محمد ركيبي، “مدينة فاس المغربية في نصوص الرحلة الألمانية-نصوص مختارة- 1870-1911″*
مقدّمة:
يقع كتاب “مدينة فاس المغربية في نصوص الرحلة الألمانية-نصوص مختارة- 1870-1911″[i](2013) في ست وثمانين صفحة تتوزّع على ثمانية فصول وخاتمة.والمؤلّفمحمد ركيبي أستاذ باحث في الدراسات الجرمانية، وإتقانه للغة الألمانية إضافةإلى مهامه كأستاذ للغة جوته، عاملان جعلاه يطلع على العلاقة الثقافية التي تربط ألمانيا بالمغرب والنصوص التي وثقتها انطلاقًا من القرن التاسع عشر وحتّى اليوم. وتتبين دقة الباحث بدءا من عنوان كتابه،ومن ثمحصر هذه الدراسة المقارنة في تتبع واستقراء صورة مدينة فاس في أدب الرحلة الألماني في خمسة نصوص صدرت بين 1873و1911، وهي فترة مؤثرة في تاريخ المغرب تميّزت بزيادة الأطماع الامبريالية الأوربية في شمال إفريقيا. ففي 1830 احتلت فرنسا الجزائر، وفي 1881 فرضت الحماية على تونس، ثم أصبح المغرب خاضعا للقوى الاستعمارية الأوربية الكبرى وفرضت الحماية الفرنسية عليه في 1912. وهذه النصوص هي:
– غيرهارد رولفسGerhard Rohlfs: إقامتي الأولى في المغرب والرحلة عبر جنوب الأطلس عبر وزان ودرعة وتافيلالت.
– لودفيش بيتشLudwig Pietsch: المغرب، رسائل من رحلة البعثة الألمانية إلى فاس في ربيع 1877.
– أوسكار لينتسOskar Lenz : تومبوكتو، رحلة عبر المغرب والصحراء والسودان.
– أدولف فون كونرينغAdolf von Conring : المغرب، البلاد والناس.
– رودولف زابل Rudolf Zabel: في الغرب الإسلامي، مذكرات رحلة عبر المغرب.
– رودولف زابل RudulfZabel: عن فترة عدم الاستقرار بالمغرب[ii].
وقد تتبع المؤلف وصف الرحّالة الألمان لفاس بين فقرات وفصول هذه الكتب، إذ قدمـوا تصوراتهم عنها للقارئ الألماني، معتمدين على معاينتهم الشخصية ومدعومين باطلاعهم الواسع على نصوص من سبقهم من الرحّالة الأوربيين والألمان.
وازداد اهتمام ألمانيا بالمغرب وبمدنه مع تنامي أطماعها الاستعمارية، وتأكد هذا الاهتمام بإنشاء قنصلية ألمانية بطنجة سنة 1873، وبمشاركة ألمانيا في المعاهدات التي تقاسمت بموجبها دول أوربا وأمريكا الحقوق الاقتصادية في شمال افريقيا. وقد أسهب المؤلف في الحديث عن دور هذا العامل الاقتصادي في جعل المغرب وجهة وهدفاً لكثيرمن الرحّالة الألمان.
ويمكننا حصر فصول هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء مترابطة مع بعضها البعض، يمكن ترتيبها على الشكل الآتي:
1.أدب الرحلة الألماني والمغرب: ويضم هذا القسم الفصل الأول والفصل الثاني من الكتاب.
2.الخطاب التاريخي الجغرافي: ويضم الفصل الثالث حتى الفصل السادس.
3. الخطاب الإثنوغرافي: يشتمل على الفصلين السابع والثامن.
وسأقتصر في هذا العرض على أهم القضايا التي تمثل جوهر قراءة المؤلف لنصوص الرحّالة الألمان التي تقدّم صورًا متداخلة، مختلفة ومتنوعة، اذ أنّ المؤلفات أجمعت على مدى الأهمية الكبيرة التي يشكلها هذا الاهتمام العلمي الألماني بالمغرب وبمدنه، خاصّة مدينة فاس.
I. أدب الرحلة الألماني والمغرب:
كرّس المؤلف هذا الجزء من الكتاب ومقاطع مختلفة من متنه لتحديد مفهوم أدب الرحلة، الذي هو”أكثر من مجرد وصف لبلدان أجنبية, إنه أيضاً امتحان لعقلية المؤلف، وبهذا المعنى يحتوي الوصف في أدب الرحلة ضمنيّاً على العرض الذاتي الثقافي للثقافة الأصل”، وتجتمع العديد من العناصر المكونة لأدب الرحلة لتجعل منه تقريراً مفصّلاً عن البلاد والعباد.
