1-إضاءات حول الشاعر والشعر:
بعد مرور عقدين من الزمن على رحيل الشاعر الكبير عبد الله راجع، وبعد سنوات من الصمت القاتم خريفاً مقفراً، تعود وردة المتاريس لتتفتح من جديد وتشرق بأمل الماضي المنبعث في “أصوات بلون الخطى”، فتكتمل رسومات جغرافيات كاد يطالها النسيان.
هكذا شاءت الأقدار، بعد خمس وعشرين عاماً من صدور آخر ديوان للراحل أن تستجيب زوجته وعائلته للنداء، فتفك الوديعة التي أورثهم إياها لتغني الساحة الشعرية بديوانين جديدين ينضافان إلى أعمال “عبد الله راجع” التي نشرها في حياته. تَمَّ جمعها في كتاب واحد تحت عنوان عبد الله راجع الأعمال الكاملة، عن منشورات وزارة الثقافة مطبعة دار المناهل الرباط سنة 2013. وهو يضم بين دفتيه دواوين عبد الله راجع الثلاثة التي سبق نشرها في حياته، حسب تسلسلها الزمني في الطبع والنشر:
- الهجرة إلى المدن السفلى.
- سلاما وليشربوا البحار.
- أياد كانت تسرق القمر.
وديوانين جديدين هما:
- وردة المتاريس.
- أصوات بلون الخطى.
وعبد الله راجع (1948-1990م) واحد من شعراء السبعينيات، خط مساره الشعري حاملا مشعل الكلمة في فيض الكتابة، بعيدا عن لغط الشرعية والمشروعية في القصيدة الحديثة. فقاد سفينة التفرد في فضاء الشعر مبنىً ومعنىً، وفي شكل ومضمون القصيدة المغربية المعاصرة، بلغته الشعرية المتميزة التي تتداخل فيها مستويات البناء المعماري للقصيدة دلاليا وتركيبيا وإيقاعيا وصوتيا، فصنع لنفسه مقاما رفيعا يتشكل بين ثنايا الكلمة في قصائده، ويستمد كينونته من انفتاح عالمه الشعري على المشرق والمغرب.
غير أن المنايا لم تسعف عبد الله راجع لاستكمال تجربته، بل لم تسعف المحبين والشغوفين بالشعر المغربي في فهم جميع تضاريس جغرافياته الإبداعية. خاصة وأن الجميع كان يعلم أن الراحل خلّف إرثا مهما في خزانته التي تزخر بمخطوطات أعماله التي لم يكتب لها أن ترى النور إلا خلال الشهور القليلة الماضية.
2-وصف المجموعة:
اِخترنا أن نقف عند تجربة وردة المتاريس. وهو الديوان الرابع حسب تسلسل الأعمال الكاملة، يضم ثمان وسبعين صفحة من (ص328) إلى (ص406)، ويتوزع إلى كتابين هما:
– كتاب الاشتباه، ويضم ثلاث قصائد: (ميشيلن) و(الأسوار) و(طوق الحمامة).
– كتاب الصفاء، ويضم قصائد: (المعلقة الحادية عشرة) و(وردة المتاريس) و(هنا أنتم. هنا رماد الوقت) و(مثلث خارج العادة).
وكل قصيدة من قصائد المجموعة، تتوزع إلى مقاطع، يفصل بينها البياض أو الأرقام، أو عناوين فرعية، كقصيدة “طوق الحمامة” في الكتاب الأول التي تضم مقاطع (باب الحلول- دمها بيروت دمي- امبراطور الصفصاف- اغتيال وفيقة- تجليات النورس- نشيد الغياب). ثم قصيدة “مثلث خارج العادة” في الكتاب الثاني وتضم مقاطع (لوركا- أوفيليا- حنظلة- سقوط- ييرما- خوارج- مدائن من ورق- صفحة ضائعة- صورة-أنطوان روكنتان- بول إيلورا).
لا يحمل ديوان وردة المتاريس أي مؤشر تاريخي يحيل إلى زمن الكتابة. غير أن الاطلاع على قصائد الديوان الذي قبله أياد كانت تسرق القمر الذي كتب ما بين 1983 و1985. ثم الديوان الذي يليهأصوات بلون الخطى والتي كتبت بين عامي 1989 و1990 يجعلنا نتصور أن ديوان وردة المتاريس تم نظمه بين 1986 و1988. كما أن هناك قصيدة من الديوان نفسه بعنوان (هنا أنتم. هنا رماد الوقت) نشرت في جريدة أنوال الملحق الثقافي عدد350 بتاريخ 3 أكتوبر1987. ما يؤكد صحة الطرح الذي نتبناه حول تاريخ الكتابة.
