رحل في شهر أبريل من هذه السنة المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف المختص في القرون الوسطى الأوروبية، الذي نعتته وسائل الإعلام والأوساط الثقافية بـ “المؤرخ الغول” أو “بابا العصر الوسيط” في إشارة إلى مدى التأثير المعرفي الكبير الذي مارسه في مجال البحث التاريخي بشكل عام، والبحث في المرحلة الوسيطية من تاريخ أوربا على نحو خاص. فمنذ كتابه الأول “مثقفو العصر الوسيط” (1957)، الذي ثمنه فيرناند بروديل ففتح له باب الجامعة، وأطروحته التي عالجت التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لأوروبا خلال القرون الوسطى من خلال “التجار والمصرفيين” (1957)، أبان جاك لوغوف عن قدرات معرفية ومنهجية كبيرة مكنته من احتلال مكانة خاصة في مدرسة “الحوليات”.
خلال السبعينيات من القرن الماضي فرض جاك لوغوف وجوده على هذه المدرسة، من خلال تسييره لمجلة “الحوليات” ولـ “مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية” (ابتداءً من 1968 و1972)، وإشرافه على عدد من المؤلفات الجماعية مثل “صناعة التاريخ” (1974) و”التاريخ الجديد” (1978)، حيث فتح نقاشا مثمرا حول مهنة المؤرخ، ونحا بالبحث التاريخي نحو الأنثروبولوجيا التاريخية التي عُرِفت بـ “التاريخ الجديد” كتوجه في الدراسات التاريخية، منفتح انفتاحا كبيرا على العلوم الإنسانية المجاورة، إذ ساهم فيها عدد كبير من المؤرخين والباحثين. وموازاة مع ذلك، استطاع جاك لوغوف أن يمنح للتاريخ والمؤرخين واجهة مرموقة في وسائل الإعلام ودور النشر، من خلال تنشيط برامج ذات صبغة تاريخية في إذاعة فرانس أنتير “إثنين التاريخ”، والإشراف على سلسلة “مكتبة التواريخ” بدار النشر غاليمار.
خلَّف جاك لوغوف، الذي أتقن لغات أوربية كثيرة منها الألمانية والإيطالية والإنجليزية، ما يقرب من أربعين مؤلفا تتوزع بين التاريخ الاجتماعي، والأنثروبولوجيا التاريخية، والتاريخ والذاكرة، وعدد من المؤلفات الجماعية في قضايا ذات قيمة منهجية كبيرة. وكل هذه المؤلفات جمعت بشكل ذكي بين صرامة المؤرخ وإبداع الكاتب. لكن ما تثير الانتباه في هذا الكم الهائل من الإنتاج المعرفي الذي لم ينقطع وقد ناهز هذا المؤرخ التسعين سنة هو ذلك الخيط الناظم الذي يخترق معظم دراساته، ألا وهو مراجعة التحقيب التاريخي. فقد ألح في مناسبات كثيرة، وفي مؤلفات مخصوصة مثل “القرون الوسطى الطويلة” (2004) أو في كتابه الأخير “هل يحق تقطيع التاريخ إلى مراحل؟” (2014)، على ضرورة إعادة النظر في تحقيب التاريح ومعالجة التاريخ الوسيط من منظور البنيات الثقافية، أي العقليات والسلوكيات التي لم يحصل فيها تغير كبير خلال مرحلة النهضة في القرن السادس عشر. بمعنى أن التحولات الحداثية التي حصلت في هذا القرن كان أثرها محدودا في أوساط البورجوازية، ولم تشمل باقي الفئات الاجتماعية إلا ابتداءً من القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية التي قلبت المجتمع الأوربي رأسا على عقب على مستوى البنيات المادية والثقافية على السواء، وأدخلته في العصر الحديث.
—————————————————
أهم مؤلفات جاك لوغوف
- Les intellectuels au Moyen Age, Paris, Le Seuil, 1957.
- Marchands et banquiers au Moyen Age, Paris, Le Seuil, 1957.
- La civilisation de l’Occident médiéval, Paris, Arthaud, 1964.
- Faire de l’histoire (dir.), 3 vols, Paris, Gallimard, 1974.
- Pour un autre Moyen Age, Paris, Gallimard, 1977.
- La Nouvelle Histoire (dir.), Paris, Retz, 1978.
- La Naissance du purgatoire, Paris, Gallimard, 1981.
- L’Imaginaire médiéval, Paris, Gallimard, 1985.
- Histoire et mémoire, Paris, Gallimard, 1988.
- Le XIIIe siècle : l’apogée de la chrétienté, Paris, Bordas, 1992.
- Histoire du corps au Moyen Âge, Paris, Liana Lévi, 2003.
- Un long Moyen Âge, Paris, Tallandier, 2004.
- Le Moyen Âge et l’argent: Essai d’anthropologie historique, Paris, Perrin, 2010.