مينة مادني، “موت الفوات: يوميات الحداد اللايبلى“،
بمشاركة عبد الرحمان المودن، الرباط، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2013.
بداية أطلب منكم أيتها السيدات، أيها السادة، أن تسمحوا لي فسأدخلكم معي إلى عالم من الأحاسيس الجياشة التي أمسكت بي وتملكتني وأنا أستعد لتقديم هذه المحاولة المتواضعة أمامكم…ففي ذلك نوع من التقاسم والكثير من الاحتياط.
التقاسم حتى تتعرفوا على تلك الرهبة التي أخذت بلبّي وأنا أعيد قراءة يوميات حداد صديقيّ مينة وعبد الرحمان، وهي يوميات كتبتها مينة بالألم وبالحسرة وبالتأمل…فامتزجت الرهبة فيّ بالخشية، وفكرت مراراً في أن أعتذر عن الحديث في كل هذا الذي اختلج في وجداني وأنا أعيد قراءة هاته اليوميات الأليمة، إذ لم أسلم من الحسرة العميقة والأسف العارم، وهما يعادان أمامي بدون توقف، ويطرحان عليّ السؤال تلو السؤال، وأنا التي اعتدت على الاختباء وعلى التهرب من كل هذه السطوة الخانقة حين يتعلق الأمر بي وبخصوصيات مشاعري مهما عصف بيّ مصاب. وكيف بيّ الآن وأنا مدعوة إلى الحديث عن معاناة صديقتي مع لهيب الفقدان ومع آلام غدر الموت…كيف بيّ وقد أنكأ الجراح التي غارت في القلب منذ عشر سنوات وما زالت تنزف؟؟ من هنا خشيتي، ومن كل ذاك رهبتي.
أما الاحتياط، فأطلبه منكم، لأن هذه القراءة التي أنجزتها بكل ما بحت به قبلاً، هي قراءة لا تخضع لمعايير محددة ولا لخطوات معروفة عند كل من يدخل هذا الميدان متسلحاً بالمنهج وبصرامة مراحله وخطواته. سأقدم هذه المحاولة وأنا أعتبر نفسي مقتحمة لمجال يسكنه أصحابه من الأدباء والنقاد. لذلك احتاطوا مني، فقد أعلنتها. فقراءتي ليوميات حداد صديقيّ تحوطها الرهبة، ويغذيها الإعجاب والاحترام. احترام المشاعر، والإعجاب بالشجاعة. فتلك أدواتي.
كتاب اليوميات:
وأنا أتلقى مع زوجي هذا الكتاب بإهداء صديقينا، “في ذكرى كل ما وقع وكل ما لم يقع” مُوَقّعاً منهما، ومحملاً بالمودة التي نسجتها عقود الزمن بيننا؛ سرت فيّ مشاعر لهفة الاكتشاف والتعرف على مضمون العمل الذي يظهر منذ غلاف الكتاب مشتركاً بين الزوجين المكلومين. فحملته، منذ أمسكت به، بحرص شديد، واختليت بنفسي أقرأه، فإذا به يمسك بي، ويرمى بيّ في لجة عارمة من المشاعر والانطباعات والتداعيات، تركت آثارها فيّ…وها أنا أصرّح ببعضها أمامكم:
– كدمات لن تُمحى: هذا اللون البنفسجي الداكن الذي يغلف اليوميات، إنه لون الكدمات القوية بعد أن تحول من الأزرق بفعل مرور الوقت، كدمات قاسية تلقاها الجسد الهانئ على حين غرة، وتركها تجرفه، تملأه حتى غاص فيها غير مبال بالآلام التي تنشرها في جميع أنحائه وتصل إلى الروح. هذا اللون بالذات جعلني أشعر بسطوة الألم وثقله الخانق.
