“الرمزي والمقدس: نظريات الدين “[1]
كاميّ طارو
عالم اجتماع فرنسي، ولد في عام 1943، متخصص في تاريخ الأديان وعلم اجتماع الدين وأستاذ سابق في جامعة كاين حتى عام 2011، عضو دائم في مركز الدراسات والبحوث حول المخاطر ومواطن الضعف.
من مؤلفاته :
– من دوركهايم إلى موس، اختراع الرمزي: علم الاجتماع والدراسات الدينية (1999).
– علم الاجتماع وأنثروبولوجيا مارسيل موس (2003).
– ثم عمله الضخم “الرمزي والمقدس. نظريات الدين” (2008) المستمد من أطروحة الدكتوراه التي ناقشها طارو في 1994، والذي ويهدف إلى إحياء علم اجتماع الدين، وهو الطموح الكبير الذي كان يراود مؤسِّسَي علم الاجتماع: إميل دوركهايم ومارسيل موس.
كتاب “الرمزي والمقدس”
تُعَدُّ قضية الدين، في جوهرها ووظائفها ومنشئها، مركزية في علمَي الاجتماع والأنثروبولوجيا الكلاسيكيين. ولكسر جمود الدين الحاصلِ اليوم في هذه العلوم، يقترح طارو مراجعة نقدية لأفضل النظريات المتضاربة والمتناقضة التي درست الدين. نجد في كتابه هذا ثمانية مفكرين فرنسيين أساسيين: إميل دوركهايم (1858-1917)، ومارسيل موس (1872-1950)، وميرسيا إلياد (1907-1986)، وجورج دوميزيل (1889-1986)، وكلود ليفي ستروس (1908-2009)، ورينيه جيرار (1923- )، وبيار بورديو (1930-2002) ومارسيل غوشيه (1946- ).
يحلل كاميّ طارو مفاهيم الدين والمقدس، والرمزي والمجتمع والثقافة عموما، ولكن من دون تقديم نموذج لتحليل الدين. وتنبني طريقة التحليل هذه على أساس lectio (عرض الأطروحات)، وdisputatio (مناقشة الحجج بينها) وdeterminatio (تقديم الحلول)، ما يفسر بعض الشيء طول الكتاب. هذه الطريقة المدرسية القروسطوية تمكن القارئ من تناول الكتاب كدليل لسوسيولوجيا الدين. على أن خصوبة النموذج المقترح تشهد بقدرة المؤلِف على عمق قراءة المصادر وإعادة طرح المشكلات القديمة التي تتخبط فيها وظائف الدين ولم تتقدم قيد أنملة منذ إميل دوركهايم، كما يعتقد طارو.
تركز الدراسة على العلاقة بين مفهومين من أهم المفاهيم في علم اجتماع الدين: المقدس، الذي نظّر له كل من الألماني رودولف أوطو (1869-1937) والفرنسي إميل دوركهايم، والرمزي الذي اكتشفه مارسيل موس. اما الفرضية الأساسية لهذا العمل فهي أن التمييز بين المقدس والرمزي هو أول ما يجب القيام به لطرح إشكالية تعريف الدين.
من خلال الجمع بين هذين المعيارين (المقدس والرمزي)، يمكن القول إن هناك أربعَ فِرق رئيسة من المنظِّرين: هناك مفكرون، أمثال رينيه جيرار، يُعلون من شأن المقدّس ويسقطون الرمزي من دراساتهم. وهناك، على العكس، مفكرون، أمثال كلود ليفي ستروس، يؤكِّدون على الرمزي من دون اخذ المقدس بعين الاعتبار. وهناك أيضاً مفكرون، كـ مارسيل غوشيه، يتجاهلون الرمزي والمقدس معاً. وتبقى فئة رابعة من المفكرين، كـ دوركايم وموس وطارو نفسه، تحاول الجمع بين المفهومين معا.
