ لكنه ملموس. وقد قدّم المؤلف جرداً للمراحل التاريخية التي تبلورت خلالها عبر العصور والأماكن والسلاطين، كما أشار إلى الحقول المعرفية التي شملتها والأجناس الأدبية التي تناولتها. فكان لابد أن تتوّج هذه الممارسات بتنظير للترجمة في العالم الغربي، تطرّق إليه المؤلف في الفصل الأخير، وأشار إلى أبرز المنظرين وهو والتر بنيامين الذي عرّف موضوع الترجمة وحدّد مهمة المترجم في مقدمة كتبها لديوان شارل بودلير. كما استعرض أهم أفكاره وذكر تأثيرها على أولئك الذين جاؤوا من بعده، وخاصة منهم مؤسسي شعرية الترجمة الحديثة (جورج مونان، هنري ميشونيك، انطوان بيرمان…).

بهذا، خلص المؤلف إلى أن الترجمة انبثقت من الحاجة الجوهرية للتواصل وتقوية العلاقات الإنسانية بين مختلف الشرائح والفئات والثقافات. بالتالي فقد شهدت كل العصور هذه الحركة، لكن بقدر مختلف ونسبي من الدينامية والقوة وفق ظروف معيّنة، سياسية وفكرية واقتصادية.

الهوامش:

(1)    حسن بحراوي، أبراج بابل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2010، ص. 6

(2)    أنشأ مدرسة الألسن محمد علي باقتراح من رفاعة الطهطاوي ، وحدّد مدة الدراسة بها في خمس سنوات تنتهي بشهادة معترف بها رسمياً. وقد نجحت في الربط بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب، كما وفقت بين النظام التعليمي التقليدي والنظام العصري الحديث.

(3)    الخوري شحادة، فن الترجمة، الدار العربية للنشر، تونس، 1980، ص. 75

- مليكة معطاوي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية/الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.