John Waterbury, North for the Trade. Life and Times of a berber Merchant, Berkeley, University of California Press, 1972.
تقديم
انعكست التغييرات التي أدخلتها سلطات الحماية الفرنسية على المغرب على المستويين الإداري والاقتصادي، تحت غطاء الإصلاحات المنصوص عليها في معاهدة فاس (30 مارس 1912) بشكل مباشر على المجتمع والمجال الجغرافي، فبرزت في البلد منذ سنوات احتكاك المغاربة الأولى بالفرنسيين مجموعة من التحولات، كان من بينها تولد تيارات “هجرة داخلية” تفاوتت وتيرتها وحجمها ونوعها بين منطقة وأخرى. في هذا السياق، شكلت بعض قبائل الأطلس الصغير “مُصَدِّراً” حقيقيا للتجار السوسيين المتجهين نحو مدن الشمال لاحتراف التجارة، التي برعوا فيها لدرجة أنهم تمكنوا خلال فترة وجيزة من السيطرة على بعض فروعها، خاصة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، حيث أصبحت هذه الهجرة “ظاهرة”، ما أثار اهتمام مجموعة من الباحثين الأجانب لدراسة الموضوع من جوانب مختلفة ولأغراض متباينة. 1 من بين هؤلاء الباحثين، خصص جون واتربوي نصيبا مهما من أعماله لهجرة السوسيين.2 وقد تناول الموضوع بواسطة مناهج كمية وكيفية مختلفة، وهو ما شكل فرصة مفيدة للمقارنة سواء بين الخلاصات التي توصل إليها أو بين مزايا ومزالق المناهج التي وظفها.
في الواقع، يندرج اهتمام واتربوري بالموضوع في إطار اشتغاله على تيمة أوسع، تتمحور حول التغيرات التي ساهمت مجموعات معينة من الأشخاص في إحداثها خلال فترات معينة من تاريخ المغرب الراهن. ويعتبر كتابه المعنون ب “إلى الشمال من أجل التجارة… حياة وأوقات تاجر سوسي”3، وهو من بين أهم أعماله بخصوص هجرة السوسيين كظاهرة تعكس تأثر هذه المجموعة بسياق وواقع محددين وتأثيرها فيهما. والكتاب عبارة عن سيرة اجتماعية لأحد التجار المنحدرين من أملن، حاول الباحث من خلالها الإجابة عن بعض الأسئلة المركزية المتعلقة بالموضوع، من قبيل: لماذا وكيف أصبحت هجرة السوسيين إلى مدن الشمال ظاهرة جديرة بالاهتمام؟ لماذا احترف كل المهاجرين التجارة؟ وكيف برعوا في أنواع محددة منها، إلى درجة أنه لا أحد أصبح ينافسهم فيها؟ ثم إلى أي حد ساهموا في إدخال التغيير إلى المجال الاقتصادي في المغرب؟
يقع الكتاب في سبعة فصول، وملحق يضم توزيع التجار السوسيين الجغرافي عبر مدن الشمال، وقاموس مصطلحات أمازيغية وعربية ولائحة بيبليوغرافيةـ وأفرد الباحث الفصلين الأول والثاني لاستعراض الجانب المنهجي والمعطيات المتعلقة بالمجال الجغرافي (وادي أملن)، بينما خصص الفصول الثلاثة الموالية له لدراسة الموضوع الرئيسي. وانفتح في الفصلين الأخيرين على بعض المقارنات ونظريات العلوم الاجتماعية.
وقبل التطرق للقضايا الأساسية التي تناولها الكتاب، نستعرض أولا بعض الجوانب النظرية والمنهجية، ليس من باب الإطالة، لكن نظرا لأهميتها في تحليل المضمون نفسه.
I.معالم منهجية
السيرة الاجتماعيةبين الخاص والعام.
