محمد حبيدة، بؤس التاريخ: مراجعات ومقاربات، الرباط، دار الأمان، 2015.
يُشير العديد من الباحثين والمهتمّين بالمعرفة التاريخيّة إلى تحولات منهجيّة ونظريّة، شهدتها الإسطوغرافية المغربية في الخمسين سنة الأخيرة. وهي تحوّلات تشي بنوعٍ من التفاؤل والرضى عما حققته عمليّة كتابة التاريخ، بفضل أعمال وجهود جادة استطاعت أن تحقّقَ تراكماتٍ وتطوراتٍ مهمة، لكنها سرعان ما عرفت انقطاعاتٍ وتراجعاتٍ بفعل عوامل عديدة، تنبّه لها بعض الدارسين والمشتغلين بالكتابة التاريخية وأبدوا حولها ملاحظاتٍ واستنتاجاتٍ متعددة[1]. وفي هذا السياق يندرج كتاب “بؤس التاريخ مراجعات ومقاربات” للمؤرخ المغربي محمد حبيدة.
يتألّف كتاب “بؤس التاريخ” الصادر سنة 2015 عن دار الأمان، من 237 صفحة من الحجم المتوسط. وهو في الأصل عبارة عن مجموعة من الدراسات منشورة في مؤلّفات جماعيّة، ومجلّات وطنيّة، ومساهمات معروضة في ندوات دولية، جمعها مُؤلِّفها -بعد أن نقل البعض منها إلى العربيّة- في ثلاثة أقسام على النحو الآتي:
“مشكلات منهجية” و”بنيات اجتماعية” ثم “دروب بحثية“. ولقد نبّه فيها إلى كثير من الإشكاليات، وإلى هموم منهجية ومعرفية في تاريخ المغرب، ترتبط بالموضوعِ وبالمنهجِ وبالزّمنِ.وهي مسارٌ راكمه المؤلف على مدى ستة عشر عاما، من سنة 1996 إلى سنة 2012، على شكل حقولٍ منهجيّةٍ ومعرفيّةٍ تحاور الإنتاج التاريخي المغربي خلال العقود الأخيرة. ويذكّرنا هذا بتجربة بعض المؤرّخين الفرنسيّين، من أمثال لوسيان فيفر في معاركه من أجل التاريخ[2].
في مقدمة بعنوان “نحو رؤية نقديّة” يقارب محمد حبيدة حصيلة الإسطوغرافية المغربية بين حقبتين زمنيتين مختلفتين، بين فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وفترة ما بعد التسعينيّات؛ فالأولى تميزت بتراكم نظري ومعرفي مهم بفضل توظيفها لأدوات منهجيّة رصينة، أما الثانية فقد اتصفت بغياب الرؤية والأطروحة، بفعل “كسلٍ فكريٍّ”، تجلت عوامله في القصور اللغوي، وفي الأحكام المسبقة اتجاه الإنتاج الكولونيالي، وفي ضعف التكوين والمتابعة النقدية الجادة. “والحال أن القراءة النقدية هي التي ترفع من قيمة المعرفة في ميدان التاريخ كما في ميادين معرفية أخرى”[3].
ويمكن النظر إلى هذا الكتاب كامتداد لمسار محمد حبيدة في عملية كتابة التاريخ، نظريا ومعرفيا، حيث زاوج فيها بين التجربتين الأوروبية والمغربية، بين الترجمة[4] والاهتمام بالمناهج، بين البحث في الإسطوغرافية والكتابة عن الإسطوغرافية. إنه مسار يجمع بين التمكن من الإسطوغرافية الأوروبية كتابة وتدريسا، وبين ممارسة البحث والتنقيب على ضوئها في مصادر تاريخ المغرب المحلية والأجنبية. كلها قضايا ستظهر بشكل أساسي في قراءاته لنماذج من الكتابة التاريخية الأوروبية والمغربية[5]، ذات الصلة بالمعرفة التاريخية والعلوم الإنسانية. وهي اهتمامات مهّد لها بترجماتٍ متنوعةٍ تقارب بعض التوجهات المعاصرة في التاريخ والعلوم الإنسانية[6]، فمارسها وأَجْرأَ البعض منها في كتابه حول تاريخ أوروبا[7].
يُلامس المؤرخ في “بؤس التاريخ” “نوعا من عدم الرضى على ما هو متداول من ممارسة للبحث التاريخي وتمثل الزمن ورؤية للمنهج”. هذا “ليس حكما على الإطلاق”، كما يقول في المقدمة، بل “معاينة لبؤس معرفي يشهده الجميع”[8]. من هذا المنطلق يقترح المؤلِّف مراجعة بعض المسلَّمات، وفي طليعتها التحقيب التقليدي، بالتنبه لمفهوم الزمن الطويل، أي البنيات الاجتماعية والاقتصادية وأنماط التفكير والتمثل التي ظلت وفية لروح العصر الوسيط، ولم تعرف تحولا يذكر إلى حدود الرجة التي أحدثها الاستعمار الأوربي.
