Vincent Crapanzano, Tuhami. Portrait of a Moroccan, Chicago, Chicago University Press, 1980.
حل الباحث الانثروبولوجي الأمريكي فينسنت كرابانزانوVincent Crapanzano بالمغرب سنة 1967 لدراسة حمادشة مكناس والنواحي. أثمر هذا العمل الميداني الذي استمر لمدة سنتين نشره سنة 1973 لكتاب تحت عنوان حمادشة: دراسة في طب النفس الاثني المغربي. وأكمل كرابانزانو هذه الدراسة بكتيب إشكالي عنوانه التهامي: صورة مغربي، وهو عبارة عن سيرة[i] عامل أمي غريب الأطوار تزوره الجن والأولياء في أحلامه ويؤمن بكونه متزوج من عيشة قنديشة. يجيد هذا الشخص المغمور حياكة الحكايات التي يتقاطع الكثير منها مع القصص الخيالية الملأى بالمبالغات والخوارق.
ولد فينسنت كرابانزانو سنة 1939، وتخرج من مدرسة جنيف الدولية. وحصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة هارفارد، ودرجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة كولومبيا. وقد تولى التدريس في جامعات برينستون وهارفارد وشيكاغو وباريس وبرازيليا وكيب تاون. وقد حاضر في الجامعات الكبرى في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وهونغ كونغ وجنوب أفريقيا. وهو أستاذ الأدب المقارن والأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك. ونذكر من بين أهم أعماله [ii]:
– حمادشة: دراسة في طبّ النفس الإثني المغربي؛
– انتظار: البيض في جنوب إفريقيا ؛
– معضلة هرميس ورغبة هاملت: حول إبستمولوجيا التأويل؛
–ﺧﺪﻣﺔ اﻟﻜﻠﻤــﺔ: اﻟﻨﺰﻋﺔ الحرفية ﻓﻲ أﻣﺮﻳﻜﺎ؛
– آفاق متخيلة؛
– الحَرْكي: الجرح الذي لا يلتئم أبدا.
صدر الكتاب موضوع هذا العرض النقدي سنة 1980 تحت عنوان التهامي وبعنوان فرعي صورة مغربي، وصدرت ترجمته إلى الألمانية سنة 1983 واليابانيةسنة 1991 [iii] والايطالية سنة 1995، وهو لا زال ضمن قائمة العديد من الأبحاث المنجزة حول المجتمع المغربي التي تمت باللغة الأجنبية ولم تترجم إلى اللغة العربية.
يقع الكتاب في حوالي مائتي صفحة من الحجم الصغير، ويضم بالإضافة إلى التصدير والمقدمة خمسة أجزاء تنتهي بخاتمة، هذا بالإضافة إلى المراجع باللغتين الإنجليزية والفرنسية والفهارس. والملاحظ غياب صورة للتهامي على غلاف الكتاب بخلاف حضورصورة الفقير في حوارات مغربية والفقيه المنصوري في المعرفة والسلطة، والحاج إبراهيم في صوب الشمال من أجل التجارة. ونجد على غلاف الكتاب رسما تشكيليا بعنوان المرأة الضخمة في تلميح إلى عيشة قنديشة.
إنه كتاب مركب وتجريبي. يتمثل جانب التركيب في كون التهامي عبارة عن تأملات في دور الأنثروبولوجي، وفي الكتابة الأنثروبولوجية والعلاقة بين الذات والآخر. كما نجد توظيفا للتحليل النفسي الفرويدي واللاكاني. لذلك رأى فيه بول رابناو إضافة مهمة للأنثروبولوجيا النفسية. لقد استهل كرابانزانو كتابه بالتأكيد على أنه كتاب تجريبي. أو لنقل إنه مختبر عبر فيه كرابانزانو عن الحساسية الجديدة في الانثروبولوجيا موضوعا ومنهجا في إطار ما عرف بالمنعطف ما بعد الحداثي (postmodern turn) الذي دعا إلى تعدد الأصوات والنص المشترك، ووضع سلطة الانثروبولوجي موضع تساؤل.
لم يقسم كتابه إلى قسم نظري وقسم ميداني، بل نجد الجزأينالنظريين الثاني والرابع يتخللان باقي الأجزاء.
اعتمد كرابانزانو بشكل كبير على التحليل النفسي[iv]. «إن القارئ سيتحقق هو أيضا في أسئلتي بالخصوص من هذا التوجه النفساني الذي صعب علي إقصاؤه»)ص10). ويشير كرابانزانو إلى أنه مدين بشكل كبير إلى كتابات جان-بول سارتر وبالخصوص دراسته حول جان جنيه القديس جنيه (1952)، ذلك أن هذه الكتابات ساعدته على تجنب موقف اختزالي من التحليل النفسي.
اختيار الشخصية موضوع السيرة وطريقة الاشتغال معها
يصرح كرابانزانو بدواعي اختياره لشخصية التهامي (ص. 6). فلقد أشير له بالتهامي من طرف عدد من المغاربة الذين علموا اهتمامه ليس فقط بحمادشة- الطريقة التي كانت دافعا وراء مجيئه إلى المغرب- بل بعيشة قنديشة. فالتهامي على معرفة واسعة بأساليب عيشة قنديشة وأساليب حمادشة، على الرغم من أنه لم يكن من أتباع الطريقة الحمدوشية. وهذا ما أثار كرابانزانو.
