علي صدقي أزايكو، تاريخ المغرب أو التأويلات الممكنة، مركز طارق بن زياد، الرباط، 2002.
يضم هذا الكتاب ثمانية عشر بحثا منها أربعة باللغة الفرنسية. وهي أبحاث تعكس مقامات مختلفة من التفكير، وتلخص مسارا في البحث يغطي العقدين الأخيرين من القرن العشرين على الأقل، لأن هناك أفكارا في الكتاب ذكرتني بانشغالات علي صدقي وهو يدرس مادة المغرب الإسلامي أوائل السبعينات. وأتذكر هنا دراسته الشيقة لموضوع برغواطة التي لم تدرج ضمن هذا الكتاب، على الرغم من أنها تناولت منذ ذلك الوقت جل القضايا المطروحة في هذه الأبحاث أي النسب والمثاقفة والخريطة السياسية بالمغرب بعد مرحلة الولاة.
وهي انشغالات هيمنت على فكر صدقي وتعكس علاقة وجدانية مع مجال جغرافي هو الأطلس الكبير ومع ثقافة المصامدة اللذين كشف الباحث عن معرفة عميقة بهما، فهو يعرف الجبل معرفة ابن البلد، ليقينه بأن معرفة الناس هي من معرفة المجال الجغرافي، ويعرف الناس بأنسابهم وأنماط عيشهم ونظمهم وبما نسجوه من علاقات بين بعضهم البعض وبينهم وبين دول تفهم السيادة في معنى الشمولية والاحتواء.
وهو أيضا مدرس بارع، لا يميز أحيانا بين الطالب المبتدئ والباحث المتخصص، أو هو لا يريد ذلك أصلا، ولذلك نراه يصر على الإشارة إلى ذلك بشأن مقاله “البدايات الأولى لدخول الأمازيغ في العالم الإسلامي” وهو مما يحسب له، ولو لم يفعل لما انتبه أحد إلى ذلك، فالدرس عنده من البحث، وغاية البحث ليس الأقران وحدهم، وإنما هو وسيلة تربوية لخلق تجاوب متجدد مع بضاعة أرخ لها الأقدمون وأرخت لها اسطوغرافيا القرن العشرين وما زالت الهموم الفكرية والإيديولوجية تتجاذبها، لا لحصول الاختلاف في الخطوط الكبرى المعروفة ولكن لأن هناك أشياء يجب أن تدقق، وقد تكون مرئية فيلزم وضعها تحت المجهر.
ولعل من مميزات الباحث أنه لا يغير رؤيته للأشياء في أبحاثه الثلاثة الأولى:
• مدخل إلى تاريخ شمال إفريقيا
• شمال إفريقيا قبيل بداية العصر الإسلامي
• البدايات الأولى لدخول بلاد الأمازيغ في العالم الإسلامي
فهو يدرس ويقيم مادة معروفة في خطوطها الكبرى، وهو فيها بدوره مرتجل بعض المقامات كعازف منفرد، فينطلق من اللحن العام ليعود إليه بعدما يكون قد أضاف بعدا آخر، ذا تلوينات تغني ولا شك، لكنها تلوينات خاصة بالمؤلف تترجم انفعاله إزاء نص مكتوب يحاول أن يتملكه مجددا.
فأسماء المنطقة “شمال إفريقيا” صدرت عن الأجانب الذين تعاملوا معها، واكتست هذه العلاقة طبيعة استعلائية. وفي هذا السياق فقد احتفظ المغاربة بأسماء تبناها المشارقة، بل واحتفظوا بجوهر الرواية المشرقية عن الفتوحات، فضاعت فرصة البحث عن تسميات محلية. وهذا رأي يمكن تبنيه، لولا ما عبر عنه الكاتب “بعدم بروز إرادة سياسية لدى مختلف الدول لتبني أسماء منبثقة من واقعنا التاريخي”؛ نعم إن جل هذه الدول قامت على أكتاف الأمازيغيين بالدرجة الأولى. لكن هذه الكيانات المركزية وإن كانت تنظر إلى الواقع المغربي من زاوية مصلحية مدبرة، فإن تصوراتها تنطلق من مركزية الدين، وهذا صحيح حتى بالنسبة لتلك التي احتفظت بأسمائها الأصلية كالزيانيين والمرينيين، إذ بالرغم من غياب الأرضية الإيديولوجية للمطالبة بالحكم، فإنها وضعت نفسها منذ البداية في ظل الخلافة الحفصية.