أعطت بعض المدارس الفكرية التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية منذ العقد الثاني من القرن الماضي دفعة قوية للبحث في العلوم الاجتماعية4، من خلال تطوير المناهج الكيفية والميدانية، التي ظهرت قيمتها المضافة في الأعمال الأكاديمية التي وظفتها. وإلى جانب سيرة الحياة، والمقابلة والاستجواب، تشكل السيرة الاجتماعية هي الأخرى أحد أبرز هذه المناهج. وهي تقوم على أساس البحث في حياة فرد معين، لكن في ارتباطها بالسياق/ السياقات العام/ ة التي يحيى وينشط فيها، وهو ما يتيح “فهم العلائق الموجودة بين ما هو محلي عميق وفردي، من جهة، وما هو عام وشمولي تاريخي، من جهة ثانية”، كما عبر عن ذلك الباحث الأمريكي إدموند بورك 5. ومع انفتاح الحقول المعرفية على بعضها البعض وتبني المقاربات متعددة المناهج، لم يبق توظيف السيرة الاجتماعية حكرا على الباحثين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا فقط، بل وجد فيها المؤرخون والباحثون في العلوم السياسية أداة فعالة في الدراسة والتحليل.
وتعد سيرة “الحاج إبراهيم” الاجتماعية، التي قدمها واتربوري في كتابه “إلى الشمال من أجل التجارة… حياة وأوقات تاجر سوسي” مثالا تطبيقيا مفيدا وغنيا لهذا المنهج النظري، حيث اعتبر الباحث نفسه أن السوسي موضوع السيرة يعكس جانبا من التغيرات التي عاشها المغرب خلال الفترة المدروسة. وبمقارنة الكتاب ببعض الأعمال الأخرى المخصصة لدراسة هجرة السوسيين، تظهر قيمته المضافة من خلال ما ورد فيه من وصف دقيق للمعيش اليومي والجوانب النفسية لهؤلاء الأفراد.
الراوي والباحث وإشكالية المسافة.
ليس من اليسير على الباحث ضبط المسافة المناسبة بينه وبين موضوع بحثه، خاصة في الحالات التي تكون فيها مادة الاشتغال الخام هي ذاكرة الأشخاص، حيث ترتبط هذه الأخيرة بإكراهين أساسيين. أولهما اشتغالها وفق آليات ذاتية واعية وغير واعية، تجعلها انتقائية وميالة إلى تضخيم بعض الأحداث، مقابل تهميش أو حذف بعضها الآخر، وهو ما يتطلب من الباحث في هذه الحالة توخي كثير من الحذر المنهجي. أما الإكراه الثاني فهو فيرتبط بطبيعة العلاقة بين الشخص المستجوَب والباحث، والتي إما قد تحفز الأول على تقديم روايته للأحداث والإجابة على أسئلة الثاني، أو تحول دون ذلك.
بالنسبة للعمل موضوع القراءة، يظهر أن الباحث كان واعيا بضرورة الحفاظ على مسافة مقبولة مع “الحاج إبراهيم”، رغم إعجابه بشخصيته، حيث حدد منذ مقدمة الكتاب العلاقة بينهما : “يثير الحاج إبراهيم الإعجاب من نواحي عديدة. أنا أحبه حقا، وأظن أنه يبادلني الانطباع نفسه، لكنه من المُجانب للصواب القول أننا صديقان”.6 ورغم ثنائه على فصاحته وقوة ذاكرته التي وصفها بالاستثنائية، إلا أنه كتب “أنا واثق من أن هذا الرجل معرض للخطأ”،7 كما أكد أنه قارن روايته بمعطيات أخرى حول الأحداث والتواريخ الهامة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب خلال الفترة المدروسة، كما يظهر من خلال البيبليوغرافيا المدرجة في الكتاب، أن واتربوري اطلع على الكتابات الأكاديمية المتوفرة حول الموضوع.
