رحل جمال الغيطاني في غفلة من الأهل والأصدقاء والقراء تاركا في جعبته المزيد. حضوره القوي يجعلك تعتقد أن الموت سيخجل من الاقتراب منه، لكنه فعل.
قالت زوجته في حفل تأبينه إنه كون وليس كيانا أو مجرد كائن، وقالت ابنته ماجدة إنه لم يكن يحب ترك عمل ناقصا ولذلك فقد ترك آخر ورقة كتبها على مكتبه تامة لا يشوبها نقصان.
جمال الغيطاني كاتب استثنائي في زمن أدبي كثر فيه التشابه والاقتراض والمحاكاة الفجة. وخلافا لأدباء كثيرين، فقد كان الغيطاني غزير الكتابة إسوة بمعلمه وشيخه الروحي نجيب محفوظ. قال في آخر حوار له إنه ولد ليكتب وكذلك كان، مكتبة سردية وإعلامية وثقافية دسمة شاهدة على عصره ومحاورة للتراث في عمقه البلاغي والفكري والتاريخي.
1. التراث
جمال الغيطاني عاشق لعبق التاريخ ولاستنطاق التراث. مكانيا، عاش الغيطاني في القاهرة القديمة وهناك استوحى فضاء خاصا للعيش وللكتابة لمجاورة أرواح الماضي الحاضرة بقوة في البيوت والأزقة وفي ثنايا الذاكرة. لم يكن الاتصال بالماضي عنده من باب التمجيد أو الاستيحاء المباشر. كان الماضي مدرسة لقراءة جديدة لمآسي الحاضر وتحدياته كما أنه كان رمزا قويا لمواجهة السلطة بمختلف تجلياتها. في رواية الزيني بركات انعكاس قوي للعلاقة بين السلطة كما عرفتها مصر في عهود قديمة وبين التسلط كما ساد مصر في عقد الستينيات التي لم تسمح للحرية أن تسود وللتعبير أن يكون سيد الأشياء.
لم يكن التراث حاضرا فقط في سرديات الغيطاني بل كان حاضرا وبقوة في كتاباته الصحفية والثقافية محتفية بالماضي البعيد، بالمعمار بالفسيفساء وأنماط العيش، بالقاهرة القديمة وبالتاريخ داخلها، التاريخ الذي يزيدها قوة وصلابة وتجذرا وحياة ومقاومة للقبح في كل تجلياته.
كبت مولعا بقراءته منذ رأيته في المغرب مرتين أو ثلاثا دون أن يكون لي حظ الاقتراب منه لكن ما فاجأني أنني رأيته يوما على قناة دوزيم يقدم برنامجا عن القاهرة الفاطمية وعوالم التصوف والعمارة. أدركت حينها أن الرحل مسكون بالمكان وعمقه ويتوسل في تقديمه كل الوسائط الممكنة.
2. الذاكرة
كاتب ذاكرة بامتياز. لا أعرف أن الغيطاني كتب نصا خارج الاحتفاء بحياة متجددة للذاكرة داخل فضائه التخييلي الواسع والمشع والحميمي. قال أحد أصدقائه (محمد شعير) في حفل تأبينه ما يلي: “الكتابة لديه هي إعادة بناء للذاكرة أو محاولة ترميمها، مقامة الفناء والموت، وإنقاذ الأشياء التي أحبها من الفناء، واللحظات التي أفلتت من المحو. الذاكرة من وجهة نظر الغيطاني هي الوجود الحقيقي للإنسان. عندما يفقد الإنسان ذاكرته يصبح أشبه بالخرقة البالية، معلقا في الفراغ…وهكذا الشعوب أيضا.” لذلك نجد أن الغيطاني كان ينتقي عناوين كتاباته انتقاء: يوميات حارة الزعفراني، يوميات حارة الطبلاوي، متون الأهرام، شطح المدينة، نثار المحو….واللائحة تطول. ومن الجدير بالذكر أن الحديث عن الذاكرة هو في نهاية المطاف تغلغل في عمق الزمن بتعرجاته وتقلباته وخفاياه. وقد قالها بكثير من البراعة في أحد حواراته: “منذ زمن بعيد وأحد همومي الأساسية قضية الزمن، وكان ذلك أحد الأسباب القوية التي جعلتني أتجه إلي التاريخ بمراحله المختلفة، والتاريخ عندي هو الزمن، الزمن الجبار القاهر، المحيي، المميت، في صيرورته الرهيبة. والذي يحولنا باستمرار إلى الماضي، الذي يجلب الذكرى والنسيان، منذ زمن بعيد وأنا أتأمل الزمن.. وأمعن التفكير فيه، بدءاً من الحركة الميكانيكية البسيطة للثواني والدقائق والساعات، إلي حركة الأفلاك، توالي الليل والنهار، إلي انقضاء السنوات، إلي الميلاد والموت، التاريخ عندي هو الزمن المنقضي، المنتهي، لا فرق بين لحظة مضت منذ ثوان، ولحظة مرت على انقضائها آلاف أو ملايين السنين، كلاهما لا يمكن استعادته، من هنا فإنني لا أصغي باهتمام كبير إلي من يقول “إنك تكتب رواية تاريخية”، الكل صار إلى ماض، ماض من المستحيل استعادته، لقد تأملت طويلا ولا أزال في الزمن، وقرأت عن الزمن في الفكر الإنساني القديم، في الأساطير، في الدين، في الفلسفة، غير أنني لم أصل إطلاقا إلي ما يمكن أن يهدئ من همي الدائم هذا، ثمة حقيقة مؤكدة لي، وهي أن الشيء الوحيد في هذا العالم الذي لا يمكن قهره أو مقاومته أو التصدي له، هو الزمن، وعلى الرغم من وعي الإنسان بذلك، إذ أن الكل يعرف أن للحياة نهاية محتومة هي الموت، إلا أن عظمة الإنسان أنه لا يستسلم أبداً، يقاوم حتى النهاية، صحيح أن القضاء لاحق والقدر سابق، لكن العظمة الإنسانية تكمن في هذا التحدي المنظور أحيانا وغير المنظور في كثير من الأحيان، وإذا تأملنا تاريخ الفن خاصة في العصور القديمة، فإننا سنجد جوهرها محاولة قهر الفناء، محاولة قهر الزمن الذي لا يري بالمادة أحيانا، كالهرم الأكبر، أو بالسيرة العطرة.”
3. هل يموت المبدعون
جمال الغيطاني كاتب مصري أحب المغرب واعتبره الأدباء المغاربة جزء من بنيانهم الأدبي، ولذلك أحسست حين علمت بنبأ وفاته وقبلها بأخباره غيبوبته، وحين قرأت الرسالة التي كتبتها زوجته وهو في العناية المركزة طالبة منه أن يصمد ويعود، أحسست أن جزء من كياننا الثقافي ذهب ولن يعود. وأن غياب الكبار لا يعوض.
أستعير عبارة ابنته ماجدة الغيطاني حين رأت أن موته ليس غيابا، إنه حضور سرمدي: “عندما حانت تلك اللحظة لم أشعر بالغياب، أشعر به بجانبي دائما، ما زلت أتكلم معه وحديثنا لم ينقطع، أنتظر فقط أن يفك شفرة الحياة الأخرى لنستطيع التواصل من جديد”.
الرباط، 26 نونبر 2015