امبرتو، ايكو، اسم الوردة، نقله عن الايطالية أحمد الصمعي، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2013.
تُعتبر رواية اسم الوردة، للسيميائي الإيطالي أمبيرتو ايكو، من بين أفضل الروايات الفلسفية الأكثر تداولا في العالم إلى اليوم، رغم مرور سنوات على أول صدور لها (نُشرت لأول مرة في لغتها الأصلية سنة 1980)؛ فقد حققت أرقاما قياسية في المبيعات، إذ وزع منها أكثر من عشرة ملايين نسخة. كما ترجمت إلى العديد من اللغات، وحصلت على عدة جوائز. ومن المفارقات أن المؤلف إيكو يشعر بالغضب الشديد كلما سئل عن هذه الرواية بالذات، لأن الجميع يحدثه عنها دون أعماله الأدبية والروائية الأخرى، لدرجة أنه عبَّر بالقول: ” في كل مرة أنشر فيها رواية جديدة، فإن رقم مبيعات اسم الوردة يعرف ارتفاعا مجددا”.
تدور وقائع الأحداث في رواية اسم الوردة أواخر القرون الوسطى، في الفترة التي بدأت تظهر فيها ملامح التحول نحو عصر النهضة. وتتخذ القصة قالبا بوليسيا، تتسلسل فيها جرائم تحدث في أحد الأديرة بشمال إيطاليا التابع للرهبنة البنديكتية من العام 1372. ويُقدَّم التفسير في البداية حول ظاهرة القتل بوجود روح شيطانية شريرة تحوم حول الدير، بسبب ممارسات شاذة تجري في الخفاء، غير أن الراهب الضيف الفرنشسكاني غوليمالو دي باسكارفيل، المحقق والقاضي السابق بمحاكم التفتيش، الذيكُلِّف من طرف رئيس الدير بإجراء تحقيق في هذه الجرائم، توصل، بعد سبعة أيام من رفادته، إلى فك اللغز والتعرف إلى القاتل الحقيقي، إلا أن الأحداث تنتهي بمأساة كبرى.
نُشير إلى أننا سنضطر في هذا المقال إلىارتكاب “خطيئة إفساد النهاية”، مع العلم أننا معذورون في ذلك لطبيعة فكرة المقال الطريفة، ولأن الرواية صدرت في الثمانينيات من القرن الماضي، وترجمت إلى اللغة العربية منذ سنوات (ترجمها أحمد الصمعي، سنة 1998، لدار أويا، وأعادت طبعها دار الكتاب الجديد سنة 2013 بعد نفاذها). كما أن أحداثها تحولت إلى فيلم سينمائي The Name of the Rose حاز شهرة عالمية.
تعتمد رواية اسم الوردة التشويق والإثارة والمتعة، يرويها الراهب الشاب البنديكتي أدسو دي مالك رفيق المحقق غوليمالو وتلميذه. ونجد في متاهة الرِّواية اللُّغز جدالات لاهوتية عميقة تعكس الخلافات الشديدة التي كانت سائدة آنذاك بين التيارات المسيحية المختلفة المشارب، ومن بين المواضيع الخلافية التي كانت محل جدل داخل الدِّير مسألة فقر المسيح، وكذا قضية غواية الضحك والهزل؛ ففي ثنايا الأحداث نجد الرَّاهب الأعمى يعمل ما بوسعه لحجب كتاب أرسطو المعروف باسم “الكوميديا” عن الأعين التي تسعى لمعرفة ما بداخله، حيث أخفاه في مكان يصعب الوصول إليه داخل متاهة مكتبة الدير؛ فكان كل من سوَّلت له نفسه الاقتراب من الرفِّ الذي يوجد به الكتاب المذكور، يُقتل في ظروف غامضة. ولمزيد حِرْصِه عَمِلَ “يورج”، على وضع مادة خطيرة بين صفحات الكتاب، ليحول دون