وقد طرح المؤلف مسألة الاهتمام الأوربي المتنامي بالقارة الإفريقية في القرن التاسع عشر بشكل واضح، فيشير إلى أنّ المغرب زاره مبشرون ومغامرون وباحثون وتجّار من مختلف بلدان أوروبا. وكان هدفهم الأول هو التنقيب عن مناطق جديدة وثقافات غريبة عنهم، مثل اكتشاف الواحات الغامضة في صحراء إفريقيا واكتشاف المدن المغربية، والتراث الثقافي المغربي الذي يتميّز بالتنوع والغنى، فدوّنوا هذه المعلومات الكثيرة في نصوص لاقت شهرة كبيرة. ويؤكد المؤلف على أن هؤلاء الرحّالة حاولوا لفت انتباه القارئ الألماني والأوروبي، إلى تجربتهم ولقائهم بالثقافات الأجنبية الأخرى وتأثرهم بها، لتشكل هذه النصوص وثائق أصيلة عن التحولات في رؤية الآخر في المخيلة الأوربية. فقد قام الرحّالة الألمان بدراسة أحوال المغرب بواسطة المعاينة المباشرة، وأغلبهم كان في مهمة رسمية، وكانت الميول الامبريالية توجّههم، مثل رولفس وبيتش ومالتسان Malzan، ومن النساء، جريته آورGrethe Auer،كأول امرأة تكتب عن المغرب بالألمانية. واستفاد هؤلاء الرحّالة من تجارب من سبقهم من الرحّالة الأوروبيين والألمان إلى المغرب، كما درس بعضهم النصوص العربية القديمة مثل مالتسان، وقام رولفس بتدعيم نصوصه بمعطيات علمية هامة. وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهرت نصوص سياسية واقتصادية وإثنوغرافية وجغرافية عن البلاد. وساعدت أعمال الرحّالة الألمان على توسيع العلاقات الدبلوماسية وتعزيز موقف ألمانيا في شمال إفريقيا بصفة عامّة والمغرب بصفة خاصّة، كما اهتمّ الرايخ الألماني بهذه الكتابات.
تلقّى الرحّالة الألمان تسهيلات من المغاربة، مثل المرافقة والحراسة والخدمة والترجمة، أو على شكل توصيات سهّلت عملهم وجعلت حريتهم في الحركة داخل البلد أكثر سهولة. كما أن الحكومة المغربية كانت ترسل معهم جنوداً لحراستهم فقلّت الحوادث التي تعرض لها الأجانب في فاس. ولذا كان المغرب يمثّل البلد الأكثر أماناً – في نصوصهم- خلافاً لدول المشرق.
يركّز المؤلّف في الفصل الثاني على مناقشة قضايا هامّة تخصّ الدراسات الأدبية عن صورة المغرب في المؤلفات الألمانية، إذ يذكر في هذا الباب بأنها دراسات قليلة؛ فباستثناء الدراسات التي أتى على ذكرها، لا توجد أية دراسات تخبرنا عن المغرب.[iii] وهذه الدراسات التي ذكر هي:
–هانسبيترماتس: صورة المغرب في أدب الرحلة الألماني بين الحربين 1918-1939.
–هيربيرت بوب: النظرة إلى الآخر: صورة المغرب عند الألمان وصورة ألمانيا عند المغاربة. عروض الندوة الألمانية المغربية بالرباط.
–سلوى إدريسي مجيب: صورة المغرب في الأدب الألماني. رسالة دكتوراه.
–خالد لزعر: صورة المغرب في أدب الرحلة الألماني في القرن التاسع عشر.
