عبد الله العروي، الآفة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 2006
I- مضمون الآفة:
1 – حبكة النص:
تفاصيل القصة تبدأ مع حالة مرضية شاذة سجلها طبيب مغمور في مدرسة جون ديوي بدربون في إحدى الضواحي الجنوبية للولايات المتحدة حيث سجل مارتن روس الطبيب المتخصص في الجهاز العصبي أن تلامذة وأساتذة المدرسة –التي يتكون معظم أفرادها من أبناء الجاليات المهاجرة إلى أمريكا- أصبحوا يعانون من ظاهرة مرضية؛ أو آفة النسيان. كتم هذا الأمر لسنوات، وفي احد الأيام استدعى الطبيب إلى إحدى الجامعات ليلقي محاضرة يشرح فيها مضمون هذه الظاهرة، وبعد المحاضرة تنطلق حبكة النص تتشابك الأحداث وتتطور في اتجاهات مختلفة.
أخذ الأمر محمل الجد من طرف المسؤولين ومن طرف الباحثين المتعددي التخصص. وعوض أن تحصر الأزمة في الجنوب الأمريكي (بل في أمريكا) توسعت الحبكة لتعاش تفاصيلها في الشرق، وكذلك في المغرب حيث ظهر أن الآفة ليست مرضا عاديا قابلا للتشخيص العادي فكان لا بد من إجراء تجارب.
وفي هذا الإطار أجريت تجربة على عنان وعلى هلال كروم وعلى زكي خليفة، وكان لا بد من حل أو علاج حتى لو اقتضى الأمر البحث عنه في آخر الدنيا. ولعل المحرك الرئيسي لأحداث “النص” هو: المبدأ الأمريكي القائل بضرورة “الاحتراس” من الجميع، ومن المستقبل الآتي وهذا هو الضامن للبقاء. كما أنه وفي ظل التقاليد الأمريكية كان لا بد من خطة علمية محكمة.
وهكذا وضع مجمع الأكاديمية مشروع ميفلاورII ذي الأبعاد الخمسة، وأهم أبعاده مشروع هاجر، الذي استدعي في إطاره زكي خليفة وهلال، ومنه فإن الهدف العام هو البحث في الأصول وفي السلالات البشرية عن أصل الداء.
وتنبغي الإشارة كذلك إلى أن الآفة اتخذت مظاهر مختلفة على أن هناك عنصرا يجمع بين هذه المظاهر المختلفة ويمكن إجمال أعراضها في أربع حالات :
الحالة I :
مظاهر الآفة عند أفراد مدرسة ديوي: تنبغي الإشارة إلى أن التلاميذ بغتة وهم داخل الفصل يتيهون عن الدرس، التلاميذ حاضرون بأجسادهم في قاعة الدرس “والذهن سابح في أثير مجهول” ص114. أما أساتذة المدرسة فيشتكون من مرض الغيبة والتيهان. أصيبوا بضعف القدرة على التقاط وهضم وفهم ما يلقن لهم من أفكار. وللإشارة فكل أفراد المدرسة هم من الفئات المهاجرة من الشرق/ إفريقيا (أرض الخصاص) نحو أمريكا.
الحالة II :
شخصية هلال كروم ذي الأصول المغربية (من أرض المور)؛ وهو شخصية تعلم، وتفوق في دراسة العلوم الرياضية، وتخرج من إحدى المعاهد الأمريكية (في أرض المغرب) كمهندس زراعي؛ أما مظاهر الآفة عنده فتتجلى في ما بات يصيبه من تيه، وسهو وهذيان، فجأة يغيب (كأنه أصبح صاحب أطوار، أو قل أنه تصوف ! رفض هلال منطق الرياضيات. كما أنه أصبح ميالا نحو الطرب).
