محمد عمراني، الشرف والمجتمع والسلطة السياسية بالشمال الغربي المغربي بين النصف الثاني من القرن 9-13هـ / ونهاية 15-19م، الرباط، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2015، 385 صفحة.
عندما صاغ ابن خلدون نظريته حول الدولة ونشأتها واعتمادها العصبية القبلية لقيامها واستمرارها كان يعتقد أنه توصل إلى قاعدة كونية شاملة وصالحة لتفسير الصيرورة الكامنة وراء تشكل السلطة السياسية وقيام الدول، بغض النظر عن المكان والزمان. لكن هذه النظرية التي صاغها ابن خلدون خلال القرن الرابع عشر لم تصمد طويلا، في بلاد المغرب على الأقل، وأصبحت مع نهاية المرينيين، الذيـن عاصرهم صاحب المقدمة وأدمجهم ضمن العصبيات القبلية التي نظر لها، شبه متجاوزة ومحدودة الصلاحية لتفسير قيام نوع جديد من السلطة السياسية القائمة على عـنصر الشرف، دون أن يعنى ذلك بطبيعة الحال اضمحلال العصبية القبلية كمحرك للدينامية الاجتماعية والسياسية.
وبحلول شرف النسب محل العصبية القبلية ابتداء من بداية القرن السادس عشر يكون تاريخ المغرب قد شهد تحولا جـذريا في مساره، إذ لم تعد العصبية وقوة القهـر هما المرتكز الأساسي للدولة،ولا حتى “الدعـوة الدينية” التي اعترف ابن خلدون بجدواها السياسية، المحـدد الرئيسـي لـمشروعية الحكم. فالعنصر الحاسم في تحديد هذه المشروعية أصبح هو شرف النسب الذي لا يقترن بالضرورة لا بعصبية قـاهرة، ولا بدعوة دينـية تحشد لصاحبهـا الدعــم والمؤازرة. وعلى الرغم من ارتباط الشرف بمرجعيات فِئوية ومحلية ضيقة، فقد أثـبت قدرة خـارقة على الحشد والتعبئة إلى درجـة أن الدولة الشريفة أصبحت عنوان “الدولة الوطنية” الموحِدة والجامِعة. وهذا الأمر لم يكن ممكنا إلا بتحول الشرف من مجرد انتماء سُلالي مرتبط بنسب متميز إلى إيديولوجية معبئة لإنجاز مشروع سياسي يتجاوز الإطار الجنيالوجي الضيق، الذي لا يختلف كثيرا في جوهره عن الانتماء القبلي، إلى مشروع موجه إلى بناء دولة وطنية حديثة مع ما يتطلبه ذلك من كبح للنـزعات الفئوية والجهوية التي تعاكس تحقيق طموحاتها السياسية الواسعة. من هذه الزاوية لا يمكن أن تغيـب عن بال المؤرخ تجربة أوربا الحديثة التي تميزت هي الأخرى، وإن في ظروف تاريخية واجتماعية مختلفة، بتزعم بعض الأسر النبيلة لعملية بناء الدولة الوطنية الحديثة ضدا على باقي النبلاء ونزوعهم نحو الجهوية والتشرذم السياسي.
قد يقول البعض: وما هو الجديد في تولي الشرفاء للحكم انطلاقا من بداية القرن السادس عشر؟ ألسنا أمام مجرد العودة إلى تجربة سابقـة؟ فالمغرب عرف الأدارسة قبل أن يعرف السـعديين والعلـويين، فأين وجه الاختلاف؟ الجواب يقدمه ابن خلدون نفسه الذي يقول بأنه سواء في حالة الأدارسة بالمغرب الأقصى، أو الفاطميين بالمغرب الأدنى ومصر، فإن جوهر الحكم كان قبليا وقائما على عصبية قـبلية، “إذ قام بأمـرهم البرابرة مرة بعد أخرى، فأورَبة للأدارسة، وكُـتامة وصنهاجة وهوارة للعبيـديين”. بمعنى آخر فإن دولة الأدارسة، وإن كان على رأسها شرفاء، فإنها كانت قائمة على أساس عصبية قبليـة بربرية. أما السعديون والعلويون فإنهم، وإن وظفوا العصبية القبلية لتثبـيت أمرهم (اعتمـاد السعديين في بداية أمرهم على العصبية السـوسية بالجنـوب مثلا، أو اعتماد العلـويين على عصبية المغافــرة) فإنـهم لم يفعلوا ذلك إلا من باب البركماتية السياسية، وكان هدفهم دائما هو الاسـتقلال عن أية عصبية بتوسيع القاعـدة الاجتماعية لحكمهم عبـر تحالفات متعددة من جهة، وعبر خلق مؤسسات (عسكرية بالخصوص) تسمح لهم بحرية التصرف بمعزل عن المجتمع وتناقضاته.
