(ترجمة سليم حميمنات)
أضحت السمة الدينية للسلطة الملكية المغربية، اليوم، مسألة مألوفة في تجلياتها العامة. فالأنتروبولوجيون، وعلماء السياسة، والمؤرخون، وعلماء الاجتماع ما فتئوا يركّزون على خصوصية حرصت جل النخب السياسية المتحالفة مع الملكية؛ سواء تعلق الأمر بوطنيين يساريين أو محافظين، بملكيين ليبراليين أو إسلاميين، على الحفاظ عليها بعناية. ترجع علاقة الملكية بالإسلام والوطنية إلى عهد الحماية، وقد تم تفعيل هذه العلاقة من جديد مع نيل الاستقلال من خلال إعادة تنشيط أنماط المشروعية التقليدية للسلطة في الإسلام وفي مقدمتها البيعة أو الإمامة. وإلى اليوم، لا ترى النخب السياسية أي تعارض بين المطالبة بنظام سياسي حديث- ملكية دستورية بل وحتى برلمانية- وبين إمارة المؤمنين التي ترتبط بالمرجعية الدينية دون غيرها. وقد تمّ توطيد هذه الخصوصية المتميزة في الدستور الجديد المصادق عليه في يوليوز 2011، والذي برغم سياقه السياسي، والذي طبعه “الربيع العربي” والحركية غير المسبوقة التي أطلقتها “حركة 20 فبراير” التي رفعت شعار الملكية البرلمانية، فإنه عاد لينص مجددا على المرتكزات الدينية الأساسية للنظام. إذ رغم تقسيم الفصل 19 إلى فصلين (41 و42) والتخلي عن الصيغة القديمة التي كانت تنص على قدسية شخص الملك، فقد تم الحفاظ على المكانة السامية للملك حيث تم تعزيز موقعه داخل الحقل الديني من خلال الدور الرئيس الذي منح للمجلس العلمي الأعلى التابع له، والذي تمت دسترته مدعوما بالقراءات المحافظة وكذلك من طرف القانونيين الذي وضعوا النص الدستوري.
وقد أسهمت الظرفية السياسية الراهنة في تحويل هذه المكانة الدينية التي يتمتع بها الملك إلى رافعة لامتلاك رؤية إصلاحية للحقل الديني، وفك التداخل الحاصل بين المجالين الديني والسياسي، هذا في الوقت الذي تسعى فيه القوى الإسلامية إلى إلغاء الحدود الفاصلة بين المجالين. ويحاول بعض السياسيين إعادة التفكير في العلمانية لكن من دون القطع مع خصوصية الملكية في الربط بين المجالين الديني والسياسي. بمعنى أن حيادية “السياسي” تجاه “الديني” تلزم جميع الفاعلين السياسيين عدا المؤسسة الملكية. دفع مأزق اليسار بخصوص مسألة الفصل بين السلطات ببعض المنظرين الشباب والأكثر جرأة إلى استبدال مفهوم العلمانية (Laicité) بمفهوم الدنيوية (Sécularité). وهكذا فالملك عليه أن يغادر الحقل السياسي وأن يقتصر حضوره داخل الحقل الديني فقط، بما يشبه إلى حد ما وضعية البابا في الديانة المسيحية. يعلق بلال في هذا الصدد:
’’إن الانتقادات الموجهة لهذا النظام لا تتعلق قط بقدسية الملكية ولا بطابعها الثيوقراطي-السياسي في حد ذاته، ولكنها موجهة أساسا لتركيز السلطات بين يديه. لنذّكر بمسألة واضحة: إنهاء الحكم الملكي وإقامة جمهورية ليست دائما خطوة ضرورية ولازمة للانتقال إلى الديمقراطية. يمكن للمغرب أن ينعم بديمقراطية تمثيلية مع الاحتفاط بالنظام الملكي، شريطة أن يكتفي الملك بوظيفة رمزية وأن تصبح الحكومة منتخبة ومسؤولة أمام الشعب-الناخب الذي يعتبر مصدر السلطة الحقيقية. وفقا لهذه الصيغة، سيقتصر دور “أمير المؤمنين” على وظيفة التوجيه الروحي دون التدخل في الشؤون الزمنية. وبتعبير أخر، على الملكية التخلي عن القيصروية من أجل البابوية. الأمر الذي يفضي بنا إلى صيغة مفارقة: الملكية العلمانية هي ملكية دينية خالصة حصرا” .
ولربما نسي الكاتب أن المجالين يخضعان في الواقع للتراتبية، وأنه لا يوجد دور ديني بشكل خالص حتى عندما يتعلق الأمر بتدبير البيروقراطية الدينية، أو بتحديد الأرثدوكسية المرجعية، أو عند اقتراح ممارسة التحكيم وفاء لتقليد الأنساب الشرفاء المسالمين والفقراء الذين كانت القبائل المتنافسة حول موارد الرعي تلجأ إليهم . كما نسي أيضا بأنه في إطار التنافس بين الشرعية الانتخابية والشرعية “الدينية”، فمتغير الزمان يرجح كفة الأولى لاسيما وأن قسما كبيرا من النخب، فضلا عن العلماء (مثل عبد الكبير العلوي المدغري وأحمد التوفيق )، ما فتئوا يدافعون، في كل مرة تسمح لهم موازين القوى بذلك، عن فكرة أن الدستور لا يمكنه أن يكون المصدر الوحيد للسلطة وأنه يتوجب تعزيزه بالبيعة باعتبارها الميثاق الأصلي المؤسس.
لم تستطع لجنة تعديل الدستور، تحت الضغط الهائل الذي مارسه تحالف ذو مصالح متناقضة يوحده التخوف من الإسلام الراديكالي، سوى تعزيز احتكار الملكية للدين. لقد عكست اللجنة في واقع الأمر صدى الفكرة اللامعة المشار إليها أعلاه، التي اقترحها السياسي الشاب دفاعا عن المشروع السياسي لحزبه “التقدم والاشتراكية” وريث الحزب الشيوعي المغربي، أي: “ملكية علمانية ذات صبغة دينية صرفة على وجه الحصر.” لقد رأت الأحزاب “الحداثية” في هذه الصيغة وسيلة للحد من نفوذ الإسلاميين والمحافظين، في حين كان حزب العدالة والتنمية يعتقد أن البعد الديني للملكية سيقوي الارتباط بالإسلام ويوجب على الملك التزامات تجاه الحركات التي تتحدث باسم الدين. فمن الآن فصاعدا، صار هذا الاحتكار ممأسسا من طرف الدستور. فالوضعية الغامضة لـ”أمير المؤمنين”، والتي خلقت في عهد الحسن الثاني كتعبير عن تقليد دنيوي، أصبحت بقوة النص السلطة الوحيدة التي يمتلكها الملك خارج علاقاته مع المؤسسات الدستورية الأخرى (الفصل 41).
إن الانتقال من وضع قائم بفعل الواقع أو التقاليد إلى وضع مؤطر بفعل القانون، يغير من الآن فصاعدا الطرق التي أصبح الملك يحتكر بواسطتها هذا الحقل، كما أن الأشكال التي كانت محسوبة على الموروث والعلاقة البين-شخصية صارت بعد الآن معقلنة بواسطة المأسسة البيروقراطية. فالسيرورة البيروقراطة، بواسطة الصيغ والشكليات التي وصفتها بياتريس هيبو Beatrice Hibouبشكل عام، تمس الحقل الديني على مستويين، الأول إيديولوجي والآخر له علاقة بالبراكسيولوجيا . يتجلى المستوى الأول في انتاج مرجعية حصرية تحدد شكل وخلفية النهج الارثدوكسي الذي يقوم عليه الإسلام المغربي. تغطي هذه المرجعية مجالات العقائد والإنتاج الفقهي، خصوصا الفتوى، وذلك من أجل وضع النظام السياسي في منأى عن فاعلي الإسلام المعولم والعلماء المنفردين والمتمردين الذين يشكلون امتدادا واستمرارية لنهج العلماء “الأحرار والخوارج” . كما يسهم تحديد هذه المرجعية كذلك في تحصين النظام من المحاولات التغلغلية لبعض الدول مثل المملكة العربية السعودية وإيران. أما المستوى الثاني، فيتمحور أساسا حول الممارسات الدينية، وهو يرمي إلى مركزة المرجعيات المؤطرة للشعائر التعبدية والأنشطة التي تتطلب، بشكل يومي، تأهيلا فقهيا. والهدف من وراء “إعادة الهيكلة” هذه، ضبط الحقل الديني ونزع فتيل التمرد عند العلماء والاحتماء من الإسلاميين والسلفيين المحليين وتحييد اختراقاتهم. في الواقع، هذه السياسة ليست ناجعة تماما إذا ما قورنت بـالسياسات الضخمة التي تنهجها الدعاية الوهّابية (العربية السعودية وقطر) والحماس النضالي للسلفيين المحليين المساندين من قبل عشرات شيوخ الشبكة العنكبوتية الذين يتقنون جيدا التقنيات الخطابية الأكثر تطورا. لكن من المهم تحليل عملية إعادة هيكلة الحقل الديني الجارية لكونها، بالرغم من أنها مكلّفة وتناقض الثقافة السياسية للمخزن، تدل على بروز هذه الروح البيروقراطية وتوسعها.
