ركز المؤلف في مدخل كتاب الخلافة التخيلية لأحمد المنصور نظام الحكم والدبلوماسية بمغرب القرن السادس عشر على شهرة وصيت السلطان أحمد المنصور، إذ تجاوزتا كل الآفاق، وبلغتا البحر الأبيض المتوسط وإنجلترا والأراضي المنخفضة، حتى أن الرسام الهولنديRubens وضع صورة تخيلية له. ويعكس تضخيم شخصه، والاهتمام الزائد به حقيقة تاريخية جسدها في رأيه، مشروعه الثلاثي الأبعاد القائم على شرعنة الحكم، وعدم الخضوع للتأثير الخارجي وتحديدا العثماني، ونهج سياسة امبريالية (توسعية) بالسودان. ولتحقيق هذا البرنامج الشمولي، أضفى عليه بعدا دينيا وتاريخيا من خلال تبني إيديولوجية الخلافة والملك الكوني الإسلامي.
وتتلخص أهداف الدراسة كما حددها صاحب الكتاب في ثلاثة:
– وضع حكم أحمد المنصور في سياقه التاريخي من خلال إظهار دور الفرد في التأثير على الأحداث.
– تفسير دواعي تبني هذا السلطان لإيديولوجية الخلافة.
– تفسير الكيفية التي تم بها ومن خلالها تنفيذ المشروع الثلاثي الأبعاد.
ويرتبط أمر تحقيق هذه الأهداف من منظوره، بالاهتمام بشخصية هذا السلطان وبالسياق المعقد الذي حيا في ظله، وبتحليل مختلف أوجه المنطق التي تحكمت في الفعل السياسي والديني والثقافي والاقتصادي على عهده.
وحمل المدخل عنوان “البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي خلال القرنين الخامس والسادس عشر: التوازنات والاختلالات بين الإسلام والمسيحية” (صص 2-3). وتطرق فيه إلى التحولات في العالم المسيحي أي النهضة وانعكاساتها، وانبعاث الرأسمالية “كاقتصاد عالمي”، ثم إلى نظيرتها في العالم الإسلامي أي الجمود الفكري، إن لم نقل الانحطاط منذ نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، والحروب الصليبية والاجتياحات المغولية وحركات الاسترداد، مما أسفر عن انغلاق النخب في المجتمعات الإسلامية وراء القيود الفكرية والإيديولوجية الضيقة، وما تلا ذلك من صراع سياسي وديني بين ضفتي البحر المتوسط، عبر بجلاء عن عزم الغرب المسيحي على انتزاع الوساطة التجارية من المسلمين، خاصة مع ظهور قوتين إيبيريتين، وتراجع النشاط التجاري بالبحر الأبيض المتوسط.
إذن أضحى المغرب يمثل على حد تعبير المؤلف، عمقا استراتيجيا وجغرافيا وتاريخيا للاعتبارات المرتبطة بأهمية مضيق جبل طارق، وبكونه خزانا للحبوب، ومجالا لمحاربة القرصنة ولاتخاذ مراسيه ملاجئ لسفنهم، ومحطات للتوغل في أعماق إفريقيا. وهي مشاريع لا يمكن تهديدها من منظور القوى الإيبيرية إلا من طرف الإمبراطورية العثمانية. وهكذا أصبح المغرب من هذه الزاوية مسرحا للمواجهة بين العالمين الإسلامي والمسيحي. فكيف تعامل حكامه هذه المستجدات؟
اعتبر أن البلاد مرت “من إمبراطورية المغرب الكبير إلى الدولة الترابية”. فبعد نجاح المرابطين والموحدين في تكوين إمبراطورية جهوية قوية، دشن المرينيون سياسة قائمة على الشرف أدت إلى إضفاء طابع القداسة على الحكم، وإلى إعادة إحياء طموحات الخلافة بالمغرب الكبير (صص4-7). وفي ظل الغزو البرتغالي للسواحل المغربية. كان النظام المريني يشكو من قصور إيديولوجي، كما كان الحقل الديني خلال هذه الفترة مشكلا من ثلاث ركائز: المالكية والصوفية والمهدوية. وتغلغلت الزوايا في مختلف أنحاء البلاد وخاصة في الجنوب حيث هيمنت الطريقتين الزروقية والجزولية. وهو ما مهد ظروف وصول السعديين إلى الحكم الذين رفعوا شعار الجهاد ضد المحتل (صص 9-17).
ثم تحدث الكاتب في عجالة عن لقب هذه السلالة وعن نسبها الشريف، وعن الهجومات ضد البرتغاليين إلى غاية دخول مراكش، معتبرا أن الحكام الجدد أعطوا دفعة لزراعة وتجارة قصب السكر، ووجهوا حملة عسكرية إلى شنقيط سنة 1543 بهدف مراقبة تجارة القوافل الصحراوية. كما تساءل: هل أسهم استرجاع سانتاكروز في تأكيد الدعوة المهدوية وفي الرفع من هيبة الأسرة الجديدة أمام النخبة الدينية والسكان؟ ليجيب بالقول أن السلطان الزيداني لم يتبن لقب المهدي إلا بعد غزو مملكة تلمسان على يد العثمانيين، فعبر بذلك وبقوة عن طموحاته في الخلافة. ففضلا عن الدوافع الدينية المتجسدة في المهدوية، والخلافة، والجهاد، والدوافع السياسية المتمثلة في إعادة بناء إمبراطورية على شاكلة المرابطين والموحدين والمرينيين لغزو تلمسان على يد محمد الشيخ، فإن الدوافع الاقتصادية لا يمكن إهمالها. وخلص إلى إن مشروع هذا السلطان لا ينفصل عن حلقة التاريخ العميق للبلاد والمتمثلة في تكوين خلافة قوية ومستقلة بالغرب الإسلامي. وعلى المستوى المؤسساتي، راهن السلطان محمد الشيخ على ضمان استمرارية التنظيم الإداري والقضائي، وعلى الحفاظ على نمط الحياة المعهود بالبلاط والقائم على البروتوكول الوطاسي المريني المستمد من الإرث المغربي الأندلسي (صص 22-33). وحرص المؤلف على استعمال لقب الزيدانيين بدل السعديين على طول الصفحات السابقة.