الحالة III :
يلخصها الدكتور ايطاكا يوشير؛ الطبيب ذي الأصول الأسيوية (اليابان)، الذي “اكتشف في بلده عجزا وراثيا عن التقاط بعض الأصوات، منها خرير الموج” ص145. وما يجعل هذه الحالة ذات أهمية، كونها ظاهرة صعبة التشخيص (تماما كحالة مدرسة ديوي في أمريكا)؛ إنه صمم، إنه عجز عن التقاط صوت الطبيعة، صوت البحر (المنفذ/النافذة على العالم)، أصاب أجداد أبناء الجزر اليابانية. هذه حالة الأجداد، فما حالة الأحفاد اليوم، النهار لا يحتاج هنا إلى دليل إذ عندما قارن ايطاكا الأجداد بالأحفاد توصل إلى وجود فارق، فعلق روس: “الاختلاف إذن محقق” ص141، أي لقد اختلف الحفيد عن جده. أو بالأحرى تقول “خالف الابن أباه”.
الحالة IV :
تجسدها حالة فاتن بيلاك، الجرمانية الأصول، والمتخصصة في دراسة الموسيقى، نشأت و تربت في تركيا في أحضان أم تغذت من أصول بيتهوفن، سافرت فاتن بعد أن تعرفت على عنان رستم إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسة الموسيقى، وأحبت عنان، سايرته في مواقفه و أفكاره وفي مناقشاته. مرت مدة، وصلتها من أمها رسائل تلح عليها بمغادرة ارض المغيب لتعود إلى بلاد أمها، بلاد الموسيقى. تأنت قليلا، وفجأة اقتنعت أن رفيقها مراوغ، وأن العلاقة لن تتطور فوجب الحسم، دخلت فجأة إحدى الحدائق العمومية، واسترخت وفجأة غابت فسمعت صوت “نداء” حينها تمكنت من اقتناص النغمة، النداء الأصيل، نداء ألمانيا، نداء الجرمان. عودة في اتجاه المنبع.
وهكذا تتحقق لدنيا أربع حالات لأجناس مختلفة، حالة المغربي المشرقي هلال الذي درس وتعلم وفق المناهج الدراسية العصرية لكنه عجز عن التقاط نغمة/منطق علم الرياضيات لأن طبعه (ثقافته) دفعته في اتجاه علم الرياضة.
وحالة تلامذة ديوي ذوي الأصول (الشرقية الإفريقية المهاجرة) الذين عجزوا عن مسايرة منطق العصر، فعجزوا عن التقاط نغمة التطور، وعجزوا عن الاندماج في الثقافة الأمريكية، ثقافة الفكر الفردي المتحرر من قيود التقاليد ولم يستطيعوا المغامرة، فتعطلوا إن لم نقل أنهم عطَلوا.
ثم نجد حالة الأسيوي أو الياباني ايطاكا الطبيب الذي توصل إلى وصف مرض أصاب أجداد بني جلدته، العاجزين عن التقاط لغة الطبيعة أو لغة البحر/أو لغة الانفتاح على العالم لردح من الزمن، لكن الأحفاد نجحوا في ذلك.
وأخيرا حالة فاتن الجرمانية الأصول، التي كادت تضيع مجد أمها لو سايرت عنان، إذ في لحظة ما تمكنت من اقتناص النغمة/ إن الموسيقى هي علم ويجب أن يدرس في مرتعه، وأنه يجب الفصل : أن تختار الموسيقى أم طرب عنان – فاختارت الموسيقى.