مملكة، دولة وعقيدة
تميزت مؤسسة العلماء عبر التاريخ بقدرتها على التموقع كسلطة مضادة تثير الخشية عند كل مرة تدعي السلطة المركزية التحدث بإسم الدين. فميلهم إلى القبول بموازين القوة وتفضيل الخضوع والانحياز للنظام القائم على التمرد، مهما بلغت درجة شططه، لم يكن يدل دائما على خضوعهم اللامشروط، فقد كانوا يلوحون باستقلاليتهم في كل مرة تسمح لهم الظروف بذلك. وقد ساهمت محطة 11 شتنبر، وخصوصا تفجيرات البيضاء (16 ماي 2003) ومدريد (11 مارس 2004) في نقل الدين من فضاء المشروعية إلى فضاء الأمن، جاعلة من الضروري بلورة سياسة دينية إرادوية. فالمغرب، من خلال ملكه، أخد من الآن فصاعدا يبرز خصوصيته واستقلاليته الدينية بتأكيد تشبته بالمذهب المالكي، الأمر الذي يعني أخذ مسافة عن المذهب الحنبلي . لقد أظهرت تفجيرات البيضاء أن السياسة الدينية للحسن الثاني قد بلغت منتهاها أمام ضغوط الإسلام المعولم المسنود بقوة من طرف الوهابية. وقد شكل هذا المعطى تقويضا لعدد من المقولات السياسية من قبيل “الاستثناء المغربي” في العالم العربي، و”إمارة المؤمنين كعامل كابح للإسلاموية”، وقدرة السلطات على إدماج الأصولية ووضعها تحت المراقبة، والطبيعة اللاعنفية للمجتمع المغربي، والتعايش المنسجم بين المجموعات المحلية، وحصانة البلاد من الاضطرابات التي تشهدها دول المغرب الكبير اﻷخرى. في الواقع، هذه الأساطير السياسية -المقترنة بإيمان شديد بعبقرية وطنية تحيل بدورها إلى وطنية شديدة الحذر كما جسدها الحسن الثاني- والتي انبثق عنها التوافق السياسي بين 1980 و2002 – ظهر أنها أضحت مستنفدة .
لقد ساهمت هذه الأزمة الحادة في التشكيك في استقرار النظام القائم وفي مشروع الاندماج السياسي للإسلاميين المعتدلين، كما خلفت موجة من الاعتقالات شملت حوالي 3000 سلفي. لقد كان النظام مجبرا على التصرف بهذه الطريقة، لاسيما وأن الملك الجديد في تلك الفترة كان على وشك إنهاء الفترة الاختبارية ولجوئه إلى التدخل لتقييم تركة سلفهDroit d’inventaire ، وهو الأمر الذي قاده إلى إعفاء وزير الداخلية القوي إدريس البصري، وتغيير الحكومة التي ورثها عن أبيه، والاستفادة من خدمات التكنوقراط حتى في مجال تدبير الحقل الديني. فكرد فعل على التفجيرات المشار إليها، وموازاة مع مختلف الأوراش الحكومية التي تم إطلاقها (في مجالات محاربة الفقر والسكن العشوائي، وإصلاح الأمن الوطني والعدالة والتعليم..)، فُتح نقاش عريض في الصحافة ووسائل الإعلام والشارع حول مختلف الجوانب المتعلقة بالشأن السياسي-الديني خاصة مسألة العلاقة بين الدولة والدين، والحركات الإسلامية، والتعليم الديني، والمساجد والخطب، والعلمانية.
لمواجهة العديد من التحديات المستجدة، تمّ اتخاذ العديد من الإجراءات من قبيل إعادة هيكلة الوزارة الوصية، وإعادة النظر في مجالس العلماء وإصلاح التعليم الديني. كما استهدفت التدابير الجديدة مراجعة سياسة تدبير المساجد حيث تمّ خلق مديرية خاصة بها داخل وزارة الأوقاف، وقد شهدنا توقيف عدد من الخطباء كما تمّ القضاء على المساجد “الفوضوية” و”العشوائية”. ولعل التسريع بهذا المسار صار ممكنا بفضل المسلسل التكنقراطي الذي انطلق مع تعيين ادريس جطو على رأس الحكومة. ففي 7 نوفمبر 2002، أي شهورا قليلة قبيل تفجيرات البيضاء، اختار الملك عدم تجديد الثقة في الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي رغم أن حزبه هو الذي كان قد حاز الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. وقد فضّل عليه شخصا أخر غير متحزب -إدريس جطو- الذي حافظ في حكومته على وزراء سياسيين رغم أنه قدّم نفسه كتكنقراطي. وقد حمل هذا الأخير معه أحمد التوفيق لشغل منصب وزير الشؤون الإسلامية. ومن خلال المسار المهني لهذا الأخير، يتبين أنه نتاج خالص للحراك الاجتماعي ومدرسة الاستقلال. فهو خريج سابق لمسيد قروي ببادية في الأطلس المتوسط، وهو يجسّد تماما صورة “الطالب الحاذق” Taleb roublard. اشتغل التوفيق أستاذا للتاريخ في جامعة محمد الخامس، ثم مديرا للمكتبة الوطنية، كما اشتغل محاضرا في جامعة هارفرد التي كان يتردد عليها كأستاذ زائر. وهو أيضا روائي موهوب وعارف جيد بخفايا الصوفية، إذ انتمى للبوتشيشية منذ وقت مبكر، حيث وجد نفسه جنبا إلى جنب مع رفيقه المريد الشيخ عبد السلام ياسين (مؤسس جماعة العدل والإحسان) الذي تعّرف عليه أولا في مراكز تكوين المعلمين وفي طريقة مداغ. وإذا كان أحمد التوفيق يرمز نوعا ما للأنموذج المثالي للمسلم البربري المغاربي كما استحضره ذات مرّة جاك بيرك ، فهو كذلك كان مهيئا للتفكير في هذا الإسلام المغربي الجديد الذي سيشكل أحد العناوين الإيديولوجية البارزة للنظام الحالي.
وبالفعل سيبلور التوفيق تصورا لما سيسميه هو بنفسه “إعادة هيكلة الحقل الديني”، حيث سيقترح هندسة جديدة متمحورة حول عقيدة موحِدة، ومجلس للعلماء في خدمة النظام، مع تحييد الهيئات المستقلة للعلماء. قام بعدة ترتيبات تتوخى احتواء رابطة العلماء من الداخل ، ووضع تصور لإصلاح عميق للوزارة بتعبئة موارد القطاع العام وأيضا القطاع الخاص وذلك بهدف “تأميم” كل الأجهزة الدينية (لاسيما شبكة المساجد الخاصة) وتحويل عشرات الآلاف من أولئك الذين كانوا يشتغلون لفائدة الساكنة المحلية إلى موظفين تابعين للدولة.
العقيدة المبرقرطة
من خلال موقعها الإلكتروني، تركز وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقوة على خصوصية الإسلام المغربي الذي يتميز عن باقي الدول الإسلامية باستناده على ثلاثة مرتكزات: عقيدة ومذهب وطريقة تدّين (تعلي من شأن الروحانية). فقد أصبحت الصيغة المكثفة: “العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والطريقة الصوفية”، شعارا تماثل أهميته الشعار الشهير “الله، الوطن، الملك” الذي ظهر غداة نيل الاستقلال لتحديد هوية الدولة-الأمة المغربية. برزت الصيغة الجديدة في سياق معروف يتعلق بمواجهة الجهادية، حيث تمت مساءلة سياسة المغرب تجاه الوهابية التي كانت إلى حدود تلك الفترة متساهلة إن لم نقل متواطئة في بعض الأحيان.
في الواقع، كان حضور السلفية بالمغرب خلال الستينات هامشيا ومحدودا محليا، وكانت ميزتها على الخصوص إظهار نوع من التقوى غير المتسيسة التي كانت تناسب تماما السلطة. وقد جسدتها شخصيات رمزية مثل تقي الدين الهلالي، الذي ينحدر من مدينة مكناس واشتغل لمدة طويلة أستاذا بالمدينة المنورة بعد مروره من راديو برلين تحت الحكم النازي، وكذلك عائلات معروفة بانتمائها السلفي مثل عائلة بنصديق والإخوان البقالي من طنجة، وعائلتا الريسوني وبوخبزة من تطوان. فكل هؤلاء كانوا يدرسون الحنبلية ويجاهرون بها دون أن يشكل ذلك أي إزعاج للسلطة. بل على العكس من ذلك، فهذه الأخيرة كان بإمكانها أن توظفهم عند الضرورة ضد بعض التيارات الدينية كما هو الشأن بالنسبة لحالة التبليغيين الذين خصص لهم الهلالي كتيبات تنتقدهم، أو كما هو الشأن بالنسبة لعبد السلام ياسين الذي هاجمه المغراوي بلهجة شديدة.
غير أنه وبعد وقوع أحداث البيضاء المؤلمة، بدا أن الحديث الغامض عن السلفية كإيديولوجية، والذي كان يدعي أنها مجرد استمرارية للسلفية الوطنية التي جاءت مع بوشعيب الدكالي أو علال الفاسي، لم يعد يحظى بموافقة السلطة ودعمها، وبالتالي كان الصدام مع السلفية (الأولى) أمرا حتميا. لكن موازاة مع ذلك، كان من الصعب جدا بل وغير ممكن رفض المملكة للجهات المانحة السعودية وإدارة ظهرها للأخ الوهابي الكبير، رغم أن المئات من دور القرآن التي كان يشرف عليها المغرواوي بدعم من السعودية قد تمّ إغلاقها . لقد كان المغرب مكرها على إنتاج ارثدوكسية تسمح للسلطات، تقنيا، بتبرير القمع الشديد تجاه مواطنيها المغاربة، وتضعف في نفس الوقت تلك الإيديولوجية في جوانبها الإجرائية التي أعيد إنتاجها على جميع مستويات البيروقراطية الإكليركية، تاركة مساحة قليلة للارتجال والتعلم عند الممارسة أو تعبئة التقاليد الموروثة.
فالفتوى حول “المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام” الصادرة بتاريخ 12 أكتوبر 2005، والتي شكلت فاتحة عمل المجلس العلمي الأعلى، كانت تتعلق بشكل غير مباشر بطلب يدخل في دائرة اختصاص القانون العام حول مجالات عادة ما يكون لرجال الدين كلمة بخصوصها. فالعقيدة الأشعرية المتبناة هي جد محافظة، لكنها تتميز بنوع من الازدواجية عند قراءتها النصوص، إذ تسمح بتعبئة المنطق الظاهري وكذلك استعمال عقلانية يضبطها النص. وهذا الخيار يضيّق من إمكانات الاجتهاد الفردي، ويجعل من كل تفسير تجديدي غير مألوف خطوة كبيرة تتطلب دعم الأمير وكفالته. وقد ذهب العلماء المغاربة أبعد من ذلك بمنح السلطان شيكا على بياض، وذلك بالدفاع “بدهاء” عن “الإمامة الكبرى” خلال النقاش حول الدستور الجديد، حيث تجاوزوا النظرية التقليدية التي تجعل من الخليفة مجرد منفذ ليس له أي اختصاص معياري أو تفسيري.