لقد اكتسحت هذه المجموعات القبلية باسم الدين، مجالات أخرى أوسع توجد عليها مجموعات أخرى، وتم ذلك في إطار تصورات هي من الإرث السياسي في الإسلام كتبعية المرابطين للخلافة العباسية مثلا، واعتبار الموحدين والحفصيين لأنفسهم كنظام خلافة مهيأ للتوسع، وهذا من شأنه التأكيد بأن علاقة هذه الكيانات بالمجال هي علاقة مصلحية تمت في إطار ديني أوسع وأشمل من الانتماء الجغرافي والفضاء الثقافي الذي تنتمي إليه.
تناول الكاتب في هذه الدراسة أيضا، مختلف المصادر سواء المكتوبة أو الآثار المادية غير المكتوبة أو تلك التي تعتبر في حكم الضائعة، وركز اهتمامه على الأولى مصنفا إياها على الشكل التالي: المصادر الشرقية والمصادرالمغربية والدراسات الأوروبية. وقد نفذ بعين فاحصة إلى بنيتها الداخلية والمؤثرات البعيدة التي طبعتها وإلى المشاكل التي تعترض الباحث خلال تعامله معها.
تابع الكاتب تاريخ شمال إفريقيا قبيل الفتح، اعتمادا على هذه الحمولة المصدرية والمنهجية، وقد نبه إلى أن المنطقة هي مجال التقاء مؤثرات حضارية ثلاثة؛ واستعرض باقتضاب شديد أهم محطات هذا التواصل والتفاعل بدءا بالفينيقيين والإغريق، ومرورا بالقرطاجيين والروم، وانتهاء بالصراع الوندالي البيزنطي الذي حسم بمساعدة الإفريقيين، لصالح البيزنطيين وهي وضعية شاذة فسرها الكاتب بوجود روابط دينية قربتهم من البيزنطيين.
لكن هذا لا يعني أن استقرار البيزنطيين بالمنطقة تم في سلام، فعلى الرغم من حرصهم على تنظيم المستعمرة الإفريقية من الناحية الإدارية والعسكرية فإن المقاومة الأمازيغية لم تنقطع ما بين 535م و647م تاريخ انتصار المسلمين وخضوع المنطقة مجددا لهيمنة جديدة. وهذا يعنى أن الوجود الإسلامي ينتظم في سلسلة القوى المتعاقبة على حكم الشمال الإفريقي.
ثم تتبع الكاتب تاريخ شمال افريقيا خلال مرحلة الفتوحات، مذكرا بالسهولة النسبية للفتوحات الإسلامية في المشرق إلى غاية مصر، وبالصعوبات الجمة التي اعترضت الفاتحين في بلاد المغرب، وجعلت غزوه يستغرق حوالي ثمان وستين سنة. وقد أثرت هذه مرحلة على الأوضاع العامة في المنطقة، سواء من الناحية البشرية أو من الناحية الاقتصادية، بسبب الحروب و بسبب سوء تصرف الولاة الأمويين.