بالرغم من كل التحفظات، يمكن اعتبار حكم الغالب بالله آخر عهد لتوطيد دعائم الأسرة الشريفة. حيث أن سياسته أضفت على المغرب نوعا من الخصوصية الجيوسياسية والدينية والثقافية التي ستطبع التاريخ الحديث للمغرب، وتلقي بثقلها وظلالها عليه…إذ أصبح المغرب في نفس الوقت مجالا للانغلاق والانفتاح. وكان الانغلاق سياسيا ودينيا أي الميل نحو الاستقلال والتمسك بالمذهب المالكي. وهو ما أدى إلى تقوقع سلطنة الشرفاء. واعتبر أن الغالب بالله سلك ما أسماه بسياسة الدوائر الثلاث:
– نهج سياسة مصالحة تجاه القوتين الإيبيريتين.
– نسج علاقات قارة ودائمة مع القوى البروتستانتية الصاعدة وتحديدا انجلترا وفرنسا.
– إتباع سياسة ترضي الإمبراطورية العثمانية.
ثم وقف المؤلف عند معضلة التعاقب على الحكم وصلتها بالتدخل الخارجي، وخاصة ما يتعلق منها باعتلاء عبد المالك للعرش. وما أسماه “الحرب الصليبية الأخيرة” أي الظروف الممهدة لمعركة وادي المخازن. وأنهى هذا المدخل بتناول مسألة “أحمد المنصور الذهبي وإعادة إحياء الخلافة بالغرب الإسلامي“، إذ رأى أن ركائز حكم أحمد المنصور بنيت على خصوصية الأسرة المالكة، وعلى التجديد والابتكار، وعلى المركزة. كما اعتمدت على نهجه لسياسة دعائية موجهة للإمبراطورية العثمانية، وأخرى في أوساط الموريسكيين، وهو ما يدخل في إطار سياسة شاملة محورها إيديولوجية الخلافة، ودافعها اقتصادي وسياسي وديني. وتكمن “امبريالية” أحمد المنصور حسب وجهة نظره، في غزو بلاد السودان وفي تكوين خلافة بالغرب الإسلامي (صص 35-53). ولمعالجة ذلك طرح مجموعة من الأسئلة من بينها: ما هي خصوصية الدعامة الإيديولوجية التي وظفها أحمد المنصور؟ ما هي المصادر الثيولوجية والشرعية والتاريخية التي راهن عليها السلاطين الأشراف ومن كان يدور في فلكهم لبلورة ودعم إيديولوجية الخلافة؟ كيف انعكست هذه الإيديولوجية على الاحتفالية وعلى رموز الحكم وعلى الحياة داخل البلاط السلطاني؟
وهمت الإجابة عن هذه الأسئلة القضايا التالية: التنظيم العسكري وعلاقته بإعادة تنظيم المخزن، والإجراءات المالية، ومشكل ولاية العهد، والجهود المبذولة لاكتساب مكانة في النظام الدولي ووضع حد للطموحات العثمانية والإسبانية، وربط علاقات مع القوى البروتستانتية وتحديدا إنجلترا. ومن ثم حدد فصول الدراسة في ثلاثة أقسام، غطى القسم الأول تحليل الجهاز المشرعِن الذي أقامه أحمد المنصور ومن يأتمرون بإمرته، ومن أهم دعاماته الخطاب وأشكاله، ورموز الحكم والاحتفالية وهدفها إضفاء الشرعية على طموحات الخلافة. واستهدف القسم الثاني الوقوف على تبني أحمد المنصور لسياسة احتكارية وممركزة، وذلك من خلال وصف مسلسل مأسسة السلطنة الشريفة عبر دراسة دواليب المخزن (تحديث الجيش، وجعل الجهاز الإداري والنظام المالي أكثر فعالية ووضع حد لمشكل ولاية العهد). أما القسم الثالث فرصد السياسة الخارجية الهادفة إلى الحفاظ على استقلال المغرب ومصالحه، وعلى تحقيق طموحه بإقامة خلافة بالغرب الإسلامي.
حمل القسم الأول عنوان “المعنى والقوة والاستقلال: إيديولوجية الخلافة لدى أحمد المنصور”.واعتبر المؤلف أن الطموحات المهدوية للسعديين الأوائل كانت ملازمة لطموحاتهم فيما يتعلق بالخلافة. حيث بدأت إيديولوجية الخلافة تتبلور مع محمد الشيخ المهدي، وكان لها ثلاث وظائف: شرعنة الحكم، ووضع حد للطموحات العثمانية، ودعم ما أسماه السياسة “الامبريالية” للسلطان. وتبلور خلال حكم أحمد المنصور ذلك الجهاز المشرعِن حول خطاب معد سلفا وحول بنيات فعالة، اتخذت من احتكار الإرث النبوي وشعاراته ومن الاحتفالية أهم ركائزها (صص 55-57).
استمدت فكرة الاحتكار تلك من التمثلات الميثولوجية والتاريخية الملازمة للحضارة الإسلامية، وجسدها صاحب الكتاب من خلال خمسة عناصر تمثل أولها في شجرة أنساب محكمة ومتانة الأصل الشريف. فبعد الوقوف عند السياق العام لميلاد ظاهرة الشرف بالمغرب منذ عهد الأدارسة. اعتبر أن المطالب المتعلقة بالنسب التي عبر عنها السعديون ليست غريبة ولا مبالغ فيها، بل تدخل في إطار ما كان سائدا بالمجال المغربي من كون أصالة النسب هي المحدد الأساس للمكانة السياسية. وهكذا جعل أحمد المنصور من قضية انتمائه للبيت النبوي حجر الزاوية في سياسة تبوئه للخلافة بالغرب الإسلامي. بل استعار مؤرخوه القاعدة الاصطلاحية العلوية من قبيل الوصية وأهل الرضى من أهل البيت. كما وظف كذلك دعامات أخرى وتحديدا الخطب في المساجد والدعاية الشفوية والنقود، حيث حملت الدنانير المسكوكة في طياتها صفته الدينية كإمام، والتي تتماشي بشكل كبير مع المبادئ الشيعية والمهدوية، كما عبرت عن نسبه الشريف. وعلى هذا الأساس وظف الإخباريون الرسميون الحجج الدينية والشرعية لإثبات تفوق سيدهم، ولإبراز أحقيته في الحكم. وبما أن الحاكم العثماني كان يلقب بالسلطان والخاقان، فإن المنصور سعى إلى إعادة إرساء نظام الخلافة الموحدية بالغرب الإسلامي من خلال استرجاع تونس والجزائر من الأتراك. ورغم أنه لم يتقمص شخصية المهدي، فإن السلطان الشريف استغل بشكل أفضل الوضع الذهني والإيديولوجي الذي كان سائدا بالمغرب. وهكذا كانت العبارة المستعملة للدلالة على دولة أحمد المنصور هي “السلطنة النبوية الفاطمية الحسنية” وعلى الألبسة الشريفة للسلطان “النبوية”. كما كانت الجيوش السلطانية “جيوش النبي” وحتى “جنود الله” وحملت خطاباته نعت “الرسائل النبوية” (صص 58-72).