السَّماح لأيِّ شخص من قراءة الكتاب خفية والناس نيام. وحينما تناقش المحقِّق “غوليمالو” مع الرَّاهب “يورج”، حول موضوع الضَّحك وعلاقته بالدين المسيحي، عبَّر الأخير صراحة عن تحريم كل الأشكال المرتبطة به، من مرح وهزل. ولما طلب منه زائر الدِّير أن يُبيّن له سبب رفضه بالأدلة الدينية أجاب بكون السيِّد المسيح لم يحْكِ في حياته هَزْليات، ثم أتبع بالقول إن الضَّحك من وجهة نظره دافع إلى الارتياب والشكِّ في اليقينيات الدِّينية، وهو ما يُمثل خطرا على الإنسان لأنه المسؤول عن “مسخ طبيعتنا البشرية”، لمِاَ يقوم عليه من تشجيع للتفسخ الأخلاقي والقيمي. وكان أول نقاش أثار شكّ المحقق “غوليمالو” في المسؤول عن أحداث القتل الغامضة التي تقع في الدير، الحوار الذي دار حول نفس الموضوع بباحة مكتبة الدِّير المخصَّصة لقراءة الكتب، حيث كانت إجابة “يورج” صارمة عن سؤال طُرح للنِّقاش بخصوص ما إذا كان السَّيِّد المسيح قد ضحك يوما، بقوله: “أنَّ ذلك لم يقع قط”.
إن الإشكالية التي أراد كاتب الرواية الإيطالي إيصالها إلى الجمهور القارئ تتعلق بكون الهاجس الأكبر الذي سيطر على السلطة والكنيسة في القرون الوسطى إنما كان يتمثل في الخوف من الضَّحك، باعتباره مخالف للتعاليم الدينية، وهذا هو السبب الذي جعل الرَّاهب “يورج” يعمل ما بوسعه لإخفاء كتاب أرسطو حتى لا تصله أيدي المتلصصين من الرهبان داخل الدِّير المعزول، بل إنه تعمد تسميمه بأعشاب قاتلة. وقد اضطر في النهاية إلى إحراق المكتبة لكي يحميها من غواية الضحك.
تعتمد رواية اسم الوردة تشويق القارئ الذي يعيش تجربة سينمائية وذهنية ممتعة، وتختبر في نفس الوقت قدرته على الصبر والتفاعل مع العلامات وتأويلاتها في هذا العمل المحتفى به؛ فبعد الملل الذي قد يصيبك جراء قراءة أحداث اليوم الأول من الرواية بسبب سرد الراوي عددا من الوقائع وأسماء الأشخاص والأماكن، سرعان ما تشدك الأحداث بقوة، لتبدأ بالدخول طوعا في لعبة الاحتمالات والبحث عن القاتل مع الراوي، إنها تجربة ممتعة؛فبجانب الجرائم الغامضة، تدور جدالات لاهوتية كَنَسيَّة تُعبر عن مدى الانقسام السائد خلال تلك الفترة، بين البابا والإمبراطور من جهة، وبين الرهبان من جهة ثانية. مع وصف دقيق تقدمه الرواية للمعطيات البيوغرافية الخاصة بماضي الرهبان الموجودين بالدير، وتستمر الأحداث المشوقة تشدك إلى النهاية داخل متاهة المكتبة؛ فكلما ظننت أن الرواية تقترب من نهايتها تحدث مفاجأة غير متوقعة تقضي على احتمالاتك الواهمة. وبجانب ذلك تمنحك الرواية ثقافة موسوعية دسمة عن التصورات الدينية والفلسفية والتاريخية التي سادت خلال فترة العصر الوسيط بإيطاليا، وبالخصوص طبيعة الخلافات بين الكنيسة الكاثوليكية الممسكة بزمام السلطة الزمنية والمتفرغة إلى حياة البذخ والثراء، وحياة الرهبان الفرانشسكانيين المطالبين بعودة الكنيسة إلى مثال حياة المسيح التي اتسمت بالفقر والبساطة.
