DAOUD Zakya, Les années Lamalif 1958-1988 trente ans de journalisme au Maroc, Editions Tarik et Senso unico, Maroc, 2007.
قلة هم الصحفيون الأجانب أو المغاربة بالتبني الذين دونوا سيرتهم وأعطوا للقراء ذاكرة ممتلئة ليتأملوا من خلالها تاريخ المغرب المعاصر. ذاك ما قام به المراسل البريطاني ستيفن هيوز قبل وفاته، وذاك ما قامت به زكية داوود المسماة في الأصل جاكلين لغلام. في هذا الكتاب سنوات لامليف الحامل لشهادة نادرة استطاعت داوود أن توفق بين ثلاثة مستويات من السرد: سيرتها الذاتية وأحاسيسها بمعية زوجها ورفيقها على درب الصحافة محمد لغلام؛ مساهمتها كمهنية وكحاملة لمشروع التفت حوله نخبة من المفكرين والمبدعين والصحفيين وكذا ما اعترى تلك المسيرة من عراقيل في ظل سنوات الجمر والرقابة الذاتية. وأخيرا نظرتها من خلال تفاصيل يومية وأخبار مركبة لحركية المجتمع ومنطق السلطة المخزنية والعلاقات المستترة بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين مقابل مقاومة أهل الفكر وثلة من الكتاب والجامعيين.
من الذاكرة المسروقة إلى الذاكرة المركبة
كل شيء انتهى في صيف 1988. كانت مجلة لامليف قد أصدرت عددها المائتين. طلب وزير الداخلية والاتصال وقتها إدريس البصري من رئيسة تحرير المجلة زكية داوود أن تحضر إلى مكتبه وأخبرها، بعد انتظار ممل في ردهات الوزارة، أنه يود الكتابة في صفحات لامليف ليوضح لقرائها ما معنى المخزن الذي تطاول عليه علماء السياسة الخارجين عن السرب، وأنها إن رفضت طلبه هذا وتمادت في عنادها الصحفي فعليها أن تبيع المجلة في الجامعات فقط وتسحبها من الأكشاك العمومية.
قررت زكية داوود ورفيقها، بعد حوار مع الصحفيين أن تنهي مسار المجلة في صمت. واختارت ألا تطأطأ الرأس ولا تقاوم غولا اسمه الدولة المغربية المتجبرة. ماتت حينها لامليف ميتتها الأولى أما الثانية فحدثت شهورا بعد ذالك. كانت داوود قد ذهبت إلى باريس على متن الطائرة قصد الاستراحة ولقاء المسؤولين عن مجلة جون أفريك حيث عملت من قبل، وحملت في حقائبها كل ما دونته في يومياتها عن تجربة لامليف، من ألفها إلى يائها. لكن بوصولها إلى المطار اكتشفت أنه لم يبقى ليومياتها أثر. “كان ذلك بمثابة موت ثاني بالنسبة لي،” تحكي زكية داوود في نهاية كتابها.
مند ضياع ذاكرتها، انغمست هذه الصحفية المتألقة الحاملة لأطنان من الأحاديث والتفاصيل في كتابة مؤلفات ذات بعد سياسي وتاريخي، عن المهدي بن بركة وعبد الكريم الخطابي وغيرهما، لكنها ظلت حاملة لهمّ الشهادة وحالمة بتدوين تاريخها الشخصي الذي تلتقي خيوطه مع تاريخ المغرب المستقل والخاضع لجبروت الحسن الثاني و لرجالاته… هكذا ولد كتابها الأخير سنوات لامليف، ثلاثون عاما من الصحافة في المغرب (1958-1988) كتبته دون سند اليوميات الضائعة. أعادت تركيب الأحداث وأعادت قراءة الأعداد المنسية من المجلة وبحثت عن الخيط الرابط بين الشخصي والجماعي. كتابها موجه لكل من نسوا ومن لم يذوقوا طعم الكتابة الصحفية في ذلك السياق همها أن تظهر كيف أصبحت الأحزاب مستكينة منهمكة والدولة جبارة، وكيف اتضح مع مرور السنوات أن الملاذ هو الثقافة والتفكير الحر، وأن الإحالة إلى المفاهيم الإنسانية والجمالية يهدي إلى أفق أرحب وأن الأهم ليس اﻹيدولوجيا الثورية وإنما أخلاقيات الفهم والتمحص والإصلاح.