من خلال هذه الرحلة الطويلة في نظريات الدين يبدو أن جوهر الديني يكمن عند تقاطع المقدس والرمزي. وتبقى إحدى أطروحات طارو الرئيسة متمثلة في أن العلوم الإنسانية بصفة عامة وعلم الاجتماع على وجه الخصوص ما زالت متأخرة من حيث التفكير في الدين.
من الناحية النظرية حاول طارو في قراءته الاستكشافية هذه الدمج بين نظريات دوركايم وجيرار، بالنظر إلى موس على أنه دوركايمي صِرف. ذلك أن طارو يَعُدّ دوركهايم وموس أكثر علماء الاجتماع ربْطاً بين الديني والممارسات والطقوس، وليس بين الديني والمعتقدات فقط. وهو يرى أيضاً أن دوركايم قام بـ “ثورة كوبرنيكية” في علم اجتماع الدين، وترتكز فكرته على التخلى عن محاولة فهم الدين من خلال أشكاله الأكثر وضوحا، أو مايسميه طارو الأديان “الفوقية”، اي الآلهة والأساطير… إلخ، والتركيز علىالديني “التحتي”، أي الممارسات اليومية ومعانيها عند من يمارسونها. الشيء الذي يقود طارو إلى التمييز بين ما يسميه “orthodoxies” الاعتقادات و”orthopraxies ” الممارسات العملية الحقيقية. وهو تمييز يعتقد صاحبه أنه يساعد على فهم الدين من ناحية عبر ثقافية بدل الفكرة الإثنية للدين (ص. 857).
تبقى النظرة الإثنية للدين، كربط هذا الأخير بالمسيحية فقط في الغرب أو بالكاثوليكية في بلد كفرنسا مثلا، أهم عائق في الدراسات الاجتماعية حول الدين، حسب طارو. لهذا يعطي هذا الأخير تعريف دوركهايم للظاهرة الدينية بوصفها حقيقة عملية لمؤسسة جماعية توحد مجموعة من البشر.
ويؤكد طارو أن المشكلة الرئيسة في الديني لا تكمن في علاقة الإنسان بالطبيعة، ولكن في العلاقات الاجتماعية، أي في علاقة الإنسان بالإنسان. اما الأساطير فلا وظيفة لها إلا إراحة الجماعة المتدينة. وبغض النظر عمّا إذا كانت القصص الدينية حقيقية أم لا، فإن من أهم وظائفها تقوية التعاضد داخل الجماعة الدينية ووقف العنف الداخلي. وعندما تنشأ الطقوس وتصبح مقدسة، فهي ترسم الحدود بين المختلفين دينيا، بل وتؤسس أيضا لخطرعدم وجود التمايز والاختلاف. فالطقوس، إذن، مسألةٌ مهمة وموجهة إلى العاطفة أكثر مّا على العقل.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء كبيرة. يتناول المؤلف في الجزء الأول، قضية نظرية الدين فيالنقاش الأكاديمي الغربي الحالي. ثم يحاول شرح الوضع والخروج مرة أخرى من خلال أفضل المساهمات النظرية حول الدين في الجزء الثاني. بعد ذلك، يناقش طارو هذه النظريات الواحدة تلو الأخرى بغية استخراجنقاط قوتها وضعفها في الجزء الثالث، وبعد ذلك يقترح حلولا نظرية في الجزء الرابع.