غير أن استقرار الإسلام وإن تم ببطء شديد فقد كانت له آثار دائمة في البلاد الأمازيغية ومنها:
• انخراط المغرب في المذاهب الإسلامية؛
• ظهور ممالك وطنية إسلامية؛
• اندماج سكان الصحراء في حركة الشمال؛
• بداية انتشار لغة جديدة هي العربية في غياب سلطة سياسية عربية؛
• استمرار علاقة المغرب بالمشرق كعلاقة دينية تحولت بفعل تراكم العوامل التاريخية إلى علاقة قومية؛
قد يبدو للمشتغلين بهذه الفترة أن الكاتب يكرر كلاما مألوفا خصوصا وأنه أشار إلى أن هذا البحث جزء من درس. لكنه هنا يتفوق على المدرس و يوشي سردا مألوفا بلمع من بنات أفكاره:
– فقد انتبه إلى الدور الذي لعبته العناصر الزناتية في فتح بلاد المغرب بانضواء لواته ونفوسة ونفزاوة تحت لواء الإسلام وعدم محاربتهم له وبتعزيزهم صفوفه فيما يلي من فتوحات. لكن تفسير هذه التحالفات بتشابه الحياة والغرائز عند الفريقين لا يصمد أمام وقوف الكاهنة في وجه المسلمين، وهي أيضا من قبيلة جراوة الزناتية. على أن أهم ما يمكن الانتباه إليه في هذا الصدد، وهذا ربما كان مضمرا في البحث، هو أن الذي نهض بعبء المقاومة هم الفرع الثاني من الأمازيغ أي البرانس.
تأكيده بأن حملة عقبة بن نافع خلال ولايته الأولى وما رافقها من عناء في اختراق قصور وواحات الصحراء الشرقية ترجع إلى رغبته في الوصول إلى مراكز التجارة الصحراوية، ويقدم قرائن مفيدة بذلك. وفي هذا الصدد فإن الكاتب يرفض الرواية المتعلقة بوصول عقبة مناطق سوس الأقصى، نظرا لما يعتري هذا الموضوع من اضطراب وتناقض، وهذا كلام يشترك فيه مع باحثين آخرين (العروي، برونشفيك…). ولكنه ينفرد فيما أعتقد بإضافة مهمة وهي أن كتاب تلك النصوص ربما وقعوا في خطأ الخلط بين عقبة بن نافع وحفيده حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة، فنسبوا للجد أعمال الحفيد الذي كان غزى بلاد السوس الأقصى ووصل أرض السودان.
وعلاوة على ما ذكر يذهب الكاتب أبعد من هذا حينما اعتبر أن رواية عبيد الله بن عبد الحليم رواية مصمودية ذات خلفية دفاعية ترمي إلى جعل المصامدة من أوائل الأمازيغيين المسلمين، وأنهم أسلموا طوعا على يد عقبة بن نافع.
إن تأكيد السبق للإسلام عن طريق الصلح يفتح فيما نعتقد أفقا آخر للتعامل مع موضوع الفتوحات، وهو أفق توظيف التاريخ لمواجهة وقائع طارئة يفصلها عن هذا الزمن زهاء ستة قرون. فمعاصرة ابن عذارى لابن عبد الحليم وتزامنهما مع تهديد الزناتيين للمصامدة في منتصف القرن السابع الهجري يطرح مشكلة حكم الأرض التي تنبعث بمناسبة انتقال الحكم من أسرة إلى أخرى.
– رجوع الكاتب إلى مسألة الارتداد عن الإسلام، وقد عزاها إلى تعسف الولاة بالدرجة الأولى فهي “ردة سياسية وليست دينية لأنهم كانوا في أول اتصالهم بالإسلام”. لقد تميزت سياسة الولاة الأمويين بالجور والتعسف ومخالفة الدين، وكانت مسؤولة عن الثورات التي اندلعت فيما بعد سنة 122هجرية.
لكن يبدو لنا أن الارتداد عن الدين، وهو أيضا تعبير عن رفض دولة الإسلام، إنما حصل قبل ولاية موسى ابن نصير حسب ما ذهب إليه ابن خلدون في المقدمة: “ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة، ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لولاية موسى بن نصير فما بعد”.
يرتبط رفض الدين الجديد أصلا بظروف الفتح وبقدرة مختلف الجماعات التي استهدفها الغزو على المقاومة أو الانسحاب إلى مجالات لا يمكن لجيوش منظمة أن تتحكم فيها. وبالطبع هذا يطرح مسألة الحواضر في تاريخ تلك الفترة، فنسبتها في النسيج الاجتماعي آنذاك لم تكن مهمة، والمدن كما هو معروف أكثر تأثرا بالحروب. والإسلام انتشر أساسا بفضل المدن باعتبارها مراكز للتعليم والعبادة والتموين والإدارة…الخ. ولهذا فقد كانت الخطوة الأولى الحاسمة في انتصار الفاتحين هي بناء القيروان.