– سكينة مفتقدة: وسط هذا اللون الجارف تظهر صورة جانبية بلون أقل قتامة، صورة لخيال فتاة تقف أمام قبر مكسو بالزليج، وبشاهد مزخرف كما لو كان صفحة منتزعة من كتاب مغربي قديم. الفتاة الواقفة لا بد أنها تتأمل وتناجي، ولكن ما نراه لا يحمل لنا جو السكينة التي يمكن أن يعكسها الموقف وثبات الصورة، بل إن شيئاً ما يتحرك، ربما كان وشاحاً، وربما يبث فيها القلق والانزعاج ولا يتركها تستكين للمناجاة…فقدان السكينة هذا، تحكي عنه الكاتبة عند كل زيارة لها لقبر ابنها، فقد كانت أصوات قراء القرآن الصاخبة نشازاً يزعجها ويقتحم عليها خلوتها الثمينة.
– فاتحة الجرح: العنوان الرئيسي للكتاب “موت الفوات” هو فاتحة الجرح، (وأستأذن الكاتبة المغربية الراحلة حفيظة الحر في استعارة عنوان روايتها)، فكل الجروح الغائرة، وكل الآلام القاسية، وكل السواد القاتم الذي اصطبغت به الحياة، كان نتيجة المفاجأة، فقد أتى الموت على حين غرة، وقلب كل الموازين. وكم كره الناس موت الفوات. وكم كرهوا الموت وأرهبهم، وإن كان جزءاً أساسياً من الحياة، فكلنا يحمل موته معه ويبدأ في الفناء منذ وجوده. لكن موت الفُجأة يختطف، يقسو، ثم يمحو الحكمة كلها، فيستقر الحزن في الجوارح ترافقه الحسرة والدمار. وإن كان “الإنسان مجبراً على النسيان أو التناسي”. تقول الكاتبة (ص259 ): موت الفوات هو بداية الحكي وهو سبب البوح ومنه انطلقت المعاناة وبه كانت الكتابة.
– بوح امرأة: أما العنوان الفرعي الشارح، فكان إعلانا عن جنس الكتابة التي التجأت إليه الكاتبة، فهو يوميات، واليوميات والمذكرات كما كُتب عنها ” نوع يرصد الكاتب فيه فكرَه وانفعالاتِه وتفاعله مع الحدث الذى قد يأخذه إلى مناطق من الذاكرة لم تكن في الحسبان، بل غالباً ما يستعين بمخزونه المعرفي وموقفه الإيديولوجي والاجتماعي لتفسير حدث، وتوضيح موقف، وتحليل ظاهرة. ويعتبر فن اليوميات والمذكرات، أفضل الأنماط الأدبية التي تكشف عن الجانب الخفي في الإنسان، ويعود ذلك إلى حالة الصدق المفترضة مع النفس عند كتابة اليوميات، وتلك الشفافية عند تسجيل الموقف وإبداء الرأي وقراءة الحدث، وهذا ما دعا البعض إلى إدراج اليوميات ضمن أدب الاعتراف.” ويوميات مينة مادني يوميات حداد لن يبلى ولن يضمحل. وهي لا تعترف بمستور أو محظور، بل تكشف بشفافية مثيرة للإعجاب عن ما أثاره موت الفوات من زوابع في وجدانها، وما خلّفته أعاصيره في حياتها وفي علاقاتها. فتحكي معاناتها وتبوح بدواخلها وتعلن مواقفها. كل ذلك في سرد وصفي دقيق يتحكم في الزمن ولا يخضع مباشرة للتسلسل العادي للأيام، بل ينبثق من خضم المشاعر الحزينة، ويشتغل على فوضى الذاكرة المتألمة ينظمها ويرتبها. تستوقفني هنا أسئلة حول يوميات الحداد الخالد، وحول الكاتبة الأم الثكلى، هذه الأسئلة تثيرها نوعية الكتابة من جهة، وموقع الكاتبة كامرأة داخل مجتمع له خصوصياته وضغوطاته وتاريخه الموغل في التمييز من جهة ثانية. فهل هي يوميات أم مذكرات أم خواطر أم سيرة ذاتية؟ أم هي بوحٌ جارف يُسَكّنُ الخاطر ويطفئ اللهب، دون اكتراث بقواعد وحدود تعارف عليها تاريخ الأدب وأقلام النقاد ؟ كشفٌ هادئ وشجاع عن لواعج امرأة مكافحة وطموحة، عصامية ومتحدية ؟ تقول الكاتبة: “أصبح قلمي رفيقي”. (ص 164) هذا الرفيق الذي يفتح أبواب السلوى ويُقرّ بعمق الألم، وينتقل بحرص عبر فترات من حياة الكاتبة، يُدَوّن التاريخ الخاص والقريب والمغلق، بعد أن كانت الكاتبة، مُدَرّسةُ التاريخ، تشتغل على التاريخ العام البعيد والمفتوح. أليس في هذا الكتاب شيء من السيرة الذاتية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهي سيرة ذاتية مختلفة تماماً عن ما كتب ونشر من السير الذاتية للنساء عامة وللمرأة المغربية خاصة. فقد اعتادت النساء على التواري، قهراً، خلف شخوص رواياتهن، وإن كن يكتبن حياتهن الخاصة، أو على الاحتماء، اضطراراً، بأغطية الأسْرة والتقاليد والوطن، وإن كن يحكين عن لواعجهن الذاتية المكتومة. مينة مادني لا تتوارى خلف شخوص مُختلقة، ولا تحتمي بغُلالات ظواهر أو أفكار قائمة؛ بل إنها تُسمّي الأشخاص والأشياء بمسمياتها، وتكشف الدواخل العميقة من حب وخشية وقلق وألم وأحزان، وتحلل الظواهر الخانقة أو المتحررة، من تقاليد وعادات وعلاقات وأنظمة وأنساق. قرأت “حديث العتمة” لفاطنة لبيه، و”سيرة الرماد” لخديجة مروازي، و”قلاع الصمت” لحليمة زين العابدين، و”الحب في زمن الشظايا” لزوليخا الموساوي الأخضري، و”أخاديد الأسوار” لزهرة رميح، وهناك الكثير من السير الذاتية- الروايات لنساء مغربيات لم أطلع عليها بعد، لكنها تدخل في ما تسميه الأستاذة لطيفة لبصير بالجنس الملتبس، ذاك الجنس من الكتابة الذي لا يفصح صراحة عن نفسه، بل يمكن أن يُزَوّر السيرة الذاتية فيجعلها رواية، مثلاً تقول أحلام مستغانمي: “لقد أخذت وقتاً طويلاً في تزوير هذه السيرة، ولذلك فإنني لم أبتعد عن نفسي، وفي الرواية (تقصد روايتها ذاكرة الجسد) إشارات تحيل عليّ وتصف نرجسيتي، هذه المرأة هي أنا بكل حماقاتي ونزواتي الشاذة، بتطرفي في العشق، وفي عشق الوطن. هذه المرأة هي أنا…” (عن سيرهن الذاتية، الجنس الملتبس، للطيفة لبصير ص 25). هذه الإشكالية بكل الثقل الذي نحسه عند قراءة هذه الأعمال النسائية؛ لا تطرح في يوميات حداد الكاتبة مينة مادني، فقد باحت وكشفت المكنونات، بقدر ما احترمت الحياة الخاصة لبعض من ذكرتهم من الأقرباء والأصدقاء بتغيير أسمائهم، ولكنها حكت الواقع بكل مرارته ولم تهرب منه إلى الخيال لتحتمي بشساعته، وفي هذا تكمن شجاعتها وشجاعة زوجها، الأستاذ عبد الرحمان المودن، الأب المكلوم الذي كتم بقدر ما ساند وشجّع واحتضن البوح ورفقة القلم، وشارك في اليوميات بالتقديم وباللقطات الموجزة والبليغة من المعاناة الأخرى، وشارك بالقراءة وما تبعثه من الألم الدفين، فكانت مواجهة سطوة هذا الألم الكاسحة، بأسلحة المودة والرحمة والمشترك في السراء والضراء، التي يشهرانها معاً أمام هول الفاجعة وتداعياتها الكاسحة.
– الاستهلال: ” الفرحة نقصات والقلب سكنوه الأحزان القصاح”. هذا القصيد الذي يفتتح اليوميات له لديّ دلالة بليغة ونافذة، فهو يلخص المعاناة إن صح أنها تختزل، وهو جزء من اليوميات مكتوب باللغة المغربية الدارجة، يعلن فيه الكاتبان، الأبوان عن يتمهما وحزنهما وعن جراح القلب الغائرة. إنها لمحة مغربية صرفة، تربطنا بفاس والرباط وإفران وجبال الأطلس، قبل أن تُسْلم القلم للكاتبة تسجل به عمق المعاناة.