لم يكن التحضير لكتابة السيرة الاجتماعية المناسبة الأولى التي اشتغل فيها الباحث مع “الحاج إبراهيم”، حيث أجرى معه قبل ذلك مقابلات طويلة وعديدة، كما وصفها نفسه بذلك، خلال السنوات الثلاث الممتدة ما بين عامي 1965 و1968. ورغم أن هذه اللقاءات ساهمت في خلق “ألفة” معينة بين الطرفين، إلا أنها لم تكن سببا كافيا بالنسبة للحاج إبراهيم لقبول فكرة السيرة الاجتماعية، التي اقترحها عليه واتربوري عام 1970، دون تردد، حيث أجابه حينها قائلا: “أترى، سيد واتربوري، أنا رجل بسيط. لم أفعل شيئا خارجا عن إطار المألوف، وحياتي ليست مثيرة جدا للاهتمام. وعلى أية حال، لا أود جذب الأنظار إلي…لا أظن أن هذا الأمر سيكون جيدا”.8 ولم يقتنع إلا بعدما أكد له أنه لا يهتم بالتركيز على تفاصيل حياته، وإنما يهمه فهم تغيرات معينة عرفها المغرب من خلال تجربته الخاصة. وفي المقابل، ضمن واتربوري للحاج إبراهيم تمويه هويته الحقيقية، وذلك باستخدام اسم مستعار.9
بعد اقتناعه يجدوى المشروع، أظهر “الحاج إبراهيم” تعاونه مع الباحث، حيث عرفه على عدد من أصدقائه وشركائه السوسيين، واصطحبه معه إلى وادي أملن. ويظهر أن اللقاءات بين الرجلين كانت تتم في جو “ودي”، في شقة الحاج بمدينة الدار البيضاء، حيث روى واتربوري أنه غالبا ما كان بعد تسجيل الشهادات لمدة تدوم ما بين ساعتين وثلاث ساعات، يشاركه الطعام ومشاهدة التلفاز.
ينحدر “الحاج إبراهيم”، المزداد عام 1914، من قرية أملن بالأطلس الصغير. تلقى تعليمه الأولي بالمسجد، لكنه انقطع عنه في سن التاسعة عندما هاجر إلى مدينة طنجة لمزاولة التجارة التي تدرج فيها إلى أن أصبح تاجرا للمواد الغذائية بالجملة في مدينة الدار البيضاء. وإلى جانب حنكته في مجال عمله، راكم الحاج إبراهيم تجربة سياسية دشنها بالانخراط في “حزب الاستقلال” خلال الخمسينيات ـ حيث شارك في تنظيم الخلايا السرية ونقل الأسلحة للمقاومين في المدن، واعتقل خلال إضراب 1952. وبعد انشقاق حزب الاستقلال انضم لـ”لاتحاد الوطني للقوات الشعبية”. وكوفئ على مساهمته في الحركة الوطنية بعد الاستقلال بالحصول على امتياز الاتجار بالجملة في الشاي والسكر، كما أصبح عضوا في البرلمان إثر فوزه في انتخابات 1963 كممثل لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، غير أنه اعتقل مرة أخرى خلال السنة ذاتها. إلى جانب ذلك، شغل منصب مستشار رسمي لدى المكتب الوطني للشاي والسكر. وشارك عام 1966 في تأسيس “الاتحاد المغربي لتجار المواد والمنتوجات الغذائية بالجملة”، وأصبح عضوا مسؤولا فيه.
- قضايا الكتاب المركزية
¨ الهجرة إلى الشمال من أجل التجارة.
رغم بلوغ ظاهرة الهجرة ذروتها خلال ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن السوسيين بدأوا مغادرة قبائلهم نحو مدن الشمال منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. في البداية، قصدوا وجهات مختلفة، ففي الوقت الذي توجه فيه بعضهم إلى غرب الجزائر للعمل في المناجم الفرنسية أو إلى أوربا، هاجر آخرون إلى شمال المغرب، إما للاشتغال في تدريس القرآن، ويتعلق الأمر بالطّلْبة الذين درسوا بالمساجد والمدارس القرآنية العتيقة، أو لممارسة التجارة.
كانت قلة موارد العيش المحلية الدافع الرئيس للهجرة، فالعوامل المناخية والجغرافية للمنطقة، ذات التضاريس الوعرة والتساقطات القليلة وغير المنتظمة لا تساعد على ممارسة الفلاحة، التي كانت النشاط الرئيس لمعظم سكان المغرب آنذاك. غير أن هذه الهجرة كانت محدودة في البداية، خاصة وأن التوتر طغى على المناخ السياسي العام، كما كان انعدام أمن الطرق عائقا حقيقيا. وحتى وإن هاجر السوسي ونجح في تجارته، فإنه كان يواجه مشكل نقل الأموال إلى الوادي. وقدم “الحاج إبراهيم” وصفا مفصلا لهذه الصعوبات وطرق التعامل معها. وإلى جانب ذلك، لم يكن ضعف قدرة المغاربة الشرائية يحفز هو الآخر على ممارسة التجارة.