ووقف العنصر الثاني على مسألة تقليد الرسول (ص). لقد بلغت قضية تقديس محمد الشيخ أقصى درجاتها غداة تشييد ضريح فخم فوق قبره. كما عمل المنصور كل ما في وسعه لإظهار أمه في صورة متميزة ومثيرة باعتبارها من سلالة شريفة. وتم تعظيم حدث ولادته، كما برزت نبوءات مواكبة اعتلائه للعرش، من ذلك ما رواه الفشتالي، ثم ما ذكره العلماء والمرابطون والأولياء، وأخيرا ما حكاه عن نفسه. حتى أن الجولات التي قام بها من سجلماسة إلى تلمسان شبهت بالهجرة. ورغم قوتها الإقناعية والكاريزماتية، لم تكن متانة النسب وتوظيف النبوءات وتقليد الرسول (ص) مع ذلك مرتكزات كافية لتأمين شرعية كاملة للحكم السلطاني (صص73-82).
وعالج العنصر الثالث سلاح المعرفة المجسد في التكوين المستمر للأمير-العالم، والذي لم يكن في نظر أحمد المنصور، أداة سياسية فقط، بل أيضا صنعة وموهبة، لم يتوقف هذا الأمير المتعطش لما هو كلاسيكي عن تطويرها طيلة حياته. فتكوينه العلمي أمر لا مراء فيه حتى أنه وظفه لإرساء دعائم مشروعيته، وللظهور بمظهر السلطان الورع والرقيق على شاكلة خلفاء بغداد وقرطبة الذين يعتبر نفسه استمرارية لهم. لقد عرف المنصور فعلا برعايته للعلم والعلماء. حيث كان يستقبل المشارقة منهم بكل حفاوة في مراكش لما يمكن أن يمثلوه من دعاية لحكمه.
وبالإجمال عمل أحمد المنصور كل ما في وسعه للهيمنة عل حقول المعرفة وشبكاتها المتشعبة، وأبرز الفاعلين فيها. لقد سعى بقوة إلى إيجاد أنصار له ومعجبين بسياساته داخل الإمبراطورية العثمانية والدول المسيحية.
وعرج العنصر الرابع على ما سمي بالسلطان المستنير أو الاختيارات الصوفية لأحمد المنصور الذي كان يؤطر ويراقب تحركات تيارات الرباطات، مع تفضيل واضح لأعضاء الطريقة الزروقية الكفيلة بضمان التوازن مع الجزولية غير المأمونة الجانب. وأثارت زيارات السلطان للأضرحة ملاحظتين، أولاها أن الأولياء الذين زارهم لا ينتمون لأية زاوية، وأن كل زاوية تستظل بظلهما. وثانيتها وهي مرتبطة بالأولى، وتتعلق بغياب الأولياء الجزوليين من لائحة الأضرحة التي تمت زيارتها. ومن مظاهر ورعه، أنه كان يمارس طقس الاستخارة، ويقوم بالضيافة أو إطعام الطعام قبل اتخاذ أي قرار. كما اعتاد إظهار بركته لعامة الناس وخاصتهم. إن انفراد أحمد المنصور بوراثة النور النبوي يوحي بالنسبة إليه، بإمكانية ووجوب إشاعته باعتباره بشير خير بالنسبة للسكان. إذن فهو حسب رأي الكاتب، كان يتلقى النور بيولوجيا وصوفيا وسياسيا، ومن ثم يعلن عن سموه على كل الفاعلين السياسيين والدينيين داخل البلاد وخارجها (صص87-101).
وتناول العنصر الخامس ما أسماه “من الجهاد إلى التجديد: الخطط المهدوية للسلطان الشريف”. وذهب المؤلف إلى أن فورة المهدوية عرفت أيضا لدى العثمانيين والملكيات الأوروبية. وفي هذا الصدد، قوى المنصور جهازه المشرعِن من خلال دعم الأفكار المرتبطة بمنظومة الخلاص والقائمة على الجهاد والمهدوية والرائجة في أوساط الأولياء والمثقفين المغاربة منذ قرون. وحمل لقب الذهبي الذي لا يعود حسب وجهة نظره، إلى غزو السودان الغربي بل إلى انتصار وادي المخازن وما واكبه من جزية وهدايا ثمينة تلقاها من مفتدي الأسرى البرتغاليين. ومما يدعم ذلك “ديوان قبائل سوس” سنة 1580 والذي يحمل فيه السلطان لقب الذهبي. كما أن استعمال لقب المجاهد في مراسلاته للسكان وللعلماء المغاربة ليس إلا مجرد وسيلة للدعاية، وأداة لجعل حكمه يتماشى مع منطق طاعة الله ومنطق الاستمرارية على خطى كبار خلفاء الإسلام. وفي هذا الإطار، فإن موضوع الجهاد المتكرر على المستوى الداخلي يعني استرداد الأندلس. ورأى أنه في غياب جهاد عسكري، يمكننا الحديث عن جهاد دبلوماسي. وانتهى إلى أنه إذا لم يكن المنصور قد تقمص فعلا شخصية المهدي، فإنه تبنى خططا مهدوية بدأ في تنفيذها منذ توليته، كما يدل على ذلك الخطاب الرسمي المرتكز على إنقاذ المغرب وتخليصه من الدمار (صص102-109).