– الزمن: تستند اليوميات على تعاقب الأحداث وتراكم الأحزان بعد موت الفوات، تنقلنا الكاتبة الساردة في خط زمني يبدأ منذ الفاجعة في يونيو 2004 إلى يونيو 2009، وهو عمر “نص الحزن الذي غرقت فيه مدة خمس سنوات”. (ص 269) ونص الحزن هذا سينفتح على حزن جديد في مارس سنة 2010 ليكتمل به ويعيد تصوير مجاهدة الكاتبة لنفسها أمام هول فقدان الأم “الشجرة” الأصل. (نفس الصفحة) إلا أن هذا الخط الزمني الرئيسي الذي تسير فيه يوميات الحداد بسرعات متفاوتة، تحسب تارة بالأيام وتارة بالشهور أو بالسنوات؛ يصبح في مرات عديدة منطلقاً لمحطات نغوص فيها مع الكاتبة في أزمنة أخرى تبعد أو تقرب أو تتوقف، وفي أحداث ماضية، أو بنت اللحظة. تقول: “أصبح لديّ الامتزاج بين الماضي والحاضر أمراً عادياً”. (ص186) كما أن أسلوب السرد الذي يحكي الأحداث ويبوح بالمشاعر ويحلل الوقائع، يتحول إلى مناجاة لها زمنها الخاص المنفرد والمنفصل، لأن خط زمن الحكي يتوقف عندها. أو يُسْلمنا إلى رسائل بوح متبادلة بين الزوجين تفادياً لتوترات الحزن وتبعات الغياب ومضاعفات الإحساس بالغربة والفراغ. فتصبح الرسائل نصوصاً قائمة الذات بغض النظر عن أسبابها المباشرة أو سياقاتها. إنه تداخل الأزمنة، وتداخل النصوص، مما يجعل نص الحزن ذاك كثيفاً ومؤثراً ونافذاً.
– رفقة الغياب: تمتلئ يوميات الحداد بحكايات المفجوعين والمفجوعات بفقدان الأحبة، أقرباء، أصدقاء، صديقات وجارات، تحكي الكاتبة قصصهن الأليمة وتحاول جاهدة أن تذوّب أحزانها فيها وتبحث عن السلوى والبَرْد والسلام في تعزيتهن عن مآسيهن، علها تهوّن من فاجعتها. فالموت جاثم في ثنايا الحكي، وقصص الفقدان كثيرة وأساليب العزاء متنوعة، والموت واحد مهما اختلفت أسبابه وتنوعت أماكنه، في المغرب أو في أمريكا أو في فلسطين والعراق، فهو هازم الأفراح وخالق التعاسات ومشتت الأحبة. “فكرة الموت لا تفهم ولا تقبل على الرغم من أنها سنة الحياة كالولادة”. (ص 267) ” ظاهرة الموت تجعل الإنسان حائراً أمام هذا اللغز المخيف”. (ص 260) لكنه حين يكون نتيجة عدوان غاشم فإن وقعه أشد وأعظم، تقول الكاتبة: ” كان أقسى مشهد ألماً بالنسبة لي هو ما شاهدته عندما رأيت كومة أشلاء لأبناء وأحفاد جدة أفلتت بأعجوبة من القصف.(قصف غزة 2008) فجمعت أشلاء أولادها في ثوب ضمته على شكل سرة، وجلست بهدوء أمامها تنتظر إلى أن ينتهي القصف ويتأتى لها دفنها”. (ص263) تتوقف الكاتبة عند ثكْل النساء المغربيات وتحكي عن بحث بعضهن المستميت عن العزاء في قراءة القرآن والتردد على الحج، أو التحجب والانعزال، أو الاطلاع على السير المؤلمة والمرثيات، ومشاهدة أخبار الحروب والكوارث أو الأفلام…ولم يفت الكاتبة أن تشير إلى تسلل بعض العادات الغريبة عن المجتمع المغربي، التي تجعل من الوعظ بالصبر ستاراً، وتقارنها بجلسات الاستماع التي تنظم من طرف جمعيات في البلدان الغربية، حيث البوح والمكاشفة سبيلان إلى العزاء والتخفيف من حدة الوجع.