وبمنطق آخر، يسهم اختيار المالكية فيما يمكن تسميته بـ”استراتيجية التوطين” Autochtonisation، حيث تعيد استحضار العلاقة الحذرة التي نشأت قديما جدا بين المملكة الشريفية تجاه الشرق والوقوف في وجه نزعة هيمنته الثقافية والدينية. فتبني المالكية يمكن من إخفاء الجانب المتشدد والطهراني للعقيدة الأشعرية، لاسيما عندما يتم الإعلاء من قيمة المسار الخاص للمالكية التاريخية بالمغرب، وإظهار قدرتها كذلك على الإجابة عن الطلب الديني، بشكل براغماتي وفي صيغة انتهازية معلمنة للبرابرة . ومع ذلك يجد صانعو السياسة الدينية أنفسهم في مواجهة المعضلة التالية: كيف يمكن الاستعانة بأشعرية قريبة من التطور الحنبلي مع أنها ضرورية للتأكيد على خصوصية الإسلام المغربي وجعله قادرا على تحصين ذاته من الإسلام المشرقي، خصوصا التشيع، من دون التخلي أو الابتعاد عن المالكية ذات الجذور التاريخية الأمازيغية؟ الحل ليس جليا رغم أن الخطاب واضح: فاختيار مذهب ينطلق تأويله من التجربة المعاشة للمجتمع المغربي، وتفضيل المقاصد على الأصول، والعمل على الفقه، اعتُبر دائما السبيل الوحيد المتبقي لإخفاء نوع من الانتهازية المخزية التي يميل العلماء إلى احتقارها. من جهة أخرى، فالصعوبات التي واجهت عملية تعديل المدونة تم إرجاعها لتقنيي الشعائر؛ وكان يجب اتخاذ خطوة سياسية قوية حتى يتم إخضاع الفقه في أجواء ملتبسة وبواسطة حرفية تقنية متواضعة جدا.
هذا هو التحدي الذي واجه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الجديد الذي عمل على قلب الوضع بقوة وذلك بالاستعانة بهيئتين بيروقراطيتين (المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء)، وأيضا بفتوى حرّرت حقل التفسير الديني لفائدة الأمير والدولة بالتبعية.
المجلس الأعلى للعلماء: عقلنة عمل العلماء
تم إنشاء المجلس الأعلى للعلماء من طرف الحسن الثاني سنة 1982. وسيتم إعادة تنشيطه سنة 2004 عندما رفع وزير الشؤون الإسلامية التحدي بإخراج العلماء من ترددهم وتحفظهم من مسألة استخدامهم الدائم كضمانة، وهو الأمر الذي لم يتم التعبير عنه أبدا كرفض قاطع وإنما عُبر عنه بنهج استراتيجيات تتفادى الصدام والمواجهة. فخلال خمس سنوات فقط، كانت الاجتماعات التي عقدها المجلس والدراسات والفتاوى التي قام بإصدارها أكثر بكثير مما أنتجه المجلس خلال فترة 18 سنة من حكم الحسن الثاني. أما بالنسبة لتشكيلته، فقد انتقل عدد أعضائه من 15 عضوا من بينهم امرأة واحدة سنة 1984 إلى 30 عضوا سنة 2004، ثم ارتفع العدد إلى 107 سنة 2009 منهم 3 نساء، إضافة إلى الوزير والأمين العام للمجلس.
يتشكل المجلس من نوعين من الأعضاء: مجموعة تضم رؤساء المجالس العلمية الإقليمية والتي يوازي عددهم التقطيع الإداري للمملكة، ومجموعة أخرى تضم عددا من الشخصيات التي تم استقطابها لذاتها ويتم تعيينها من طرف الملك. وتتشكل المجالس العلمية الإقليمية من ثمانية أعضاء، باستثناء مجلسي مراكش والدار البيضاء اللذين يضمان 16 عضوا. ويبلغ عدد النساء في هذه المجالس العلمية 35 امرأة. النساء الثلاث أعضاء المجلس العلمي الأعلى، اثنتان منهن تمتهنان مهنتين لهما علاقة بالقانون، فالأولى أستاذة جامعية في القانون والثانية قاضية، أما الثالثة فهي عالمة متخصصة في الفقه وتعتبر أولى خريجات جامعة القرويين، ويبلغ عمرها أكثر من 70 سنة، وهي متزوجة من أحد قياديي حزب الاستقلال . ويقدر عدد العلماء اللذين تؤدى رواتبهم من ميزانية وزارة الأوقاف أكثر من 700 عالم يشتغلون في المجالس على المستويين الوطني والإقليمي المحلي.
تميز عمل المجلس الأعلى للعلماء بين عامي 2004 و 2013 بحركية نشيطة غير معهودة. فمن أجل تحفيزه على اتباع أجندة محددة، أحال وزير الشؤون الإسلامية على المجلس عددا متزايدا من طلبات الإفتاء الدينية. وتأتي هذه الطلبات أساسا من الإدارات التي تعيق بعض التأويلات الدستورية المحافظة عملها، أو تفاديا لنشوب مشاكل مع الحركات الإسلامية. لكن يمكن لهذه الطلبات أن تأتي أيضا بشكل شبه رسمي من الملك أو من محيطه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالرد على داعية قناة الجزيرة يوسف القرضاوي ، أو للتبرؤ من فيلم أو نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لشخص النبي ، أو للرد على قضية المآذن في سويسرا ، أو لانتقاد الفتوى التي أصدرها سلفي مراكش الشيخ محمد المغراوي حول جواز تزويج الفتيات عند بلوغهن تسع سنوات ، أو ببساطة للرد عن تساؤل وزير السياحة حول الحاجة لوجود علامة تدل على وجهة القبلة في جميع فنادق المملكة . الأمثلة في هذا الصدد لا تعد ولا تحصى، لكن يمكن أن نكتفي بالإشارة لفتوى حول الترخيص للرياضيين المغاربة المشاركين في دورة الألعاب الأولمبية بلندن في يونيو 2012، والتي تقضي بجواز إفطارهم رمضان شريطة القضاء لاحقا عن الأيام التي لم يتم صيامها ؛ أو تلك المتعلقة بالتحقق من الضوابط الإجرائية المحررة من قبل خبراء الوزارة والتي تحدد الممارسة الصحيحة للإمام.
هذه اﻷدوار الجديدة دفعت العلماء، الذين كانوا قد اعتادوا على التزام الصمت أو الإدلاء بأجوبة مترددة أو متناقضة، لكي يصبحوا في الواقع منظّرين مجبرين على تقديم أجوبة على طلبات عمومية وخلق معايير واتخاذ مواقف سياسية لا يمكن تبريرها فقط بحجج فقهية. فإلى جانب الفتاوى والخطب، أصبح المجلس يستعمل كذلك أدوات جديدة مثل البيانات، والإشعارات، ورسائل المساءلة، والخبرات، والبرامج التلفزية، والرسائل القصيرة، والمواقع الإلكترونية. بيد أن استخدام هذه الأدوات يحتاج لمهارات خاصة والسرعة في الأداء، وهذا التغيير الحاصل في “كيفية الاستعمال” يضعف العلماء، لكون كفاءاتهم في هذه المجالات تعتبر محدودة مقارنة مع العلماء الإسلاميين أو السلفيين. والأهم، هذا الانزلاق نحو وظيفة إيديولوجي معيّن، تجعل العالم غير قادر أبدا على ادعاء منزلة “ضمير الأمة”. وتغدو هشاشتهم أكبر لاسيما وأن سوق الوعظ يبقى مفتوحا. فالعديد من الأشياء باتت تجري خارج المساجد، لاسيما في القنوات الفضائية والأنترنت .
ومن بين جميع الأنشطة التي قام بها المجلس منذ تنصيبه، يبقى أكثرها أهمية من دون شك، إضافة إلى مركزة إنتاج الفتاوى، جوابه على السؤال الأول الذي وجه إليه من طرف الملك بتاريخ 8 يوليوز 2005:
وتفعيلا لتوجيهاتنا السامية، بشأن تحديد مرجعية الفـتوى، التي هي منوطة بإمارة المؤمنين، أحدثنا هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى، لاقتراح الفـتاوى على جلالتنا، فيما يتعلـق بالنوازل، التي تتطلب الحكم الشرعي المنسب لها، قطعاً لدابر الفتنة والبلبلة في الشؤون الدينية. وإننا لننتظر منكم، أن تجعلوا من هيئة الفتوى، آلية لتفعيل الاجتهاد الديني، الذي تمـيز به المغرب على مر العصور، في اعتماده على أصول المذهب المالكي، ولاسـيما قاعدة المصالح المرسـلة، وقيامه على المزاوجة الخلاقة، بين الأنظار الفقهية والخبرة الميدانية. وبذلكم نقوم بتحصين الفـتوى، التي هي أحد مقومات الشأن الديني، بجعلها عمـلا مؤسسـيا، واجتهادا جماعيا، لامجال فيه لأدعياء المعرفة بالدين، ولتطاول السفهاء والمشعوذين، ولا للمزاعم الافترائية الفـردية” .
