عبد الحي الخيلي، النخبة والإصلاح: نماذج من الفكر الإصلاحي العثماني بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر الميلاديين، تقديم عبد الرحيم بنحادة، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2014.
بين المؤلف في هذا العمل، كيف قارب رجال النخبة العثمانية الخلل الذي عرفته مؤسسات الدولة والحلول التي اقترحوها للإصلاح، لذلك ركز على ثلاث مجالات أساسية طرحها رواد الإصلاح والتحديث في الدولة العثمانية، وهي: إصلاح الإدارة وإصلاح الجيش وإصلاح المالية.
حاول عبد الحي الخيلي تحليل إسهامات رجال النخبة الإصلاحية، من مؤرخين وفقهاء وسياسيين ومستشارين وكتاب وإداريين وعلماء ووزراء وسفراء ودبلوماسيين وخبراء عسكريين وماليين. وتطرق لنماذج من إسهامات هؤلاء في الإصلاح والتحديث، سواء من خلال التأليف والتنظير، أو من خلال اشتغال هذه النخبة في مؤسسات الدولة المختلفة ووقوفها عند الخلل الذي أصاب تلك المؤسسات، ثم تقديمها للحلول الدقيقة الكفيلة بإصلاح وتحديث مؤسسات الدولة العثمانية.
قام المؤلف بدراسة وتحليل تطور الفكر الإصلاحي العثماني بين القرنين 16و19م، حيث عمل على استقراء منتج النخبة، وخلص إلى أن الفكر الإصلاحي العثماني تطور من الفكر التقليدي خلال القرنين 16 و17م، إلى الفكر التجديدي الحداثي خلال القرنين 18 و19م، مما أفرز مشاريع إصلاحية وتحديثية مهمة.
اهتم القسم الأول بالتعريف برواد الإصلاح والتحديث في الدولة العثمانية بين القرنين 16 و19م. وقد تتبع الفصل الأول مسارات النخبة الإصلاحية، من خلال الوقوف عند أصول تلك النخبة ومكانتها الاجتماعية ومساراتها العلمية ومهامها الوظيفية، ودورها في تشخيص أزمة السلطة بالدولة العثمانية، وتقديم الحلول المناسبة لتجاوز هذه الأزمة. وبين المؤلف، في الفصل الثاني، أبرز إنتاج النخبة الإصلاحية في الدولة العثمانية، مركزا على رسائل الإصلاح السياسي والكتابة التاريخية ثم التقارير السفارية، وذلك من أجل بلوغ سبل معالجة الأزمة والدعوة إلى الإصلاح والتحديث.
أما القسم الثاني فقد تطرق إلى تطور الفكر الإصلاحي العثماني بين القرنين 16 و19م. رصد المؤلف تصورات النخبة الإصلاحية لمسببات الأزمة ومظاهرها، وتطرق إلى تصورات النخبة للإصلاح العسكري والإداري والسياسي والمالي، وحلل أهم مشاريع النخبة العثمانية للإصلاح والتحديث. وأضح الفصل كيف أخرجت السلطة السياسية تصورات النخبة الإصلاحية في شكل مشاريع تحديثية، منها على الخصوص تحديث المؤسسات العسكرية والمالية والإدارية، وكذا تأسيس المطبعة وتعميم المعرفة. وأفرد المحور الثاني للعوامل والأسباب التي حالت دون نجاح مشاريع الإصلاح والتحديث وبالتالي استمرار الأزمة.
خلص المؤلف إلى أن تنوع الأصول الاجتماعية والجغرافية للنخبة العثمانية انعكس على تكوين وثقافة تلك النخبة وتصوراتها للازمة والإصلاح. حيث كانت النخب الأكثر قدرة على استيعاب أسباب الأزمة ودور الآخر في تكريسها هي المنحدرة من أصول (أوربية – إسلامية). في حين اقتصرت النخب المحلية التقليدية على حصر الأزمة في الأسباب الداخلية. كما خلص إلى أن الأزمات السياسية التي هزت الدولة العثمانية، لعبت دورا محوريا في التوافق الذي عرفته النخبة الإصلاحية مع السلطة السياسية، وذلك من أجل البحث عن حلول لتجاوز هذه الأزمات.