– ثنائية الحزن والفرح: بقدر ما تنضح اليوميات بالحزن العميق، بقدر ما تتعالى داخلها دعوات الفرح التي تُرفض أو تُستبعد أو تُقبل بعد زمن. فالفرح يستفز ويخترق حصون الحزن السميكة، ويخطئ مواعيده. هذا التقابل بين الحزن والفرح، هو ما جعل الحزن مستبداً والفرح منبوذاً، وفي اليوميات يستعصي الفرح على الكاتبة رغم أجوائه الطاغية، ويتغلب حزنها باستناده على الذاكرة وعلى استحضار الألم. فيتعاظم التوتر والبحث عن الخلاص عبر الإنصات للجسد، لجذبته ورقصه. لكن الكاتبة تستكثر ذلك على نفسها، تلومها ثم يبدأ تيهها بين الاستفهامات الوجودية الأزلية والخالدة. إنه فعل الحداد وأثره الطاغي. وقديماً قال جبران خليل جبران في كتابه “النبي” ” إنما فرحُكم حزنُكم وقد بات سافراً…عندما تأخذكم سَوْرة الفرح تطلعوا إلى أعماق قلوبكم، تجدوا أن الذي سبّب لكم الفرح الآن هو عين الذي جاءكم منه الحزن في ما مضى. وعندما تطغى عليكم موجة من الحزن، فتشوا قلوبكم كذلك، وستدركون أنكم تبكون في الواقع ذلك الذي كان مصدر بهجة لكم سابقاً. فكلما أمعن الحزن حفراً في كيانكم، اتسع المجال فيكم للفرح…”. تقول الكاتبة: “أعدك أن أعمل بمحتوى جملتك التي كنت ترددها: الدنيا زوينة خاص الواحد يعيشها…”. (ص45)
– إطلالات لا محيد عنها: تنبثق من اليوميات ومن خلال السرد الممركز حول آلام الذات وأحزانها، الكثيرُ من الصور الواقعية التي تصف وتسجل العادات والتقاليد، أو تؤرخ لفترة من تاريخ المغرب، أو توثق للوضعية الفلسطينية، أو تحلل ظواهر في المجتمع المغربي أو الأمريكي بحكم الفترة التي عاشها الزوجان وأبناؤهما في أمريكا، فتتنقل بنا الكاتبة بين الأمكنة في المغرب وفي بعض الولايات الأمريكية، وتصف بدقة الحالات التي عاشتها وأثارت ملاحظاتها وتأملاتها، وأحياناً مقارناتها بين المغرب وأمريكا، كالبيروقراطية والمحسوبية، أو الصرامة الأمنية، أو مشاكل الإرث، أو مناهج التعليم وتشجيع التعلم والبحث، مثل التنوع الإثني والتمايز الطبقي أو الروح الوطنية وحس المواطنة. سنوات الرصاص ومآسي الاعتقال. العلاقات العائلية، العلاقات الزوجية ومدونة الأسرة. ولا يمكن بتاتاً تجاوز ذلك الجزء من اليوميات الذي تحكي فيه الكاتبة عن طفولتها وشبابها، وعن الصعاب التي واجهتها سواء في مراحل تمدرسها أو عند اعتقال زوجها. تحكي بأسلوبها السلس عن إحباطاتها ويأسها، وكذا عن تحدياتها وإصرارها على التجاوز (من ص 131 إلى 164 ). إنها حكاية فريدة تؤرخ لمراحل من تاريخ المغرب المعاصر من خلال أحداث عاشتها فتاة مغربية ما بين عائلة محافظة وأنظمة تعليم متنوعة ومواجهة قهر الاعتقال؛ وهي عزلاء إلا من قوتها وشجاعتها. إنها حكاية مجموعة من نساء المغرب، منهن من ذابت تحت لهيب التقاليد، ومنهن من توارت بعد أن قطعت نصف المسافة نحو الحرية، ومنهن من كافحت وصارعت، مثل مينة، حتى تمكنت من استقلالها، بالمعرفة وبالوعي.