في هذا الخطاب، حدد محمد السادس لهذا المجلس اختصاصات ومهام شبيهة جدا بتلك التي يتلقاها خبير معين من قبل منظمة دولية. وقد تكلف وزير الشؤون الإسلامية بتوضيح هذه الاختصاصات في كلمته الختامية للدورة الأولى للمجلس، حيث أشار إلى أهمية احترام “الآجال النهائية للإنجاز”، و”الفاعلية”، وتجزيء المهمة الرئيسية إلى “مهام فرعية قابلة للإنجاز” وخلق “مؤشرات للمواكبة والمتابعة” . فضلا عن ذلك، تم تحديد ثلاث مهام على المدى القصير: وضع جهاز مكلف بالفتوى “للتصدي لفوضى إصدار الفتاوى على المستويين الوطني والدولي”، والإشراف على إصدار طبعة نقدية لمجموع فقه الإمام مالك المدون في “الموطأ”، والتفكير في مسألة المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام، وذلك بهدف تحرير السياسيين من أي إكراه ديني عند قيامهم بمهمة التشريع. وقد جاء الجواب، بعيدا عن كل توقع، بعد أربعة أشهر. افتتح الأمين العام للمجلس حديثه بالتأكيد على أن العلماء “قد التقطوا الإشارات المولوية ويعون تمام الإدراك جميع التصريحات الجليلة التي ما فتئ جلالته يوجهها إلى مؤسستهم”. وتعبّر هذه الإشارات عن الرغبة الملكية في رؤية مؤسسة العلماء “تتبوأ موقعها الذي يتيح لها الإسهام الجاد في صياغة مغرب الأصالة والمعاصرة” … لكن النص الموجه سيذهب أبعد من ذلك، إذ يقترح الاعتراف بالمهمة العامة للعلماء في “أن يمثلوا جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع فقط” (كذا). وهكذا سيؤكد علماء المجلس أن “الدولة الإسلامية دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية” (وهو بالمناسبة نفس الشعار الذي يرفعه حزب العدالة والتنمية)، مستشهدا بمقولة الإمام الباقلاني: “إن المسلمين لا يحكمهم معصوم، ولا عالم بالغيب”. وبخصوص مسألة المصلحة العامة، جاء الجواب واضحا ومختصرا: “إن الجواب الذي يتشرف العلماء بوضعه بين أيديكم الكريمتين، قد بني على الأدلة الصحيحة نظرا فقهيا” ، وهي بالتالي تؤكد أن الاختصاص التشريعي للإمام (والمقصود هنا الملك) يشمل على الأقل ثلاث مجالات: “مجال ما لا نص قطعيا فيه؛ مجال ما كان موضع خلاف فقهي؛ ومجال ما كان فيه تحقيق مصلحة حقيقة” .
الرابطة المحمدية لعلماء المغرب
أنشئت الرابطة المحمدية لعلماء المغرب بظهير 04 ماي 2006 ، وهي مؤسسة جديدة أتت لتكمل صرح الأجهزة الدينية التي تم انشاؤها غداة أحداث البيضاء ومع تعيين أحمد التوفيق وزيرا للأوقاف. وكما يشير الظهير في ديباجته، جاءت الرابطة “استكمالا لحلقات مسلسل إصلاح الحقل الديني”، وقد جاءت لتعزز الأجهزة الدينية الأخرى المتمثلة في وزارة الشؤون الإسلامية، ومجالس العلماء وإذاعة محمد السادس، والقناة الفضائية القرآنية محمد السادس. وهي تنضاف كذلك إلى المشاريع الأخرى لـ”الدين الإلكتروني”
e-religion (أي المواقع الإلكترونية الثلاث للوزارة والرابطة والمجلس العلمي الأعلى)، والتي يمكن اعتبارها إنجازات استراتيجية كبرى. غير أن ما لا يقوله الظهير، هو أن الرابطة المحمدية عوّضت بشكل قسري رابطة علماء المغرب التي جرى تأسيسها غداة الاستقلال . كانت هذه المؤسسة، في الأصل، جمعية مستقلة تربطها علاقات ودية إلى حد ما بالنظام الذي كان يعاملها تارة كمعارضة غير موثوقة الجانب، وتارة أخرى يتم التعامل معها كطرف حليف. وقد كانت الشخصيات الرفيعة التي تعاقبت على رئاستها منخرطة بقوة في الحركة الوطنية.
وتحت غطاء إعادة تنشيطها، شكلت عملية استعادتها من طرف السلطة فرصة لإنجاز تغيير ذي ثلاثة أبعاد: أولا، تغيير وضعيتها القانونية، ذلك أن إنشاءها بظهير يجعلها مؤسسة ذات طبيعة خاصة، بحيث تمولها الدولة وتضع رهن إشارتها ما يكفي من الموارد المالية والبشرية. وبهذا المعنى، فهي تجسد أحد التعبيرات الأكثر نجاحا للشراكة العامة-الخاصة في المجال الديني. على مستوى تشكيلتها، يعين الملك أعضاء مجلسها الأكاديمي بصفتهم الشخصية ودون الحاجة لاعتراف من أقرانهم أو لكفالتهم. لذلك، فاحتمال نشوب خلافات بين الأعضاء يضل أمرا غير وارد بالمرة.
ويشكل تحديث بروفيلات العلماء المندمجين في الرابطة البعد الثاني من عملية التغيير. فاحتكار الملك تعيين هؤلاء يسمح لهم بالعمل والانتشار وفق التقطيع الإداري للمملكة (عالم لكل عمالة أو إقليم)، وبإضفاء صبغة نسائية على جهاز العلماء (11 امرأة من 68)، بينما لا يتعدى عددهم في المجلس العلمي الأعلى ثلاث عضوات. وتظل النقطة الأهم، من دون شك، إدماج بروفيلات جديدة من العلماء ممن تلقوا تكوينهم في جامعات وطنية أو حتى دولية في بعض الأحيان. وقد أصبح هذا التطور واقعا بفضل إرادة “ملكية” يجري تنفيذها بواسطة مفعّلي السياسة الدينية الذين جرى استقطابهم من خارج الجهاز.
أحمد عبادي ، الأمين العام للرابطة، هو شخصية متميزة جدا، تحمل هيئته سمات عمرو خالد أو طارق رمضان. هو أستاذ مادة الأديان المقارنة، حاصل على شهادة الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية. يتكلم لغات متعددة، إذ يتقن الفرنسية والإنجليزية إلى جانب العربية الفصحى. تم رصده من طرف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الذي استدعاه للتفكير في كيفية إصلاح دار الحديث الحسنية، إلى جانب خبير أمريكي كان انخراطه في المشروع قد أثار كثيرا من اللغط. أثناء إعادة هيكلة الوزارة، تم تعيين عبادي على رأس المديرية الجديدة للشؤون الإسلامية التي يغلب عليها الطابع الإيديولوجي. نشب نزاع حاد بينه وبين الوزير حول طريقة تدبير السياسة الدينية، وهو ما دفعه إلى التخلي عن منصبه. مهارته في التعامل مع الآخر، وقدرته على تجسيد نموذج العالم العصري، وكثرة ظهوره بالبدل العصرية، واستئناسه بأروقة المطارات والمؤتمرات الدولية، كل ذلك أهله ليشغل مناصب كانت فعلا في حاجة لبروفيل “عالم لايت” Ouléma light.
فضلا عن وظيفته كأمين عام للرابطة، فهو عضو أيضا بكل من المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ويرأس في المجلس الأخير اللجنة الدائمة المكلفة بالشؤون الثقافية والتكنولوجيات الحديثة، ويرأس لجنة استراتيجيات ومشاريع الإصلاح بالمجلس الأعلى للتعليم، وهو عضو دائم بنفس المجلس. والجدير بالذكر أن بروفيل علماء الرابطة لا يختلف كثيرا عن بروفيل أمينها العام. فبالرغم من أنهم ليسوا في نفس مستواه أو على قدر قامته، إلا أنه بالإمكان اعتبارهم أكاديميين يختلفون عن العلماء التقليديين، إذ جلهم جاء من شعب الدراسات الإسلامية والأدب العربي أو شعب القانون.
يكمن التغيير الثالث في وضعية الرابطة. فمن خلال موقعها داخل الحقل الديني وبتشكيلتها البشرية، فهي ليست معنية مباشرة بتدبير الشعائر أو مراقبتها، وإنما تريد لنفسها أن تكون فضاء للتجديد الديني متحررا من الإكراهات التي يمكن أن تعيق عمل جهاز العلماء. وتعتبر الرابطة “ملكية” رغم أن هذه الصفة غير مشار إليها في الإسم الذي تحمله. فأمينها العام يعينه الملك، وهو يشارك بهذه الصفة في عدد من المؤسسات واﻷجهزة التنظيمية.
يستعمل الأمين العام للرابطة جميع الدعائم التكنولوجية الحديثة، ويعتبر نفسه منفتحا على المحاولات التفسيرية التجديدية. فعند كل مرة يظهر العلماء التقليديون تحفظهم تجاه هذه النزعة التجديدية، تعبئ الرابطة موارد أخرى وطنية ودولية باسم الكفاءة التقنية والأكاديمية. ومن أهم الأوراش التي اقتحمتها الرابطة، تلك التي تتوخى مراجعة مفهوم الفقه المقاصدي الذي يحتكره الإسلاميون، خصوصا أحمد الريسوني الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح والمقرب من حزب العدالة والتنمية، حيث تحاول الرابطة الدفع بهذا المفهوم أبعد ما يمكن، من خلال تناوله بتعبئة أدوات العلوم الاجتماعية (لاسيما السوسيولوجيا والتاريخ واللسانيات) وأدوات التواصل المعاصرة .
يقدم الموقع الإلكتروني للرابطة مثالا جيدا عن بروز حقل افتراضي تسعى السلطة، بمساعدة التكنقراط، لاستثماره كفضاء جديد للاشتغال وعالم افتراضي للعلماء يمكن الإطلاع عليه من خلال زيارة الموقع. والملاحظ أنه بنفس القدر الذي لا يزال المجلس العلمي الأعلى متخلفا في هذا المجال، تبدو الرابطة كواجهة برّاقة وأكثر عصرنة مستفيدة ومتأثرة بالأسلوب والمهارات الأنغلوساكسونية. يسلط موقع الرابطة الضوء على وجود إحدى عشر مراكز بحثية نشيطة، وعدد مماثل من المجلات في طور الإنجاز. يوّفر الموقع نوافذ تفاعلية وتشاركية، حيث معجم “الحكامة الجيدة” يفرض نفسه في هذا الإطار. مدى صحة وجود هذه الهيئات هو أمر يمكن أن يناقش، ولدينا انطباع متزايد بأن الأمر يتعلق باستراتيجية تواصلية موّجهة نحو الأمير أكثر مما هي فضاء حقيقي للتفكير. لكن هذا البحث عن الحداثة هو، بمعنى ما، مبني على القدرة الإنجازية Performative. فهو يجبر راسمي المشروع بنفي أي علاقة ترابط بين الرابطة ومجلس العلماء الذي يظل تقليدانيا. فبمناسبة انعقاد مؤتمرها الثاني سنة 2005 ، وحتى قبل صدور الظهير المنشئ لها، أكّد الوزير بأنه غير ممكن للعلماء الانتماء للهيئتين في نفس الوقت. غير أنه سيتراجع عن هذا التصريح خلال كلمته الختامية ، حيث سيؤكد أن ما قاله لم يكن سوى إخبار العلماء بالمشروع، وأن عدم امكانية الجمع بين المهمتين ليست سوى نتيجة للتعيين من طرف الملك. الحجّة المقدمة غامضة، ويمكن أن ندفع بفرضية أن الرهان كان هو التعامل مع إشاعات مفادها أن العلماء لم يكونوا ليقبلوا باحتواء أجهزتهم التقليدية وبإبعادهم عن منظمة أكثر ثراء بالموارد المالية وأقل تعرضا للإكراهات من تلك التي يواجهها مجلس العلماء.
