نشأت كتابة السيرة الاجتماعية عبر سلسلة من الاجتهادات التي ابتكرتها بعض الاتجاهات الأنجلوساكسونية في العلوم الاجتماعية . فمنذ العقد الثالث من القرن العشرين، اهتمت “مدرسة شيكاغو” بدراسة مجتمع المهاجرين والأوساط المهمَّشة في تلك المدينة الصناعية الكبرى، وأثارت الانتباه إلى أهمية السيرة كمادة تتصل بالمقاربة الكيفية، والملاحظ المشارٍكة، والإنصات لحديث الساكنة المدروسة عن ماضيها وحاضرها وتطلعاتها. ثم جاء الأنثروبولوجي أوسكار لويس، فاعتمد “السير الذاتية المتقاطعة”، وصاغ مفهوم “ثقافة الفقر” من خلال دراسة المجتمع المكسيكي. ويعتبر كتاب أبناء سانشيث من أمهات في الأدبيات السوسيولوجية. ومنذ ستينيات القرن القرن العشرين، ساهم الاهتمام بالسيرة في تجديد التاريخ الاجتماعي، وازداد الاهتمام بالجنس البيوغرافي في إطار انتعاش التاريخ الشفوي وإعادة الاعتبار للمعيش والذاكرة.
والملاحظ أن عددا من الأنثروبولوجيين الأمريكيين أقاموا علاقة خاصة مع أشخاص تم استجوابهم خلال تحضير بحث أطروحة الدكتوراه، وفي وقت لاحق خصوا أولئك الشهود بدراسة بيوغرافية انطلاقا من الحوار وحكي الشخص عن ذاته. وهكذا تم إنتاج سير اجتماعية تناولت شخصيات مغمورة تنتمي إلى أوساط متنوعة، حيث نجد الفلاح، ومثقف البادية، والتاجر، والعائلة الشريفة، والمرأة المقاومة. وفي كل هذه الحالات، يكون الفرد موضوع السيرة مدخلا للتعريف بوسط اجتماعي أوسع، ويشركنا المؤلف أحيانا في تاريخ علاقته ومستويات تفاعله مع الشخص، بل يصوغ كتابه أحيانا في شكل حوارات مطولة مبنية وفق محاور موضوعاتية.
بناء على هذه الاعتبارات، نظمت مجلة “رباط الكتب”، بتعاون مع “مختبر المجتمعات الصحراوية”، التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، يوما دراسيا في 21 أبريل 2012، شارك فيه باحثون وطلبة باحثون في التاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وعلم السياسة والأدب، بغرض التعريف بإنتاج لم يُتداول بشكل واسع في الجامعة والحقل الثقافي المغربيين، لاسيما وأن عددا من الأعمال لم تُترجم إلى العربية والفرنسية. وإلى جانب ذلك، سعى هذا اللقاء إلى تحفيز الباحثين المغاربة لخوض تجارب مماثلة، خاصة وأن التأليف البيوغرافي ما زال ضعيفا، وما زالت تعوقه مجموعة من العوامل مثل مشكلة الأرشيف الشخصي والعائلي، والرقابة الذاتية، وهيمنة خلفية التمجيد، وثقافة المنقبة. فسوق الكتاب يقترح بالأساس سيرا لشخصيات وزعامات سياسية يكتبها الأقارب أو الأصدقاء والأتباع، أو تقترح أعمال ندوات تمجيدية تتناول حياة وأعمال بعض رجال الفكر أو الأدب أو التصوف. وهكذا تغيب في نصوص السيرة لحظات الضعف أو الفشل أو التردد، وتختفي تفاصيل المعيش وراء المحاسن أو البطولة النمطية.
وقد نتج عن لقاء أكادير ملف تنتظم مواده وفق ثلاثة محاور:
– المصادر المنهجية للسيرة الاجتماعية (فؤاد خاليد طحطح وجمال خليل)
– نماذج من الأعمال الأمريكية، مثل واتربوري حول الهجرة التجارية لأهل سوس (مديحة الصبيوي)، وكرابانزانو حول شخصية التهامي وعلاقته بحمادشة وعائشة قنديشة (محمد لهبوب)، وكيفين دواير في حواراته مع فلاح من بادية سوس (عبد الكريم مدون)، و أليسون بيكر في كتابتها لسير نساء مقاومات (فاضمة أيت موس).
– انخراط بعض الباحثين المغاربة في تجربة السيرة الاجتماعية بأشكال وصيغ متنوعة، مثل فاطمة المرنيسي ومحكيات نساء المغرب (أسية بنعدادة)، وتنسيق محمد طوزي وفرانسوا بيرالدي لورش جماعي حول مجتمع الدار البيضاء (فاضمة أيت موس)، ومشروع الجيلالي العدناني في كتابة سير متقاطعة تهم مرحلة بداية مرحلة الحماية.
وفي نهاية هذا التقديم، أود باسم المجلة أن أجدد الشكر للأستاذ عبد الكريم مدون الذي ساهم في بلورة المشروع، وسهر على تنظيم اللقاء إلى جانب زملائه في المؤسسة المضيفة.
ملحوظة : لقد أدرجنا التعريف بالكتاب الجماعي حول الدار البيضاء، والواقع أن فاضمة أيت موس عرضت هذه القراءة في المكتبة الوسائطية لمؤسسة مسجد الحسن الثاني، في إطار برنامج الشراكة الذي يربط هذه المؤسسة مع مجلة “رباط الكتب”.