وهكذا سعى السلطان ومن يدور في فلكه، من خلال تكييف الحكايات الكلاسيكية المرتبطة بثقافة البدء، إلى إعطاء صورة مشعة وإيجابية للسلطان وسلالته. وكان هدفه إضفاء الطابع القدسي على شخصه وحكمه وأسرته. وشكلت القوة والهيبة ودوام الوظيفة السلطانية القضية المركزية لإيديولوجية النظام. ومن ثم حاول الخطاب الشريف أن يسجل ببلاغته، حضوره في الدورة الطويلة للتاريخ الإسلامي. وخلص الكاتب إلى أن طموحاته في الخلافة على الغرب الإسلامي لا تحتاج إلى تأكيد أو برهنة. فالسلطان وأتباعه أعدوا بالفعل جهازا مشرعِنا محكما شكل الخطاب ورموز الحكم والاحتفالية أبرز دعاماته.
تتعلق النقطة الثانية من منظومة إيديولوجية الخلافة بالشعارات القائمة على وراثة الرسول (ص)، إذ يمكن أن نلحظ التشابه الحاصل بين شارات الحكم المنصوري ومثيلاتها لدى الأسر الكبرى التي تعاقبت على الخلافة. إن الشعارات وظفت كرموز ظاهرة للسيادة الدينية والسياسية والعسكرية للسلطان الشريف خلال الاحتفالات والمواكب الرسمية، وتمظهرت في: الخطبة والسكة لنشر إيديولوجية الخلافة. لقد كان المنصور يقود الصلوات الرسمية في الجامع الكبير ثلاث مرات في الأسبوع وخاصة يوم الجمعة. وكانت الخطبة إحدى الشارات الأساسية التي وظفها الزيدانيون لتأكيد علو مكانة السلطان، واستقلالية أراضيه ومشروعية طموحاته في الخلافة، واعتبروها وسيلة لنشر سلطته الرمزية على الأقل في المناطق التي لم تكن لها أهمية اقتصادية وإستراتيجية كبيرة. وعلى مستوى اللباس، حرص على الحفاظ على رصانته وبساطته التي تتماشى مع أسس الورع والتقوى السائدة في أوساط العلماء والمرابطين. واتخذ من التميز عن العثمانيين والتمسك بالألبسة المحلية والبيضاء اللون شعارا له. وباعتباره ضامن العقيدة والسنة النبوية، لم يتخل المنصور أبدا عن نسخة من مصحف عقبة بن نافع، ولا عن كتابي البخاري ومسلم وخاصة صحيح البخاري خلال تخليد ذكرى المولد النبوي الشريف، وقبل أسفاره الرسمية. كما كان السلطان يترأس حفلات الاستقبالات والمواكب الرسمية باعتباره أمير المؤمنين والمدافع عن الإسلام بواسطة مجموعة من الوسائل بهدف إظهار دوره كمجاهد وكمدافع عن السلم المجتمعي. لقد رأى صاحب الكتاب أن المنصور صنع سيفا على مقاس طموحاته في الخلافة، ودمر علنا الشعار الأبيض للدولة العثمانية (التوغ)، وعوضه باستعمال اللواء المنصور في مواكبه، والذي اعتبره رمزا للاستقلال وللاستمرارية التاريخية. واستعمل المظلة كشارة عتيقة للخلافة أسهم في بعثها، واتخذ منها وسيلة للتميز عن منافسه العثماني. وحافظ على بنية الأفراك وعلى التقاليد المرينية رغبة منه في ضمان الاستمرارية التاريخية للأسر التي تبوأت الخلافة بالغرب الإسلامي (صص112-136).
وتتناول النقطة الثالثة من منظومة إيديولوجية الخلافة الاحتفالية السلطانية أو ما أطلق عليه “تكريس الدولة الممسرحة”. ويقول في هذا الصدد أنه إذا اعتبرنا خطاب الشرعية والخلافة الذي رفعه المنصور شكلا من أشكال السيناريو السياسي المثالي، وصنفنا شارات حكمه باعتبارها ديكورات لإضفاء طابع القدسية، يمكننا من هذه الزاوية، أن نقرأ الرسوم أو المراسيم بصفتها تجسيدا ملموسا لإيديولوجية نظامه. وترتكز هذه الإيوالية على مجموعة من الأقوال والحركات الطقوسية الموروثة عن الإرث الإسلامي، والتي تهدف إلى تضخيم شخص السلطان، وتأكيد دوره المركزي. كما تهدف إلى ضرب مخيلات النخبة والسكان وإثارة انبهار الزوار الأجانب وتجاوز الاحتفالية العثمانية.
هكذا مثلت الاحتفالية شكلا من أشكال إضفاء الطابع المسرحي على المجال الاجتماعي، حيث يجد كل فاعل أو كل فئة مكانتها المثالية في إطار تماثلية شبه إلهية. وبذلك سهلت الاحتفالية الاندماج السياسي والترابي للبلاد حول شخص السلطان في إطار الخلافة التخيلية. ولتأكيد ذلك عمل على امتلاك قصر للتباهي يضاهي نواياه في الخلافة، ويتماشى مع طموحاته في الساحة الدولية. ومن ثم تجاوز البديع صفة القصر المخصص للحكم ليعبر عن تلك الخلافة. إنه يعكس سمو السلطان في العالم المتوسطي، ويضخم من دوره كمدافع عن الإسلام، وكضامن لاستمرارية الخلافة بجناحه الغربي في مواجهة الهيمنة العثمانية. إذن يندرج بناء البديع في إستراتيجية الخلافة الهادفة إلى تمتين وتقديس الحكم السلطاني في أفق تأمين دوامه.