هذه ملاحظة أولية يمكن تعميقها بعدئذ؛ ويحق لنا أن نطرح منذ الآن سؤالا ملحا. أحجم عنه ايطاكا وأحجم عنه كوون (باحث الانثرولوجيا)، ولم يكشف عنه روس، وقد ألمح إليه الأستاذ هاريس وكذا ايمي: ما الكابح الذي جعل العلماء يسجلون عجز هذه الفصيلة (أو هذا الجنس) دون غيره ؟
2- اتجاهات النص:
إن هدف /مضمون الآفة كما عرضناه في الأسطر الأولى يقودنا إلى اتجاهات لا بد من تعميق النظر فيها ويمكن تسطيرها كالآتي :
1- الآفة تعادل النسيان أو العجز عن اقتناص نغمة معينة، الآفة في تعبير الأمريكي مرض لا بد من تشخيصه بمنطق العلم بمختلف تخصصاته، والمشكل في نظر العلماء: مشكل يتجسد في الأصل (الجنس الفصيلة)، لأن مشكل مدرسة ديوي، هو مشكل فئوي (أصاب فئة أبناء المهاجرين إلى أمريكا)، وهكذا ظهر إلى جانب الطبيب روس دور كوون العالم الباحث الاثنولوجي الذي اقترح جلب عينات نموذجية من أماكن أصول المهاجرين (خاصة من المغرب؛ ارض الخصاص)، لكي تعرض وتقاس وتدرس بآليات وآلات العلم والطب الحديث، وفي هذا الإطار أجريت تجربة على عنان رستم (من أصول شرقية – تركية)، وجلب هلال كروم (المهندس/صاحب الأطوار)، وجلب زكي خليفة إلى أمريكا. لكن ماذا تحقق بعد إجراء التجارب: في حق عنان قال روس : “فتى غير صالح، لا فائدة منه، العمق غير كاف” ص71 غير صالح، لكنه اقرب إلى النجاح ؛ لأنه لقح بتربية جرمانية، لكنه ظل صامدا في أمريكا.
ولما أجريت التجربة على هلال، ولما أًشرب الحبة الطبية هلل جميع أعضاء المجمع العلمي يقول الراوي : “حضر هلال كروم، أجريت عليه التجربة. أطعم الحبة وأدخل ماكينة ايطاكا… ايطاكا يصف، روس يعلق، كوون يؤول، الكل يهلل” ص151. نجحت التجربة مبدئيا. لكن الفتى غادر الحياة وعاد إلى موطنه في لحد.
ماذا بقي لهم، أمامهم حل واحد هو الرجوع إلى زكي خليفة؛ حتى وإن تأكد عدم نفعه. وآخر حل هو خلط الحبة الطبية بالسفوف؟! كل شيء مباح، كل شيء ممكن في نظر العلم. وهنا لا بد من مسايرة طرح الرواية أي لا بد من أن نقلب ما يبدو لنا طبيعيا مقبولا: فما يصرح به أعضاء الأكاديمية ويسمونه نجاحا للتجربة، فيجب أن نسميه نحن القراء إخفاقا وفشلا ذريعا بل آفة حقيقية واضحة غير خفية، لأنه لو قالوا إن عنان رستم فتى صالح، حينها يحكم على التجربة الكمالية بالفشل الكلي، النجاح يعني الإخفاق (العجز)، هذه خلاصة يجب أن نعيها جيدا.
2- لتشخيص الداء، داء العجز أو النسيان عمد العلماء إلى إنتاج حبة (عقار طبي) يعطى لكل من استدعي من أي فصيلة قبل أن تجرى عليه تجربة علمية دقيقة. كانت الحبة سلاح الطبيب روس. نجحت الحبة عندما أعطيت لهلال كروم ليشربها. وفيما عداه لم تؤد إلى نتائج حاسمة. ما يستفاد منه أن الحبة هي ما يعكس منطق علم الكيمياء الخاضع لعمليات علمية دقيقة، إذ أن أحد أوجه الطب الحديث هو إنتاج العقاقير الطبية، وتطور الصيدلة بعيد الثورة العلمية للقرن العشرين هناك في مهد الثورة لا بد من الإيمان بمفعولها.
ولنا مع الحبة وقفة في ثلاثة محطات ذات مغزى :
قيل عندما جاء المندوب (بالمر) إلى المغرب “أنه ألقى في الآبار حبة: أتى بها من ارض الخصاص والصحيح أنه غير الحرف فانقطعت بذلك السلسلة” ص75 (على لسان الصابونجي)
– في أمريكا تمكن علماء الكيمياء من صنع حبة: “قالوا إنها سحرية” لكنها “أثرت في الأغلبية دون الأقلية” ص 145.