– مقتطفات من بوح شجاع: لن يكون انتقائي منصفاً، بل إنه محاولة فقط لترسيخ بعض مما كتبته مينة مادني وعبد الرحمان المودن في يوميات حدادهما السميك الذي لن يصبح يوماً ما رثاً ومتلاشياً. إنه حزن دفين وجمرة ملتهبة في الأحشاء، وكل منا مرّ أو يمر من ما يشابه ذلك. فقد أصابنا الموت في مقتل، واقتلعت من حياتنا أجزاء كنا نظنها باقية. لكنها انتقلت لتسكن الوجدان تبعث فينا من مراقدها، انتعاش الحياة ومحبة الناس. فتلك وصاياها الخالدة.
1 – يقول عبد الرحمان: “…كانت صورته تتجلى على خلفية أشجار الصفصاف الباسق، ذات الأوراق الساطعة الخضرة التي كان الريح يداعبها بلطف فكأنها كانت ترقص رقصة “العايل” في جبالنا الشمالية. غادرت المَجْمَع في ذهني ولم أعد أتابع ما يروج من حديث، بل إني شعرت بشعور غريب وعميق جداً بكون هذه اللحظة لحظة سعادة لا بد من ارتشافها بالزمن البطيء وتسجيلها في النفس على غرار ما يحصل عندما تريد تسجيل لقطة بواسطة الآلة المُصورة. عدت إلى المنظر ألتقطه بكامل البطء وأسجل كامل قسماته: ضحكته، ميل قوامه النحيف عند كل ضحكة، ميلان رأسه يميناً وشمالاً، قميصه الأبيض، توسُّطُه للوحة الطبيعية. وتساءلت لماذا لا يمكن تجميد الحياة في هذه اللحظة بالذات؟”. (ص 287)
2- تقول مينة: ” أشارك مأساة الأمهات اللائي فقدن فلذات أكبادهن في فلسطين والعراق، وكل المناطق المضطربة، وأمزج شعوري الحزين بشعورهن المماثل، وأتفاعل مع أحزانهن، لأساعد نفسي على التخفيف من تضخم مأساتي، وأقنع نفسي بأن الموت يساوي بين كل أصناف البشر، بغض النظر عن دياناتهم أو مجتمعاتهم أو أحوالهم الاجتماعية، أو الطريقة التي توفي بها أولادهم. كما أستطيع أن أقيس حدة مأساة الأمهات أمام فاجعة الموت، وردود فعلهن من خلال نماذج من الأمهات شاهدتهن ترثين أبناءهن: أمّ قتل ابنها أو ابناؤها برصاص الأجنبي، أم الاستشهادي المتفجر الذي واجه العدو وقتل، أمّ المتفجر الذي قتل أبرياء في قطار أو طائرة أو مؤسسة، وقتل؛ أمّ خالفها الحظ فكان ابنها أو بنتها حاضرة مكان ووقت الانفجار؛ أمّ قتل أطفالها الثلاثة في إطار صراعات الفصائل الفلسطينية؛ أمّ عراقية قتل ستة من أطفالها على يد الجنود الأمريكيين؛ أمّ أمريكية قتل ابنها في العراق، أمّ مغربية واقفة على قبر ابنها إلى جانب هيئة الإنصاف والمصالحة، تتطلع في ما بقي من جمجمة أو بقية عظام ابنها الذي اختطف في عهد سنوات الرصاص (…) “. (ص179)
أختم بدعوة جديدة لجبران خليل جبران، يتغنى بجمال الموت:
” دعوني أنم، فقد سَكِرَتْ نفسي بالمحبة.
دعوني أرقد، فقد شبعت روحي من الأيام والليالي.(…)
خَلُّوني غارقاً بين ذراعيْ الكرى، فقد تعبت أجفاني من هذه اليقظة. (…)
امسحوا الدموع يا رفاقي، ثم ارفعوا رؤوسكم مثلما ترفع الأزهار تيجانها عند قدوم الفجر.” (دمعة وابتسامة، مقتطفات من نص جمال الموت بتصرف).