Les gens de Salé, Les Salawis : traditions et changements de 1830 à 1930, Casablanca, Eddif, 2001
صدر كتاب أهل سلا الثابت و المتحول 1930-1830 للأنثروبولوجي الأمريكي كينيث براون في طبعته الأولى باللغة الإنجليزية بمانشيستر سنة 1975. و هو في الأصل أطروحة حصل بموجبها على درجة الدكتوراه بجامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1969. أما الطبعة التي بين أيدينا، والتي نقدم على ضوئها هذه القراءة، فهي ترجمة إلى الفرنسية أنجزها الفرنسي فيرنان بودفان، وراجعتها زكية داود، وقدم لها محمد الناصري، وأصدرتها دار النشر إيديف بالدار البيضاء سنة 2001. ينتظم هذا الكتاب، الذي يتكون من328 صفحة من الحجم المتوسط، في أحد عشر فصلا، مرتبة في أربعة أبواب، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة ولائحة بيبليوغرافية مفصلة. وتنتقل هذه الأبواب بالقارئ، بصورة تدريجية، من وصف البنية الاجتماعية للمدينة إلى تحليل مسار المتغيرات التي حصلت بداخل هذه البنية. ففي البابين الأول والثاني يصف كينيث براون بتفصيل أسواق المدينة وحوماتها وديارها وعلاقاتها بالبوادي المحيطة بها، و يحلل نسيجها الاجتماعي المتمثل في الأصناف الاجتماعية والعلائق التي تربط بعضها ببعض، وصلحائها وفقهائها وطقوس أهلها الدينية والاجتماعية. وفي البابين الثالث والرابع يفسر التحولات التي حصلت في البنية الاقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشر مع اتساع التغلغل الأوربي وتأثيره على الصنائع والتجارة وما ترتب عن ذلك من تفاوتات اجتماعية، والأزمة التي أفرزتها هذه التحولات، من الناحية السياسية بالخصوص، حينما ظهر جيل جديد من السلاويين انخرط في الحركة الوطنية من أجل التحرر من الاستعمار. و قبل تناول القضايا الهامة التي يثيرها هذا الكتاب نبدي ثلاث ملاحظات أولية: أولا، على مستوى الإطار الزمني لهذه الدراسة اختار الكاتب فترة ما بين 1830 و1930، قصد الكشف عن عناصر التحول التي أفرزها التوسع الاستعماري بالمدينة، ويعني هذا المقطع الزمني الممتد على مدى مائة سنة أن التحول من مجتمع “تقليدي” إلى مجتمع “حديث” قد حصل عبر أجيال متعددة، من الجيل الذي شعر بصدمة الاستعمار مع احتلال الجزائر إلى الجيل الذي تزعم حركة الاحتجاج ضد الظهير البربري. ثانيا، اطلع كينيث براون على مصادر هامة ومتنوعة. فبالإضافة إلى ما توفره خزانات الرباط وباريس من مخطوطات ومنشورات، تمكن من قراءة مجموعة من الوثائق المحلية الدفينة التي تمتلكها العائلات الكبيرة بالمدينة، كالصبيحي وعواد وبنسعيد. ثالثا، جمع هذا الأنثربولوجي الأمريكي في دراسته حول المدينة بين الأرشيف والتنقيب الميداني. فقد أقام بالمدينة خلال سنوات 1967-1965، وتعلم بها العربية الدارجة، مما مكنه من مجالسة خاصة المدينة ومخالطة عامتها، والتعرف عن قرب على تقاليد هذه المدينة وطقوسها وطريقة عيش سكانها. ينطلق الكتاب بهذا المثل: “الناس بأزمانهم أشبه منهم بأسلافهم”. هذا المثل الذي اعتبره مارك بلوك Marc BLOCK حكمة شرقية مفيدة في فهم الماضي وتحولاته، يلخص