– بعد خيبة أمل روس من أمر الحبة “أوصى صديقه كوون بأن يستبدل “الحبة” بالسفوف. أمعقول إذن أن ينجح السفوف وتفشل الحبة ؟ الحبة ثمرة جولة داخل جسم البشر، والسفوف ثمرة رحلة على وجه الأرض. أليس هذا قلب للمعتاد. الحبة معادلة منطق العلم والسفوف معادلة منطق تجريب (الاعتياد) /منطق التداوي بالإعشاب/منطق التقليد والطبيعة. ينفع السفوف حيث تفشل الحبة ؟ إنه انتقال وتناوب بين جسم الانسان والطبيعة. يدرس الجنس البشري كما تدرس الجغرافيا التي يدب فوقها. منطق المناظرة بين العلم والتقليد.
3- الاتجاه الثالث الذي يقودنا إليه مضمون الآفة هو المقارعة بين طرفي نقيض، إنها المقارعة بين “الفرد في أمريكا والفرد في غير أمريكا” وإذا شئنا التعميم الفرد الذي هو جزء من ثقافة ومن جماعة أو من فصيلة (جنس معين) لدينا المجموعة الأولى، والمجموعة الثانية.
الأولى مجموعة ذوي الفرص القادمة من رحم الصدفة، مجموعة حيث الفرد يحقق فتوحات وانجازات علمية. انظر مثلا حالة المندوب بدأ حياته باحثا متواضعا، تحول بفضل مجهوده العلمي إلى قنصل، وروس من طبيب مغمور مشرف على إحدى المدارس إلى باحث أكاديمي مشهور، وكوون المحافظ في متحف تحول إلى باحث/عالم أجناس له رأي ومكانة… فتح يتبعه فتح آخر وباب يؤدي إلى باب آخر.
أما المجموعة الثانية، مجموعة أبناء الشرق. فيمكن وصفهم بالعائدين إلى حيث المنطلق؛ هلال تربى وتعلم وتخرج مهندسا وفي لحظة ترك الجميع وعاد إلى أحضان/الأصل حضن الأم، حضن الزاوية حضن الأب.
والفتى الأشوري رفيق أدريانا، تعلم ودرس الفن الحديث (فن الحرية والانطلاق) رافق أدريانا الفنانة، وفي لحظة ما، قرر العودة تاركا أدريانا لوحدها عندما حلت ساعة الحسم. أنصت لنداء الآباء، عودة … و قس على هؤلاء مسار العودة (الاستقرار) لدى زكي خليفة، ولدى الخليفة، ولدى الصابونجي، وبشكل أقل حدة عند عنان وزينب سعدان.
أمكننا الحديث عن الفرد الناجح بشرط معاكسة طريق الآباء والأجداد فنجاح بالمر الثالث ارتبط بمعاكسة التيار، غير الاسم، وغير اللباس… وانطلق فمن بإمكانه ثنيه عن مساره. وقس على بالمر، مسار روس، ومسار كوون… ومسار عنان رستم الذي خالف أباه أيضا… وكذا مسار ايمي وليمز.
كما أمكن الحديث عن أزمة الفرد الشرقي التائه أو الفرد المكبل، العائد إلى موطن الأصل. من زينب سعدان إلى هلال. هلال عائد إلى إرث الزاوية. الصابونجي إلى نغمة الطرب… ويمكن لفكرة النغمة (الطرب والموسيقى أن تكشف تضاربا من نوع آخر بين الأجناس).