وعلى الرغم من هذه الحقائق يخلص الكاتب في النهاية إلى الرأي التالي: “باستقرار الإسلام في المغرب أصبح هو الأساس الإيديولوجي والمرجع في تكوين دول وإمارات وطنية وغدا المنبه الرئيسي لوعي وطني سياسي” لا ينتفي معه الانتماء إلى الأمة الإسلامية. وهكذا خرج الأمازيغ من أزمة الفراغ الإيديولوجي، التي حالت في السابق دون انبثاق كيانات مركزية.
تبقى هذه المراجعة لتاريخ المنطقة ناقصة ولا شك في غياب دراسة عامة للعنصر البشري. وللكاتب دراسات ثلاث ركز فيها على إشكالية النسب هي البتر والبرانس والنسب والتاريخ وابن خلدون و التأويل الجينيالوجي.
أ – فالانتماء للبتر أو البرانس هو انتماء نسبي أطلقه النسابون والمؤرخون المسلمون وفق نظرية “نسبية سامية” وإن كان الواقع الجغرافي التاريخي لا يزكيان تطبيقها على الأمازيغيين بشكل عام. فهذه النظرية كانت فعالة أكثر كإيديولوجية مجمعة لدى الرحل. ولعل نمط العيش هذا هو الذي سهل اندماج الزناتيين والقيسية، وحمير وصنهاجة في بداية الفتوحات. وقد رفض البعض هذا البناء النسبي لكن هناك مبررات أخرى قد تكون أصل التمييز بين البتر والبرانس ومنها تأثر أنماط عيش المستقرين والرحل بالظروف الطبيعية والمناخية المتباينة، واختلاف اللباس.
و يرجع الباحث بعد ذلك لمصطلحي لبتر والبرانس كلا على حدة، فالبتر اصطلاح عربي يفيد القطع ولا يبدو أن المعنيين بالأمر أطلقوه على أنفسهم، ومن هنا يعود المؤلف إلى المعجم الأمازيغي ومنه يستقي كلمات قريبة كإبضر (الأعرج) وبدر (الإباء) وإبدر (ثوب).
ويعتبر المؤلف أن هذا المنهج، أي اعتبار اللغة مصدرا أركيولوجيا، خليق بإدخال عناصر أخرى للتفسير، لكنه يرفض الحل السهل المتمثل في انتقاء أفضل التقاطعات، ويخلص إلى أن بتر لا توجد إلا في المصادر العربية وأن التصنيف بتر برانس لم يظهر إلا بعد دخول الإسلام.
أما مصطلح البرانس فهو جمع برنس (أبرنس) وهو اللباس المعروف، فهي كلمة أمازيغية قديمة فيما يبدو، لكن مدلولها التاريخي يطرح مشاكل أكثر تعقيدا. ومن الفرضيات المعروفة في تفسير كلمتي بتر وبرانس الاختلاف في نمط العيش بين المستقرين والرحل لكن يضعفها وجود الرحل بين البرانس ووجود المستقرين داخل البتروفرضية أن البرانس أصليون والبتر طارئون.
وكيفما يكن الأمر فإن المؤلف يعتبرأن التأويل الجينيالوجي للثنائية الأمازيغية مبحث سهل وعقيم. أما ما اصطلح عليه بالثنائية الأمازيغية فهي فكرة يؤصل لها الباحث بالقول بأن الأمازيغيين الأوائل صوروا نموذجا يضمن لهم الانفلات من هيمنة الدولة المركزية، والمحافظة على حرية التصرف في إطار توازن ضروري بين مختلف الجماعات، وهو نموذج يعتمد نوعا من التمييز بينها ويكون ثنائيا في أغلب الأحيان، ويكون اللباس أو طريقته من الوسائل البارزة لمعرفة الحليف من غيره. لكن هذا الطرح وإن كان مغريا فهو يثير مشاكل أخرى لأنه يرجعنا إلى نقطة البداية أي تميز البتر عن البرانس باللباس، وينخرط في نظرية الثنائيات التي فسر بها بعض الباحثين أحوال المغرب قبل الاستعمار والتي ثبت أنها لا تخلو من خلفيات إيديولوجية. (الرحل والمستقرون، السيبة والمخزن، العرف والشرع، المدنية والبادية).
