عبد الكبير الشرقاوي، شعرية الترجمة. الملحمة اليونانية في الأدب العربي، دار توبقال للنشر.ط الأولى، 2007.
يزداد الاهتمام بالترجمة يوما بعد يوم. وقد صدر كتاب عبد الكبير الشرقاوي بعد مدة وجيزة من صدور كتاب لعبد السلام بنعبد العالي في نفس الموضوع تحت عنوان: في الترجمة. والكتابان معا يثيران قضايا الترجمة بأبعادها والتباساتها، و يطرحان بعمق ارتباط الإنسان في وجوده بالتواصل والترجمة القائمين. ويدفعان معا للتساؤل: كيف يمكن الحديث عن الحوار الثقافي والحضاري بدون أن تكون «الترجمة» في مكانة الصدارة ؟!
وكيف يمكن أن نفهم هذا السياج الذي يضعه الكون اللغوي ليضع عالما من المعنى يستحيل أحيانا – وربما دائما- نقله بالدقة نفسها الى كون لغوي ﺂخر ؟!
يبدو أن هذا التساؤل يتضمن مفهوما مثاليا لتطابق المباني مع المعاني، لأن الدراسات الدقيقة- قديمها وحديثها- تؤكد أن الترجمة لا تقوم فقط بين اللغات والثقافات، بل أيضا داخل الثقافة نفسها وداخل الصفة نفسها، إذ المتكلم يترجم المعاني في لغته وينزلق بها من حقل إلى حقل ومن معنى إلى معنى. وبمعنى ﺂخر فإن كل منظومة لغوية تنطوي على تعدد. فكيف يمكن أن ننظر للغة في علاقتها باللغات الأخرى بنظرة أحادية فيما يخص الترجمة ؟!
النتيجة التي يجب الحرص عليها أمام هذا الدور من التساؤل هوأن الترجمة توضع مع الإنسان وفي حواره الداخلي و الخارجي وأن حيوية اللغة والثقافة وعمقها وطرافتها وإشعاعها كذلك يكمن في مدى استمرارية حوارها واحتكاكها وانفتاحها.
في هذه النقطة بالضبط يلتقي العاملان المهمان لكل من عبد الكبير الشرقاوي وعبد السلام بنعبد العالي. وإذا كان الثاني ينحو بدراسته منحى فلسفيا وتأصيليا فإن الأول ينحو بدراسته منحى اختباريا وتاريخيا ويخص بذلك حوار الثقافة العربية، وفي أهم مفاصل هذا الحوار:
البعد النظري:نظرية النسق المتعدد:
يؤكد المؤلف أن مادة البحث نصوص ناتجة عن عمليات نقل وترجمة لنصوص ملحمية أو ذات صلة بجنس الملحمة من ﺂداب غير عربية. لكن الاشتغال على هذه المادة يحتاج إلى وضع نظري واضح وملائم: لأن مسألة التواصل وفيما تطرحه علينا من مفارقات تدفع بالتأمل النظري نحو اتجاهات وتفريعات لا يمكن إقصاؤها أو إهمالها.
هكذا خصص الباحث فصلين للمسألة النظرية ملاحظا منذ البداية بأن «الممارسة الترجمية الحديثة والخطاب النظري المصاحب لها يرسم خرائط تصنيفية تقسم الحقل الترجمي إلى مواقع ومناطق مستقلة، لكنها مرتبطة بما يشبه التقسيم الأفلاطوني للموجودات» ص15.
ويترتب عن هذا الوضع انتقال الترجمة في الممارسة إلى «طرائق» مثل التلخيص والمهايأة والترجمة الحرفية والترجمة بالمعنى والترجمة بإعادة الصياغة أو بتعديلها، هذا التنوع إن لم نقل التداخل في الطرائق ناتج عن إهمال البعد النظري والاكتفاء بالتوجه العملي التجريبي بإحالة القضايا النظرية للمختصين من لسانيين ونقاد أدب وفلاسفة. هذا ما يدعو الباحث لتتبع النظرية أو النظريات/الترجمية ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين حيث عرف تحولا خصبا في اتجاهاته الأساسية التي يمكن عرضها في أربعة:
ﺃ- سيميوطيقا الترجمة.
ب- هرموطيقا الترجمة.
ج- لسانيات الترجمة.