إلى حد ما أطروحة كينيث براون حول أهل سلا. عالج المؤلف أهل هذه المدينة كجماعة متحولة، متكيفة مع المتغيرات التي فرضها التغلغل الاستعماري الأوربي على مدى قرن من الزمن، من 1830 إلى 1930، وهذا بالرغم من تشبث الناس بماضيهم وتقاليدهم وطقوسهم الدينية والاجتماعية. وهي إشكالية مركزية في هذا البحث. حاولت الدراسة تحليل هذه المفارقة بين مظاهر المحافظة والتشبث الشديد بالهوية الثقافية الأصلية من جهة، والقدرة على التكيف مع مظاهر التحول الاجتماعي من جهة ثانية. عالج كينيث براون في هذا الكتاب الموضوعات المتصلة بتاريخ المدينة وبنياتها الاجتماعية والثقافية من خلال مجموعة من القضايا الهامة التي تتجاوز الإطار المحلي. فمدينة سلا هي أولا وقبل كل شيء مدينة إسلامية تشترك مع مدن الشرق الإسلامي في مظاهر معينة وتختلف معها في مظاهر أخرى. كما أن المدينة بتركيبتها الاجتماعية ونشاطها الاقتصادي، وعلاقاتها مع المدن الأخرى و مع السلطة المركزية، وردود فعلها حيال الاستعمار الفرنسي تظهر كصورة مصغرة للمجتمع المغربي ككل. ولذلك فإن فهم التاريخ الاجتماعي لسلا يشكل بطريقة أو بأخرى، مدخلا لفهم التاريخ الاجتماعي للمغرب. فالكتاب، و إن كان صاحبه أنثربولوجيا بالدرجة الأولى، فإن عمقه التاريخي يبقى قويا جدا. فهو يظهر كبحث في التاريخ الاجتماعي أكثر منه بحثا في الأنثربولوجيا الاجتماعية. وقد شعر كينيث براون بهذا الأمر عندما وجد نفسه يشتغل مؤرخا وهو “يعيد بناء التاريخ الاجتماعي لسلا انطلاقا من النصوص المكتوبة”، وأنثربولوجيا وهو “يكشف عن العلاقات الاجتماعية والتمثلات بأدوات البحث الميداني”. تعامل براون مع مدينة سلا انطلاقا من مفهوم “الأهل”. فسكان المدينة، المنحصرة داخل السور، كانوا يعتبرون أنفسهم كأهل، يرتبطون بعضهم ببعض بصلات قرابة وثيقة، ويتقاسمون المصالح والقيم والمعتقدات والتقاليد والسلوكات. والاستعارة التي كانت تستعمل لوصف هذه الجماعة هي قادوس الناعورة، ذلك الجهاز الذي يرفع ماء البئر ويوزعه في السواقي لسقي قطعة من الأرض. فالقادوس يرمز إلى الجماعة المرتبطة بعضها ببعض بصلات القرابة والوفاء والمحبة والدين وأسلوب الحياة، غير أن وصف سلا كجماعة والتركيز على هذا القالب “الواعي” لا يعني أن هذه الجماعة كانت تعيش بشكل منفصل عن باقي المجتمع المغربي. إذ أنها كانت تشكل جزءا من نمط عريض، اجتماعي وثقافي. فأهل سلا هو مفهوم ثقافي وروحي وليس نمطا من العلاقات الاجتماعية المحدد جغرافيا. فالأفراد حافظوا على مصالح شخصية، بعضهم ارتبط بالبادية، و آخرون بالمخزن في فاس ومراكش، والبعض الآخر بسكان المدن الأخرى أو بعلاقات تجارية مع الأوربيين. وبذلك فإن البنية الاجتماعية لمدينة سلا وخصائص أهلها الثقافية كانت أكثر مرونة مما قد يوحي به المفهوم الضيق لكلمة “الأهل”. وتناول براون سلا من زاوية المدينة الإسلامية، وهو تناول موضوعي ينبني على الملاحظة العينية وعلى رصيد التاريخ. فقد تمكن بتحليله الدقيق لواقع المدينة وثقافتها من الوصول إلى نتيجة أساسية وهي أن “السمة الإسلامية” للحياة بمدينة سلا لا