ويربط صاحب الكتاب الانحباس الحاصل في الكتابة التاريخية، من حيث الموضوعات المتداولة، بالوفاء للنّزعة الوطنيّة، والالتصاق بالوثائقِ التاريخيّة، والوصفِ وغياب التفسير، خصوصا في التاريخ القروي والمونوغرافي، إذ باستثناء الأبحاث الأولى الرائدة والمؤسِّسة، مع أحمد التوفيق[9]، والعربي مزين[10]، وعبد الرحمان المودن[11]، “فإن معظم المونوغرافيات بسطت مقاربة التاريخ المونوغرافي، ولم تولّد أفكارا تذكر”[12]، وذلك بسبب الافتقار لروح التركيب، الذي ظل عقدةً وعائقا معرفيا بالنسبة للكثير من الباحثين، إذ لم يستطيعوا الانتقال من دراسات مونوغرافية إلى أعمال تركيبية “من شأنها أن تطور المعرفة التاريخية وتمنحها مكانة بين العلوم الاجتماعية”[13].
في القسم الثاني الذي خصصه المؤلف لـ “بنيات اجتماعية”، نود أن نتوقف عند مبحث أساسي سجل حوله ملاحظات على ضوء كتب الأنساب. إنها “الديموغرافية التاريخية” باعتبارها حقلا بكرا في الإسطوغرافية المغربية. ومن بين هذه الملاحظات:
– لا يمكن الحديث عن ديموغرافية تاريخية في المغرب كإجرائيةٍ كميّةٍ، بل كمقاربةٍ كيفيةٍ، مادامت الوثائق التاريخية المتوفرة لا تقدم معطيات دقيقة تخص الولادات والوفيات على نحو منسق ومتسلسل[14].
– مشكلة “الرقم الديموغرافي”، حيث نادرا ما تقدم النصوص المغربية أرقاما تذكر. أما النصوص الأجنبية فتتسم أرقامها بالتذبذب في التقديرات المقترحة.
– محدودية المعطيات والإمكانيات التي تقدمها المصادر غير المباشرة ككتب الأنساب والمناقب والتراجم، لكونها “لا تمنح سوى إرهاصات ومؤشرات ديمغرافية“[15]، مما يفرض على الباحثين اجتناب الجهد الضائع في المستويات الكمية الرقمية، والتركيز في المقام الأول على المستويات الكيفية الطقوسية والخطابية للموت.
وفي سياق هذه البنيات الاجتماعية، اهتم محمد حبيدة بمسألة القبيلة لسبر أغوار المجتمع المغربي قبل الاستعمار، فوصفه “بالمجتمع المتنقل”، وبمجتمع الترحال والرعي، لكونه تميز “بالتردد اليومي” على المراعي والمياه، “بحركة الانتجاع”، “شتاءً باتجاه السهول، وصيفا باتجاه الجبال”، بحثا عن الكلأ. كما اعتبر تحركات القبائل “عنصرا أساسيا في المعادلة السياسية والعسكرية لتاريخ المغرب”[16]، بل كانت “بالنسبة للدولة أداة سياسية وعسكرية لخلق نوع من التوازن في تدبير شؤون البلاد”[17].
وفيما يتصل ببنية المجتمع ذاتها، وبعد مناقشته لأطروحة إدريس بن علي حول “نمط الإنتاج الفيودالي”[18] في مغرب ما قبل الاستعمار، رَجَّحَ صاحب “بؤس التاريخ” مفهوم “نمط الإنتاج العتيق”، الذي اقترحته المؤرخة لوسيت فالنسي اقتباسًا عن كارل ماركس[19]، واعتمادًا على مؤشراتٍ واقعيةٍ لازمت بنيات المجتمعات المغاربية، ومن أبرزها: الديموغرافية المنشارية، والتقنيات العتيقة، والـمِلكيات المجهرية، والإنتاج من أجل سد الحاجة، وتردد المجاعات والأوبئة. إنها مجتمعات قامت على اقتصاد الكفاف والقلّة، على علاقات إنتاجيّة مبنيّة على الشُّركة الزراعية أو نظام الخماسة، على الاحتكار العمودي للسّلطة (الاستبداد)، وعلى هيمنة المعتقد الديني في التمثلات والممارسات.
وفتح المؤلِّف، من خلال القسم الثالث، مجموعة من المسالك. وهي “دروب بحثية” متنوعة، تبلور إشكالياتٍ عميقة أمام الباحثين والمشتغلين بالمعرفة التاريخية في المغرب. وهي على النّحو الآتي: “التاريخ والبيولوجيا“، “التاريخ والمناخ“، “التاريخ والجغرافية التاريخية“، “التاريخ والذاكرة“، “التاريخ الخفي: تاريخ المرأة“، “التاريخ الحارق: عنف وعنف مضاد“.