وخلاصة القول فإنه لا يبدو في نهاية الأمر أن الكاتب حسم الأمر أو أراد ذلك أصلا، فهو يكتب عن البتر والبرانس ليؤكد أولا اختيارا منهجيا نجده مجسدا في مقالة بالفرنسية عنونها بالتأويل الجينيالوجي والتي راجع فيها محصلة البحث في قضايا له بها ارتباط خاص.
ب – يعتبر موضوع النسب والتاريخ وابن خلدون مقاما آخرلإثارة هذه الإشكالية من خلال الأسطوغرافية العربية الإسلامية، ومن ضمنها المؤلفات المغربية في مجال النسب. هكذا يبتدئ بابن خلدون الذي لم يكن ينكر النسب، ولكنه يربطه بمدى فعاليته في التاريخ. ثم يسترسل باحثا في تاريخ الأنساب قبل الإسلام وبعده مبديا ملاحظات منها:
أن الأنساب عند العرب والأمازيغ كانت بمثابة عقيدة لا محيد عنها ولكل قبيلة مختص أو أكثر في النسب للحفاظ على نوع من الوعي التاريخي الجماعي.
بمجيء الإسلام اكتسى النسب طبيعة أخرى كضرورة شرعية وتنظيمية وكمصدر للتاريخ المكتوب. فهو ضرورة شرعية لتجنب الوقوع في الحرام وهو ضرورة تنظيمية لمعرفة من تجب لهم الخلافة، ومعرفة الأنصار من أجل الإحسان إليهم وهو أيضا ضرورة كمصدر للتاريخ بدءا بسيرة الرسول وزوجاته وصحابته. ومهما يكن الأمر، فتدوين الأنساب لا يخلو من اعتبارات سياسية تحكمت فيها أوضاع الدولة العربية الإسلامية.
ويختلف الوضع بالمغرب، فكتب الأنساب فيه ضاع أغلبها مع أن ما ألف في الأنساب كثير ومادتها توفر معينا مهما من الناحية التاريخية. وقد نقل عنها ابن حزم والبكري والبيدق وغيرهم، وكانت متداولة إلى غاية نهاية القرن الثامن عشر.
وللتعرف على هؤلاء النسابين، رغم صعوبة العملية، قام المؤلف ببحث في العمق تبين من خلاله، أن الأمازيغيين كانوا يهتمون بالأنساب قبل الإسلام، لكن يبدو أن تدوينها ابتدأ بتأثير الاتصال بعرب الأندلس، بل وكرد فعل تجاه “نزعة أندلسية متعالية”. وقد تساءل المؤلف عن أسباب غياب “تبخر” هذه المؤلفات، وهي المتداولة إلى وقت قريب، مع أن مؤلفات أقدم قد حوفظ عليها، فأعطى تفسيرا يتصل بتحول الاهتمام إلى نوع آخر من الأنساب يهم الشرفاء والأولياء وبيوتات الأرستقراطية الدينية الحضرية.
وتساءل أيضا عن سر الاهتمام بالأنساب في المغرب منذ القديم مع أن الضرورة الشرعية والتنظيمية منعدمتان. وبالرغم من أن المؤلف يعترف بأن الجواب صعب، فقد نتساءل بدورنا عن درجة انعدام الضرورة الشرعية ما دام الأمر يتعلق ببلاد إسلامية. فالقول بأقدمية الاهتمام بالأنساب لدى الأمازيغ لا يعني أن التدوين حصل من قبل، بدليل تأكيده في أحد الهوامش أن الأمر يتعلق بروايات شفوية.