و ينتقل الكاتبإلى الحديث عن صورة المدينة المغربية في نصوص الرحلة الألمانية. ويقول في هذا الصدد: “إن الأوروبيين اكتشفوا المغرب في البداية عبر مدينة طنجة”. وتعطي طنجة للرحّالة الألماني الانطباع الأول عن المغرب. وقد عبّر هؤلاء الرحّالة عن التناقض الذي صادفوه وهم على بعد أمتار من ميناء طنجة حيث سحرت لبّهم الطبيعة الخلّابة والموقع الجغرافي المميّز، ولكن ما أن دخلوا الميناء حتى صدمهم واقع المدينة انطلاقًا من الفوضى الموجودة في ميناء المدينة، والأوساخ المنتشرة في كل مكان. وهو ما سيؤثّر بالطبع على كتاباتهم عن باقي مدن المغرب، مثل مدينة فاس المغربية. واهتمّ هؤلاء الرحّالة بالمدن الرئيسية في البلد مثل فاس التي ترمز إلى المدينة المشرقية الإسلامية. وهي من أهم وأجمل مدن العالم كما اتفق على ذلك أغلب الرحّالة في حكمهم عليها. فهوروفيتس Horowitzمثلاً، يقول إنها المدينة الأكبر والأكثر ازدهاراً على الإطلاق بين مدن كل العالم. أما بيتش فإنه يعلنها أثينا الإفريقية بسبب جامعتها ومكتباتها وعمارتها الرّائعة. وبسبب مواردها المائية الكثيرة شبهها الرحّالة الألمان أيضًا بروما.
II.الخطاب التاريخي الجغرافي:
يركّز المؤلف في هذا الفصل على صياغة تصوراته عن حضور المدينة المغربية عن طريق الآخر. ولعلّ المؤلف لاحظ اهتمام رولفس بأصل تسمية مدينة فاس، فنقل ثلاثة قصص تبرر هذه التسمية: فنقلًا عن ابن بطوطة و ليون الافريقي، دعا إدريس الثاني الله ليدلّه على مكان مناسب لبناء المدينة، ووجد في المكان فأسًا وبه سميت المدينة فاس. أما القصة الثانية فتقول إن باني فاس وجد ذهبًا وفضة ونحاسًا في مكان البناء، أما القصة الأخيرة فتقول إن المدينة أخذت اسمها من اسم نهر فاس. ويعلّق المؤلف على هذه القصص بالقول إن المؤرخين فسّروا انتشار هذه القصص بين الرحّالة الألمان تفسيرًا رومانسياً، فهم يميلون الى إيجاد قصص خيالية وجميلة لتُروى. وتعتبر رحلات ليون الافريقي من أهم المصادر الرئيسية الأكثر أهمية التي اعتمدها العديد من الرحّالة الألمان.
وأسهب المؤلف في الحديث عن تاريخ بناء فاس حيث ذكر اختلاف معلومات الرحّالة الألمان في تاريخ البناء والشخص الذي بنى المدينة. فتسابيل مثلًا يقول “بأنه يجب حقيقة التمييز بين مولاي إدريس الأصغر، وهو مؤسس فاس، ومولاي إدريس الأكبر، مؤسس العرش المغربي. هذا الأخير هو والد مؤسس فاس وقبره في مدينة زرهون المقدسة في أحد المساجد، وهو مسجد تفوق قدسيته بدرجة على مسجد مولاي إدريس الثاني بفاس”. واهتم الرحّالة الألمان بجغرافية المدينة وموقعها الاستراتيجي وعناصر الطبيعة المحيطة بها. وأبدى الرحّالة رولفس دهشته من كون مؤسس فاس توفّق في اختيار موقع استراتيجي للمدينة.
ولعلّ المؤلف أدرك هنا بأن الرحّالة الألمان يأخذون من كل العلوم، فتارة نراهم علماء طبيعة يحللون عناصر الطبيعة من نبات وحيوان، ومرّة أخرى نجدهم مؤرخين يدققون في تاريخ بناء المدينة ومن بناها، وتارة أخرى نراهم جغرافيين يحددون موقع المدينة وارتفاعها عن سطح البحر بدقة متناهية، ثم مهندسين معماريّين يهتمون بارتفاع أسوار المدينة ويقارنون ارتفاع الأسوار الخارجية بالداخلية أو مع أسوار مدن مغربية أخرى. وهم أيضاً مقارنون؛ فعنصر المقارنة حاضر دائماً في صورهم التي ينقلونها عن مدينة فاس المغربية كما رأينا.
ويركّز على اهتمام الألمان بالطبيعة ممّا يؤسس لأدب جديد هو أدب الطبيعة Landschaftsliteratur، وقد أثار هؤلاء الألمان ثلاث نقـاط هامّة تخص الطبيعة بفاس: أولاً، كثرة البساتين البرية، ثانياً، غنى الموارد المائية وأخيرًا قمم الجبال المثيرة والمحيطة بفاس. أما بيتش فيتأسف لكون إدارته لم ترسل أي عالم لدراسة نهر فاس على الرغم من أهميته. أما كورينغ فقد قال إن النهر ينبع من الأطلس الكبير، بينما المعروف أنه ينبع من الأطلس المتوسط. وهذا يطرح في نظر المؤلف مسألة مدى دقّة وجديّة المعلومات الواردة في نصوص الرحّالة الألمان.