ونقف في هذا القسم عند مبحث: “التاريخ والبيولوجيا”، الذي راكم فيه المؤلِّف مشروعا في البحث والكتابة، على ضوء إشكاليّاتٍ عميقةٍ تقارب العادات الغذائيّة والأطعمة المستهلكة في تاريخ المغرب قبل الاستعمار من زاويتين: تاريخية وبيولوجية[20]. ولقد توصّل إلى استنتاجات تؤكد أن المطبخ المغربي ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، كانت تهيمن عليه الأطعمة النباتية في زمن الأزمات البيولوجية، وفي الفترات العادية. وهي أطعمة قاربها صاحب الكتاب من زاوية بيوكميائية ووظيفية حافظت على كيان المغاربة على مدى التاريخ، في إطار اقتصاد القلة وثقافة الزهد والتقشف، وليس من زاوية الهشاشة التي كان قد ركز عليها مثلا المؤرخ الفرنسي بيرنار روزينبيرجي[21].
وبصفة عامة، يمثل الكتاب تشخيصا لواقع الإسطوغرافية المغربية خلال الخمسين سنة الأخيرة، على شكل قراءاتٍ وتأملاتٍ في مشاكل البحث التاريخي بالمغرب، الذي يحتاج حسب محمد حبيدة لجهود كبيرة على مستوى التأطير والبحث، وإتقان اللغات الأجنبية، ومحاورة الإنتاج الكولونيالي، ومتابعة نتائج العلوم الاجتماعية المجاورة، في المغرب والخارج، متابعةً لصيقة، للتمكن من تشييد الموضوعات تشييدا إشكاليا خصبا، والسير بالمعرفة التاريخية إلى الأمام، والوصول إلى نتائج أفضل.
[1] للمزيد من التفاصيل. راجع: المنصور (محمد)، كنبيب (محمد)، السبتي (عبد الأحد)، تنسيق، البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1989؛ المودن (عبد الرحمن)، هنية (عبد الحميد)، بنحادة (عبد الرحيم)، تنسيق، الكتابات التاريخيةفي المغارب الهوية الذاكرة والإسطوغرافيا، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2007؛ عبد الرحمان المودن (تقديم)، خمسون سنة من البحث في تاريخ المغرب، البحث التاريخي، العدد 7- 8، 2009/2010؛ السبتي (عبد الأحد)، التاريخ والذاكرة أوراش في تاريخ المغرب، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 2012. [2] يتكونمن دراسات وأبحاث في المعرفة التاريخية كتبت ما بين 1906 و1952، نشر بعضها في مجلة التركيب التاريخي وبعضها الآخر في مجلة الحوليات، وأصدرها على شكل كتاب سنة 1953. راجع:
Febvre (L.), Combats pour histoire, Paris, Armand colin, 1992, p 7.
[3] محمد حبيدة، كتابة التاريخ قراءات وتأويلات، الرباط، أبي رقراق، 2013، ص 9. [4] من بين مترجماته: من أجل تاريخ إشكالي: ترجمات مختارة (2004)؛ المغرب قبل الاستعمار: المجتمع والدولة والدين، لمحمد المنصور (2006)؛ حوارات مغربية: مقاربة نقدية للأنثروبولوجيا، لكيفن دواير (2008). [5] محمد حبيدة، كتابة التاريخ، م س. [6] محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي ترجمات مختارة، القنيطرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2004. [7] محمد حبيدة، تاريخ أوربا من الفيودالية إلى الأنوار، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2010. [8] حبيدة محمد، بؤس التاريخ، م س، ص 10-11. [9] أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن 19: إينولتان 1850-1912، الرباط، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1980.[10] Mezzine (L.), Le Tafilalet. Contribution à l’histoire du Maroc aux XVIIe et XVIIIe siècles, Rabat, 1987.
[11] عبد الرحمان المودن، البوادي المغربية قبل الاستعمار: قبائل إيناون والمخزن بين القرن 16 و19، الرباط، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1995. [12] محمد حبيدة، بؤس التاريخ، م س، ص 40. [13] نفسه، ص 68. [14] حول هذه الإشكالية. راجع: محمد حبيدة، “الديموغرافية التاريخية: من الإجرائية الكمية إلى المقاربة الكيفية”، كنانيش، ع 1، 1999، ص 11-16. [15] محمد حبيدة، بؤس التاريخ، م س، ص 89. [16] محمد حبيدة، بؤس التاريخ، م س، ص 96. [17] نفسه، ص 98.[18] Ben Ali (D.), Le Maroc précapitaliste, Société Marocaine des Editeurs Réunis, Rabat, 1983.
[19] محمد حبيدة، بؤس التاريخ، م س، ص 111-112.[20]Houbaida (M.), Le Maroc végétarien, 15e–18e siècles. Histoire et biologie, Casablanca, Wallada, 2008.
وقد أنجز عبد الواحد مكني، وهو مؤرخ تونسي، قراءة لهذا الكتاب، تحت عنوان: “من الأكل إلى العقل”، رباط الكتب، 5 مارس 2011:
http://ribatalkoutoub.com
[21] محمد حبيدة، بؤس التاريخ، م س، ص 126.