4- بين الموسيقى والطرب بون شاسع، الموسيقى معادلات رياضية، الطرب نغمة رجة وهزة. والاعتقاد في هذه أو تلك يعكس تربية وثقافة الفرد إن لم نقل فصيلة الفرد الشخصية ولنا أن نقف عند نماذج: نموذج الصابونجي ذي الأصول التركية، كلف ليدرس الموسيقى في “المعهد” الذي أسسه الأمريكان في المغرب. وعوض أن يلقن لطلبته المبادئ العلمية والذوقية لعلم الموسيقى، مال إلى تعليمهم مبادئ روح الطرب والنغمة. انحلت الموسيقى طربا. وهذا عنان سليل التقاليد الجرمانية، والأصول التركية يرث ما ورثه الصابونجي وإن اختلف الوسط التربوي، والوسط الأسري، والوسط المعيشي لكل منهما. لكن الأصل واحد. وهنا أحد الأخاديد التي خدشت ذاكرة الفرد الشرقي.
وهذا هلال ما أن رفض منطق علوم الرياضيات المعادلاتي، حتى انعكس عليه ذلك ميلا نحو الطرب الذي يخضع للروح ولا يخضع العقل. وأخيرا تأتي فاتن بيلاك رضيعة بيتهوفن لتعلن اتجاها مغايرا، يصرحون الطرب/الموسيقى روحانية. وتقول هي: الموسيقى حرفة، جد، لا هزر. الموسيقى في نظرها حرفة، حياة، ومصير. و ما ان تأكدت من أن رفيقها عنان يميل إلى الطرب دون الموسيقى حتى انفصلت عنه. التقيا بسبب الموسيقى، وافترقا بسببها، يراها عنان : “خطاب الأرواح كلما انعقد اللسان” وتراها هي : “ثقافة ومهنة” ص161. وهاهي فاتن تصرح منتقدة عنان : “عنان الحكيم، لازال يدندن نغمة أغنية شعبية” ص220.
II – المرأة أي تجربة ؟
من يطالع نصوص العروي الأدبية سيكتشف حتما أن هناك حضورا للمرأة. والمرأة المتعلمة بالذات. لدينا داخل النص “رحمة” التي اتخذتها أدريانا نموذجا علامة تستحق البحث لما رشم على جلدها من أوشام تستهوي الباحث الانتربولوجي.
ولدينا زينب سعدان التي كادت أن تكون نموذجا للمرأة العصرية، كادت أن تكون نواة الأسرة والمجتمع العصري، لكنها وقفت هذا المشروع لأنها مالت في النهاية إلى هلال وتركت زكي خليفة، زينب هي نموذج للمرأة العصرية ذات الصورة المزدوجة، “صورة تختزل الفصول و تناعي اللاوعي” ص36.
وهذه الصورة المزدوجة يمكن أن نقيس بها صورة نورا كليف كذلك، والتي رغم سفرها، ورغم تعلمها، ورغم أنها غيرت الاسم (وهذه خطوة جبارة)، بقيت تحمل سمات التردد إذ نجدها تعترف عن نفسها قائلة : “أعيش بين مد وجزر”، هي في منزلة بين المنزلتين.
وبقيت لدينا سلطانة بناصر التي قررت يوما المغادرة، فاختفت، كما اختفت مارية في نصوص العروي الأخرى. رمز المغامرة هي المرأة هنا.
وارتقت إيمي وليمز الأمريكية إلى مرتبة عالية، إذ أعطاها الراوي كلمة الفصل في الرواية؛ وهي الصورة النهائية للغرب، تنصح، تعاند، تغامر، تواجه الجميع بلا كلل ولا ملل. “تطرق كل سبيل وتلج كل باب” ص98، إيمي التي “تفجر الماء من الصخر حتى في قلب الصحراء” ص188، إيمي هي التي لخصت مجمل الأحداث والتطورات التي عاشتها شخصيات الرواية، وهي تلخص موقف الامريكي من الآخر (الشرقي، المغربي، الأسيوي) : “زكي تهمهم، انت واخوك أو زميلك الأقرب، بسبب خصيصة فيك… لا تسأل فقط (ماذا لحق ارض المغيب) بل اسأل كذلك (ماذا لحقني أنا وزكي خليفة؟) ص208. ايمي هي لسان الامل، الحل، هي النقطة الحساسة في موضوع الرواية.