3-شعرية المتن:
تنفرد قصائد عبد الله راجع بتجربته المتنوعة التي تمتح من الذات، ومن الأصول العربية متصلة بالظرفية التاريخية العامة، وبالمناخ المحيط بها وما يرتبط بشعر السبعينيات والثمانينات، في امتداده عبر تلاوين البناء الفني للقصيدة المغربية المعاصرة. يحاول فيها إبراز تلك الخصوصية التي صبغتها بألوان من العنف والتمرد المخلوط بلون الكدِّ والجهد والألم والثورة والدم.
من هذا المنطلق يمكن اعتبار ديوان وردة المتاريس امتداداً لتجربة عبد الله راجع الشعرية في شموليتها، رغم تفردها في الزمان والمكان. تعكس موقفه من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي صبغت الواقع المغربي والعربي في حقبة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وما صاحبها من قمع شمل جميع مكونات المجتمع قبل أن تمتد التحركات لتشمل الوطن العربي بأكمله. إنها امتداد للذات العاشقة المتمردة. الحاملة لهموم المجتمع العربي، تنفتح على جميع مكوناته وفئاته في كل اقطاره، ما بين بيروت، وبغداد، والبصرة، والصويرة، والفقيه بن صالح، وشتيلا، وطرابلس … فتتجسد بذلك الخصوصية في التصور الشعري للديوان.
يصبح الشخص أو الفرد في هذا الديوان علامة مميِّزة، ترسم ملامح مدينة أو وطن بأكمله. ويغدو “صالح الشكدالي” رمزا لهذا التداخل بين الذات والواقع. وهو الذي تصفه الروايات القادمة من مدينة لفقيه بن صالح بأنه الشخصية التي يعرفها الكبير والصغير، يطلق العنان يومياً لقدميه، متفقداً أمكنة عديدة ليشتم رائحة عمران المدينة وأناسها، وليتأمل سحنات ساكنتها بعفوية عصية عن التحديد. ويقنع ببعض الدراهم لا غير. إنه “صالح” الذي تَمثَّل أسطورة في مخيلة “عبد الله راجع”، ورمزا للإنسان العربي الهائم بحثاً عن الحقيقة، في طيبته وبراءته، في كرمه وجوده ، في عزة نفسه وإبائه، في حسن سجيته، إنه العطاء بذاته. وهو الهمُّ العربي يتجسد في شخصٍ يتحول فكرة، تصير مداداً، يخط على الورق حروفاً، هي عصارة تجربة فريدة في البناء النصي للقصيدة المغربية لغة ومضموناً.
يقول عنه الشاعر في قصيدة خصّه بها بعنوان “صالح” من ديوان أياد كانت تسرق القمر (الأعمال الكاملة ص 395):
“يا صالح لا تخش النسيان ستنشأ حول ضريحك مقبرة
والقبر الأقرب منك يباع مزايدة
فلتعْدُ إذن ما شئت
وهزّ جبينك ليلاً ونهارا”.
وهو نفسه الشكدالي الذي ينصهر تيمة قسماتها من قسمات الشاعر وواقعه. إنه انعكاس للذات الشاعرة فيما تعايشه من مهانة الواقع في مواجهة عالم متحول مستبد بدون سلاح، لا حول ولا قوة لمن يواجهه إلا بقايا صورٍ في مخيلة مُثْخَنة بالجروح، سعياً مستحثاً منه في البحث عن واقع أساسه المساواة والعدالة الاجتماعية. وهو نفسه “صالح” الذي يفتتح به “عبد الله راجع” رحلة السفر مع وردة المتاريس إذ يذَيِّل عنوان الكتاب الأول الذي سماه “كتاب الاشتباه” بعنوان فرعي “وقيل مذ حل الشكدالي بالأرض فلم يجد له ظلا، صوَّب نحو التيه حاجبيه، وضرب في الفيافي حتى أدركه النَّصَب“، ثم يفتتح به أول قصيدة (ص333):
“من هذا الماشي يصطاد البرق ويطلقه
من هذا الآكل صورته بالخَلّ
ومن هذا المجنون الساكن في وحدته…
…
والشكدالي أخ البرق. ولا يدري”.