تبين هذه المقتضيات الإيديولوجية الوضع غير المريح الذي يوجد عليه النظام. فالتعايش أضحى أكثر صعوبة بين الجهازين والتنافس بينهما بلغ مستويات حادة. فمن جهة هناك بيرقراطية خاصة والتي تضل عصرية في كل الأحوال (الرابطة)، ومن جهة أخرى هناك فئة شائخة من رجال الدين تمثل مجموع الأفراد الذين تكمن قوتهم في استقلاليتهم الافتراضية، والتي تعززها عزلتهم وقدرتهم على الارتجال بحسب علاقات القوة الاجتماعية والسياسية. وإذا كان علماء الرابطة، الذين استأنسوا لبس البدلات العصرية ويتقنون وسائل المعلوميات الحديثة، قابلين للذوبان في بيروقراطية منظمة، فعلماء المجلس أضحوا كما لو أنهم شر لابد منه. فرغم خضوعهم فهم لا يبعثون على الاطمئنان، حيث تبقى إمكانية تمردهم دائما أمرا محتملا. وقد ظهر ذلك جليا في قبولهم على مضض الاستجابة السريعة للأجندة المحددة لهم وافتعال الصعوبات لإنشاء موقعهم الإلكتروني الخاص. وقد تطلبت تعبئتهم إقامة جهاز بيروقراطي ترابي فريد من نوعه، يترجم ويجمع بين خبرة الشركات متعددة الجنسيات القادرة على تحديد “معايير” “نماذج موحدة” للتدين وضمان “مراقبة الجودة” اليومية، والاشتغال أيضا وفق إدارة ترابية تقوم بنشر المعلومات انطلاقا من فضاءات محددة مع ضمان الرقابة الفعالة.
بيروقراطية الخلاص: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
تم الشروع في إعادة هيكلة الحقل الديني سنة 2004، وقد بدأ ذلك بإعادة النظر في البناء الهرمي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وهكذا تم الاعتماد على مراسيم ونصوص صدرت سنة 1984 عندما سعى الحسن الثاني لاستعادة سيطرة الدولة على الحقل الديني . كما تم الاعتماد على ظهائر صادرة حديثا تترجم السياسة الدينية الجديدة لمحمد السادس التي بدت أكثر حسما عقب أحداث 2003. أفرزت كل هذه الترسانة القانونية مفهوما جديدا للسياسة العمومية في المجال الديني يطلق عليه “الأمن الروحي للمغرب “.
في مرحلة أولى، باتت الوزارة محكومة ببنية جديدة تفصل الأنشطة الاقتصادية (بما فيها إدارة الأملاك الحبسية) عن الأنشطة السيادية Régalien (تدبير ومراقبة المساجد، إعداد كتب توجيهية تحدد أنشطة القيمين المكلفين بتنظيم الشعائر اليومية وكيفية تكوينهم). عرف الجانب الأخير إصلاحا كبيرا مس مسار المدارس التقليدية التي كان أمر تدبيرها متروكا عادة للساكنة المحلية .
على مستوى الوزارة، أدى هذا الإصلاح إلى تهميش النظارات، هذه المؤسسة التقليدية التي تعود للعصر السلطاني والتي كانت مكلفة بإدارة الأحباس. فالنظار كانوا في الغالب متطوعين يشتغلون تحت سلطة المخزن والقاضي، وكانت تعويضاتهم تصرف من إيرادات الأملاك الوقفية. ولم يكن للنظار أدنى فكرة عن عدد المساجد الخاصة التي توجد في نطاق النظارات التي يشرفون عليها، على غرار ناظر البيضاء ‘سي الجاي’ الذي لم يكن مكلفا بالقيمين الدينين ناهيك عن الخطابات التي تصدر داخل المساجد. غير أن النص الجديد أضاف بالمقابل نوعا أخر من النظارات، وهي مندوبيات الشؤون الإسلامية التي تضاعف عددها على المستوى العمالات والأقاليم، وتتشكل كل مندوبية من ثلاث مصالح أكثرها أهمية هي تلك المكلفة بالشؤون الدينية التي تكمن مهمتها في “تنشيط وتنسيق المشاريع والبرامج الدينية للمندوبيات الإقليمية للشؤون الإسلامية، ولاسيما في مجال الوعظ والإرشاد والتوعية الدينية وتدبير وتسيير أماكن إقامة شعائر الدين الإسلامي والمحافظة على الكتب والمخطوطات الحبسية” . تتوخى هذه الإجراءات البيروقراطية مراقبة المساجد وتوحيد طرق استخدامها، وإفراز نموذج مثالي للإمام “الجيد” التابع ماديا وإيديولوجيا للدولة التي تستطيع تحديد ليس فقط أجرته وتغطيته الصحية، وإنما كذلك مضمون الخطب التي يلقيها وكيفية قيامه بالشعائر، بل وتحدد أيضا طريقة لباسه وحديثه مع الجمهور، فضلا أمور أخرى متعددة لا يسمح المقام بتسليط الضوء عليها كلها. غير أن هناك ثلاثة جوانب معبّرة أود التركيز عليها بشكل خاص، وتهم بلورة تصور جديد للتمويل الخاص بأماكن العبادة، وتقنين العمل الإحساني تحت مراقبة الدولة، ووضع كتب مرجعية وإجرائية تحدد قواعد تسيير المساجد ودليل يرسم ملامح الإمام الجيد.
كيف يمكن هدي “الروتاريون”؟ التصور الإسلامي الجديد للعمل الإحساني وعلاقات الشراكة
في خطاب مطول تبرز فيه بصمات الأستاذ، ألقى الوزير محاضرة حقيقية غنية بالاقتباسات والإحالات على هيغل والأم تيريزا ونادي روتاري الغربي أكثر من الإحالة على التقاليد الإسلامية. فبعد مقدمة راعى فيها حساسية الأمين العام للمجلس الأعلى للعلماء، عندما أشار إلى أنه لا يتحدث سوى بصفته “عضوا عاديا من أعضاء المجلس”، أكد الوزير رغبته في استدراك “سهو” قد وقع: فالظهير المحدد لصلاحيات المجلس أشار للعبادات والتوعية وتأطير الضمير الديني للمواطنين المغاربة، لكنه لم يشر إلى مسألة “العمل الاجتماعي”. وقد ذكّر الوزير إلى أن هذا المفهوم يقع في قلب وظيفة العالم، مادام الأمر يتعلق بمحاربة الجهل (الأمية) الذي يبعد عن الله، ومحاربة الفقر الذي قد يؤدي إلى الكفر، ومحاربة الأمراض وإيتاء حقوق المعاقين. “فالجاهل معوّق أو معوِّق، والفقير كذلك، والمريض كذلك. ورفع العوائق من أجل تيسير العبادة هو ما ينبغي أن تكون عليه أوجه التدخل المعتادة للعلماء” . ويضيف الوزير، “أدعو العلماء أن يستعرضوا ما يقوم به المجتمع المدني اليوم شرقا وغربا فيجدوا أنها أعمال تدخل في هذه الأركان، (….) هنالك عمل اجتماعي قائم في بيئتنا المغربية، وهنالك عمل اجتماعي قائم في بعض المجالس العلمية بشكل متفاوت،.. والمقصود إذن ترتيب هذا العمل وإعادة تحيينه وتنسيقه” . وقد ميّز الوزير بلباقة بين العمل الخيري والإحساني في بلاد الإسلام، وذلك الذي تقوم به الجماعات الإسلامية أو الإخوان المسلمين، أو ذلك الذي تقوم به الأندية الخيرية: “بلدان مثل الهند وباكستان ومصر، لجأت إلى العمل الاجتماعي ولا تزال. كل تلك الأعمال في الحقيقة هي أعمال خير ولكنها في هامش الشأن العام الذي إما أنه يهمش العلماء، وإما أنه لا يعرف خطورة العمل الاجتماعي في الإسلام، فتنبه إليه هؤلاء الدعاة واستعملوه لكي يكثروا الجموع في الغالب، أو يؤسسوا أحزابا أو هيئات إلى غير ذلك (..) منذ بضعة أسابيع دعيت إلى للكلام في الدار البيضاء في جمعية هي “جمعية النساء المنضويات تحت الجمعية المعروفة بالروطاري”، وذهبت لأتكلم عن الأوقاف وأقول لهن ولأزواجهن وغيرهن من الأعضاء الحاضرين أنه من الغفلة أن يتركوا تأصيل العمل الاجتماعي في دينهم وقيمهم وحضارتهم ويذهبون ليضعوا العمل الاجتماعي تحت إسم الروطاري. كما تعرفون الروطاري هو حركة لادينية، فالمغاربة نساء ورجالا يريدون ويردن أن يفعلوا وأن يفعلن الخير فينضوون تحت إسم الروطاري، لأن الروطاري شعاره فعل الخير. فقلت لهم أنتم تفعلون الخير لأنكم ورثتموه عن آبائكم وأمهاتكم، لأن فيكم الخير، وهذا الخير الذي زرعه فيكم الأجداد هو نتاج التربية الدينية” . إضافة إلى درايته الخطابية المشهودة له بها، لم يتردد التوفيق في خطابه استخدام أساليب مهنته الأولى كراوي ومقدم الزاوية البوتشيشية، المنفتح على التجارب الروحية للعالم، حيث جرى التأكيد على إن إطلاق كل هذه المبادرات من طرف المجلس، يسمح للعلماء بأن “يقولوا الأشياء التي جاءت من أفكار أخرى وسجلات أخرى وتيارات أخرى، وهل نحن سبقنا إليها؟ وإذا سبقنا إليها لماذا لا نقترحها على العالم؟…إذا هذا العمل (هو) فرصة للقرب الشديد من الناس…وسبق أن أشرت إلى الراهبة الشهيرة الأم تيريزا التي نالت جائزة نوبل، والتي بعملها استطاعت الكنيسة الكاثوليكية أن تكسب جيلا جديدا في القرن العشرين” .