ولا تقل ادريانا فنيش الرسامة الفنانة طموحا، كما لا تقل عنهما فاتن بيلاك ابنة غادرين مينهوف، فكلاهما نموذج للطموح والوفاء لمنطق العقل، وكلاهما فارقت رفيقها بعد أن تأكد لهما أن لا نقاش عقلي يستقيم مع الابن الأشوري بالنسبة لأدريانا، ولا عنان بالنسبة لفاتن.
إيمي تجربة الأمريكي الذي فهم اللعبة، لعبة أمريكا، لعبة الشرقي.
فاتن تجربة الجرمان الذين عانوا وعاشوا تجربة تاريخية مريرة، لكنهم انعتقوا بعد أن انتصروا، فقالوا إن المستقبل في عمل العقل، (هنا تمكنت من إدراك النغمة).
وأدريانا هي صورة مزدوجة لايمي، ولفاتن، فهي من أصول جرمانية كذلك، هي ابنة ألمانيا المنتصرة، وهي رمز النجاح العلمي الأمريكي.
III – ملاحظات وعتبات نصية :
1- ملاحظة تخص “خطة” السرد، حيث تغيب في النص لغة الأحاسيس والعواطف والمشاعر؛ ولا يخفى على قراء العروي، أنه القائل على لسان ادريس : “الحب نوبة ضعف” “الحب مصاب” فباستثناء مشهدين معبرين (مشهد تقرب ايمي الاندفاعي–العاطفي من زكي خليفة، وعطف عنان وحبه الثاني لنورا كليف) نكاد لا نجد في النص علاقات وئام عاطفى. شح في العواطف.
هنا يمكن أن تترسخ لدينا فكرة أن نص الآفة يكاد ينقلنا إلى عوالم البحث الأكاديمي المضني (كأنك تقرأ بحث في العلوم الاجتماعية فنجد حفريات عن شخصيات متعددة بأسلوب المنوغرافية…)، لكن لا يجب أن لانغفل أن المتعة حاضرة في لحظة نكون فيها في حالة من يقتنص نغمة النص، على القارئ والحالة هذه أن يقوم بمرايضة النص، أي محاولة الكشف عن اللعبة الذهنية للرواية… فهي رواية تصب في اتجاه التجريب، والبحث عن موضوع يؤرق الذاكرة (أو الوجدان) المفقودة (الذاكرة التائهة/التي تتعرض للغفلة والسهو، إنها ذاكرة الفرد الشرقي (او العربي) المثقف.
2- لغة النص لا شك متراصة، متينة. فهي في نظري لغة تميل إلى التجريد وإلى اللمسة السوريالية التي لا تفارق الواقع. وأحيانا تميل الى التمويه، الكشف والإخفاء والتلاعب بالكلمة (“الرجفة”، “ارض المور”، (المغرب)، ارض الخصاص، “شط المغيب/ارض المغيب” (امريكا)، وبلد المغيب (المغرب)…
و تم في النص استعمال لغة تاريخية لتسمية وسائل النقل (طبعا لأنها استعملت في بيئة تقليدية)، ولغة “الرمز المتعمد” بهدف إشغال ذهن القارئ وجعله متيقظا، فالطائرة “سلطار” و”الباص” (علاق)، والمنظار (مقراب)، والناقلة (جرار). الكتابة هنا : تشكيل، تشفير، وترميز، و تخيل مضاعف، اللغة هنا لعبة.