نشوة البدايات في مغرب حائر
لم تصل زكية داوود إلى رسم خط تحريري يخلق دينامية غير مسبوقة ضمن النخبة بين ليلة وضحاها. في البدء مرت الصحافية الآتية من فرنسا عبر عوالم متعددة شحذت وعيها بطبيعة السياق المغربي بين سنوات 1958و1965.
اكتشفت الصراعات الخفية بين حزب الاستقلال والقصر وحكمة الوزير عبد الله إبراهيم وشجاعته السياسية ولعنة الإقصاء من اﻹذاعة المغربية، وصعوبة اﻹخبار عن زلزال أكادير في هذه الدار المخزنية، وهم التحرر الصحافي عند مرورها إلى أسبوعية الاتحاد المغربي للشغل، وحقيقة الحسن الثاني حين صرح برغبته في التخلص من ثلث الساكنة إذا كانت أفكارهم خارج السرب.
وعند تعيينها مراسلة لمجلة جون أفريك، نفذت داوود إلى عوالم أعقد، إذ كان عليها أن تعكس ما يقع في مغرب متوتر، خرج لتوه من انتخابات 1963 المحبطة ودخل في صراع مفتوح بين الملك ومحيطه من جهة وحزب المهدي بن بركة من جهة أخرى.
لا تقتصر الكاتبة في هذا المؤلف على سرد الأحداث واحدا تلو اﻵخر، بل تمر بسلاسة من صعوبات العيش اليومية التي واجهتها إلى تعقيدات العمل الصحفي، قبل أن تشير على شاكلة اليوميات إلى تفاصيل الحياة العامة وما يجري وراء الستار. سندها في ذلك لقاءاتها الشخصية، ذاكرتها والأرشيف الذي جمعته لإعادة ربط العلائق بين المستويات الثلاث.
خلال كل هذه السنوات التي سبقت ولادة مجلة لامليف، موضوع الكتاب، تكونت شخصية زكية داوود، إذ حصلت بالصدفة على الجنسية المغربية عام 1959 بمعية زوجها المنحدر من أصل جزائري وأم مغربية وأمضت أولى مقالاتها بجون أفريك عام 1963 تحت الاسم المستعار الذي أصبح مكونا أساسيا لهويتها :زكية داوود.
لامليف تريد فهم المغرب لتغييره
«نحن نعيش في مجتمع يتظاهر بالأشياء ولامليف ترفض أن ترضخ لهذا المنطق » هكذا تحدثت المجلة في أولى افتتاحياتها. كانت ولادة لامليف قيصرية، اعترتها استدعاءات متوالية من الشرطة والتشكيك في مغربية زكية داوود وتهديدات بسيطة دفعت بالطاقم منذ البدء إلى استنباط قسط من الرقابة الذاتية للاستمرار. بالمقابل، توالت اللقاءات السعيدة مع كتّاب ومفكرين سيكون لهم وزنهم في الساحة الثقافية.
هكذا تم اللقاء مع أب علم الاجتماع المغربي، بول باسكون الذي كان يود مثل مؤسسي لامليف، فهم المغرب من أجل تغييره. ففي صفحات المجلة قدم باسكون مفهوم المجتمع المركّب الذي نظّر له مليا من خلال ملاحظاته الميدانية. نشرت المجلة كذلك منذ بداياتها نصا قويا للروائي إدريس الشرايبي، يتحدث فيه عن انتمائه لجيل ضائع، وأنه فضل الرحيل على الضياع. المفكر عبد الله العروي يذكر بدوره أننا “نعيش الماضي ثانية ونترقب المستقبل ولا نعيش الحاضر بتاتا”.
لم تنزو لامليف في النقاشات الثقافية الصرفة ولم تبتعد عن السياسة وإنما بحثت عن طرق متعددة لفهم الواقع وإعادة صياغته. ومن هنا جاء دور علماء الاقتصاد الحديثي العهد والقادمين للتو من فرنسا حيث حصلوا على الدكتوراه: فتح الله والعلو، عبد العالي بنعمور، وآخرون شخدوا آليات عملهم وتحليل الواقع الاقتصادي على صفحات لامليف، الفيودالية والزبونية وكل الآليات التي وضعها النظام السياسي لإبقاء دار لقمان على حالها، كل ذلك كان محل مقالات مطولة ونقاشات متواترة من عدد لآخر.