يوفّر النهر مورداً مائيّاً هامّاًً للمدينة، وتوجد الكثير من النافورات العمومية المزركشة بالفسيفساء، لكن تسابيل تحدّث عن الجانب السلبي للنهر، فهو يساهم في تحلّل أسوار المدينة. أما واد سبو فيقسم، حسب الرحّالة هوروفيتس، المدينة إلى فاس البالي وفاس الجديد. وتضم الأخيرة قصر السلطان، والملّاح، وتشكّل الثانية قسماً كبيراً من المدينة. أما رولفس فيعتبر كل جزء من فاس مدينة مستقلّة، وحتى المغاربة يعتبرونها كذلك، ودليله على هذا الوضع أن فاس الجديد يحكمها القايد، أما فاس البال فيديرها الباشا، ويعقّب المؤلّف على هذه الصورة بكون فاس البالي أكثر أهمية، ولهذا يحكمها الباشا.
ويقول المؤلّف إن اهتمام الرحّالة الألمان بالطبيعة هو مكوّن حضاري وتحوّل في ثقافة أوروبا، إذ الرحّالة يقوم بنقد ذاتي ونقد للآخر في ذات الوقت. هكذا يحمّل بيتش مسؤولية عدم الاهتمام بترميم السور وتنظيف جوانبه ومحيطه للحكومة المغربية التي لم تبدل أي جهد لهذا الغرض. ذهب لينتس الى أبعد من ذلك حين قال بأن أسوار فاس لن تستطيع تحمّل أي هجوم أوربي محتمل على المدينة بسبب تحصينات المدينة الضعيفة،”فكل هذه التحصينات هي طبعًا لن تدوم طويلًا، عندما يتعلّق الأمر بحرب مع قوة أوربية”.
يركّز المؤلف أيضًا على مسألة اهتمام الرحّالة الألمان بوصف المساجد ونقل صور من تديّن أهل فاس، فينقل وصف لينتس لدور المسجد والمدرسة الدينية، اذ يقول: “يقتصر الدرس في أغلب المدارس الدينية على القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وفي بعض المراكز العليا يتم تلقين بعض العلوم الأخرى، كالقانون والتاريخ وعلم الفلك والطب والكيمياء والشعر”. ويصف العلوم العربية بالتخلّف مقارنة مع التقدم الأوربي الحديث، فالتخصصات غير المتطورة تذكرّه بشكل التعليم في القرون الوسطى. أما شفيغل Schwegelفيضيف بأن علومًا مثل الرياضيات وعلم الفلك تدرسّان أيضًا في تطوان ومراكش، لكنه يصفها بالتخلّف، إذ هي في نظره تعتمد على العلوم القديمة في المصادر الأندلسية في تلك الفترة، والتي تجاوزها تطور القرن التاسع عشر، ففي رأيه “يتم اعتماد التقليد القديم لعرب اسبانيا في تدريس الطب والرياضيات وعلم الفلك في المساجد والمدارس الدينية العتيقة في فاس وتطوان وحتّى الاهتمام بالفنون التكوينية، إنما هو انعكاس ضعيف للثقافة الموريســكية الكبيرة”.
كما يتطرق المؤلف لموضوع التشدد وكيف عالجه الرحّالة الألمان في كتاباتهم، وقد أدرك بأن الرحّالة الألمان يعتبرون منعهم من ولوج المساجد قمة في التشدد الديني لدى سكّان فاس، رغم أن الرحّالة رولفس استطاع الدخول إلى مسجد القرويين متخفّياً في ملابس مسلم، والذي اعتبره من” أغنى مساجد العالم بامتلاكه حوانيت ومحلات تجارية تحيط به”. وربما كان تعرّض قافلة رولفس التي تقلّه إلى الصحراء لزيارة واحة تمبوكتو لهجوم القبائل وتهديد حياته هو ما أوحى إليه بفكرة تقديم نفسه على أنه طبيب عربي مسلم، فقد أدرك تماماً ما يعنيه أن يكون غير مسلم في عيون مغاربة القرن التاسع عشر. أما تسابل فيصف مسجد مولاي إدريس الثاني بأنه مسجد مقدّس لدى المغاربة، وتأتي قدسيته مباشرة بعد قدسية الرسول. وقد أجمع هؤلاء الرحّالة على أن فاس هي مدينة العلم والعلماء والمكتبات التي احتوت على نفائس الكتب، والتي يقول الرحّالة الألمان إنها اختفت.