لعل أهم ما يدعم هذا الطرح هو أن الشرفـاء السعـديين والعلـويين كانوا واعين منذ البداية بأن نجاح مشروعهم السياسي يمر أولا وقبل كل شيء عبر إخضاع الأسـر الشريفة نفسها للدولة وحصرها في المجال الديني الصرف حتى لا تـنافسها في التوظيف السياسي للشرف. ومما يسترعي الانتباه في ظاهرة رد الاعتبار للشرفاء التي بدأت تتبلور مع أواخر الدولة المرينيـة أن مســـرح هذا التطور كان بمدينة فاس والقسم الشمالي من البلاد، وكانت نقطة الارتكاز في هذه الظاهرة هي الشرف الإدريسي الذي كان من المفروض أن يستفـيـد قبل غيره من هذا التحول التاريخي. إلا أن ما حدث هو أن الأسـر الشريفة التي تقلدت الحكم جاءت من الجنوب ولم تكن أسرا شريفة لها ظهور كبير، بل إن شرف البعض منها كالسعـديين كان محل شك، في حين كان العلـويون يحتلون مرتبة ثانـية على سلم النسب الشريف إذا ما قورنوا بالأدارسة الذين كانوا يحتلون مكانة الصدارة من ناحية “الشهــرة والظهور”. لذلك رأى شرفاء الشمال أن السعـديين، ثم العلويين، قد حـولوا لصالحهم مسارا كان من المفروض أن يستفـيد منه الأدارسة بالدرجة الأولى. وهذا الإحسـاس بالغبـن و التهميش هو الذي يفسـر، ولو جزئيــا، شراسة وطول مقاومة مدينة فاس لحكم السعـديين، ثم العلاقات المتوترة بين سلاطـين الـدولة العلوية ومدينة فاس فيما بعد. والعلاقات المتوتـرة بين شرفاء الجنوب والحاضرة الإدريسية هي التي تفسر كذلك لماذا تعامل السعديون مع شمال البلاد، وفاس على وجه الخصوص، كأرض عـنوة أُخضعت لحراسة مشددة.
لذلك تميزت سياسة السعديين والعلويين بالكثيـر من الحذر تجاه الشرفاء الأدارسة وحاولوا بشتى الوسائـل كبح طموحاتهم السياسية وحصرهم في المجال الديني الصرف. وما دواويـن الشرفاء التي اعتمدها السلاطين السعديون والعلويون إلا وجها من أوجـه هذه السياسة. فهذه الدواوين، وما رافقها من تنـظيم خطة النقابة، كان الغرض منها مزدوجا: أولا، ضبط الأنساب الشريفـة وحصرها وإخضاعها لمراقبة الدولة، وثانيا، جعل هذه الدواويـن وسيلة لتمييـز أصحابها وإغـداق جملة من الامتيازات المعنوية والمادية عليهم، ضمانا لولائهم وإبعادا لهم عن المجال السياسي المحتكـر.
إن هذا الشرف الإدريسي بشمال المغرب يشكل جوهر دراسة الأستاذ محمد عمراني، وهي مساهمة أكاديمية موثقة من شأنها أن تساعدنا على فهم أفضل للشرف كظاهرة اجتماعية ـ سياسية، وكمجال يتمفصل حوله ما هو ديني وما هو اجتماعـي-سياسي، في منطقة بالغة الحساسية ليس فقط لكونها معـقلا تاريخيا للشرفاء، ولكن كذلك لكونها مجالا لرهانات أخرى متداخلـة مع الشـرف ولا تقل عـنـهأهمية، إذ كانت المنطقةتمثـل دائما الـخط الأمامـي للـمـواجهـة مع العدو، وفي نفس الوقت البوابة التي لا تستغني عنها أيــة دولـة فـي تفـاعلهـا مع العالم الخارجي.
لقد تتبع محمد عمراني ظاهرة الشرف في الزمان والمجال عبر تسعة فصول تنتقل بالقارئ من جذور الشرف في المشرق والمغرب إلى المشاكل السياسية المترتبة عن الحماية القنصلية الفرنسية التي انخرط فيها شيخ الزاوية الوزانية في نهاية القرن التاسع عشر، مرورا بمحطات تاريخية أساسية تظهر من خلالها هوية شرفاء شمال المغرب، وأدوارهم الاجتماعية والسياسية، وامتيازاتهم المادية والمعنوية. وإذا كانت هذه الأدوار والامتيازات، التي وسعت رقعة المقدس في المنطقة، ومكنت هؤلاء الشرفاء من ممارسة سلطة اقتصادية على البشر والمجال الزراعي، قد تحكمت فيها مصالح متبادلة بين هؤلاء الشرفاء من جهة، والمخزن من جهة ثانية، من حيث السخاء في توزيع الامتيازات مقابل بسط السيادة على المجتمع المحلي، فإن ظرفية القرن التاسع عشر المتميزة بتنامي التدخل الأجنبي في المغرب قد أخلت بطبيعة هذه العلاقة وفككتها، كما فككت توازنات أخرى في مختلف أنحاء البلاد إيذانا بنهاية مرحلة وبداية أخرى كان من ورائها الاستعمار الأوروبي.