و أكد المؤلف بعد ذلك أن جل النسابين ينتمون إلى البتر وأنهم من الخوراج وأعطوا معلومات أكثر تفصيلا عن شعوبهم مقارنة بما كتبوه عن البرانس. ويضيف أن اتصال البتر بالعرب واطلاعهم على تقاليد التعصب للقيسية أو لليمنية بين هؤلاء، قد يكون أثر في كتابتهم لأنسابهم ويفسر ادعاء الأصل العربي. وقد يفسر فيما نعتقد ما وقف عليه المؤلف من ضعف المادة المتعلقة بالبرانس، قبل أن يتصدى هؤلاء لكتابة أنسابهم.
ثم يرجع المؤلف بعد كل هذا إلى ابن خلدون الذي ينظر إلى النسب كوظيفة سياسية ومجتمعية فقدم تعريف ابن خلدون للنسب وتمييزه بين النسب في البوادي والأرياف والحواضر، فهو صريح في الأولى مختلط ومتداخل في الأرياف والمدن؛ ومفعوله محصور في صلة الرحم ولا يمكن أن تترتب عنه أبعاد تاريخية. ومن ثمرات النسب بالمفهوم الخلدوني أنه يساهم في الحركة التاريخية في المجتمعات القبلية، فهو المحرك الوحيد لعوامل التغيير في المجتمع وهو اللحام الذي يحول دون انفجار الجماعة أو القبيلة إذا تعارضت المصالح بين العشائر المكونة لها.
تتميز هذه الدراسة بعمق الأفكار الواردة فيها وهو ما يثير لدى القارئ بعض التساؤلات ومنها:
أولا: مسألة الانتقال من النسب القبلي إلى “النسب السلبي” القائم على اعتبارات دينية وروحية، ويترجح لدينا أن مضمون هذا الانتماء إيجابي لأنه يقطع مع مرحلة الفعل التاريخي للعصبيات الكبرى ولا يتجاوزها، لأن إيديولوجية اللحمة تحولت وانخرطت في أفق أوسع وموحد باسم قيم لم تغب يوما سواء مع المرابطين الذين فرضوا الاختيار السني، أو مع ابن تومرت الذي رفض هيمنة الفقهاء المالكية والذي دفعته مقتضيات المهدوية إلى الانتساب إلى البيت الشريف.
إن هذا التحول لم يلغ دور القبيلة في الذوذ عن أرض الإسلام، كما يظهر ذلك من خلال التعبئة التي أحدثتها الحركة الجزولية، ودفع هذه الأخيرة بالأسرة السعدية إلى الحكم. فعامل العصبية مستمر ويمكن أن يعتبر من أسباب فشل ثورة الأدارسة في فاس؛ علما أن نفس القيم هي التي دفعت أوربة إلى مناصرة الأدارسة من قبل، ويبدو أن ما حصل هو تحول الولاء من القبيلة إلى قيم أخرى جسدها الشيوخ والزوايا، وهو واقع لم تجد معه محاولات الاحتواء الكثيرة التي قامت بها الأسر الحاكمة نفسها منذ عهد الموحدين.
و في السياق ذاته، يبدو أن تداول الحكم بين العصبيات يمثل سيرورة وصلت حدا من التضخم منذ وصول الموجة الثانية من القبائل العربية إلى أقصى المغرب في القرن 6هـ/12م، واستقرارها به كصاحبة حق وليس كعصبية طارئة على المجال، نظرا لاستنادها لظهير الإقطاع الفاطمي وقرار يعقوب المنصور الموحدي القاضي بترحيلهم إلى السهول الأطلنطية بالمغرب.
إن الانتقال إلى الدولة الشريفة سواء مع السعديين أو مع مشروع الجزولي الذي أجهض بمقتله، يمثل أيضا نهاية مرحلة المثاقفة التي ابتدأت مع برغواطة وانتهت مع المرينيين الذين تأرجحوا بين رباط العصبية والنسب العربي والنسب الشريف وصلاح بيتهم، وهو ما يدل على أنهم جربوا وصفات عدة لاحتواء تيار الصلاح والشرف الجارف.