ينفتح القول الشعري في الديوان انطلاقاً من عتبة العنوان، وهو من العناوين الموضوعاتية التي تحتفظ في الخطاب الشعري بدرجة عالية من الغموض والايحاء. غير أن بنيته التركيبية التي تقوم على التقريرية المتضمنة في الوصف المحتجب خلف العلاقة بين المسند (المضاف)، والمسند إليه (المضاف إليه) من جهة، والتقابل الدلالي بين هذين المكونين في ثنائية شبه ضدية (وردة #المتاريس) بما تحمله “الوردة” من معاني الحياة والانطلاق والأمل والسعادة، وبما تختزنه لفظة “المتاريس” من معاني الموت والعثرات والبؤس من جهة أخرى. كل هذا يوحي بأن المضامين في الديوان تنفتح على تجربة إنسانية عامة تقوم على السرد والحوار في بناء متخيله الشعري، الذي يسعى إلى النزوع نحو طرح تساؤلات عميقة حول الواقع العربي عامة، والمغربي بشكل خاص، وبنوع من الجرأة والجسارة التي غدَت سمة مميزة لمشروع عبد الله راجع الشعري، الذي يدعو إلى فك أغلال الانهزام والضعف والاستعباد والتبعية. ويؤكده المقطع التالي (ص386):
“(…)
ولم تسقط البصرة الآن تحضن خلف المتاريس أفراحها
-التفت، والتفتتْ
-هل ترى ما أرى؟
-أي شيء ترين؟
-للبذور هنا فتنة
كيف بين المتاريس يبقى لرائحة الورد متسع؟
(…)
تركت دمي في العراق
لسيدة تركت دمها للعراق
أقول انفجر يا دمي عالياً، عالياص
بصرة، دم سيابها لا يراق”.
تستعصي المضامين على الإمساك في الديوان، وهو أمر طبيعي في جل أشعار “عبد الله راجع” التي تميل نحو الإيغال في توظيف الرمز، وحجب الدلالة خلف اللغة التي تحتضن الكلمات في ثوبها المباشر. وهذا من خصائص التجربة الشعرية الحديثة. فالرمز هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص، والرمز هو قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء، إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو كما يقول “أدونيس” هو القصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة.
ويتفرد الرمز في هذا المقام بكون المفردة تحمل دلالة مستمدة من الحالة النفسية، وما تستدعيه من إيحاءات وتداعيات. فالقصيدة في مجموعة “وردة المتاريس” تكشف عن الوعي المتحقق الذي يربط بين الأنا المبدعة، والآخر في تأثير وتأثر متبادل. يتحدد بما يعاشه الفرد داخل المجتمع، وبما يربط بينهما من تصورات متقاربة وردود أفعال متشابهة بحيث يصبح الرمز في هذا المقام عنصراً أساسياً يستعصي معه فهم المتن دون تتبع الدلالة.
تتعدد الرموز وتتنوع، بتنوع الرؤية الشعرية في مقام القول، يغذِّيها غنى ثقافة عبد الله راجع، وانفتاحها على جل المذاهب الشعرية والمرجعيات الأيديولوجية. لذلك نجد أن الديوان عامر بالرمز بأصنافه، منها: اللغوي، والأدبي العام، سواء كان مفرداً أو مركباً يستمد كينونته من الأسطورة والدين والتاريخ والطبيعة… ويصب فيما يشبه الهجوم على سلوكات شائنة تتبدى في واقع اجتماعي هش يروم تغييره. يقول في قصيدة “ميشيلين” (ص338):
“وعاشق تخونه الخطى
يداه لمعتا بريق
بهذه يضيئ شمعة
بتلك يصنع الحريق
تكالبت على جنونه
من الأسى مواجع الطريق
فاختار جمرة لقلبه
واخضر مثل طائر الفينيق”.
وأسطورة الفينيق ليست إلا دعوة للتجدد. للثورة على وضع سائد قوامه التخلف والفقر والجهل والظلم… من هنا فالشاعر يقود حرباً ضد مظاهر الاستلاب، وتكريس الهشاشة والميوعة، وهدر كرامة المواطن. وبرفضه لهذا الواقع فهو يدعو إلى التحول كما يحترق طائر الفينيق ليصنع حياة جديدة. يقول (ص368):
“ولم يسألوا عن رماد الأصابع كيف يصير نخيلاً وجسراً
وكيف يشكل جنته ما استطاعا”.