نذكر للمؤلف إيكو أعمالا روائية أخرى، وهي: بندول فوكو، وجزيرة اليوم السابق، وباودولينو، ومقبرة براغ، غير أنها لم تلق نفس ما لقيته رواية اسم الوردة، التي حظيت بالنجاح الباهر أكثر من غيرها، إذ تحولت إلى أشهر كتاب في إيطاليا، بل إنها استرعت اهتمام الانتربولوجيين في الأساس بسبب الطريقة التي استثمر بها إيكو خبرته السيميائية وحيله السردية في تشييد الأحداث داخل الدير.
ما السر إذن في سطوع نجم اسم الوردة التي تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح؟ وكيف جاءت فكرة تسمية الكتاب الذي يحار المرء في تصنيفه؟ وهل من علاقة مفترضة بين اسم الوردة في العنوان والمعاني والدلالات الموجودة في نص الرواية؟
إن نصا متعددا ومنفتحا مثل اسم الوردة يمنحنا الحق في استنباط تأويلات مختلفة، قد لا تكون بالضرورة هي المقصودة من قبل الروائي. ومع ذلك فعند صدور اسم الوردة لم تتوقف رسائل القراء لإيكو تستفسره عن معنى البيت الشعري اللاتيني الذي اختتم به الأحداث في الرواية، ولماذا هذا البيت بالضبط هو الذي أوحى له باختيار عنوان كتابه؟
بالرغم من أن الروائي غير ملزم بتقديم تأويلات لعمله حتى لا يشوش على نصه، إلا أن الناقد السيميائي إيكو تفاعل مع قرائه ومحبيه ممن استهوتهم القِصَّة، وناقش معهم العنوان ومعانيه، وكشف بالتالي لهم، وحصريا، عن عناوين أخرى لعمله كان قد اختارها قبل أن يستبعدها في النهاية لصالح اسم الوردة، ومنها عنوان: “دير الجرائم”، الذي تخلى عنه لأنه يركز انتباه القارئ إلى القصة البوليسية، التي ليست هي المقصود الرئيس من الكتاب. وكان يرغب أيضا في تسميتها: “أدسو دي مالك“، على شخصية الراوي في القصة، إلا أنه لم يتشجع في تثبيته لكون الناشرين الإيطاليين لا يحبذون كثيرا أسماء الأعلام عناوين للروايات.
هل اختار إذن ايكو اسم الوردة بالصدفة؟ ذلك ما يدَّعيه في الكتيب الصغير الذي ألفه على هامش روايته والموسوم بـ “حاشية على اسم الوردة”؛ فقد أشار فيه صراحة إلى إعجابه بهذا العنوان بالذات، لأن للوردة-في نظره- دلالات ومعاني مختلفة في التاريخ، لدرجة غدى معها الاسم بدون أي معنى واضح؛ فإذا كان العنوان مستوحى بشكل مباشر من بيت شعري يعود للفترة الزمنية التي تجري فيها الأحداث في الرواية، فإن السيميائي المناور أراد أن يبلغنا بأسلوبه الخاص رسالة مفادها أن كل الأشياء تندثر ولا تبقى منها في النهاية سوى الأسماء.
نتَّفق جميعا في كون اسم الرواية مضلِّل للقارئ ومشوش له إلى أبعد الحدود، حتى وإن تمكَّن في النهاية من الإمساك بالقراءات الممكنة للقصيدة الختامية، التي وردت بإحدى أبياتها كلمة الوردة، وهي قصيدة لراهب بنديكيتي من القرن الثاني عشر، اسمه برنارد المورلوي.