بعد إرساء نظام الحماية، تغير الوضع لصالح السوسيين وانتعشت حركة الهجرة بشكل ملحوظ، حيث أصبح هناك في كل بيت فرد واحد هاجر إلى الشمال على الأقل. فمن جهة، أصبحت الطرق أكثر أمنا، بل لم يعد السوسيون مجبرين على حمل النقود معهم إلى الوادي بعدما أحدث الفرنسيون مركز بريد بالمنطقة. ومن جهة ثانية، شكل الفرنسيون الذين استقروا بالمغرب شريحة مستهلكين ذات قدرة شرائية أكبر مقارنة بالمغاربة، كما ازداد نشاط الحركة التجارية بعد استقرار الجنود الأمريكيين بالمغرب إبَّان الحرب العالمية الثانية. وخلال السنوات العشر التي تلت الحرب، أصبحت التجارة في الشمال النشاط السائد الذي يمارسه ذكور قبائل الأطلس الصغير ذوو القدرة البدنية الكافية، وصارت مداخيلهم المورد الأساسي لإعالة أسرهم في الوادي. وبذلك، حررت الهجرة المنطقة من الانعكاس السلبي المباشر لظروف الفلاحة المحلية، خاصة وأن مداخيل السوسيين المشتغلين بالتجارة كانت أكبر من أرباح نظرائهم الذين تركوا الوادي لممارسة أنشطة أخرى.
وبذلك ظهر تخصص أبناء بعض قبائل الأطلس الصغير في التجارة. وشكلت أملن القبيلة الرائدة في هذا المجال، سواء من حيث عدد التجار المهاجرين أو بالنظر إلى نجاحهم في السيطرة على قطاع التغذية العامة بالمدن الكبرى خلال فترة وجيزة. ومن أجل تبرير ذلك، تبنى واتربوري نفس الحجج التي تبناها الباحثون الآخرون في الموضوع، حيث اعتبر أن أملن، على خلاف قبائل أخرى، لم تكن خاضعة لحكم الزعامات شبه الفيودالية التي كانت تقتطع جزءا من أرباح التجار، كما أن السكان احتكوا باليهود المقيمين بالوادي، وبذلك استفادوا أكثر من حنكتهم في مجال التجارة. وإلى جانب ما سبق، أكد الباحث أن نماذج أوائل تجار القبيلة الذين حققوا نجاحا كبيرا، شكلت هي الأخرى محفزا قويا للهجرة، خاصة وأن روح التنافس والغيرة كانت طاغية على السوسيين، لدرجة أنه “لا أحد كان يسأل السوسي العائد إلى الوادي أين كنت؟ بل فقط كم ربحت؟”.10
توجه معظم هؤلاء التجار نحو المدن الكبيرة كطنجة والرباط وفاس ومراكش، غير أن الدار البيضاء ظلت قبلتهم المفضلة. وبينما كان الرجال يغادرون القبيلة من أجل التجارة، كانت النساء يبقين ويعتنين بالحقول والأسرة.
¨ التغذية العامة: مملكة التجار السوسيين
قبل أن يغادر السوسي قريته، يكون لديه تصور مسبق ومفصل عن المشاكل التي سوف تواجهه في المدينة، من خلال ما يسمعه من سكان القبيلة حول قصص نجاح المهاجرين أو فشلهم، وغالبا ما يكون قد سبقه فرد واحد على الأقل من عائلته إلى الشمال. فجميع السوسيين يقطعون المراحل نفسها لارتقاء مراتب النجاح في حرفتهم، وليست تجربة “الحاج إبراهيم” نفسه سوى مثال يعكس المسار النموذجي للتاجر السوسي. وهو بدوره استفاد من عمل بعض أفراد عائلته في التجارة، حيث كان جده من أوائل المهاجرين الذين توجهوا إلى مدينة فاس، وانتقل بعدها إلى طنجة، حيث اصطحب معه أربعة من أبنائه، من بينهم والد الحاج إبراهيم، الذي أخذه هو الآخر عندما بلغ التاسعة من عمره. وبنفس الطريقة يدشن كل وافد صغير مشواره في المهنة كمساعد في متجر عائلته أو أبناء قبيلته، قبل أن يفتح دكانه الخاص لبيع المواد الغذائية بالتقسيط، ثم يتوج مسيرته بتجارة الجملة.