وستتعزز الإرادة في التأطير ببعد عملياتي، “ماهي وسائل هذا العمل [الاجتماعي]؟”، يتساءل الوزير. “لابد من دليل يمكن أن يشتغل فيه مع مختصين، وينجز ويعرض على السادة العلماء لينظروا فيه. وهذه المسألة لابد فيها من ما يسمى بالمهنية، فالعمل في هذا الموضوع ليس تلقائيا أو طبيعيا”. وسيطرح الوزير سؤالا أخيرا: “مع من تقع الشراكة في هذا العمل؟” وسيجيب:” مع كل المؤهلين له من أهل الخير، مع المحسنين والمتطوعين الذين لا شبهة فيهم، فإذا كان سيقترن إسم أحدهم بإسم المجلس العلمي أو بالعلماء، فلا بد أن يكون بعيدا عن كل شبهة قبلية أو طائفية أو حزبية…وهذه مسألة أساسية. ثم مع القطاعات العمومية الوزارات والمؤسسات شبه العمومية..ثم التعاون الدولي البريء يمكن التعاون معهم فيما نريد. المهم أن لا يملي علينا أحد شيئا لا نقتنع به أو لا نرضى عنه” . كل مكونات البيروقراطية الليبرالية الجديدة تبدو حاضرة هنا: إضفاء الطابع التكنقراطي حول الديني والاستعانة بالخبراء بإسم المهنية، واستخدام الكتب الإجرائية والآليات التشاركية بإسم النجاعة والشفافية، والاستعانة بالقطاعين العام والخاص في صيغ الشراكة بإسم التوافق التدبيري Consensus managérial والحياد الموضوعي.
وسيعود جانب الأستاذية ليبرز من جديد عند نهاية حديث الوزير، ليس لاستعراض سعة إطلاعه وتميزه عن العلماء، وإنما من أجل إقناعهم بما تمثله كل من الدولة والمجتمع وطمأنتهم لانتمائهم المزدوج لكليهما، أي للدولة والمجتمع. ففي سياق التوضيح للعلماء بمكانة المجتمع المدني والأدوار التي يضطلع بها، سيختتم كلمته بالتأكيد على أن هذا المفهوم “ظهر في القرن التاسع عشر مع هيغل. في كتابة “مبادئ فلسفة القانون” تكلم عن قضية المجتمع المدني على أساس أن الناس يمكنهم أن يفرضوا وجودهم مقابل سلطة الدولة. قضية المجتمع المدني في القرن العشرين أخذت طابع الخدمة الاجتماعية لأمرين: أولا: الاقتناع بأن الدولة لا يمكنها القيام بكل شيء وربما عجزت عن ذلك؛ ثانيا: اتخاذ هذا العمل كسلطة على المجتمع، وفي المجتمعات الغربية المؤسسة الدينية محسوبة ضمن المجتمع المدني لأنها تعمل عملا مقابل عمل الدولة. إذن فعمل العلماء عندنا مكمل وضروري، بل العلماء هم جزء من الدولة وجزء من المجتمع” .
الإستعمالات الأرثدوكسية للمسجد
أعادت السياسة الدينية الجديدة تحديد موقع المسجد الذي أصبح “بيت الدولة” أكثر منه “بيت الله”. فبالإضافة إلى تحديد طرق استخدام المساجد، عملت هذه السياسة أيضا على تحديد كيفية إنشائها وتسييرها. وقد تمت الاستعانة في هذا الصدد بطرق التسيير العمومي الجديد New public management وميزات تسيير القطاع “الخصوصي” لتدبير مؤسسات الحقل الديني. فالظهير بمثابة قانون رقم 1.84.150 المؤرخ في 6 محرم 1405 (أي 2 أكتوبر 1984) المتعلق بأماكن الشعائر الإسلامية تم تعديله من أجل التمكن من مراقبة المساجد ومرتاديها، وأيضا من أجل تنظيم أفضل للشراكة بين القطاعين العام والخاص التي أصبحت من الآن فصاعدا الإستراتيجية المعتمدة في المجال الديني.
في سنة 2006، أطلقت وزارة الشؤون الإسلامية إحصاء وطنيا للمساجد ووضعت سجلا خاصا لتصنيفها . وهكذا أصبح بالإمكان معرفة أن البلد الذي تبلغ ساكنته 30 مليون نسمة، يوجد به 13183 مسجدا بالمجال الحضري و34784 بالمجال القروي، أي مسجد واحد لكل 700 نسمة، وأن أغلبية المساجد التي تم إنشاؤها منذ 2004 تمت من طرف الخواص . وقد غدا المحسنون مطالبون بالاشتغال في إطار جمعيات مادام بناء المساجد صار خاضعا لإجراءات التعمير والأمن المدني. غير أن الدولة ستجد نفسها هنا أمام مفارقة: فهي تحاول، من جهة، استيعاب المساجد “الخاصة” و”تأميمها؛ وبالمقابل، هي لا تتوفر في واقع الأمر على الموارد المالية الكافية لبلوغ هذه الغاية التي رسمتها بنفسها على مستوى المعدل الوطني لعدد السكان لكل مسجد، علما أنه باستثناء صلاة الجمعة مثلا، لا تهم هذه الشعيرة سوى أقلية من المغاربة الممارسين ونسبة أقل من العدد الإجمالي للسكان . وبالتالي، عوض القيام ببناء المساجد بنفسها والقيام بتسييرها وتمويلها، تكتفي الوزارة بتشديد الرقابة عليها من خلال إضفاء الطابع البيروقراطي المتنامي على عملية تدبيرها اليومي. وهكذا، فبالنسبة للمساجد الخاصة التي شيدها المحسنون والذين لم يعودوا قادرين على تمويل اشتغالها، يحدد دفتر تحملات بشكل صارم طرق تحويلها إلى مساجد عمومية، إذ ينبغي أن تكون “ذات مردودية” وأن تسير بشكل “فعّال” يساهم في در موارد مالية خاصة بها تُحَوّل للدولة بمجرد تأميمها. ومع أن هذه المتطلبات تضعف من جاذبية هذه الصيغة، فقد شهد عدد المساجد التي استرجعتها الدولة ارتفاعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، حيث ألحقت المئات منها سنويا في عداد تلك التي تخضع لها مباشرة. كما مس الإصلاح الوضعية الرمزية للمحسن الذي أصبح مجهول الهوية من خلال إدماجه في جمعية، في حين تم وضع المساجد الأهلية، والتي نجدها غالبا في الوسط القروي، في خانة الإرث الذي تقترح الوزارة تصفيته من خلال شراكات مع الساكنة المحلية. تتوخى الدولة بهذه الطريقة تمديد مشروع الإدماج الوطني ليشملها في إطار المنظومة العامة. ويحتفظ القطاع الخاص بمكانة هامة مقارنة مع الجهد الذي تبدله الدولة، وقد عرفت مساهمته تضخما ملحوظا منذ سنة 2004. فهو يبقى مهيمنا في تمويل إنشاء المساجد: فخلال الفترة ما بين 2002 و 2008، قام ببناء ما معدله 138 مسجد في السنة ، مقابل 19 فقط قامت بتشييدها الدولة . وقد أطلق برنامج استعجالي سنة 2004 يرمي إلى بناء 100 مسجد لـ34000 مصلي خلال 5 سنوات، أي بمعدل 20 مسجدا في السنة في الأحياء الهامشية مثل حي الانبعاث بسلا، أو دوار السكويلة بالدار البيضاء التي خرج منها انتحاريوا 16 ماي، وحيث ينشط الخطاب السلفي بعيدا عن أية رقابة. وهنا أيضا نجد أن صيغة التمويل المعتمدة مستمدة من صيغة الشراكة عام-خاص: فمن أصل القيمة الإجمالية للمشروع (أي 386.1 مليون درهم)، يتوقع أن لا تتعدى مساهمة الأوقاف 41.8 مليون، والباقي سيقتسمه بشكل متساو تقريبا القطاع العام (من خلال اقتطاع استثنائي من الميزانية العمومية للدولة يصل إلى 164.8 مليون) والقطاع الخاص (161.5 مليون) .
وشمل الإصلاح أيضا طريقة اشتغال المساجد بفضل الكتب الإجرائية التي شملت البعد الديني كذلك. فالوزارة أضحت تستخدم كلمة “القيّم” كمصطلح تقني يشمل ويوحد المهام المختلفة المرتبطة بخدمة المسجد: إمام الخطابة، إمام الصلاة، المؤذن، قراء القرآن (الحزابة)، المرشد، عامل النظافة الحارس والمراقب . يشرح الدليل الموضوع لهذا الغرض نفسه بنفسه. فكل الأنشطة مقننة ولم تترك مبادرة القيام بأي شيء للقيمين، حتى أننا نجد معايير دقيقة خاصة تتعلق بآذان للصلاة:
“يرفع الأذان للصلاة في المساجد بالصيغة المغربية، في وضوح الألفاظ وفي خشوع وبلحن مسترسل خال من كل تقليد للصيغ الأجنبية؛ يؤذن للصلوات الخمس عند دخول وقت كل منها؛ مواقيت الصلاة في جميع أنحاء المملكة هي التي تحددها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتقويمها هو المعتمد في جميع المساجد؛ ألفاظ الأذان هي: الله أكبر (مرّتين)، أشهد أن لا إله إلا الله (مرّتين)، أشهد أن محمدا رسول الله (مرّتين)، حي على الصلاة (مرّتين)، حي على الفلاح (مرّتين)، الله أكبر (مرّتين)، لا إله إلا الله؛ يرفع أذان الجمعة ثلاث مرات بعد صعود الخطيب فوق المنبر عند دخول الوقت؛ تقام صلاة الفجر بعد مرور عشرين دقيقة من دخول وقتها، وتقام صلوات الظهر والعصر والعشاء بعد خمس عشرة دقيقة على أكثر تقدير من دخول وقتها، أما صلاة المغرب فتقام بعد عشر دقائق من دخول وقتها. ولا يمكن ملاءمة هذه الأوقات مع الحاجيات الخاصة لبعض المناسبات (مثل رمضان) والجهات إلا بعد الحصول على إذن مكتوب من الوزارة؛ تودى ألفاظ الإقامة بالإفراد إلا لفظ التكبير فإنه بالتثنية” .