“كانت الوردة اسماً، ونحن لا نمسك إلا الأسماء”، بهذا السطر من البيت الشعري للراهب المذكور ختم إيكو روايته، ربما ليشير إلى الجمال الموجود في ماضي القرون الوسطى. وقد يكون المقصود هو “الوردة الضائعة”، التي ليست في الرواية سوى كتاب الكوميديا لأرسطو الضائع فعلا، أو ربما المكتبة التي أحرقت في النهاية؛ فضاعت وضاع معها الدير، وقد يكون إيكو قصد من العنوان شيئا آخر بما أن الوردة في التقاليد اللاتينية ليست سوى “صورة رمزية محمَّلة بمختلف المعاني إلى درجة أنها أصبحت لا تملك معنى محددا”؛ فلم يجد السيميائي الإيطالي أفضل منها للدلالة على الرواية التي هي عبارة عن متاهة من المعاني والدلالات، إذ اسم الوردة يشبه في تركيبته العديد من الدوائر المتركزة من أصغر دائرة التي هي الدير الذي يمثل عالما مصغرا، إلى دوائر تتسع شيئا فشيئا لتصبح لا نهائية ولا زمنية.
“اسم الوردة” حسب مُترجم العمل إلى اللغة العربية “عمل مفتوح”، وبإمكان كل قارئ مهما كان انتسابه أن يجد فيه صورة من نفسه وصورة من عالمه. ولعل هذا ما قصده أيضا إيكو حين قال: “إن الحكاية لا تقص علينا في حقيقة الأمر إلا ما يجري من حولنا، بينما الوقائع التاريخية والجرائم والمتاهة المذكورة في الرواية لا تعدو أن تكون رموزاً ينبغي فك أسرارها، وفهم دلالاتها، ولعل هذا هو أكبر سر في نجاح هذه الرواية”.
لا يقدم إيكو قراءة خاصة ولا تأويلا معينا ووحيدا لعمله؛ فذاك عنده أمر مستهجن، إذ التأويل ليس مهمة المبدع، ومع ذلك فإنه أفصح في تأملاته أن فكرة تسمية كتابه باسم الوردة جاءته – حسب تعبيره- “عن طريق الوردة الصوفية، وردة عاشته ما تعيشه الورود، حرب الوردتين، الوردة هي الوردة هي الوردة هي الوردة، روزا كروتشي، شكرا للورود الجميلة، وردة يانعة فواحة”. هذه العبارات الغامضة تزيد الأمر تعقيدا بدلا من توضيحه، ولعل هذا ما جعل ايكو يستحضر في نهاية تأملاته الكاتب ابيلارد الذي استخدم جملة “الوردة العاطلة”، لكي يوضح كيف “أن اللغة يمكن أن تتحدث عن كل من المعدوم والمدمر”، ليترك بعد ذلك للقارئ خيار مواصلة استنتاجاته وتكهناته بخصوص العنوان، الذي يعتبر مفتاحا لكل التأويلات الممكنة؛ فهو أراد من المتلقي أن يبلور بنفسه التأويل الذي يراه مناسبا، ومنسجما مع أفق تفكيره، باعتبار أن النص الروائي الإبداعي هو آلة مولدة للتأويلات.
قراءات تكميلية
- امبيرتو ايكو، تأملات في اسم الوردة، ترجمة سعيد الغانمي، سلسلة نصوص، بيروت، دار الكتاب الجديد، لبنان، 2003. والجدير بالذكر أن هذا الكتاب ترجمه عدد من الباحثين الآخرين منهم: سعيد بنكراد، أحمد الويزي.
- امبرتو إيكو، حاشية على اسم الوردة : آليات الكتابة، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، مجلة علامات المغربية، الدار البيضاء، عدد 15، 2001، ص. 5- 38.
- حوارات مع امبرتو ايكو، ضمن : حوارات القرن، كتاب الرافد، ترجمة محمد الجرطي، عدد 62، يناير 2014.
- عبدالسلام الربيدي، النص الغائب في القصيدة العربية الحديثة، عمان، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2012 .