خلقت هذه الطريقة في التدبير حركة دائرية بين المدينة والوادي، حيث يتبادل الأفراد فترات الاستراحة والعمل إما بصفة نصف سنوية أو سنوية. وفي الوقت الذي يذهب فيه أحد التجار إلى القبيلة للعناية بالأسرة ونقل الأموال، يبقى الثاني للعمل في الدكان. غير أنه مع مرور السنوات، بدا أن السوسيين يتجهون بسرعة نحو تغيير هذه العادة، حيث أصبحوا يجلبون زوجاتهم وأبناءهم للاستقرار معهم في المدينة، فلا يزورون القبيلة إلا في الأعياد والمناسبات.11. وفي الواقع، كبرت المسافة بين السوسيين والقبيلة بفعل مجموعة من التغيرات الأخرى التي عرفتها المجموعة منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، كعادات الزواج، حيث صار من الممكن اختيار شريك الحياة من خارج القبيلة والوادي، كما أصبح السوسيون حريصين على ولوج أبنائهم المدارس وبلوغهم مستويات تعليمية عالية تخولهم الاشتغال في وظائف مختلفة، عوض اصطحابهم لمساعدتهم في المتجر. وتخلى بعضهم عن فكرة بناء المنزل الكبير في الوادي، وفضلوا بدل ذلك شراء عقار في المدينة أو أرض فلاحية خصبة في مكان آخر.
ومن اللافت للنظر أن هؤلاء السوسيين تمكنوا خلال سنوات قليلة من تحقيق أرباح وفيرة، إلى درجة أن بعضهم صار من كبار الأثرياء، حيث أصبحوا بعد الحرب العالمية الثانية، يملكون جل دكاكين بيع المواد الغذائية بالجملة التي كان يتاجر فيها اليهود. فتمكنوا من فتح مجموعة من متاجر البيع بالتقسيط، واستقدموا أبناء الوادي للعمل فيها. وبعد الاستقلال، اشترى بعضهم “المقاولات” التي تركها الأوربيون، فلم يبق نشاطهم محصورا فقط في الاتجار في المواد الغذائية، بل منهم من أصبح يستثمر كذلك في بعض الصناعات الخفيفة.
وفي الوقت الذي يفسر به بعض الباحثين نجاح هؤلاء السوسيين بكثرة عددهم، حيث ذكر أندري آدم (André Adam) في أحد مقالاته على سبيل المثال، أن التجار المنحدرين من قبيلة أملن شكلوا عام 1950 نسبة % 95 من مجموع التجار بمدينة الدار البيضاء، دحض واتربوري هذا المبرر، وأكد أن السوسيين، بناء على معطيات الإحصاء العام للسكان عام 1960 التي اعتمد عليها، لم يكونوا يشكلون أغلبية تجار التقسيط بالمدينة المذكورة، واعتبر في المقابل أن “أخلاقياتهم” وخصوصياتهم لعبت الدور الحاسم في نجاحهم. ولعل أول هذه الخصوصيات الاشتغال في إطار المجموعة التي يسودها التضامن، الذي يظهر خاصة إزاء الوافدين الجدد أو عند حاجة أحد السوسيين إلى الحصول على قرض مالي، واعتبر “الحاج إبراهيم” أن عدم الإعلان عن إفلاس أي تاجر سوسي خير دليل على هذا التضامن. أما الخاصية الثانية، فتتجلى في قدرتهم على العمل بصفة دؤوبة دون توقف، خاصة خلال السنوات الأولى التي يكونون فيها محتاجين لتوفير أكبر قدر من المال