كما حرص على قيادة الحملات إما لوضع حد لتمرد ما، أو لضمان استثباب الأمن أو لاستعراض القوة أمام رعاياه. ومن ثم أصبحت المحلة إحدى الأدوات المفضلة لنشر إيديولوجية الخلافة لديه. ولم تكن وظيفة المحلة رادعة فقط، وإنما ذات غايات اندماجية وتكاملية. ويعكس لقب أحمد المنصور من خلال الكتابات الإخبارية الرسمية، والمراسلات السلطانية، والنقوش الدينية والجنائزية، والمسكوكات، بكل جلاء طموحاته في الخلافة. كما تجسدت أصالة نظامه في استقبالاته للسفراء الأجانب، وما واكب ذلك من تهيؤ متناغم لمختلف العناصر بهدف إقامة احتفالية يغلب عليها الطابع المحلي، وتكرس التشابه الكبير مع الاستقبالات خلال العصر الوسيط ببغداد والقاهرة وقرطبة. كما يمكن اعتبار البيعة من الناحية العملية والسياسية استعراضا للقوة هدفه رهبة الرعية وضرب مخيلاتها ونشر إيديولوجية الخلافة. وخلص إلى التأكيد بأن المنصور هو الذي أعاد إدخال الاحتفال بمناسبة المولد النبوي إلى البلاط المغربي. ومثلت هذه المناسبة أداة سياسية لتأكيد مشروعيته السياسية-الدينية أمام النخبة، ودعامة لنشر إيديولوجية الخلافة في أوساط السكان الذين كانوا يشاركون بكل نشاط في إحيائها (صص138- 168).
وبالإجمال، فإن إعادة استحضار شارات الحكم واحتفالية البلاط الشريف على عهد المنصور تعكس إرادته في التموضع في مركز الأجهزة السياسية والدينية والرمزية للسلطنة. كما أن نظام العلامات والرموز استمد مما له علاقة بالنبوة والخلافة. وبهذا تكون كل دعامات إيديولوجية الخلافة لدى هذا السلطان قد وظفت لخدمة إعادة إحياء الماضي.
ينفتح القسم الثاني على موضوع “المأسسة غير المكتملة للسلطنة الشريفة”. لقد استندت مركزة الحكم على خاصيتين أساسيتين: أولاها تمثلت في احتكار العنف المشروع الذي يتيح للسلطان استخدام القوة العسكرية، وثانيتها الاحتكار الضريبي. وقد عالجها المؤلف من خلال عدة نقاط، عنون الأولى بالحكم العظيم المبني على قوائم من طين. وتطرق فيها لمسالة التعاقب على الحكم بين تعدد الزوجات والإخوة الذكور. وتوقف عند التمردات والدسائس المرتبطة بهذه الظاهرة من قبيل ثورة داوود بن عبد المومن، وتمرد ابن قرقوش، وتمتين السلطة الشريفة، والأمير الناصر أو الرجل الذي أرجف المنصور. وفي هذا الصدد حرص السلطان على ملاحقة واضطهاد الأمراء الذين يمكنهم المطالبة بالعرش (صص 173-187).
وخلص إلى عنونة الفقرة الأخيرة من هذا العنصر بـ”نهاية حكم حزينة“. وتناول خلالها قضية إعادة تأكيد المنصور لبيعة محمد الشيخ المامون، وبداية نشوب الخلافات بينه وبين أخيه زيدان، واغتيال الباشا مصطفى، ثم إعلانه للتمرد على والده، وما تلا ذلك من أحداث انتهت بسجنه. كما تطرق للوسائل المؤسساتية التي رأى المنصور ضرورة توظيفها لمركزة البنيات السياسية. فاعتبر أن القصبة شكلت مركز الحكم السلطاني، ثم رصد وظائفها الدفاعية والدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية والإدارية، والتي جسدت مظهرا للأبهة. كما عكست الوظائف الإدارية من وجهة نظره، الميول الكلاسيكية للمنصور وإيديولوجيته حول الخلافة، والتي كانت تسعى إلى جعله هو وعاصمته محورا لا غنى عنه، يدور في فلكه النظام السياسي والاجتماعي للبلاد برمته. وانتقل المؤلف إلى وصف القصبة ودار الكريمة وخدمها وحشمها. أما خدمات الدواوين، فاعتبرها العمود الفقري للمخزن. ورأى أن الديوان يتكفل بالإدارة المالية العمومية وبالمراسلات والاستقبالات السلطانية. وقد ركز على الشق الأخير، حيث تناول أسماء كتاب المنصور ووقف على الفشتالي كنموذج. ثم وصف المصلحة المكلفة بالترجمة. كما استعرض نظام الشيفرة الذي أدخله أحمد المنصور إلى ديوانه. ثم عرج على الرسائل السلطانية من حيث مستوى الأسلوب والصيغ والعبارات. كما تناول الأختام ورموز التصديق على الرسائل. وسجل فيما يتصل بالتنظيم الإقليمي، أن عدد الأقاليم المغربية على عهد المنصور انتقل من 17 إلى 9، والتي تم توزيعها على الأمراء. واعتبر أن تبني المنصور للديوان، كمجلس استشاري سلطاني كان تحت تأثير العثمانيين. وقدم وصفا لاختصاصاته السياسية والقضائية والاقتصادية والعسكرية. وفيما يتعلق بالتنظيم القضائي، ذهب إلى أن السلطان لم يقدم أبدا على تعيين قاض كبير ووحيد. ولضبط الحقل الديني والقضائي بشكل جيد، عين مجموعة من المفتين أو الفقهاء على الحواضر الكبرى. واعتمد على جهاز العدول والمحتسبين. كما احتكر ديوان رد المظالم لتقليد الإرث النبوي، ولتلميع عظمته، وللتعبير عن طموحاته في الخلافة.
وفي الشق المتعلق بالتنظيم المالي ومداخيل المخزن، تبنى المنصور الأنظمة المالية السائدة منذ عهود. ولم يكن يميز بين بيت المال وماله الخاص. ويبدو أنه مد يده إلى أموال الأوقاف في مرات عديدة. واعتبر أن الضريبة شكلت أهم دخل للخزينة. وسرد أنواعها، استنادا إلى شهادة خورخي دي هنين، وشالدانيا، وإلى ديوان إبراهيم الحساني. كما وقف على معاصر السكر بصفتها صناعة مخزنية. وانتهى إلى أنه رغم أهمية مداخيل هذه الصناعة، فهي لم تتمكن من تعويض المداخيل الجبائية (صص 202-262).