عندما تعيد زكية داوود قراءة سنوات الجمر السياسية، يتضح لها أن هناك أقوال وتلميحات لم يتم فهم قصدها في حينها. مثل ذلك قولة الحسن الثاني بعد محاولات اغتياله الفاشلة أنه يود مضاهاة لويس الحادي عشر. ” كان علينا أن نفهم، لكن توالي الاضطهادات واﻹعتقالات والمحاكمات، أفقدنا الخيط الرابط بين الأحداث “. هذا لم يمنع لامليف من تتبع الأحداث وخصوصا مواكبتها بالتحليل وبإفراز أفكار وتصورات غير مسبوقة حول التحديث وقدرة السلطة على إعادة بناء المجتمع التقليدي وسلطة اللاهوت.
طريقة تأليف هذا الكتاب، على شكل شذرات وتقاطيع تاريخية مدمجة، يساعد على إعادة فهم السياقات العامة التي واكبتها المجلة. حين تتحدث زكية داوود عن المسيرة الخضراء مثلا، تقدم قراءة متعددة الزوايا لمواقع الأحزاب الفعلية، ولما قاله المثقفون بخصوص الجزائر، ولنظرة الصحافة الأجنبية لحرب الصحراء المتوقعة، ولما دار في الخفاء بين الحسن الثاني وفرانكو، وتزامن ذلك مع أحداث موازية لها وقع أكبر داخل منظومة لامليف، وأعني بذلك فقدان أبناء بول باسكون، وفرضية اغتيالهم من طرف البوليساريو، وكذلك مقتل الاتحادي عمر بن جلون، وما كان يدور من حسابات بين الجيش والإسلاميين الجدد وبين مغرب أراد له الحسن الثاني أن يتأسلم لئلا يتحرر.
تبدو قوة لامليف من خلال قدرتها على مسايرة دينامية الابداع وقتها. زكية داوود تذكر بتواضع أن المجلة لم تبادر وحدها إلى خلق هذه الدينامية و إنما عرفت كيف تستفيد من الجدلية القائمة مع الواقع الثقافي. ففي هذه الفترة، يتضح أن كتّابا من طينة عبد اللطيف اللعبي، وعبد الكبير الخطيبي، وإدريس الشرايبي، ومحمد خير الدين، يؤلفون كتُبا كان لها وقع على جيل قارئ وعلى خيال النخبة المتحلقة حول المجلة.كان لكتابات عبد الله العروي عن خطورة التوافق المغربي لأنه يقوي سلطوية الدولة، ولكتابات فاطمة المرنيسي التي حاولت تقويض أسس المجتمع الأبوي، والانتباه مبكرا لدراما أطفال الشوارع تأثير لا بأس به على المجال العام، أو على الأقل على كتلة القراء المتزايدة التي أكسبت لامليف موقفا متفردا بعد عشر سنوات من ولادتها. ولا أدل على ذلك من غزارة الرسائل التي كانت تمطر بريد قراء المجلة وتظهر أن التحرر من سلطة الحريم وسلطة المخزن وسلطة البترمونيالية الاقتصادية ليس خطابا منزويا لفئة مثقفة، بل همّ يتقاسمه جزء من المغاربة المتعلمين.
سنوات الإسلام السياسي
قسمت زكية داوود مؤلفها إلى عشرة أقسام مما مكنها من رسم مخطط بدأ بالحلم والمصائب وتلاه زمن الأسئلة الحارقة ثم النهاية الموجعة. وسنوات الثمانينات وقبلها نهاية السبعينات كانت بلا شك تحكي زكية داوود، سنوات متعبة ومملة، ومع ذلك استطاعت المجلة الاستمرار كشاهد منفرد على حياة سياسية منغلقة وحياة ثقافية بدأت تضمحل وحياة اقتصادية أصبح الريع والرشوة والامتيازات العلنية عنوانها البارز.