لاكتراء دكان خاص. وبعد العمل في متجر العائلة وفي دكان مشترك مع تاجر آجر، أصبح بإمكان “الحاج إبراهيم” كراء دكان خاص به، وكان في البداية عبارة عن غرفة بمنزل رجل فاسي بأحد أحياء مدينة الدار البيضاء. وإن كانت تلك خطوته الأولى نحو مراكمة الأرباح، فهي أيضا المرحلة التي تطلبت منه بذل مجهود كبير. وفي معرض وصفه لنظام عمله آنذاك، يقول “يجب عليك التوجه إلى سوق الخضر والفواكه بالجملة على الساعة الثانية صباحا. وعندما تصل، قد تجد سبعة آلاف أو ثمانية آلاف شخص قد سبقوك إلى المكان. يجدر بك أن تكون هناك باكرا قبل ارتفاع الأسعار ونفاذ البضاعة… وعلى الساعة السادسة صباحا عليك أن تفتح دكانك، لتغلقه على الساعة الحادية عشر ليلا. وليست لدي فكرة عن الوقت الذي كنا ننام فيه “.12 وينضاف إلى ميزة المثابرة، حرص السوسيين الشديد على ادخار الأرباح التي يجنونها من حرفتهم. عبر “الحاج إبراهيم” عن ذلك بقوله: “لم نكن كالآخرين الذين يريدون جمع الكثير من المال، وإنفاقه دفعة واحدة، بل كنا نحن نجمعه تدريجيا، لكن دون توقف”.13 غير أن فائض هذه الأرباح، لم يكن يستثمر في تطوير التجارة وتوسيعها، لكن في بناء منزل في الوادي، لأنه يعتبر رمز نجاح كل سوسي يهاجر إلى مدن الشمال من أجل التجارة، ومسألة مباهاة كبيرة بين السوسيين.
وإلى جانب ما سبق، يتميز التجار السوسيون بمرونة كبيرة في التعامل، فحتى خلال فترة الحماية، لم يكن السوسي يجد حرجا في أن يتعامل مع الأوربي كزبون في المدينة، ثم يقاتله كمستعمر في الوادي،14 بل إن بعضهم عملوا كمخبرين للفرنسيين مقابل سهر هؤلاء على حماية تجارتهم في الشمال. وكان للحاج إبراهيم نفسه زبون فرنسي ساعده عام 1940 على الحصول على إذن بالمرور من طنجة إلى سوس، بعدما كان من العسير التنقل بسبب ظروف الحرب. ومن جهة أخرى، كان السوسيون يتقاسمون مجال التجارة مع مجموعات أخرى، أهمها الفاسيون واليهود والأوربيون، ومعنى ذلك أن هذه المجموعات كانت على اتصال وفي تفاعل فيما بينها، رغم أن كل واحدة منها تنشط في مجال محدد أكثر من غيره وتميزها خصوصيات معينة. وعلى خلاف الصورة النمطية السائدة بخصوص العداء بين هذه المجموعات، خاصة السوسيين والفاسيين الذين يمثلون في مخيال المغاربة “غريمين تقليديين”، أكد واتربوري أن هذا التصور مبالغ فيه، وقدم حجتين على ذلك، أولاهما أن عموم المغاربة، والسوسيين بشطل خاص، مقتنعون بأن العلاقات بين الفراد تتغير وفقا للظرفيات والمصالح، حيث لا صداقة دائمة ولا عداوة مستمرة.15 وثانيتهما وجود الصراع داخل مجموعة السوسيين أنفسهم رغم التماسك الذي يبدو بينهم . فالتنافس على تحقيق أكبر قدر من الربح شديد بينهم، غير أن التعاون يظل الحل الأفضل لأنه يخدم مصلحتهم جميعا.