تظهر في نظامها المجالي وبنيتها الاجتماعية وأسلوب الحكم السياسي بها، وإنما في قيمها الثقافية النابعة من الإسلام. وفي هذا السياق، يرى براون أن الالتزام الديني لأهل سلا وإفراطهم في الطقوس ذات الطبيعة الدينية، والإشباع الديني الذي يظهر جليا حتى في سلوك السلاويين الشباب الذين تلقوا تكوينا عصريا، هو نتاج واقع تاريخي كون أن المدينة كانت منذ وقت طويل قبلة للصلحاء والفقهاء والمتصوفة، وكونها أيضا تزخر بالمواقع الدينية كالزوايا والأضرحة والمساجد، وليس تعبيرا عن تعصب ديني كما يظهر في صورة سلا لدى بعض الملاحظين الأوربيين الذين رأوا فيها المدينة الأكثر تعصبا في المغرب. فالإسلام منح أهلها وسيلة لتأكيد هويتهم الثقافية، وهي الوسيلة التي تحولت في نهاية المطاف إلى محرك رئيسي للحركة الوطنية. وناقش براون، في سياق ما عرضه حول سلا كمدينة إسلامية، نتائج الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية التي توصل إليها الباحثون حول مدن الشرق الإسلامي لطرح أسئلة جديدة على النظام الاجتماعي للمدن الإسلامية الأخرى مثل سلا، ومحاولة تحديد بنية الحياة الحضرية ومساراتها. فعلى خلاف مدن حلب ودمشق، مثلا، التي تحددت فيها بنية المجتمع والسلطة في نهاية العصر الوسيط من خلال نظام اجتماعي مغلق، مفكك إلى فئات اجتماعية متباينة وطوائف دينية مرتبطة بالمذاهب الدينية الأربعة، وخاضع لحكم نخبة أجنبية من المماليك عبر شبكة من الموالين النافذين في باقي مكونات المجتمع، كانت سلا ذات بنية جماعية متماسكة وتوجه مذهبي واحد، وكان أهلها متآزرون ومعتزون بهويتهم ونظام مدينتهم، في إطار من الصلات المتقاطعة والقيم المشتركة وشبكات العلائق الشخصية والتحالفات بين الأرباب والزبائن. ثم إن نظام المدينة كان يقوم على التفويض السياسي. فالمخزن كان يفوض سلطته لموظفين ينتمون للمدينة ويقطنون بها، كالعامل والقاضي والمحتسب والناظر. وكانت لكل واحد من هؤلاء صلات مباشرة مع المخزن، وكان يحظى في نفس الوقت بدعم الموظفين التابعين له، والذين كانوا يتصرفون كأرباب لهم، بدورهم زبائنهم. ومن جهة أخرى، يرى كينيث بروان أن سلا تُظْهِر للباحث كيف تشتغل آليات التحول الاجتماعي والسياسي كرد فعل على التوسع الاقتصادي الأوربي، ليس فقط بهذه المدينة ولكن بالمغرب بصفة عامة. لقد بدأ التحول مع إمبريالية القرن التاسع عشر في شكل تبادل حر، وامتد مع إمبريالية مطلع القرن العشرين في شكل حماية، حيث صارت مظاهر الحياة الاقتصادية بالمدينة في العقدين الأولين من الحماية مرتبطة بشكل لا رجعة فيه بظروف السوق الدولية ونظامها المالي. ولذلك فإن براون يفسر الحركة الوطنية بالشكل الذي فرضت به وجودها بمدينة سلا خلال صيف 1930 ليس فقط كرفض للهيمنة السياسية والثقافية المفروضة من طرف فرنسا، ولكن أيضا كرد فعل على أزمة اقتصادية خاصة. وهذا المنعطف هو مؤشر على التحول الذي عرفته المدينة، والذي ابتدأ منذ سنة 1830، من جماعة متجانسة تعيش على الكفاف الاقتصادي إلى ساكنة متنوعة رهينة إلى حد كبير بالعوامل الاقتصادية الخارجية. ويُعَمِّق براون هذا