د- شعرية الترجمة.
ويبدو أن الاتجاه الأخير هو الأقوى. وهو ما يبرر عنونة الكتاب “شعرية الترجمة” ذلك أن هزي ميشونيك – وهو منظر هذا الاتجاه – يقوم بنقد شامل للنظريات والممارسات الترجمية السائدة وذلك من خلال خمسة محاور:
1- الانتقال من الفعل الترجمي على مستوى اللغة إلى الفعل الترجمي على مستوى الخطاب. فالترجمة ليست فعلا مجردا – كما يؤكد ميشونيك- بين لغتين، بل هي علاقة محددة تاريخيا بين خطابين: خطاب المؤلف وخطاب المترجم.
2 – الانتقال من التعامل مع ملفوظ لغوي في اللغة المنقول منها إلى التعامل مع تلفظ حي لمتلفظ معين.
3 – الانتقال من ادعاء ترجمة المعنى الذي يتضمنه شطر النص إلى المعنى والشكل أو إلى مضمون وصياغة إلى مفهوم “الإيقاع” باعتباره نظاما للخطاب الشامل ومبدءا تلفظيا لا يفصل بين المعنى والشكل.
4 – الانتقال من الفعل الترجمي كنقله من لغة الى لغة إلى الفعل الترجمي ك :”علاقة ” ينبغي أن يعكسها النص المترجم.
5 – الانتقال من التاريخية التي تنفي الذات المتلفظة في النص، إلى التاريخية التي تنطلق من مبدء أن الخطاب هو تذويت للغة، وأن المترجم ينبغي أن يترجم انطلاقا من هذه التاريخية المطلقة للنص.
هذه هي محاور شعرية الترجمة التي يعرضها الكتاب بدقة والتي يستخلص منها هذا الانتقال النوعي الذي يربط بين نظرية وممارسة الأدب ونظرية وممارسة اللغة بينهما، وبين نظرية الترجمة، لأن كل ترجمة تحمل أو تتضمن نظرية عن الأدب وعن اللغة «فلا نظرية ترجمية إذن بدون نظرية لغوية أو أدبية، ولا نظرية لغوية بدون نظرية عن الأدب والترجمة».
ومخاض هذا الحوار النظري ينتهي إلى مزيد من الاهتمام بالنص المترجم الذي هو نهاية العملية الترجمية ومنتوجها وغايتها. ويحول السؤال الأساسي من كيف ينبغي ترجمة النص؟ من هذا التحول استخلصت منهجية «النسق المتعدد» التي تؤكد على دراسة النسق الأدبي بمعزل عن كل حكم تقويمي والخروج من المقارنة المباشرة بين الترجمة و«الأصل» والقائمة على المفهوم المسبق للتكافؤ، واعتماد أطروحة جديدة وخصبة تقول إن النص المترجم له وجوده المستقل داخل الثقافة.
الهدف هو أن المقارنة ينبغي أن تتم بين موقع النص المصدر ضمن نسقه الأدبي ونسق ثقافته، وبين موقع النص الهدف ضمن النسق الأدبي الهدف.
يلاحظ الباحث أن هذه النظرية نظرية «موسعة»، وتعتبر إلى جانب كل المكونات الأساسية المتواضع عليها جانب السياق، نعني السياق الثقافي الذي يجعل النص المترجم مقروءا ومفهوما ومؤثرا ومستوعبا من طرف الثقافة الهدف.
هذا التطور الأخير يتبناه الباحث ويسمح له نظريا بالتعمق في سيرورة ترجمة الملحمة وتطورها ومبلغ فعلها وانفعالها. وهي المرحلة الثانية التي ستشغل الفصول الأخرى من الكتاب.
الملحمة و ترجمة الملحمة :
فرضت الترجمة نفسها على الثقافة العربية الاسلامية التي انفتحت بحيوية على العالم، ومرت في هذه الممارسة من عهدين ممزين :
٭ الأول : كانت فيه الحضارة العربية مهيمنة وكانت الترجمة تتم لفائدة النسق الثقافي العربي المتمثل في علوم وﺂداب هذه الثقافة.
٭ الثاني: كان فيه النسق العربي في موقف ضعف واحتك بالنسق الآخر بعلاقة غير متكافئة.