يمكن أن نتعرف من خلال كتاب حمادشة: دراسة في طب النفس الاثني المغربي على المخبر التهامي الذي لا يذكره كرابانزانو بالاسم. ويمكن الرجوع إلى هامش 1 ص 230 من الفصل 8 (نظرية العلاج)[v] حيث ينعته بأنه أحد خيرة مخبريه (un de mes meilleurs informateurs).
تمت المقابلات بين كرابانزانو والتهامي على امتداد ثمانية أشهر من منتصف مارس 1968 إلى نهاية نونبر من نفس السنة. وكانا يلتقيان مرة في الأسبوع، صباح يوم السبت في الغالب. وعقدت اللقاءات التي كانت تستمر لمدة تتراوح بين ثلاث وأربع ساعات في منزل مساعده الميداني لحسن الذي استعان به كمترجم وكحلقة وصل مع التهامي. لقد اعتبر كرابانزانو أنه لولا مساعده لحسن لما أمكن إنجاز الدراسة. «إنني مدين له بالشيء الكثير الذي أوردته عن التهامي»(ص XIV).
وتجدر الإشارة إلى أن كرابانزانو دفع مقابلا ماديا للتهامي كما دفع لجميع المغاربة الذين ساعدوه في عمله الميداني )ص 146(.
التهامي بريشة كرابانزانو
إن صورة التهامي التي حاول كرابانزانو تحديد معالمها في ثنايا الكتاب هي بمثابة الأحجية (puzzle) التي تناثرت أجزاؤها أو عناصرها، وعلى القارئ لملمتها لتكتمل الصورة لديه. هكذا نجد أنه لم يسرد تاريخ حياة التهامي حسب الترتيب الزمني لتتابع الوقائع لكنه مزج الأزمنة والأحداث في أكثر الأحيان.
ولد التهامي أواخر سنوات العشرينيات أو بداية ثلاثينيات القرن العشرين [vi] (ص 34) في قرية قرب سيدي قاسم، وانتقل والداه إلى مكناس عندما بلغ التهامي سن الثامنة أو التاسعة (ص 38). يقدم كرابانزانو وصفا فيزيقيا دقيقا للتهامي (ص. 33). لقد كان الرجل أميا لا يجيد القراءة والكتابة. كان يخجل من عجزه عن كتابة اسمه ويتحسر على عدم إرساله إلى الكتاب (ص 47) وإن كان قد تعلم العد والحساب عندما بلغ سن الخامسة (ص 49). ولا يتذكر سوى القليل عن طفولته التي قضاها كما يقول في الأكل و الشرب و اللهو.
كان أكبر إخوته علي ورقية ومحمد (الأخ غير الشقيق). وتوفي والده ادريس وهو ما يزال شابا. وأشار الناس على والدته فاطمة بالزواج مرة ثانية ففعلت. لم يكن التهامي راضيا عن هذا الزواج. لم يقبل الزوج الثاني بوشتة بالتهامي، ولم يمر سوى شهر حتى اضطر التهامي إلى ترك المنزل. اشتغل في بيت فرنسية تدعى السيدة جولان، كما اشتغل راعيا للغنم بمدينة الحاجب قبل أن يستقر به الحال عاملا بسيطا بمعمل للآجور بمكناس، حيث أصبح يعيش في كوخ وحيدا ومعزولا عن الناس.
رسم كرابانزانو صورتين لشخصية التهامي. تقدم الأولى التهامي على نحو استدر تعاطفه معه وإعجابه ببراعته في رواية حكايات يتداخل فيها الواقع والحلم، ويختلط فيها الغرائبي والعجائبي والفولكلوري. لقد كان كرابانزانو في كثير من الأحايين في حيرة من أمره إذ يجد صعوبة في التمييز بين ما تنسجه مخيلة التهامي وبين ما عاشه من وقائع. أما الصورة الثانية فهي تقدم التهامي على نحو يدعو إلى الاستفزاز والتذمر بسبب سلبيته واستسلامه أمام القدر و”المكتوب”. فقد عاش التهامي أسير عالم يؤثثه تقديس الأولياء والتسليم بوجود الجن أو بالأحرى الاستسلام لهذه الكائنات.
في نهاية الفصل الثالث، وفي معرض السؤال الذي وجهه كرابانزانو للتهامي عما إذا كان يخشى المرتفعات والكلاب والأماكن المغلقة والأماكن المفتوحة، اكتشف كرابانزانو الحدث The event الذي كان مركزيا بالنسبة إلى التهامي. إنه حدث غرق صديقه في النهر عندما كان صغيرا(ص 129). لقد اعتبر كرابانزانو هذا الحدث بمثابة اللحظة المشؤومة l’instant fatal وهو المصطلح الذي استعاره كرابانزانو من جان بول سارتر في كتابه القديس جنيه[vii].
وفي الفصل الأخير، يعود التهامي إلى الإقرار بأنه يحيا حياة بئيسة منذ ذلك الحين (ص. 156). “لقد أردت أن أتملك كل ما يعرفه التهامي وكل ما يمكن قوله لي بل وأكثر لقد أردت أن أعرفه تمام المعرفة»(ص 134). بهذا الهاجس، حاول كرابانزانو تقديم رؤية التهامي وموقفه من العديد من القضايا كالمرأة (النساء بصفة عامة)، والأولياء، والموت، والمرض، والمعتقدات السحرية. و لم يفت كرابانزانو أن يبرز بعض “مواقف” التهامي السياسية، وت%