يجب التذكير أن في تلك الفترة لم تكن هناك جرائد مستقلة. وكان إنقطاع الجرائد الأجنبية عن الأكشاك سنة معهودة. لذلك كان لبعض القراءات الثقافية والأخبار الدالة على صفحات لامليف وقع الخبر الانفرادي بل وحتى السبق الصحفي. ويدخل في هذه الخانة بعض ما كان يكتب عن الصراعات الجيو-سياسية مع الجزائر، والتحاليل القائمة على بحث ميداني بخصوص الإسلاميين من قبل ما بادر بكتابته عالم الاجتماع محمد الطوزي وما إلى ذلك من تغطية منفردة لأحداث 1981و 1984 حيث بلغ الغضب الشعبي ذروته.
لم تكن لامليف مجلة سياسية كما قد يتبادر لذهن البعض، إنما مجلة ثقافية مؤمنة بالتطور والإصلاح. ولأن أخلاقياتها انبنت على ضرورة فهم وتحليل الواقع دون حسابات ضيقة وليس على التزام اتجاه أي حزب أو كتلة مؤثرة، فقد تمكنت مبكرا من إظهار أن أحزاب اليسار المغربية يمينية التوجه، وأن مركزية الملكية أصبحت قوية لا رجعة فيها.
تحليلات من هذا القبيل كانت تنتشر في لامليف لأنها استطاعت أن تنفتح على نخب من مشارب متعددة، التقى فيها بول باسكون وأتباعه المؤمنون بإمكانية خلخلة المنظومة الثقافية والاجتماعية القائمة، والحبيب المالكي وأقرانه الذين لم تكن لهم نفس التطلعات الفكرية، ومصطفى السحيمي، المقرب من الصدر الأعظم إدريس البصري. هذه التعددية دليل على أن لامليف لم تكن حاملة لايدولوجيا منغلقة بل كانت مجالا لحوار الأفكار. لكن تحت سلطة الرجل القوي في النظام وبداية تراجع الأحزاب، تحكي داوود، “كانت الحياة مملة والأفق مغلق”.
بدأت تظهر لامليف كعنصر نشاز في المجال العام. فقد استطاعت أن تواكب أهم النقاشات التي تطورت فيما بعد إلى سياسيات فاشلة في إصلاح التعليم، مسألة اللغة والهوية ومسألة الإسلام السياسي وكيفية التعامل مع الدين سياسيا. حسب تراتبية المقالات داخل لامليف، لم يكن الحدث الثقافي أقل قيمة من الحدث السياسي إلى الظاهرة الاقتصادية. فالحوارات التي أجريت مع مبدعين كنبيل لحلو ومفكرين كعبد الله كنون، ومقالات خير الدين لها في مذكرات داوود نفس الوقع الذي كان لغيرها.
لكن حين قررت السلطات إنهاء تجربة لامليف اعتمدت على مقالات سياسية من قبل ما كتبه المرحوم نادر يعتة حول ضرورة بناء المغرب العربي وتجاوز خلافات المغرب مع الجزائر أو ما كتبه الطوزي بخصوص سيطرة المخزن على دواليب إنتاج القوانين. دار حينها في الكواليس وتحديدا في كولف دار السلام حوار بين الحسن الثاني والبصري وأحد الوزراء فرضية وجود مؤامرة تدعمها الجزائر داخل هينة تحرير المجلة. “كتبنا كل ما كتبناه حينها بسذاجتنا المعتادة،” تحكي زكية داوود، ليس همها إبعاد التهمة عنها، ففرضية المؤامرة مضحكة في الأصل، ولكن فعلت ذلك لتذكر حسن نيتها التي لا شك فيها. فالعدد المائتين وهو الأخير في عمر المجلة، تلقى مجموعة من الشهادات من مبدعين ومفكرين وكتاب. وكانوا فخورين بالانتماء لمجلةلامليف.
منذ نهاية مسارها، بعضهم أصبح وزيرا و بعضهم مفكرا مسموعا وبعضهم انزوى وخرج من دائرة الضوء. كتاب زكية داوود يعيدهم إلى التاريخ ويبين أن صفحات المغرب المعاصر وسنوات الرصاص الثقافي لازالت تدوّن ولم تفهم الفهم الكافي. فحالة المغرب المترهل حاليا تجد أصلها في تلك السنوات الغريبة الأطوار.