III.الخطاب الاثنوغرافي الفاسي:
حرص المؤلف على التطرّق للخطاب الإثنوغرافي الفاسي في نصوص الرحلة الألمانية. والتفت المؤلف إلى تسجيل الرحّالة للمزيج الإثني الثقافي لسكان فاس، فقد اختلط العرق اليهودي بالعرق العربي والأمازيغي، وأيضاً مع الزنوج الأفارقة. ويصف المؤلّف الرحّالة لينتس بأنه الرحّالة العارف بأحوال العرب، والذي ذكر” بأن الموريســكي تعني خليطاً من العرب الذين طردوا من الأندلس والأمازيغ، هذا العرق تميّز بلون البشرة البيضاء، وتقاسيم الوجه الجميلة والنبيلة”.
وبالنسبة لرولفس فان اللون الأبيض سببه ندرة تعرض سكان المدينة للشمس بسبب الأزقة الضيقة التي تحجبها عنهم. ويرتبط لون البشرة البيضاء في أذهان الأوروبيين بالنظافة، ولهذا تعجّب الرحّالة الألمان من المدينة المتسخة، ومن سكانها الذين رغم وفرة المياه لا يهتمون بنظافتها. ويسجّل المؤلف هنا أيضاً ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن اهتمام الرحّالة الألمان بملابس سكّان فاس، إنما هو اهتمام في الأساس بالطبقات الاجتماعية التي تختلف أزياؤها من مجموعة إلى أخرى.
ويجمع الرحّالة الألمان على مسألة كسل العرب؛ هذا الكسل الذي يمنعهم من الاهتمام ببساتينهم وبقنوات الري، والكسل صفة يجتمع فيها الرجّال والنساء، فلينتسيجد “أغلبية النساء صغيرات وسمينات نتيجة لحياتهن الخاملة”.
طرح المؤلف إشكاليات تعارض الصور التي يبلّغها الرحّالة من خلال أوصافهم لفاس، وهم يقومون في الغالب بإعادة إنتاج كليشيهات وصور نمطية مكرّرة؛ ففي جل تصوراتهم “العربي بدائي ومغرور، وقبل كل شيء غامض، ونزعته الانتقامية خطيرة، وفي الجهاد لا يأخذ الأسرى، بل يقطع رؤوس الأعداء”. ويؤكد لينتس هذا الطرح حين يتحدّث عن المرأة فيقول: “إن احتقار المرأة هو الطابع المميز للمسلمين، مما يجعل من المستحيل أن ينتمي هؤلاء إلى مجالنا الثقافي”. ويرجع الرحّالة الألمان السبب في ذلك إلى قانون الإسلام الخاصّ بالمرأة، لأنه يسهل تطليق المرأة وأيضاً يسمح بالزواج عليها. كما يصفون المرأة بالجهل بالكتابة والقراءة.
وعن اليهود يؤكد المؤلف بأن الباحث يصطدم بالعديد من النصوص التي كتبت عنهم في المغرب في بداية القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين، خاصة عن يهود فاس، لأنهم مجموعة كبيرة، والملاح بفاس هو الأكبر في المغرب. وفي الغالب يربط هؤلاء الرحّالة صورة اليهودي في فاس بالبؤس والاضطهاد، فلينتس يعتبر وضع اليهود هنا هو الأخطر، إذ “لا توجد أي بلاد على وجه الأرض يتعرض فيها اليهود للاحتقار مثل المغرب. ويتحمل شعب الله المختار بؤس عدم وجود وطن لليهود بكل مرارته”. وأتقن اليهود اللغات الأجنبية، كما أتقنوا فن التجارة، وقدّموا أنفسهم كصلة وصل بين المغرب والعالم الخارجي. ويقول الرحّالة شفيغل إن اليهود يتوفرون على مدارس خاصّة بهم مستقلّة، يدرس فيها حوالي ثلاثمائة تلميذ، ويبدل اليهود جهودًا كبيرة من أجل تطوير مدارسهم بفاس، غير أن الرحّالة يصف مدارسهم بالسيئة، لأنها تدرّس فقط التلمود والعبرية والإسبانية. ويعتبر اليهود أسياد تجارة مدينة فاس، إذ تمكنوا من انتزاع مكانة رفيعة في المجتمع الفاسي بذكائهم ونشاطهم. ويلعب الموقع الاستراتيجي لفاس الدور الحاسم في نماء التجارة، حتى أصبحت قطباً تجاريّاً واقتصاديّاً هامّاً دعا الرحّالة الألمان إلى الاهتمام به. وقد اقتنى الرحّالة لينتس منتوجات فاسية من البازار ووجد ثمنها مناسباً وجودتها رفيعة مقارنة مع أماكن أخرى. غير أن تجارة الرق أثارت حفيظة الألمان، فقال تسابل: “إن الرق يوجد في المغرب في قمة ازدهاره، وتمارس تجارة الرق أيضاً في مجموعة من الفنادق بفاس”.