¨ السوسيون والسياسة .الحزب في خدمة المتجر
لم تكن الدار البيضاء المكان الذي حقق فيه السوسيين نجاحا كبيرا في التجارة فحسب، بل كانت كذلك المدينة التي حظوا فيها بفرصة الانخراط في العمل السياسي. ومن خلال شهادات “الحاج إبراهيم” وتحليل واتربوري، يمكن القول إن علاقة السوسيين بالأحزاب السياسية تميزت بخاصيتين، أولاهما الاحتكام إلى منطق البراغماتية وحماية المصالح التجارية في اختيار الانتماء الحزبي عوض القناعة الإيديولوجية، إذ غالبا ما يعتبرون أن السياسة بمثابة تجارة تحمل اسما آخر16 ، وهو ما يبرر تقلبهم خلال الفترة المشمولة بالبحث بين ثلاثة أحزاب مختلفة الإيديولوجيا تماما: “الاستقلال”، و”الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” و”جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية”. أما الخاصية الثانية، فتتمثل في طغيان طابع المجموعة على سلوكهم السياسي، فهم ينخرطون في الحزب أو يغادرونه بشكل جماعي، ويتخذون قرارات التصويت في الانتخابات والاستفتاءات بشكل جماعي أيضا. ويتأكد من كلام “الحاج إبراهيم” نفسه أنهم ظلوا يشعرون بخصوصيتهم كمجموعة حتى إزاء الأفراد الآخرين الذين يتقاسمون معهم الانتماء للحزب نفسه، حيث ميز تارة بينهم وبين العمال المنخرطين في نقابة “الاتحاد المغربي للشغل”، ومرة تارة ثانية بينهم وبين مثقفي “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وقابل أحيانا أخرى بينهم وبين “غريمهم التقليدي”، أي النخبة الفاسية.
كان معظم التجار السوسيين المتحزبين استقلاليي الانتماء السياسي. وبحكم طبيعة نشاطهم، الذي كان يسمح لهم بالتعامل مع شرائح واسعة ومختلفة من الناس، إلى جانب انتشارهم على نطاق جغرافي واسع، أسندت إليهم مهمة جمع الأموال والمعلومات والأخبار، حيث كانوا “آذان الحركة الوطنية”،17 إلى جانب المساهمة في تنظيم الخلايا. ففي كثير من الأحيان، كان دكان التاجر السوسي يتحول إلى مخبئ للسلاح أو لمبحوث عنه، أو مكانا لإيصال رسالة معينة. وفي الوقت الذي قلل فيه “الحاج إبراهيم” من حجم هذا الدور بحجة أن عدد المنخرطين كان قليلا وأن الخوف كان طاغيا عليهم، اعتبر واتربوري أنه لا يمكن إنكار المجهود الذي بذلوه، مذكرا ببعض الأسماء السوسية التي لعبت أدوارا مهمة في العمل الوطني.
ورغم أهمية مساهماتهم، وجد السوسيون أنفسهم مقصيين من دائرة اتخاذ القرار داخل الحزب، التي استحوذت عليها نخبة الفاسيين. وبرر “الحاج إبراهيم” استمرارهم في حزب الاستقلال رغم وعيهم بسيطرة البرجوازية الفاسية عليهم، بحرصهم على تجنب خلق الشقاق خدمة للقضية الوطنية، خاصة وأنهم كانوا يدركون أن الفاسيين كانوا أكثر علما ومالا منهم. وبالفعل، اتسع هامش العداوة بين الفئتين بُعيد الحصول على الاستقلال وسعي الفاسيين الحثيث لبلوغ المناصب القيادية. وترجم هذا التنافر على أرض الواقع إثر انشقاق حزب الاستقلال عام 1959 وتأسيس “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” الذي استقطب معظم السوسيين الاستقلاليين، وهو ما عبر عنه الحاج إبراهيم بقوله “عندما أسس ابن بركة والآخرون “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” لأسباب لا علاقة لها بنا، لم يكن لدينا خيار آخر غير الالتحاق بهم، لأن حزب الاستقلال كان يعني بالنسبة إلينا الفاسيين، الذين لم يعد لنا مجال للبقاء معهم”.18 لكن أمل السوسيين خاب مرة ثانية عندما وجدوا أنفسهم بعيدين مجددا عن دائرة اتخاذ القرار داخل الحزب، خاصة وأنهم كانوا يضطرون إلى تنفيذ قرارات يعتبرونها بعيدة عن مصلحتهم، بل تعارضها أحيانا. وانحصر دورهم الأساسي في تعبئة الجماهير للتصويت. وعلى سبيل الانتقام، انسحب الكثير منهم وانضموا إلى “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” إثر تأسيسها عام 1963.