يقوم الدليل كذلك بوضع معايير للممارسات التي لا ترتبط مباشرة بالعبادات لكن لها علاقة بالسياسة، وهي التي تميز في بعض الأحيان المساجد العمومية عن المساجد الخاصة، على غرار الدعاء للشخصيات (بدءا بأمير المؤمنين). تعتبر صلاة الجمعة اللحظة الأكثر حساسية بالنسبة للسلطة السياسية. في السابق، كان الخطيب يستثمر القسم الثاني من الخطبة ليحدث مستمعيه عن المشاكل اليومية والراهن السياسي. وبهذه المناسبة، يمكنه مساءلة السلطات العمومية، وانتقادها أو حتى اتخاذ مواقف معينة بخصوص مشاكل المجتمع. ونتذكر كيف أنه في سنوات الثمانينات كان “الخطباء الأحرار”، مثل زحل والزمزمي وبلقاضي، يشعلون مساجد الدار البيضاء بخطبهم. ومؤخرا، تم منع الشيخ النهاري من الخطبة في وجدة عندما دعا من أعلى منبره إلى قتل صحفي من جريدة الأحداث المغربية كان قد صرح بأنه لا مانع عنده من أن تتمتع أخته بالحرية في معاشرة من تشاء جنسيا. في الواقع، المسجد هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يحدث فيه هذا النوع من التمرد.
وهكذا فقد المسجد من الكثير من إشعاعه بمجرد غياب السياسة فيه ولم يعد يتم تناول المشاكل اليومية للناس داخله. هذا النوع من خطب الجمعة أصبح يوسم بـ”خطاب القبور” للتأسف عن كون المساجد ابتعدت كليا عن القضايا الدنيوية ولم تعد مندمجة في المجتمع. حتى الدولة نفسها لم يمكن أن ترضى بنزع الصفة التنشيئية عن المساجدDésocialisation لأنها في حاجة دائمة لروابط وقنوات لبث خطابها الخاص حول مسائل ذات طبيعة دنيوية. إن ضبط هذه المعادلة هو الذي يطرح إشكالا في الواقع. فالوزارة تجد نفسها مترددة بين كتاب يشمل خطب نموذجية معدة سلفا ولائحة بالمواضيع الإجبارية التي ينبغي التطرق لها، وبين حرية المبادرة المتروكة للأئمة مع كل المخاطر التي يحتملها ذلك. من حيث الوقائع، تحديد مضمون الخطب يعود للمجالس الجهوية والمجلس العلمي الأعلى الذين يتحفظون حول تقييد الأئمة أكثر، مادامت الوزارة سبق وأن عملت كل ما في وسعها لضبط الخطب. ويظهر هذا التوتر جليا عندما نحاول فك شفرة المقايضات بين إدارة الشؤون الإسلامية والعلماء. فالوزارة تكتفي بالجوانب التقنية وتترك الجوانب السياسية للتفاهمات غير الرسمية والأخذ والرد التي تفسح المجال لتوصيات وتوجهات عامة. ففي الدليل حول استعمال المساجد، تمت معالجة خطبة الجمعة بشكل تقني جدا. بالمقابل، نجد على الموقع الإلكتروني للوزارة لائحة بالمواضيع الوطنية التي لها علاقة بالمصلحة العامة من قبيل ضرورة العمل على محو الأمية، ومحاربة مرض السيدا أو العنف ضد النساء، والحفاظ على السلامة الطرقية.
الإدارة الصغرى لأماكن العبادة
يشير تاريخ قيمي المساجد بالمغرب بأن وظائفهم نادرا ما كانت شأنا يخص الدولة. فهؤلاء لم يكونوا موظفين بل متطوعين يتم تعينهم في أغلب الأحيان من طرف الساكنة المحلية، ونادرا من قبل نظارات الأحباس، وتصرف مستحقاتهم من إيرادات الأملاك الحبسية، وبشكل استثنائي من أعطيات السلطان. كثيرا ما كان يلجأ هذا الأخير إلى “ظهائر التوقير والاحترام” الذي يسمح بإعفاء بعض الأشخاص والمجموعات من الضرائب والتكاليف الأخرى. وكانت التعويضات التي يتلقاها خدام أماكن العبادة تأتي من عقد “الشرط” الذي يربطه بالساكنة المحلية، وهو بمثابة عقدة محددة الأجل CDD قابلة للتجديد سنويا، تقوم ‘الجماعة’ (المكونة من جموع أرباب المساكن) من خلاله بتعداد الخدمات التي يتوجب على ‘الطالب’ القيام بها، وبالمقابل يتم تحديد مقدار وطبيعة التعويضات التي يتلقاها، والتي تتكلف الجماعة بتحصيلها من مجموع المساكن بالقرية أو الحي . وعندما كانت الدولة تتدخل لاستكمال تلك التعويضات من إيرادات الأحباس، أو للتخفيف من عجز الساكنة المحلية عن أداءها، فهي تؤدي لخادم المسجد ما يسمى بـ”الصلة”، والتي تعني حرفيا “رابطة”، ويدل معناها المجازي على”المكافأة التي تخلق صلة” ولا تعني الأجرة المتعارف عليها.
منذ 2004، ودائما في سياق النزعة البيروقراطية لاستراتجية التأطير، انعكست الوضعية حيث ما كان استثنائيا أصبح هو المعيار المعمول به. لقد باتت الأعمال المتعلقة بالشعائر وظائف قائمة الذات، بل وتحولت في بعض الأحيان إلى مناصب تندرج في إطار الوظيفة العمومية كما هو الشأن بالنسبة لـ1021 إمام و354 مرشدة الذين كونتهم الوزارة خلال الفترة ما بين 2005 و 2011 . وقد أحصت إدارة الشؤون الإسلامية ما مجموعه حوالي 44667 قيما يستفيدون من التغطية الاجتماعية، أي في المحصلة 190042 شخصا إذا أحصينا كل من سيستفيد من هذا الحق (الأزواج والأطفال الصغار أقل من 21 سنة)، الأمر الذي يمثل جهدا استثنائيا بدلته الدولة لكي تتمكن من ضبط هذه الشريحة والتحكم فيها. فضلا عن التغطية الاجتماعية وكرد فعل على النزعة النقابوية عند بعض الأئمة والتي أصبحنا نرى تجلياتها في الشارع، حيث صار هؤلاء يتحركون مثل غيرهم من الموظفين، قامت الوزارة في 23 فبراير 2012 بإنشاء مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية، على غرار النموذج الذي أنشئ لفائدة الشرطة ورجال التعليم، وهي مؤسسة توفر للمنخرطين فيها تأمينا إضافيا وتقدم إعانات للحصول على محلات سكنية خاصة لأولئك الذين لا يتوفرون على سكن خاص، كما توفر بنيات تقدم خدمات ترفيهية للمنخرطين.
وقد تم الدفع بالمنطق التوظيفي إلى مداه الأقصى ، رغم أن الدولة لا تتوفر على الموارد اللازمة وهي تتحرك في هذا المجال عكس تطورها في المجالات الأخرى. فشبكة الأجور واضحة جدا في هذا الصدد، فالدولة نفسها لم تتمكن من احترام قانون الشغل، لاسيما أداء الحد الأدنى للأجور المحدد في 2333 درهم. ففي المساجد التي تتكفل بها الدولة، أي حوالي 33 بالمائة من مجموع مساجد المملكة و9722 مستفيد، تبلغ أجرة وظيفة الإمام 1100 درهما، و1500 درهما للإمام والمؤذن، و1600 درهما للإمام-خطيب الجمعة، و2000 درهما للإمام-خطيب ومؤذن، و1000 درهما للخطيب. وفي المساجد التي تستفيد من دعم القطاع الخاص، أي حوالي 67 بالمائة من مساجد المملكة و36000 مستفيد (جلهم من الوسط القروي)، لا تدفع الدولة للأئمة سوى تكملة للأجور تصل لـ800 درهما مهما كانت المهام التي يؤدونها.
إن إضفاء النزعة البيروقراطية عن الإدارة الصغرى لأماكن العبادة يجد مبرره في الرغبة في إنشاء فئة من رجال الدين تخضع تراتبيتهم للتدبير الممركز ولمعايير محددة وموحدة. فمنذ إعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى سنة 2005، لم تتوقف وزارة الأوقاف عن ممارسة الضغط عليهم لبلورة وثائق نموذجية وجدادات حول المعلومات التي ينبغي جمعها . وفي غياب استجابة سريعة في هذا الاتجاه، بادرت الوزارة نفسها إلى تقديم نماذج موحدة سيصادق عليها المجلس سنة 2006. تحدد هذه الجدادات طبيعة المعلومات التي ينبغي جمعها حول القيمين والمؤهلات المطلوبة لمزاولة كل المهام المتعلقة بالشعائر. وقد تم توزيع ملف شامل على جميع المجالس الإقليمية سعيا لتوحيد الإجراءات، ويضم جدادة للمعلومات حول منح الشهادة التي تعطي الحق في إدارة المسجد (التزكية)، وجدادة لمراقبة المعلومات العامة، وجدادات خاصة بمراقبة المعارف التي تخول ممارسة الإمامة وإلقاء خطبة الجمعة وممارسة الدعوة والأهلية لتأطير الحجاج .