والراجح أن تضخم عامل العصبية ونهاية مرحلة المثاقفة إذا ما تأكدا، فإنهما يفسران إلى حد بعيد كيف انجذبت البلاد إلى القيم الدينية والروحية المذكورة. ولا شك ان تطور الإسلام المغربي قد أدى إلى ميلاد إطار إيديولوجي آخر للدولة، حددته معطيات داخلية لا تنتفي معها طبعا قوة الضغوط الأجنبية على المغرب التي كانت مسؤولة عن تسريع وتيرة التحول.
ثانيا: مسألة التطور الإيجابي للمدن والتطور السلبي للبوادي بعد القرن الرابع عشر والمرجح هنا أيضا أن حال المغرب كان سيتغير لو حصل هذا التطور، فالمدن بما تعنيه من نخب وأنشطة ومؤسسات تمثيلية وقدرة على إخضاع الأرياف وسلطة سياسية وغيرها من العناصر الإيجابية التي طبعت تاريخ المدن في أوربا الغربية بعد القرن الثالث عشر لم تتوفر لدينا؛ لأن التطورات التي حصلت في المغرب بعد القرن الرابع عشر كانت بفعل البوادي والأرياف كما تؤكده المعطيات التالية:
الأسرتان اللتان حكمتا المغرب بعد هذا القرن كانتا من خارج المدن.
كتب المناقب تناولت صلحاء المدن و البوادي على حد سواء، ووحدها كتب التراجم ارتبطت بالمدن لكن مقاصدها مناقبية بالأساس ولا تحمل فيما يبدو مشروعا حضريا.
الأسر الحاكمة استقرت في قصبات وقصور معزولة عن الوسط الحضري1 .
والبادية حاضرة داخل المدينة أيضا من خلال كثير من الأحياء التي تحمل أسماء القبائل التي استقرت بها و التي ما زالت الطبونيميا تحتفظ بها. إن التطور الإيجابي المذكور لم يكن إيجابيا في معنى الفعل التاريخي فهو تطور معاق وتلك قضية أخرى.
ثالثا: على الرغم من التشريح الدقيق لمؤسسة النسب الذي سبق أن قام به المؤلف، فإنه يرجع إلى الموضوع مرة أخرى مستعينا بمعرفته العميقة باللغة الأمازيغية مقترحا تجاوز ما هو معمول به من تأويل جينيالوجي لتاريخ “إفريقيا الشمالية”؛ فالمؤلف يعتبر الفتح الإسلامي للمغرب منعطفا تاريخيا حاسما سواء فيما يتعلق بمستقبل الأمازيغ أو بمحو ماضيهم، كما أنه يكرس الطبيعة الصدامية بين ضفتي المتوسط إلى غاية القرن العشرين.
وهو حاسم أيضا لأن جل أسماء الجماعات المعروفة في المصادر الإغريقية-اللاتينية ستعوض بأسماء أخرى. إن التغيير الذي حصل على المستوى الإيديولوجي أدى إلى تغيير الأسماء وتلت ذلك محطة أخرى تأكد فيها هذا التوجه، فالمرينيون وحدهم احتفظوا باسم يحيل على النسب بعكس المرابطين والموحدين، وهذا يعني بداية تجاوز العقلية القبلية.
وعلى الرغم من أن هذا الرأي ليس مجانبا للصواب، لكن لا يظهر أن العقلية القبلية ستخلي المجال لما هو إيديولوجي، لانخراطنا أكثر في مقولة المثاقفة التي جاءت في أبحاث محمد الطالبي وعلي صدقي، فقيم القبيلة والقيم الدينية بقيت متلازمة بالرغم من حصول القطيعة مع نظام العصبيات الكبرى. وما حصل فيما يبدو، هو تكييف لقيم دينية متأصلة مع واقع متجدد، لبس منذ القرن الخامس عشر لباس الشرف والتصوف الحركي.