ومثل الجيش الشريف القلب النابض للجهاز المنصوري. فهو جيش غير متجانس، حدد المؤلف مراحل خلق فرقه، ووقف على رسالة أحمد المنصور إلى علماء الأزهر حول تمليك السود، معتبرا أن الأندلسيين وشراكة والخلط شكلوا العناصر التي كان بإمكانها خلق متاعب. أما العلوج فهم حماة الحكم السلطاني. ورصد في النقطة الموالية قضايا التسلح واللوجستيك والتحصينات. حيث تمت إقامة دار العدة وبناء عدة حصون أو تجديدها، وتحصين العرائش بستين مدفعا، وإنشاء نظام طبي للجيش السعدي. كما رأى أن ضعف البحرية السلطانية، يعزى إلى أن أسطولا مغربيا من شأنه المس بمصالح الإسبان والعثمانيين، لذلك اتجه المنصور إلى طلب الدعم الإنجليزي (صص 265-289).
وخصص القسم الثالث للدبلوماسية الشريفة بين المتوسط والصحراء والأطلنتي (صص 293-331). وتوزع بين عدة عناصر، أفرد أحدها إلى توافد السفارات وخاصة تلك التي تلت معركة وادي المخازن، ثم مسألة التقارب مع إسبانيا، حيث عمل المنصور على تحقيق هذا التقارب خلال الأربع سنوات الأولى من حكمه. وقاد مفاوضات لتسليم العرائش لإسبانيا. وانتقل بعد ذلك إلى ما أسماه “تعزيز القطيعة مع العثمانيين”، إذ رفض السلطان التحالف معهم. ولم يتمكن فقط من استبعاد خطرهم نهائيا، بل نجح في استعمال مقترحاته المتعلقة بالسلم والتحالف لإحباط ميولات الهيمنة الإسبانية التي كانت “تزعج” أيضا إنجلترا، التي ضمن تزوده بالأسلحة منها خلال نهاية سنة 1582. وبعد وفاة علوج علي سنة 1587، لم يعد السلطان يخشى الباب العالي، خاصة حين أصبحت الجزائر باشوية. وفيما يتصل بالعلاقات مع إنجلترا، ذكر أننا أصبحنا من جهة، نسير نحو محور مراكش-لندن، وهو ما تبينه الالتزامات التي قدمها المنصور للإنجليز فيما يتعلق بالتجارة، ومعاكسة إسبانيا، ودعم دون أنطونيو. ومن جهة أخرى، تجاه التنازلات الإسبانية. فبعد عقد من التحركات والتحركات الدبلوماسية المضادة، نجح السلطان في تحقيق نصر رمزي على إسبانيا فيليب الثاني. وقد تم تأويل هذا النصر الرمزي في الأوساط المخزنية باعتباره علامة على دعم إلهي من شأنه تيسير ميولات السلطان نحو الخلافة، ودفعه نحو الأمام في مشروعه التوسعي.
وفيما يرتبط بالمغامرة السودانية، حاول فهم دواعي اختيارها والمتمثلة في قطع الطريق على العثمانيين لدخول الصحراء، ومراقبة التجارة، واعتبر ذلك الغزو نصرا رمزيا وعلامة على البركة السماوية. وأطلق عليه الكاتب اسم “الامبريالية المنصورية”، وكان الهدف منه في رأيه، هو الانتقال من إطار ما أسماه الإمارة الترابية إلى تكوين خلافة جهوية. وفي هذا السياق اتخذ عدة إجراءات تجسد أبرزها في تحركات سياسية وحملات تمهيدية، منها التحركات ضد آسكيا وغزو إمبراطورية سنغاي، وعقد مجلس شورى للبث في الأمر. ثم تطرق المؤلف إلى مراحل هذه الحملة. ورصدت النقطة الموالية والأخيرة في هذا القسم العلاقات مع الإمبراطورية العثمانية التي تأرجحت بين التفاهم والدعاية، إذ بعد موت علوج علي، أدار العثمانيون ظهرهم للمنطقة. وذلك بسبب مشاكلهم في سوريا وهنغاريا وفارس مع الصفويين. إذن استفاد المنصور من هذا الوضع ليقطع علاقاته مع البادشاه سنة 1587. ولعل السياسة الأوروبية واستعدادات غزو السودان، أبعدتا بدون شك المخزن عن الشؤون العثمانية. وبدأت العلاقات بين المغرب والباب العالي تتحسن بشكل ملموس خلال حكم محمد الثالث (1595-1603) لأسباب لها صلة أساسا بالتغيرات السياسية والعسكرية المرتبطة باعتلاء هذا الأخير لكرسي الحكم. ولم يكتف أحمد المنصور بمراسلة علماء المشرق، على حد تعبيره، للتأكيد على أهليته لوراثة الخلافة الإسلامية، بل أرسل مجموعة من الدعاة المقنعين في صفة حجاج للدعاية له بأحقيته في الخلافة على الغرب الإسلامي.
واستشف من خلال ما تقدم، أن سياسة السلطان تجاه العثمانيين استهدفت فرض صورة إمبراطورية بالغرب الإسلامي شرعية وقارة وقوية فقط، وليس إقامة خلافة كونية يستحيل تحقيقها. وكان من بين أهداف الأسرة الزيدانية منذ وصولها إلى الحكم تحقيق ما أطلق عليه “الحلم الأندلسي”، وذلك استجابة للانتظارات المرتبطة بفكرة الخلاص السائدة بالمغرب والأندلس. ولم يتم التعبير عن تحقيق ذلك الحلم فعلا إلا سنة 1596. وخلص إلى أن “مشاريع التحالف بين إنجلترا وسلطان المغرب كانت مستحيلة”، بسبب عدم التوافق الثقافي والسياسي بين البلدين (صص 332-371).