من الرمز إذن، تتغذى القيمة الابداعية للديوان، فتنبني أبعاده الجمالية والفنية بشكل جديد يقوي إمكانات التأثير في الملقي. فتتحول تجربة عبد الله راجع الذاتية إلى تجربة جماعية كلية، بأبعاد إنسانية شاسعة ومتنوعة. لذلك وجدنا قصائد المجموعة تنطلق من الذات في معاناتها مع المرض؛ إلى وصف الواقع المغربي؛ ثم الانفتاح على جل مظاهر النكبة والنكسة. في مرحلة شاهدة على المجازر التي ارتكبت في فلسطين ولبنان… سببها غطرسة “إسرائيل” ودعم القوى الكبرى لها، وزادتها الحروب الأهلية شيوعاً. في مقابل الصمت المطبق للعرب. يقول (ص342):
“لبيروت فاكهة أوقفتنا، عقدنا معاً حبنا المستجير بكوفية
واكتفينا بعشق المخيم حتى النخاع
وكان الرصاص
وقاتلنا يتعدَّد. كانت أزقة بيروت مِتْرَاسنا
والرصاص الذي ينتهي بالرصاص
يزاوج بين المقاتل والطفل. كانت دماء فمن قال لا؟
وهذا الخريف الذي يدنو من الباب
يطرقه الآن يا سيدي… فليكن
ليس هذا خريفك، ليس خريفي
هو الآن فصل الذين اكتفوا بالسكوت
هو الآن زهرتنا، نحن، من نشتكي ونموت”.
تتنامى هذه الدعوة وتكبر لفك إسار الصمت في الكتاب الثاني من المجموعة الشعرية “كتاب الصفاء“، الذي يُذَيَّل هو الآخر بعنوان فرعي “فلما أشرقت الشمس تعوَّدَ أن يبصر ما يخفيه الليل عن العين فلا يظهر إلا لذوي الألباب“، حيث يفجر فيه أوضاعاً تتعدى حدود العدوان الاسرائيلي على فلسطين ولبنان. إلى الوطن العربي بأكمله حيث بغداد، والبصرة، والموصل، وطرابلس…، شاهدة على ذلك. فكأن الوطن يضيق بمن فيه حتى يصبح بحجم الشناشل. وهو الكتاب الذي يضم القصيدة التي يحمل الديوان إسمها “وردة المتاريس“، يقول فيها(ص385):
” وكيف الشناشل تأخذ حجم الوطن
هنا يحتمي طفل من الموت بالأغنيات
(…)
رأيت المدينة تنأى بروحي… وتهتز تحت القذائف
ها طلقة، ثم أخرى، تشق المدافع باب السماء”.
هكذا إذن تجيء “وردة المتاريس” لتصبح أيقونة مميزة في سلسلة أعمال عبد الله راجع ، تزكي خصوصيته الشعرية، وتؤكد تفردها، تتداخل في بنائها عصارة انفتاحٍ ثقافيٍّ متنوع ومتعدد، يغترف من موسوعية الشاعر في بناء المتن الذي يمتح من التراث العربي والإسلامي، حيث يستدعي ابن حزم في “طوق الحمامة”، وابن زهر في “ميشيلين”، كما ينفتح على التراث الصوفي العربي في “باب الحلول”، والثقافات الانسانية التي استقى منها الرمز والأسطورة، لبناء صورة شعرية كلية ترصد الواقع العربي الذي يؤججه الصراع بين الخير والشر. فيرصد طموحاتٍ كثيرة لشاعر واحد يحمل هموم مجتمع بأكمله. ينضاف إلى ذلك أن الكتابة وهي آخر معقل لتفريغ هذا الهم، تزيد من المعاناة والانشطار بين الذات ومحيطها حتى تصبح وكأنها إثم. (ص376):
“يدي للكتابة، قلبي لنبضته المشتهاة. المدائن
حين أُحدثها عن همومي تسمي الكتابة إثما
تسمي ارتجاج الدواخل فاتحة للجنون”.
وإذا كانت الكتابة جنونا، وأحلى الكتابات ما يثقب الصدر آن الدخول وآن الخروج، فإن القراءة تحتاج منّا إلى تعدُّدٍ للقراءات. وإلى فصل بين زمن الكتابة، وزمن النشر، حتى نتبين مدى جسارة وجرأة عبد الله راجع في رصد الواقع الاجتماعي والسياسي في مجموعة “وردة المتاريس” في زمن وُسِم بسنوات الرصاص.
هاشمي منتصر /كلية الآداب أكدال الرباط