وتتطرق الكتب الإجرائية أيضا لمضمون الخدمة. قليلة هي الأشياء التي تم تركها للصدفة. ومن أجل إعطاء فكرة حول تقعيد هذه الإجراءات ومعيرتها، لا يوجد أفضل من دليل الإمام الجيد الذي يميز بين الضوابط الأخلاقية والمسؤوليات التقنية للإمام، والمقاطع التالية تغني عن كل تعليق :
“يلتزم الإمام في إطار مهامه بالضوابط التالية:
1-الحرص على وحدة الأمة؛
2-الدعوة بالحكمة والتأني والتدرج في الإصلاح؛
3-اجتناب المضايق المثيرة للخلاف وما يثير نوازع الفتنة بين المسلمين؛
التحلي بسعة الأفق في مسائل الخلاف اجتنابا للجمود والانغلاق؛
الاحترام التام للإرشادات الموجهة إلى الأئمة من الوزارة أو من المجلس العلمي المحلي
عدم الإدلاء لوسائل الإعلام، بصفته إماما أو خطيبا في مسجد من مساجد المملكة بآراء شخصية في القضايا الدينية أو القضايا السياسية؛
تجنب التحيز، فالقيم الديني مواطن قبل كل شيء، له سائر حقوق المواطنة، ولكن اختياره للوظيفة الدينية لا يتناسب مع الظهور أمام الناس بنشاطه في هيئة منحازة بالضرورة لا يتفق عليها كل المأمومين؛
الحرص على الحضور في كل الاجتماعات التوجيهية والدورات التكوينية التي تنظمها الوزارة أو المجلس العلمي المحلي؛
الحرص على تنمية المدارك الدينية والمعلومات العامة وخاصة في السيرة النبوية وتاريخ الإسلام وكل ما يتعلق بالثقافة المغربية؛
التحلي بالخصال الحميدة كطلاقة الوجه واحترام الناس وحفظ اللسان والتواضع والحلم والحياء والرحمة والتسامح، وأن يكون المثل والقدوة في الأخلاق والسلوك؛
إجلال المهمة التي يؤديها باعتباره حاملا لأجل رسالة وأكرمها وهي رسالة الإسلام، والتفاني في أدائها على الوجه الأكمل؛
عدم الخوض في الأمور السياسية التي تختلف فيها اجتهادات جماعة المسجد، والحرص على التأليف بين قلوب جميع الناس، ومعاملة الكل معاملة حسنة؛
ربط علاقات جيدة مع المحسنين وأعضاء جمعيات المساجد مع الاحترام التام للتوجيهات التي تضمنها هذا الدليل” .
كما يحدد الدليل بشكل دقيق جدا المهام التي تقع على عاتق من تفضل الوزارة أن تسميه “المسؤول الأول” عن المسجد:
“يقوم الإمام، باعتباره المسؤول الأول عن المسجد، وفق المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وثوابت الأمة وما جرى به العمل بالمغرب، بما يلي:
1-إمامة المصلين في الصلوات؛
2-تنظيم قراءة الحزب الراتب في المساجد بما فيه قراءة سورة الكهف ليوم الجمعة؛
3-تعليم القرآن الكريم؛
4-الإسهام في الحفاظ على الوحدة الدينية للمجتمع وتماسكه بصيانة الأمن الروحي ومحاربة السلوكات الشاذة والتطرف
5-المساهمة في النشاط الثقافي والتعليمي والاجتماعي بالمسجد؛
6-إصلاح ذات البين بين الأفراد والجماعات دون تحيز إذا طلب منه ذلك؛
7-المساعدة على الأعمال المرتبطة بالجنائز من غسل وصلاة ودفن؛
8-السهر على حرمة المسجد وآدابه، والحفاظ على النظام فيه وحمايته من كل نشاط خارج الإطار الديني والمذهبي المعتمد بالمملكة المغربية، وذلك طبقا لما هو وارد ومحدد في هذا الدليل وللتوجيهات الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في هذا الشأن؛
9-رفع الآذان عند غياب المؤذن؛
10-الإشراف على باقي القائمين في شؤون المسجد وتوجيههم عند الاقتضاء
11-العناية بتحسين المنظر والهندام والالتزام بالزي المغربي؛
12-الالتزام بتعليم أمور الدين وإرشاد الناس في شؤونه، ما لم يتعلق الأمر بالإفتاء في شؤون مستجدة أو في المسائل التي يكون غير متمكن من معرفة أحكامها بدقة في الفقه المالكي وعلى الإمام إحالة المستفتين فيها على المجالس العلمية المحلية”.
ملاحظات ختامية:
من دون إدعاء القيام بتحليل شامل لجل سيرورات إضفاء الطابع البيروقراطي على عملية تدبير شؤون العبادة، ولا حتى السعي لتقييم مضمون هذا المشروع الذي يرمي لإضفاء القداسة عن الإسلام المغربي، يمكن طرح عدد من الخلاصات المؤقتة في هذا الصدد.
فالمشروع المعتمد حاليا يذهب في اتجاه معاكس للصورة السلطانية التي كانت تؤطر الطريقة التقليدية التي تبنّتها الملكية في هذا المجال. فاستبدال الروابط والوسائط التي كانت تعمل بشكل غير رسمي، بموظفين يخضعون لقواعد رسمية، هو أمر يتعارض مع التحديث المؤسساتي الذي دفع به “الربيع العربي” وعمل الدستور الجديد على مأسسته. فضلا عن ذلك، فالنموذج التنظيمي للدين في صيغة بيروقراطية دينية تحتكر انتاج خيرات الخلاص Production des biens de salut وتأويل العقيدة، فضلا عن تنشئة المؤمنين، هي عناصر أضحت مهددة أكثر من أي وقت مضى بظهور “كنائس” جديدة، بالمعنى السوسيولوجي للكلمة (علم اجتماع الأديان)، الأمر الذي يصعّب مهمة الدولة التكفل بتدبير الشعائر وتحد أكثر فأكثر من قدرتها على خلق ونشر أرثدوكسية دينية متمحورة حول وحدة العقيدة. ولعل الضغوط الأصولية التي تمارسها السعودية وإيران، إضافة إلى تلك التي تمارسها الكنائس الأمريكية التي تناضل من أجل الحرية الدينية، والتي ما فتئ نفوذها يتقوى بشكل متنامي، تستهدف دفع المغرب لمراجعة موقفه الحريص على تحصين المسلمين الأصلين وحمايتهم من المشاريع التبشيرية للكنائس الأجنبية سواء كانت إسلامية أو مسيحية.
من جهة أخرى، يجد المغاربة أنفسهم مطالبين أكثر من أي وقت مضى بتجاوز الأساليب التقليدية للتنشئة الدينية بسبب تضافر عدة عوامل مستجدة تتعلق بانتشار التكنولوجيات والمعلوميات الحديثة، وتواجد قطاع واسع من الجالية المغربية بالخارج وانفتاح المشهد الإعلامي. فأمام عرض ديني تعددي ومتنوع يصعب على الدولة السيطرة عليه، أخد المغاربة يلجئون إلى تركيب “قائمة دينية” Menu religieux خاصة بهم ويسمحون لأنفسهم بنسج والقبول بتوفيقات Syncrétismes داخل الدين الإسلامي نفسه (بالتقارب مع التشيع خصوصا)، وربما مع الأديان الأخرى، في سياق سيرورة معلمنة تضع الممارسة الروحية في المجال الخاص للأفراد أو في إطار حركة إصلاح ديني، كما هو الحال بالنسبة للبهائية. إن محاولات الضبط والرقابة من خلال التوحيد والمعيرة والأجرأة لا يبدو أنها قادرة على مواجهة هذه الاتجاهات التي أخذت تنفذ إلى عمق النسيج المجتمعي. وأخيرا، فعلمنة الممارسات الاجتماعية الجارية تزداد بشكل حاد ومطرد، حتى من دون التقليل من احتمالات توظيف الدين في المجال العام. إن الفجوة بين فكر سياسي مشبع بالنموذج الفقهي، وتعبئة الممارسات الاجتماعية التي توجد في طور التحول، يغذي في الواقع من استعمال العنف. وهذا الأمر يجعل من الضروري القيام بتوضيح مؤسساتي للعلاقة بين السياسي والديني، وهذه مسألة لازالت عملية البرقرطة الراهنة تتجنب الحسم فيها كليا.
Bibliographie
أبو اللوز، ع (2009): الحركة السلفية بالمغرب. أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، جامعة الحسن الثاني عين الشق، الدار البيضاء.
العلوي المدغري، ع (2006): الحكومة الملتحية دراسة نقدية مستقبلية. دار الأمان، الرباط.
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (2007): دليل الإمام والخطيب والواعظ. منشورات الوزارة.
المجلس العلمي الأعلى (2008): حصيلة دورات المجلس العلمي الأعلى لعام 1427ه-2006 م. منشورات المجلس.
المجلس العلمي الأعلى (2012): فتاوي الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004-2012، منشورات المجلس.
BELAL Y. (2012), « Islam et sécularité. Réformismes et enjeux géopolitiques », Cahier bleu, n° 17.
BELAL Y-(2011), Cheikh et le Calife. Sociologie religieuse de l’islam politique au Maroc, Éditions de l’ENS, «Sociétés’ espaces, temps », Lyon.
BERQUE J. (1953), « Problèmes initiaux de la sociologie juridique en Afrique du Nord », Studia islamica, n° 1, p. 137-162.
BERQUE J. (1957), « Quelques problèmes de l’islam maghrébin », Archives de sociologie des religions, n° 3, juillet.
BERQUE J. (1982), Ulémas. Fondateurs insurgés du Maghreb, Sindbad, Paris.
EL AYADI M., RACHIK H et. TOZY M. (2007), L’Islam au quotidien, enquête sur les valeurs et pratiques religieuses au Maroc, Éditions Prologues, Casa¬blanca.
GELLNER E. (2003), Les Saints de l’Atlas, Éditions Bouchène, Saint-Denis.
TAMIM M. (2005), « Reproduction sociale, territorialité des populations et pouvoir local. Cas de la vallée d’Quneine dans le Haut-Atlas », thèse de doctorat d’État en Géographie, faculté des Lettres et Sciences Humaines, Rabat-Agdal.
TOZY M. (1984), Champ et contrechamp politico-religieux au Maroc, thèse d’État, université d’Aix-Marseille.
TOZY M. (1988), “De quelques lieux de la compétition politique au Tazeroualt », Bulletin économique et social du Maroc, n° 159-160-161, p. 155-181. ‘
TOZY M. (1999), Monarchie et islam politique au Maroc, Presses de la Fonda¬tion de sciences politiques, Paris.
TOZY M. (2000), « Séquences of a quest. Tabligï jama’at in Morocco », in MASUD M. K. (dir.), Travelers in Faith, Brill, Leiden, p. 161-173
TOZY M. (2008), « Désir de guerre et quête de justice : une plongée dans l’uni¬vers mental et social des jihadistes», La Pensée de Midi, n° 26, novembre.
TOZY M. et SOUAÏDI M. (2011 ), « Taleb en métropole », in TOZY M. et PERALDI M. (dir.), Casablanca. Figures et scènes métropolitaines, Khartaîa, Paris.