وانتهى البحث أيضا إلى خلاصة مفادها أن الفكر الإصلاحي العثماني تطور بتطور الأزمات التي عرفتها البلاد.كما زاد تطور وثيرة المستجدات السياسية الداخلية والضغوط الخارجية، من الإصرار على البحث عن الحلول في مختلف الميادين. وقد اعتبر رجال النخبة الإصلاحية أن تدخل الجيش في السلطة يعد مسببا بنيويا من مسببات الأزمة، كما ربطت هذه النخبة الخلل الذي أصاب المؤسسة العسكرية بالمؤسسة المالية، حيث تضخم الجيش في المركز والولايات مما أثر على خزينة الدولة. وفي نفس الإطار ركزت النخبة على التفاوت التقني العسكري بين الجيش الأوربي والجيش العثماني، واعتبرت هذا التفاوت مسببا من مسببات الأزمات الخارجية للدولة العثمانية. وقد لعب الحريم السلطاني دورا محوريا في الأزمة التي عرفتها الدولة العثمانية خصوصا خلال القرن السابع عشر الميلادي. حيث نعتت الدولة العثمانية ب “سلطنة الحريم” ، نظرا للتأثير الكبير الذي مارسه الحريم السلطاني، من خلال عزل وتولية الأمراء وتغير دفة الحكم خلال فترات حكم السلاطين الضعاف.
واستنتج عبد الحي الخيلي تطور تصورات النخبة للأزمة، من النظرة التقليدية التي ركزت على إصلاح الجيش خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، إلى نظرة أكثر شمولية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. بحيث أثمر هذا التحول مشاريع إصلاحية تجديدية وحقيقية خصوصا، على عهد السلطانين سليم الثالث (1789-1807) ومحمود الثاني (1808-1839)، أبرزها النظام الجديد والإيراد الجديد والتنظيمات الخيرية. وكان رجال النخبة الإصلاحية قد اجمعوا على ضرورة القيام بإصلاحات سياسية عميقة تشمل مؤسسات الدولة التي أصابها الفساد. بحيث أصبحت هذه النخبة تدعوا إلى إصلاحات سياسية ودستورية خصوصا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.
وركزت السلطة السياسية في الدولة العثمانية من جهتها على إنتاجات وتصورات النخبة الإصلاحية لتجاوز الأزمة من خلال تبني مشاريع الإصلاح والتحديث التي قدمتها النخبة. غير أن مشاريع الإصلاح تلك قد واجهت عدة تحديات داخلية وأخرى خارجية، أبرزها الصراع الذي كان بين النخبة المتنورة والمدعمة للتجديد، وبين النخبة المحافظة الداعمة لأسس النظام القديم، الأمر الذي هدد بنسف مشاريع التحديث والإصلاح وكرس استمرار الأزمة.
يساهم هذا الكتاب في التراكم المنجز حول الدراسات العثمانية التي نشأت في الجامعة المغربية منذ سنوات. وهو يوفر معطيات غزيرة حول الموضوع، خصوصا وأنه اعتمد على مادة علمية ركزت على دراسة متون وأدبيات رجال الفكر والإصلاح بلغاتها الأصلية العثمانية والتركية. كما اعتمد على مادة علمية رصينة مكنت من سبر أغوار هذا الموضوع، ومنها وثائق الأرشيف الوطني التونسي وأرشيف رئاسة الوزراء بإستانبول وكتب التراجم والأعلام.
يستدعي الكتاب بعض الملاحظات. فهو لم يحدد بدقة بعض المفاهيم الأساسية مثل “النخبة” و”الإصلاح” و”التحديث”. ولم يتحدث بالتفصيل عن دور القوى الأجنبية وتأثيرها في عملية الإصلاح التي شهدتها الدولة العثمانية. كما أنه لم يوضح تأثير هذه القوى في الفكر الإصلاحي العثماني، خصوصا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وأغفل التركيز على دورها في عرقلة مشاريع الإصلاح والتحديث. وفي مستوى آخر، يمكن أن نساءل المؤلف : هل يمكن أن تأتي مبادرات الإصلاح من شرائح أو مكونات أخرى داخل المجتمع العثماني؟ وفي الأخير، نشير إلى أن المؤلف اقتصر على صفحتين فقط في آخر الكتاب لكي يبين مآل مشاريع الإصلاح والتحديث في الدولة العثمانية، بينما يفترض في هذه الدراسة أن تسهب في تحليل أسباب فشل مشاريع الإصلاح والتحديث في الدولة العثمانية.