وفي المحصلة النهائية، خلص المؤلف في خاتمة كتابه إلى أن الأسرة الشريفة حكمت في سياق وطني ودولي خاص، وأن المشروع الثلاثي المدعوم بإيديولوجية الخلافة لم يطبق بنجاح إلا خلال 25 سنة من حكم أحمد المنصور، الذي أعد بمساعدة عدد كبير من عناصر حاشيته جهازا متماسكا للشرعنة، استهدفت دعاماته إعادة بناء صلة مباشرة وغير منقطعة بين السلطان والعصر الإسلامي الذهبي. غير أن ادعاءات السلطان لنيل الخلافة الكونية لم تشكل بناء متراصا، وأداة فعالة لتأكيد قوته ولرفض وصاية القوة العثمانية. وظلت كل المؤسسات قائمة على نظام فوق قبلي. وتبقى طموحات الخلافة ومركزية الشخصية أحد أهم المظاهر التي خلفها العهد المنصوري، الذي جعل من بلاطه فضاء إبداعيا للمعايير الاجتماعية بلغ حدا أصبحت فيه ممارساته من قبيل عادات اللباس، والغداء، والاحتفالية، على حد تعبير N. Elias، نموذجا يحتذى به داخل المجتمع. وتبقى إيديولوجية الخلافة أهم إرث خلفه العهد المنصوري، والذي مكن الملكية المغربية من امتلاك عمق تاريخي ومشروعية دينية وهالة مهدوية ونظاما فوق قبلي (صص 373-380).
ما هي أهم الملاحظات التي تتيحها لنا قراءة هذا العمل:
يندرج هذا الكتاب في سياق ما تشهده السنوات الأخيرة1 من بروز اهتمام جديد بالبلاط كموضوع للدراسات التاريخية، وبأشكال اشتغال وعمل آليات الحكم، ومن بداية التوجه من جديد إلى دراسة إشكاليات تطور الدولة وإيوالياتها الداخلية.
إذا كانت الأطروحة المركزية للكتاب قد حاولت موضعة شخصية أحمد المنصور كفرد في سياقها التاريخي. فإلى أي حد نجحت في بلوغ هذا المسعى، خاصة وأن هذا السلطان بدا لنا من خلال هذه الدراسة وكأنه يمتلك قوة ونفوذ خارقين مبالغ في حجمهما. في حين أن معظم الكتابات حول الموضوع لم تصل إلى نفس الخلاصات. ولعل السبب في ذلك يعزى في رأيي إلى طبيعة المقاربة التي اعتمدها المؤلف، والتي أراد من خلالها المزج وأحيانا بتعسف بين المقاربة الأنثربولوجية والتاريخية. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل:هل نحن أمام كتاب تاريخ أم كتاب أنثربولوجيا تاريخية أم كتاب أنثربولوجيا سياسية؟ فهل حاول المؤلف القيام بعمل المؤرخ والأنثربولوجي في نفس الوقت، ومن ثمة هل تعامل مع الموضوع كمؤرخ استعان في عدته المنهجية بالأنثربولوجيا؟ أم أنه عالجه بمقاربة استمدها من قاموس أنثربولوجي وطبقها على أحداث الماضي؟ بمعنى هل كتب المؤلف تاريخا من خلال دمج الأنثربولوجيا وجهازها المفاهيمي في سياق ما يعرف بالأنثربولوجيا التاريخية أم أنه كتب بمقاربة أنثربولوجية مبنية على قضايا تاريخية؟
بما أن التحدي الأكبر للأنثربولوجيا التاريخية يكمن في اختبار ذلك الرابط الموجود بين الطارئ والضروري وبين الخاص والكوني، وبما أن مسألة التناهج بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقضية انفتاح التاريخ على الحقول المجاورة أضحت أمرا مسلما به ولا يحتاج إلى برهنة، فإن ما استشفه من هذا الكتاب أن صاحبه حاول من خلال استعمال مفاهيم وآليات تحليلية مستمدة خصوصا من علم السياسة إبراز “متغيرات اجتماعية” وكأنها ساهمت في ميلاد حكم المنصور ونتجت عنه، ثم تغيا الكشف عن الانعكاسات الحضارية للمشرق الإسلامي على تشكيل وتطور نظام الحكم في عهده. وسار من جهة أخرى، على نهج الأنثربولوجيا السياسية التي تناولت قضية المشروعية السياسية (Evans-Pritchard, Meyer-Forte, Pierre Clastres, George Balandier) وديناميكية العوامل الداخلية والخارجية المؤطرة للحكم السياسي.
تمحورت إشكالية الكتاب حول مسألة إحياء المنصور خلافة بالغرب الإسلامي مستمدة من الخلافة الكونية الإسلامية، وحاول المؤلف في هذا السياق أن يثبت طيلة فصول العمل وجود مرتكزات إيديولوجية استهدفت بلوغ هذه الغاية. أعتقد أن أحمد المنصور كان رجلا براغماتيا سعى من خلال غزو السودان، ورفع شعار استرجاع الأندلس وحتى إفريقية والمغرب الأوسط، إلى البحث عن موارد اقتصادية بديلة ووظف الخلافة ولو في صيغتها التخيلية باعتبارها شعارا فقط، وليس غاية في حد ذاتها. ويمكن تصنيف مغامرته السودانية في إطار رغبته في تكوين إمبراطورية ذات بعد قاري، وليس خلافة كما يبدو من خلال مستويات الخطاب الرسمي. كما أن الحديث عن “إيديولوجية” بمعنى النسق الفكري المنظم والرؤية المتراصة والشمولية للتخطيط للقضايا ومعالجتها ضمن منحى سياسي معين، يعد أمرا غاية في المجازفة، بل يمكن تصنيفه في خانة الإسقاطات التي لا تتلاءم وطبيعة المرحلة التاريخية المدروسة. لأنه مهما قيل عن حكم أحمد المنصور وعن طموحاته المختلفة في شتى المجالات، فقد ظل نظامه المخزني يعبر بعمق وجلاء عن التقليدانية بكل مستوياتها، رغم ما يمكن أن توحي به مختلف مبادراته وتحركاته من انفتاح خادع. لكن الأكيد أن صاحب الكتاب يدرك تمام الإدراك أنه يوجه مؤلفه للقراء باللغة الفرنسية، ومن هذه الزاوية حرص كل الحرص على إسقاط هذه المنظومة الإيديولوجية، وما واكبها من مفاهيم استمدها من التاريخ الغربي، ليقحمها ربما بشيء من التعسف في حكم أحمد المنصور. ولا أعني بقولي هذا توظيف كلمة إيديولوجية في حد ذاتها، بل اعتبارها الأس الذي ارتكزت عليه لحمة النظام المخزني في عهد هذا السلطان.