ورغم خيبة أمل الحاج إبراهيم، فإنه استفاد من انتمائه الحزبي، خاصة لـ”لاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، حيث انتخب كعضو في الغرفة التجارية والصناعية للدار البيضاء، ثم نائبا برلمانيا باسم نفس الحزب . وعندما غادره، أسس إلى جانب مجموعة من زملائه في الحرفة “الاتحاد المغربي لتجار المواد والمنتوجات الغذائية بالتقسيط”.
III. نظريات ومقارنات
في الفصل الأخير، حاول واتربوري تحليل أسباب نجاح السوسيين في التجارة على ضوء بعض نظريات العلوم الاجتماعية ومن خلال مقارنة الخلاصات التي توصل إليها بدراسات أنجزها باحثون غربيون، على رأسهم كليفورد غيرتز (Clifford Geertz) وديفيد ماكليلاند (David McClelland)، حول مجموعات تجارية أخرى تنتمي إلى مناطق مختلفة من العالم، تتقاطع مع السوسيين في عدد من الجوانب. واعتبر أن حالة أملن شبيهة بتجربة قبائل المزاب الجزائرية أو جربة التونسية، وأن طرق تدبيرهم وممارساتهم التجارية قريبة من تلك المميزة لـ”اقتصاد البازار” the bazar economy)) الذي كانت تعيش عليه بعض القبائل الأندونيسية التي درسها الأنثربولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز، والتي خلص واتربوري إلى كونها تتقاطع مع السوسيين في مجموعة من الجوانب، وعلى رأسها الاشتغال في إطار المجموعة، لكن مع الفصل بين علاقات القرابة والعلاقات التجارية، إلى جانب نظام الاقتراض بين الأفراد، والتقشف وعدم توظيف الأرباح في استثمارات بعيدة المدى. وعند المقارنة بين المجموعتين، يظهر أن كل هؤلاء التجار “لا يفتقرون إلى المهارات المقاولاتية، لكن إلى القدرة على تكوين مؤسسات اقتصادية فعالة. إنهم مقاولون دون مقاولات”.19 وتقاسم واتربوري مع غيرتز خلاصته المتمثلة في كون هذه المجموعات، رغم نشاطها وحركيتها والتراكم الذي حققته، لم تكن الفئة التي أعطت دفعة قوية لتطوير النظام الاقتصادي.
ومن جهة أخرى، اعتبر واتربوري أن “نظرية حافز الإنجاز” (the achievement motivation theory) التي طورها McClelland، تبدو هي الأخرى ذات قيمة مضافة في تفسير نجاح السوسيين الاستثنائي في مجال التجارة، وذلك بالنظر إلى اهتمامها بدراسة العوامل النفسية المحفزة على تحقيق النجاح في المجال الاقتصادي، من خلال القول بوجود عامل نفسي غير محدد، يجعل الأفراد راغبين في المثابرة على العمل وتطويره وتحقيق النجاح فيه.
خلاصة عامة
يعتبر كتاب في اتجاه إلى الشمال من أجل التجارة بحثا مفيدا، ليس بالنسبة للباحث المهتم بموضوع هجرة السوسيين فقط، ولكن كذلك لمن يهمه الاطلاع على مجموعة من الحيثيات الاقتصادية والسياسية المرتبطة بالفترة الزمنية التي شملها البحث، وهذا الغنى من ميزات توظيف السيرة الاجتماعية. وعلى العموم، يمكن بعد قراءته الخروج ببعض الملاحظات الأساسية. تتعلق الأولى بنجاح واتربوري في كسب ثقة “الحاج إبراهيم”، رغم الاختلاف الثقافي والاجتماعي واللغوي الموجود بينهما، والذي كان من الممكن أن يعوق عملية التواصل، حيث يؤكد تأمل مضمون الكتاب أن جلسات الحوار بين الطرفين كانت تتم في أجواء “ودية”، ولم يذكر الباحث أن “الحاج إبراهيم” رفض أو تحفظ عن الحديث في موضوع معين، بل هو الذي طلب منه استعمال آلة التسجيل، معتبرا أن “صوت الرجل هو ت%