اكتشفت الثقافة العربية في العهدين أنواعا أدبية مثل الملحمة، واتجهت لتعويض هذا “النقص” وحدث ما يمكن وصفه بالانقلاب الجذري في النظر إلى آداب اللغة العربية وأصبح الحديث عن الرواية والملحمة مناسبة للمقارنة الدائمة بين النسق الثقافي العربي والنسق الثقافي الغربي.
يحتل البستاني الذي ترجم الإلياذة لهوميروس ترجمة كاملة (ولأول مرة) ووضع مقدمة لها مكانة استثنائية في هذا المشهد: وإنها لفضيلة هامة لهذا البحث أن يبرز الدور الذي قام به هذا الرجل العصامي، لأن الاهتمام الذي انصب على التقديم الذي وضعه لترجمته، وازاه إهمال أو نسيان عجيب للنص المترجم، الذي كان هو أصل المجهود الذي بذله، وإنها لمفارقة جديدة بالكامل.
وهذه الفضيلة تنسحب أيضا على رواد آخرين يستحقون الذكر من بينهم رفاعة الطهطاوي صاحب “مدرسة الألسن” وروحي الخالدي الذي كتب دراسته المشهورة عن تاريخ الأدب التي يمكن اعتبارها مع المقدمة التي كتبها البستاني لترجمة الإلياذة من المحطات القوية لتأمل النظرية الأدبية في النسق الثقافي العربي.
يتناول الكتاب إذن مرحلة تاريخية تبدأ من بداية حركة الترجمة حتى نهاية القرن التاسع عشر، ورغم الصعوبات، خاصة منها المتعلقة بضياع النصوص أو تبعثرها وإهمالها، فإن الباحث يستقصي بدقة المتن الفلسفي والنقدي والأدبي ويسجل كل المعطيات النصية ويخضعها للتصور المتعدد بتعدد الأنسقة وتداخلها حتى تكتمل للقارئ صورة العلاقة بين النص المترجم أي (الملحمة) والنسق الثقافي من مبتدئه حتى منتهاه مما يفتح أفقا آخر للتفاعل الثقافي.
ما يشبه حصيلة قابلة للتأمل:
متعة قراءة هذا الكتاب تدفع إلى وضع بعض نقاط للتأمل وهي كثيرة نسجل منها هذه الأفكار على سبيل الخاتمة المفتوحة:
1- يعمق هذا البحث في العقل والوجدان أهمية الترجمة في حياة اللغة والثقافة العربية ويفتح حلما وأملا للحظة ثقافية ثالثة -بعد لحظتي بيت الحكمة ومدرسة الألسن-، تتحول في الثقافة العربية الى ورش علمي وثقافي تأخذ فيه الترجمة موقع الصدارة.
2- يشير هذا البحث إلى أن فعل وتأثير الترجمة يخضع لحركية النسق الثقافي حيث لا يمكن التنبؤ بالنتائج العلمية بشكل مسبق. ويبدو ذلك في المفارقة التي سجلناها لعمل البستاني الي عاش حياة مثيرة إذ عاشت المقدمة التي كتبها لترجمة وأثرت في الحياة الأدبية على حساب النص المترجم.
لهذه المفارقة أسباب وقف عندها الباحث. لقد تحدث عما سماه”بالمهايأة ” وهو مبدأ يعني خلق الشروط الملائمة لتلقي النص المترجم وهذا لا يتحقق إلا باعتبار حركية النسق الثقافي.
3- هذا كتاب تأسيسي لأنه يؤصل الجانب النظري ويربطه بالممارسة التطبيقية مع وعي مسبق بالعوائق التظرية والتطبيقية.
4- إغفال ترجمة الأدب اليوناني القديم يقابله اهتمام بترجمة الآداب في العصر الحديث، بالمقابل هناك ضعف غير مفهوم في ترجمة العلوم التي كان الاهتمام بها قويا في عصر المامون. وهذا خلل في التوازن يعكس خللا أو هشاشة في النسق الثقافي.
5- رغم أن الطفرات الثقافية تقوم على دور المؤسسات الأساسي، فان مبادرات الأفراد لها إشعاعها اللغوي وهذا ما مثله جل المترجمين الكبار في العصر الحديث. لكن التأمل يقتضي اعتبار البنيتين الفردية والجماعية.