بتفصيل أكثر، يعرض الجزء الأول من الكتاب لمحة عامة عن علوم الأديان، وعن أدواتها وقضاياها أيضاً. ويبدأ المؤلف بمثال ملموس، وهو الماء، لمقاربة مفهومي الرمزي والمقدس. ويحلل رمزية الماء كنموذج أوَّلي عبر ثقافي، كما نجده عند ميرسيا إلياد، ويتطرق أيضا للتصور المادي لعنصر الماء، كما جاء من قبل عند غاستون باشلار (1884-1962). كما يقدم قراءة بنيوية مستوحاة من أعمال كلود ليفي شتراوس وجان بيير فيرنان (1914-2007). بعد ذلك يقدِّم طارو لمحة عامة عن الدين من الناحية التاريخية والمعرفية مولياً عناية أكبر لإبراز التراث القديم اللاتيني والمسيحي، وكذلك لمكتسبات الحداثة وما بعد الحداثة، من دون نسيان مفهوم الدين في ثقافات أخرى (الصينية على وجه الخصوص) ومحاولات لتحديد ومساءلة هذا المفهوم عند علماء الاجتماع والفلاسفة والمؤرخين وغيرهم من المتخصصين في الدراسات الدينية.
يصف الجزء الثاني من الكتاب النظريات المعنية بأمر الدين. ويبدأ مع إميل دوركهايم ومارسيل موس. ثم يصف الفينومينولوجيا الدينية ومقارنات ميرسيا إلياد الذي لا يقبل بالتمييز بين المقدس والرمزي (حيث يمتص الأول والثاني)، وكذلك جورجدوميزيل. في المقابل، يرى طارو أن كلود ليفي-شتراوس قد أسس نظرية بنيوية عامة للثقافة ومن خلال الرمزي الذي يعدّه ليفي-شتراوس تبادلا على نموذج التبادل اللغوي، مع استثناء المقدس، كما أشرنا أعلاه.
لكن انتصار البنيوية في السنوات 1960-1970 في فرنسا، يضيف طارو، سيوفر السياق المباشر لرينيه جيرار الذي أكد على حقيقة المقدس الموضوعية، المبنية على آلية كبش الفداء المحفوظة في الممارسات والطقوس الدينية. بعد ذلك يأتي دور بيير بورديو الذي قد يبدو وريثاً للبنيوية في علم اجتماع الدين، خاصة في عدِّ الرمزيّ وسيطاً للهيمنة. أما غوشيه فيذهب أبعد من ذلك حين يزعم بناء نظرية عامة للدين من خلال السياسة وحدها. وبذلك فهو يستبعد المقدس والرمزي معاً في دراسته للدين.
أما الجزء الثالث فيتناول المواجهة بين هذه النظريات المختلفة. فنجد، مثلاً، أن إلياد يقف ضد كل ما هو دوركايمي، كما انّ مقارنة الظواهر عنده تبقى جد مختلفة عن تلك التيعرف بها دوميزيل. أما ليفي-شتراوس فيتجاهل إلياد ولا يعير ملاحظات جيرار أدنى اهتمام. كما نجد أن هذا الأخير يتجاهل كل علماء الاجتماع الفرنسيين باستثناء دوركهايم، ويبدو، كما يؤكد طارو، أنه لم يقرأ دوميزيل. من جهتهما، لا يذكر بورديو وغوشيه أعمال جيرار، ويقول طارو إن من غير المعقول ألا يكونوا قرأوا كتاباته. في هذا الفصل يكشف طارو عن حروب كثيرة بين علماء الاجتماع الفرنسيين.
وفي الجزء الرابع، يقدم كاميّ طارو نموذجه الخاص عبر التمييز بين عدة وظائف للدين: الوظيفة الأولى (pharmakologique)، أي إعادة استعمال الشر من أجل محاربة الشر. من جهة، يوضح المؤلف العلاقة بين الدين والسحر والتداوي، ومن جهة أخرى، يفصّل في العلاقة بين والدين والسياسة. الوظيفة الثانية (xénologique) أي النظر إلى الدين كغيرية بالمفهوم الهيغلي. كما أن هناك وظيفة أخرى هي (dorologique)، أي النظر إلى الدين كهبة وتضحية. ويفسح طارو المجال في فصل آخر للتساؤل عن علاقة الدين بالمخدرات والمواد المؤثرة على العقل.
[1] – Tarot, Camille, Le symbolique et le sacré. Théories de la religion, Paris, La Découverte, 2008, p. 910.