ويرى المؤلف أن تفسير أصول الأمازيغ بالنسب يمثل أعمق عمل حصل في تاريخهم بقصد احتوائهم، ذلك أن تفسير التاريخ هو جزء من التاريخ. والواقع التاريخي الذي نعرفه من خلال المصادر ليس بالضرورة هو ذلك التاريخ الذي عاشه الأفراد في الماضي. كما أن انعكاسات التكييف العشوائي لتاريخ بآخر تبقى وخيمة العواقب، لأن العمل بالنسب يطرح بالضرورة إشكالية الأصول البعيدة للأمازيغ، ويمكن من قراءة ماضيهم بحسب ظرفيات الحاضر التي لا تخلو من مصالح تمليها إرادة الاحتواء من قبل المنتصر والطموحات الفردية للمنهزمين. وكما رأينا سابقا، فالتفسير بالنسب لا يغري كثيرا لأن المصامدة شكلوا منذ القديم مجموعات اجتماعية سياسية، ولا شيء يؤكد أن وحدتهم قامت على أسس القرابة الدموية وحدها. وفي المقابل فإن الرحل كانوا منظمين على أساس القرابة بين المجموعات وكان لهم نظام اجتماعي سياسي أبيسي.
يرجع هذا التمييز في نظر المؤلف إلى تأثير الجغرافية وأنماط العيش على نشاط الإنسان وثقافته. ولهذا فقد عرف “شمال إفريقيا” نمطين من العيش تكيفا جيدا مع الظروف الجغرافية والمناخية، وحصل بينهما نوع من التكامل باعتبار أن الرحل عمروا دائما المجالات الزراعية التي تأثرت من الناحية البشرية بفعل الكوارث، ولم تأخذ صبغة الاجتياح المخرب إلا في حالة الهلاليين.
ويخلص المؤلف في الجزء الأخير من الدراسة إلى أن المقاربة اللغوية من شأنها تقديم فرضيات وأفكار جديدة للإحاطة بهذا الواقع التاريخي. وهكذا تصدى لتحليل دلالات تسميات إمصمودن وإزناكن وإزناتن وإكزولن وانتهى فيها جميعا إلى صلة التسمية بنمط العيش الرئيسي للمسمى.
لا يسع القارئ إلا أن يبدي إعجابه بهذه المقاربة، لكن بالرغم من ذلك يظهر أن التكامل المذكور بين المستقرين والرحل لا يلغي العنف وما يترتب عنه من نتائج. فكل اجتياح يحمل معه قدرا من التخريب المادي الذي يصيب الناس ويضر بالممتلكات وبالمجال. وأخطر من ذلك التخريب المعنوي الذي يمس الأفكار والأنظمة والتراتبيات والتوازنات القائمة، فموجات الرحل التي همت المغرب لا أحد استدعاها لأنها اجتاحت المجال؛ وكل اجتياح يؤدي إلى المقاومة وإلى حصول التخريب وإن اختلفت درجاته أو بالأحرى درجات معرفتنا به. وفي هذا الإطار لا نعتقد أن هناك فرقا جوهريا بين بدو العرب وبدو الأمازيغ، والرجوع إلى تاريخ الفتوحات والمد الهلالي وتوسع المرابطين والمرينيين يعطي الدليل على ما نرمي إليه.
إن صدقي مؤرخ محقق، ما في ذلك شك، وهو ما يبرز من خلال كثافة الإحالات والتعليقات المصاحبة لهذه النصوص بل وحتى في طريقة تعامله مع المخطوطات. هو أيضا صاحب رأي واجتهاد، وهذا كله يفرض على القارئ انجذابا تاما إلى هذا الكتاب وتفاعلا إيجابيا معه.
1-يبدو عند التمحيص انه من الصعب الحديث عن وسط حضري في هذا الوقت لان البادية كانت تخترق المدينة من خلال الأنشطة الزراعية وما يتصل بها من تأثير على المجال، فبعض المدن المعروفة بالحضرية استمرت تؤوي مساحات زراعية شاسعة إلى غاية ستينات القرن الماضي.وتخترقها أيضا من خلال النظام المخزني لأننا لا نعرف مدنا حكمت نفسها بنفسها إلا في حالات قليلة وفي سياقات محددة كفاس وسبتة و تطوان ومدن أبي رقراق.