أورد المؤلف في خلاصاته أن المنصور تمكن من العمل بنظام فوق قبلي، مع أن واقع الحال يؤكد أن هذا السلطان ظل يعتمد على القاعدة القبلية كمحدد أساسي في سياساته، وإن تبنى جيشا محترفا من العلوج.
خلال تناوله لاحتفال عيد الأضحى أشار إلى أنه كان يتم لف الخروف في قطعة قماش وحمله على وجه السرعة إلى القصر، حتى يتمكن أطفال ونساء القصر من معاينة وتأمل المشهد (ص 155). يبدو لي أن الاعتقاد السائد والمتعلق بهذا الطقس ارتبط أيضا وحسب العديد من الشهادات التاريخية، بضرورة إيصال الأضحية إلى القصر وهي لا زالت تحتضر، مما يبشر بسنة جيدة يتغلب فيها الخير على الشر، ولهذا فغالبا ما كان المكلفون بهذه المهمة الصعبة يخفون عن السلطان خبرا معاكسا.
– فيما يتصل بوفاة المنصور، تساءل المؤلف أنه كيف يعقل أن يبقى السلطان عدة أيام بقصره بفاس من دون أن تنتقل عدوى الطاعون إلى أقرب مقربيه؟ وكيف أنه تم تنظيم جنازة المنصور المصاب بالطاعون مع أن الإسلام لا يبيح ذلك. بل كيف تم نقل جثمانه إلى مراكش دون أن تنتقل العدوى؟ وهو أمر يضع في رأيه أكثر من علامة استفهام على مسألة الموت الطبيعي للمنصور، ويؤيد فكرة اغتياله على يد ابنه زيدان الذي تأكد من أن ولاية العهد كانت ستمنح لأبي فارس (ص 211). أرى أن معظم المصادر أجمعت على أن السلطان مات بالطاعون باستثناء بعض المصادر الأجنبية، والتي اعتمدها المؤلف. ولا أدل على ذلك من الرسالة التي أوردها الإفراني والموجهة من المنصور إلى ابنه أبي فارس حين حل الطاعون، والتي نستشف منها النصائح التي كان يوجهها له للاحتراز من العدوى، والتي تقيم الدليل على أن السلطان وحاشيته كانت لهم من الإمكانيات ما جعلهم يقومون بنفس الشيء، كما أننا لا نعرف كم مات من الأشخاص المقربين من السلطان.
لاحظ المؤلف أن كل القضاة كانوا تابعين بوضوح للطريقة الزروقية وأقل ارتباطا بالجزولية (ص243). وهو إسقاط لا نجد له أصداء في شهادات المرحلة المدروسة. كما خلص إلى أنهم كانوا يقبلون عن طواعية الهبات التي يقدمها لهم السلطان بشكل دوري. بينما تؤكد المصادر أن هناك العديد من القضاة استنكفوا عن قبول هدايا المخزن، بل اعتبروها مسا بمكانتهم وباستقلالية مواقفهم. وفيما يتعلق بالإجراءات الضريبية، لم يقدم المنصور على إلغاء النائبة كما انتهى إلى ذلك (ص 111) ، وإنما عوضها بالخراج.
ذكر الكاتب أن كل التحركات السياسية والاقتصادية والعسكرية لأحمد المنصور لم تكن إلا مرحلة أولى نحو استعادة السيادة على الأندلس. حيث شرع منذ نهاية سنة 1596 في تعبئة الرأي العام المغربي والإسلامي للحصول على دعم روحي ومادي لإنجاح تلك المهمة. وأنه بعد عقد مجلس الشورى، تبين أن الهدف من الغزو هو ضمان تمويل استعادة الأندلس، ولا أظن أن الأمر كذلك، لأنه لا يجب أن ننساق وراء خطاب الفشتالي على اعتبار أن السلطان كان يدرك جيدا حجم إمكانياته، ومدى قوته، ولم يكن هذا الخطاب بالنسبة إليه إلا ذريعة ووسيلة من وسائل إرضاء النخب الدينية التي ما فتئت تحضه على ذلك عملا بمبدإ الجهاد.
إذا كان هذا الكتاب قد اعتمد على رصيد بيبليوغرافي واسع ومتنوع، ونسج بطريقة منهجية متماسكة2، وشكل إضافة إلى حصيلة ما تراكم من أبحاث حول تاريخ المغرب الحديث، فإن ما يسجل على مؤلِفه وما يثير أكثر من تساؤل، هو تجاهله وبشكل تام للعديد من الدراسات الأكاديمية التاريخية التي كتبت في الموضوع باللغة العربية، وإن اعتمد عليها طيلة فصول عمله، بل وشكلت ركيزة أساسية لهيكلة بحثه جملة وتفصيلا، فلم يكلف نفسه لا عناء الإحالة عليها في الهوامش، ولا حتى ذكرها في قائمة المراجع المعتمدة
الهوامش:
1M. García-Arenal, Ahmad al-Mansur, The Beginnings of Modern Morocco, Oneworld -Publications United Kingdom, 2008.
R. L. Smith, Ahmad AI-Mansur: Islamic Visionary, Library of World Biography Series, Longman Publishers, 2006.
2- لقد سبق أن قمت بقراءة لهذا الكتاب نشرت في:
Bulletin Critique des Annales Islamologiques, n 25, p. 73-74, année 2009.
3- من بين هذه الدراسات:
عبدالمجيد القدوري، المغرب وأوروبا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر (مسألة التجاوز)، المركز الثقافي العربي، 2000.
محمد جادور، مخزن الأشراف: أحمد المنصور والمولى إسماعيل نموذجاً، أطروحة غير منشورة نوقشت بكلية الآداب بالرباط سنة 2004، والتي صدرت مؤخرا تحت عنوان: مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب، منشورات عكاظ، مؤسسة الملك عبد العزيز، سلسلة أبحاث، الدار البيضاء، 2001.
لطفي بوشنتوف، العالم والسلطان، دراسة في انتقال الحكم ومقومات المشروعية، العهد السعدي الأول، الدار البيضاء، جامعة الحسن الثاني-عين الشق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة “أطروحات ورسائل”، 2004.