الخاتمة:
اعتمد المؤلف على الدراسة المقارنة من أجل إضاءة موضوع بحثه من خلال قراءته التطبيقية التي مارسها على نصوص الرحّالة الألمان. وانطلقت هذه الدراسة من حس نقدي واضح تجلّى في إلقاء الباحث الضوء على الكثير من القضايا التي تطرّق إليها هؤلاء الرحّالة والأوصاف التي قدّموها عن فاس مما أسهم في توضيح الكثير من الجوانب الفكرية المميزة لمثل هذه النصوص/الوثائق. كما يتجلّى هذا الحس النقدي لدى الكاتب من خلال عمله على وضع هذه النصوص في سياقاتها التاريخية والفكرية، وتوضيحه لها، وتصويبه للمعلومات بتعقيباته على الكثير من الصور النمطية التي عرضها الرحّالة الألمان عن فاس وسكّانها، كما طرح مسألة “الدقّة والجدّية” في المعلومات التي يطرحها هؤلاء الرحّالة.
ويبدو أن مكونات الصورة الألمانية عن المغرب ارتبطت في هذا الكتاب بصورة المدينة الإسلامية، التي رسمها الرحّالة الألمان عن فاس، حين يقارن الرحّالة بينها وبين مدن أوروبا. وهي صورة تستلهم المغرب، وتنطبق على كل فضاء جغرافي إسلامي، وهي صورة تنطبق على المشرق أكثر مما تنطبق على المغرب. فقد تمّ اختزال المغرب في صورة مدينة إسلامية هي فاس.
وفي ختام هذا العرض نتمنّى أن يهتم الباحثون والمهتمون بالبحث الإثنوغرافي بهذا الكتاب القيم، في لغته الأصلية، أو بعد ترجمته إلى اللغة العربية، ليستفيد منه جمهور عريض من القرّاء والباحثين خاصّةً المغاربة، حيث إنه يطرح أيضاً مسألة “إعادة النظر في العلاقة الثقافية المغربية-المغاربية-الألمانية”، وذلك من أجل تأسيس لبنة متينة لربيع ثقافي فكري قادر على تحصيننا ضد مفعول الصور النمطية التي تعجّ بها نصوص الرحّالة الألمان.
—————————————————
*[i]Rkaibi, Mohamed: Darstellung der marokkanischen Stadt Fes in ausgewählten deutschen Reiseberichten 1873-1911, GRIN Verlag, 2011. 86 pages.
[ii]-Rohlfs, Gerhard (1831-1896): Meinerster Aufenthalt in Marokko und Reise durch südlich vom Atlas durch Oasen Draa und Tafilet.(1873).
-Pietsch, Ludwig (1824-1911): Marokko,Briefe von der deutschenGesandtschaftsreise nach Fez im Frühjahr 1877. (1878).
-Lenz, Oskar(1828-1925): Timbuktu, Reise durch Marokko, die Sahara und den Sudan.(1884).
-Von Conring, Adolf: Marokko, das Land und die Leute. (1880).
-Zabel,Rudolf (1851-1924) :
* Im muhammedanischen Abendlande, Tagebuch einer Reise durch Marokko (1905).
*Zu unruhiger Zeit in Marokko. (1911).
[iii]-Hanspeter Mattes: Das Bild Marokkos in der deutschsprachigen Reiseliteratur der zwischenkriegeszeit 1918-1939 und des zweiten Weltkrieges. In Wuqüf 4-5/1989-1990, Hamburg,S. 343-358.
-Herbert Popp: Die Sicht des Anderen. Das Marokkobild der Deutschen, Das Deutschlandbild der Marokkaner. Referate des deutsch-marokkanischen Symposiumsin Rabat. Passau, 1994.
-Salwa Idrissi Moujib: Das Marokkobild in der deutschsprachigen Literatur. (Dissertation,Grenoble. 1999(.