3- الجو العام للنص: يأخذنا ويأسرنا برهة، فنحس أن ضغطا خارجيا يمارس على الشخصيات التي برزت على مسرح الأحداث منذ البداية، وأحيانا يصبح الفرد “مشيئا”، “عنتر تمثال واقف” رحمة واقفة مشدوهة كالتمثال .مرغمة على الحضور إلى تجارب ادريانا. هلال الذي بعث الى امريكا موجها، هدية، بل طرد. “يقول زكي عن نفسه: “أو لم أرسل طردا ملفوفا في قفص مقفل في ارض المور” ص64، لقد اخضع الآخر (الأمريكي) الآدمي (الأجناس) إلى منطق التجريب، هذا واقع مكشوف. هناك الأنا وهناك الآخر الذي يسمع ويعمل، يبحث ولا يكل، ينصت، يخطط و ينفذ. لا أخلاق، بل منطق العلم ومنطق الاقتصاد.
IV – تقاطعات سردية :
هناك تقاطعات سردية بين نص الآفة ونصوص العروي الأدبية الأخرى، وتستحق في نظري تعميق النظر. لكن سنكتفي هنا بالإشارة إليها وهي كما يلي :
1- في نصوص العروي الأدبية نجد حضورا للمدينة في ثوب مزدوج مدينة عامرة ومدينة خربة، وفي الآفة لا تغيب هذه الفكرة “البصرة مدينة متهدمة غبراء، بئيسة تعيسة، ألوان أهلها مصفرة كاشفة، تنوء بثقل اسمها العتيق” ص84، المدينة العربية نموذج/ وصورة لأصحابها، المدينة رمز الثقافة، وإذا ازدهرت فبأهلها، بعلمها، بتجارها واقتصادها. هذه البصرة، وتلك إحدى مدن أمريكا: “مدينة ذائبة النشاط” ص128.
2- في رواية غيلة مثلا: تحضر التجربة الكمالية، وهي تجربة رائدة في الوطن العربي الإسلامي، كانت خالدة نموذجا للمرأة التي تغذت من تجربة مصطفى كمال. وفي نص الآفة تحضر نفس التجربة ولكن هذه المرة بصوت ذكوري، فعنان رستم نموذج لتجربة مصطفى كمال، آمن بالتغيير، وآمن بنجاح التجربة ودافع عنها. وإن لم يكن عنان فتى صالحا في نظر الطبيب روس، فهذا يعكس مدى نجاح التجربة.
3- يحضر في نصوص العروي نموذج الطبيب، ففي نص اليتيم نجد طبيبا أوربيا يشتغل بمهنته لكنه متخصص في دراسة أعمال المفكر الاسلامي ابن مسكويه. بتعبير آخر لا يمنع العمل الفرد لكي يتابع الثقافة فهنا نجد طبيبا باحثا. وفي الآفة نفس التجربة بحيث يحضر بشكل واضح عند مارتن روس، كان طبيبا مغمورا وتحول إلى باحث مشهور.
4- العنونة : من يحسب اعداد فونيمات عناوين روايات عبد الله العروي، سوف يقف لا محالة على ملاحظة مفادها أن هذه العناوين مختصرة ومختزلة، في أوراق (خمسة أحرف) في الغربة (ستة أحرف) في اليتيم (ستة أحرف) وفي غيلة (أربعة أحرف) وفي الآفة (خمسة أحرف). وأطول عنوان في روايات العروي لا يتعدى ستة أحرف، لمسة لغوية تحمل إشارة إبداعية.
5- طرح مسألة التربية، عندما تصاب (بآفة)، وطرح مسألة الثقافة عندما يتصارع في اعماق الفرد العلم والتقليد، الحداثة والأصالة، الانطلاق والانتكاس.
والحالة الأولى أي مسألة التربية طرحها العروي عند شعيب وإدريس، وعند نعمان في رواية غيلة، وهاهي تحضر في الآفةفي مدرسة ديوي، وفي معهد المشير.
أما الحالة الثانية أي مسألة الثقافة فهي مطروحة في الآفة عند هلال كروم بالذات، فرغم تلقيه تعليم عصري فضل الرجوع إلى الأصالة (التصوف). وهذه الفكرة الأخيرة هي مفتاح قراءة نص الآفة و قراءة نصوص العروي الأخرى، ولنا أن نقف قبل الختم عند السؤال الذي أجلناه في بداية هذا التحليل: ما الكابح الذي يعرقل مسيرة الفرد في النص ؟ هل الكابح هو الفصيلة أي الجنس الذي ينتمي إليه الفرد؟ أم أن المسألة لا تعدو أن تتلخص في ثقافة الفرد؟ إن هذا السؤال هو الذي يقودنا إلى عقدة نص الآفة.