النقاش حول منعطف 1930 المتمثل في الاحتجاج على الظهير البربري ليخلص إلى نتيجة رئيسية وهي أن شباب الحواضر، في سلا والرباط وفاس، حاولوا في حركتهم ضد التدابير الفرنسية الهيمنة سياسيا وثقافيا على البوادي، وصياغة هوية الدولة بشكل جديد، وذلك بالدفاع عن أهل البادية باسم الإسلام، والتأكيد على وحدة الأمة والوطن. ويرى الباحث أن هذه الحركة هي استمرارية لمسار سياسي بدأ في القرن التاسع عشر استنادا إلى الأفكار السلفية والمفاهيم المتصلة بالسيادة السياسية. فقد كان هدف النخبة الحضرية قبيل الحماية، وحركة الوطنيين الشباب احتجاجا على الظهير البربري الذي وضعته هذه الحماية، هو إعادة تحديد طبيعة الدولة بالمغرب. ولذلك يجب فهم التحول الاجتماعي والسياسي بالمدينة المغربية ليس فقط كرد فعل على التحديات الخارجية، وإنما أيضا كجزء لا يتجزأ من دينامية داخلية ممتدة في الزمن، قبل الحماية وبعدها. فالحركة الوطنية الحضرية وقفت في وجه الاستعمار، وفي نفس الوقت حاولت أن تخلق لنفسها موقعا جديدا حيال البادية والمخزن. وفي ختام هذا العرض حول كتاب كينيث براون، أود أن أبدي ملاحظة بخصوص ما شهدته المدينة بعد سنة 1930، أي خارج الإطار الزمني للدراسة، وبالتحديد في العقود الأخيرة. فقد أورد محمد الناصري في تقديمه للكتاب أن أحد رجال الحركة الوطنية المنتمين لسلا صَعُبَ عليه، وهو يتجول بالمدينة، أن يتعرف على وجه من الوجوه السلاوية وسط الحشود “البرانية” التي امتلأت بها الأزقة، مستنتجا أنه كلما اتسع النسيج الحضري إلا وقَلَّ عدد الحضريين. هذه المعاينة التي يرددها، في حقيقة الأمر، الكثير من الناس في المدن العريقة كَرَدٍ على ما يعتبرونه “دخيلا”، “برانيا”، “عروبيا”، تحمل حكم قيمة أكثر مما تحمل ملاحظة سوسيولوجية. فتاريخ المدينة، من الناحية الاجتماعية، هو تاريخ التفاعل بين الأصيل والدخيل، عبر مسار اجتماعي وثقافي تلعب فيه المحاكاة والثروة وتبني اللهجة المحلية دورا كبيرا في عملية الاندماج في القالب الحضري. وقد تنبه كينيث براون إلى هذا الواقع وفسره بشكل جيد في الباب الثاني من الكتاب. فما يسمى اليوم بظاهرة ترييف المدن والخطاب القائل بضرورة توقيف حركة الهجرة إلى المدن ينطوي على الكثير من المغالطات. فالترييف يعبر أولا وقبل كل شيء عن قصور الهيئات المدنية، الرسمية منها وغير الرسمية، عن تنظيم المجال وخلق البنيات التحتية الضرورية لاحتواء الوافدين من القرى، وعجز المؤسسات الثقافية من دور للشباب ومسارح ونوادي وخزانات وجمعيات عن إدماجهم في المدينة ومنحهم الحس المديني المطلوب. فالعالم اليوم هو عالم المدينة بامتياز. وقد صَدَقَ عبد الله العروي عندما قال سنة 1970 في خاتمة كتابه مجمل تاريخ المغرب: “هل نحتاج إلى التذكير بأن التطور سائر لا محالة في اتجاه التمدن والتمدنة، لذا يجب التكيف معه إن لم نقل تشجيعه. فلا فائدة من محاولة توقيفه اتقاء ما يترتب عنه من معضلات. لكن بما أن وتيرة التمدنة ستكون باستمرار أسرع من وتيرة التصنيع، فلا مناص من إنشاء مؤسسات تأطيرية تكون فائدتها اجتماعية أكثر منها اقتصادية”.