V – عقدة النص :
العقدة أو المضمون كما عبر عنه العروي مرارا هي الفكرة أو الحلقة المفقودة التي نقول إنها مشكلة. وهنا يمكن القول إن هدف الرواية هو طرح مشكلة إمكانية أو استحالة تطور الفرد (الشرقي أو العربي عموما) سلوكيا وذهنيا ووجدانيا، ليعانق الفكر العلمي الحديث، فهل يستطيع أن يتطور أم يتعذر عليه ذلك؟ مشكل أرق ويؤرق الفرد المثقف خاصة، وهذا مشكل حاضر بقوة في نصوص العروي.
أما الثوب الذي غطيت به الرواية فهو ثوب الجنس (أو فكرة الأصل والفصيلة) وهي فكرة حاضرة عند الآخر (الغربي أو الأمريكي) الذي فتح الأبواب أمام علمائه للبحث في أصول الشرقيين في (عاداتهم، ثقافاتهم، أصولهم، الوشم…) لمعرفة ما يميز هذه الفصيلة من الآدميين ولهذا أقيم معهد في المغرب، ولهذا ظهر بالمر، وظهرت أدريانا وكلاهما باحث في علوم الأجناس.
والأمريكي في أي مكان وضع فيه لا يعرف إلا الجد، الحركة والنشاط. وفي أرض المور (ثورة ثم سكون) هذان الجنسان مختلفان. وهذا الاختلاف بين الأجناس أو مسألة الأصل طرحها العروي كذلك من جانب آخر، فعنان رستم مهندس، وزكي خليفة عالم أرصاد، لا يقلان ذكاء عن علماء الغرب، وهما مشرقيين. وكلاهما أي عنان وزكي مثقفان، بمعنى درسا العلوم الحديثة وتشبعا بها ويمكن الإتيان كذلك بنموذج إدريس.
وإذا قال علماء أمريكا أن زكي خليفة غير صالح فهو الصالح في أمر الواقع. المشكلة مشكلة نخبة مثقفة، وزكي هو الأمل في الرواية. وهاهي الشهادة تأتي باعتراف من الغرب نفسه الذي أنكر على غيره التطور (حتى ولو رأوا في عنتر تمثالا). فهاهي ايمي الأمريكية تنادي بأعلى صوتها : “النجاة بأصحاب الفضل، بالنخبة التي تستطيع وحدها انقاذ اكبر مغامرة جادت بها الطبيعة، أي الإنسان”. الأمل إذن في النخبة. المشكل مشكل ثقافة. الآفة آفة تربية. لا تكبلوا الفرد. دعوه يسبح ضد التيار. دعوه يغير الاسم، يغير حرفة الأب، يعاكس الجميع…
خاتمة :
الآفة، مرآة نرى فيها أنفسنا من جانبين، جانب النفس وجانب الذات انعكاس لا نستطيع أن نتنكر له، منا وعلينا. عندما نتمكن من تغيير ما بدواخلنا سنكون آنئد في وضع جديد، نتخلص حينها من آفة الفصيلة. هذه أزمة الفرد التي تخفي أزمة الجماعة. ما يخشاه الآخر هو أن تنتقل عقلية الجماعة التقليدية إلى تربته وتعيق تطوره بما تأتي به من أفكار وتقاليد.
لذلك كان الحل هو “الاحتراس”. ولا ينبغي أن ننسى أن الغرب اتخذ حلا آخر إزاء أجناس الهنود وهو الإبادة، فمن يمنعهم هذه المرة لاتخاذ حل الإبادة إزاء أجناس أخرى ؟