تقديم:
ألقى المؤرخ الفرنسي البارز باتريك بوشرون المتخصص في القرون الوسطى، خطابا بمناسبة دخوله إلى الكوليج دوفرانس في دجنبر الماضي، نشرته جريدة “لوموند” تحت عنوان “ماذا يستطيع التاريخ؟”
وقد صادف ذلك الأحداث الإرهابية التي شهدتها باريس. وهي أحداث جعلته يقدم في هذا الخطاب تحليلا تاريخيا وبسيكولوجيا عميقا لنفسية الأوربيين وللغرب عموما في علاقتهم بالدين وبالشرق وبالخوف من الآخر والإنفتاح عليه، مستلهما الفلسفة والآداب والتاريخ لتفسير هاته العلاقة المعقدة، ولتسليط الضوء على نظرته إلى التاريخ وإلى الدور المنتظر من المؤرخ ومن مدرس التاريخ “، وهي مهنة مسلية بشكل مذهل” كما يقول، لكنها تحتاج من المؤرخين إلى بذل ” مجهود جماعي لوضع تأمين علمي جديد لنظام الحقيقة لمهنة التاريخ، وهو مجهود جماعي ينبغي أن يوفق بين عمق المعرف والخيال”.
نص المحاضرة
عدت الشهر الماضي إلى ساحة الجمهورية بباريس. عدت مثل الآخرين، مثل العديد من الأشخاص الآخرين الذين كانوا حزينين وغير مصدقين لما حدث. (1) كانت شمس نونبر تلقي بنورساطع وبنوع من الوقاحة وكأنها تستعرض عظمتها غير مكترثة بآلام الناس. منذ يناير 2015 يبدو الزمن وكأنه يجري ويمر مثل موجة بحرية تضرب جرف البحر، يمر على أرضية الحجر الأبيض الذي يشكل قاعدة تمثال “ماريان” (2). يمر الزمن وتمر الأيام والليالي والمطر كما تمر الرياح وهي تجر معها، بسرعة، رسومات الأطفال، وتشتت الأشياء الموضوعة هنا وتمسح الشعارات المكتوبة، وتجعل الغضب يهدأ وينمحي. كنا نقول مع أنفسنا: هذا هو التمثال الذي يرفع عاليا ذاكرتنا وهي ذاكرة نشيطة وحية وهشة في نفس الآن. كما كنا نقول: إنها مجرد مدينة ومجرد أسلوب نجعل من خلاله الماضي مكانا يمكن أن نسكنه، وأن نجمع تحت خطواتنا شظايا هذا الماضي المشتتة. هذا كله هو التاريخ ولكن شريطة أن يعرف كيف يحتضن ويواجه، في نفس الآن، البطء المسكن للزمن، وكذا فجائية الأحداث المباغثة.
وسط الورود والشموع والأوراق الملصقة، رأيت ورقة اقتطعت من دفتر أحد التلاميذ. وقد كتبت عليها بمداد أزرق وخط متقن قولة للشاعر فيكتور هيغو. وكانت مواقع التواصل الإجتماعي قد بدأت، منذ ليلة أمس، تردد وبقوة اسم هذا الشاعر عبر لغات متعددة (…) تلك الأيام وتلك الفترة التاريخية (فترة فيكتور هيغو) ينبغي أن يتذكرها كل الذين يتبجحون اليوم بفقدانهم الأمل والذين يتاجرون بقلقنا، كما ينبغي أن يتذكرها جميع أولئك الذين يبتهجون للخطابات السهلة التي تتحدث عن تدهورنا، وأن يتذكرها كل أولئك الذين يحتقرون المدرسة لأنها، برأيهم، تبيع الأوهام، ثم ينبغي أن يتذكرها، في نهاية المطاف، جميع أولئك الذين يكرهون حتى فكرة وجود ذكاء إنساني وجماعي. عليهم أن يتذكروا تلك الفترة التاريخية لأن الآداب كانت خلالها أيضا وإلى حد كبير، مصدرا للطاقة وللمواساة وللتعبئة الجماعية.
عدت إلى بيتي مساء ذلك اليوم وغطست في بحر الكتب الكبرى المجلدة والمزخرفة باللون الأحمر التي رافقتني طوال طفولتي. وكان جدي يهديني دائما، يوم عيد ميلادي، واحدا من تلك الكتب ومن بينها المؤلفات الكاملة لفيكتور هيغو. وفي كتاب “البؤساء”، الجزء الثالث عثرت على تلك الكلمات التي قرأتها في ساحة “الجمهورية”. وجدتها في الفقرة التي تحمل عنوان: “دراسة ذرة اسمها باريس” وهي بمثابة أنشودة مهداة إلى فتى باريس الذي كان يتهكم ويبسط سيطرته عليها. ومما جاء في هاته الكلمات:
” حاولوا وواصلوا وثابروا، كونوا أوفياء لأنفسكم وواجهوا مصيركم بأنفسكم، عندما تواجهكم الكوارث فاجئوها لأنها لا تثير فينا سوى قليلا من الخوف. علينا، أحيانا، أن نواجه القوة الظالمة، وأحيانا أخرى، أن نشتم النصر الثمل. اصمدوا وقاوموا. هذا هو المثال الذي تحتاجه الشعوب، وهذا هو الضوء الذي يشعل فتيلها.”
(…) ما الذي يستطيع أن يفعله التاريخ اليوم؟ وما الذي ينبغي عليه أن يحاول فعله ليستطيع الإستمرار وليبقى وفيا لنفسه؟ هذا هو السؤال الخطير، بلا شك، الذي أريد أن أضعه. وهو سؤال يثير ما سبق وصرخ به، بأعلى صوته، الفيلسوف سبينوزا، سؤال يثير قضية الوجود في علاقتها بالأخلاق، بمعنى أنه لا أحد منا يستطيع أن يعرف ما هي قدرات الجسد. ولكن ماذا تعني هنا كلمة الإستطاعة أصلا؟ إننا لا نقصد أننا نطالب، بشكل رسمي وإجباري، بإعطاء التاريخ شيئا ما لأن التاريخ، أصلا، يتمرد على سلطته نفسها ولا يمارس سلطته على أي شيء. كما أننا لا نطالب بإعطاء أي شيء للمؤرخين، وبالمناسبة نحن لا نكترث لهم عندما يحزنون أحيانا لأن أصحاب السلطة لا ينصتون لهم. علينا، بالأحرى، أن نتسائل عما يستطيع فعله التاريخ، وعما ما يزال باستطاعته أن يفعله، وعما يمكنه حقا أن يقوم به، أي بمعنى آخر أن نتسائل، في نفس الوقت، عما هو ممكن بالنسبة إليه وعما هو كامن فيه.
(…) إن التاريخ يمكنه أن يكون أيضا فن القطائع، فهو يعرف كيف يتلاعب بالنظام القسري للتسلسلات الزمنية وبالتالي كيف يكون مثيرا للحيرة وللدهشة. فهو يزعج الجينيالوجيات ويثير قلق الهويات ويفتح فضاء زمنيا يستطيع من خلاله المستقبل أن يستعيد حقوقه الكاملة في الشك، وأن يرحب، بالتالي، بكل ما يسمح بتعقل الحاضر وبفهمه.
أتحدث في كلمتي هاته عن “تاريخ السلطات في أوربا الغربية من القرن 13 إلى 16″ لكن الواقع هو أنه لا شيء يبدأ، حقا، في القرن 13 كما أنه لا شيء ينتهي في القرن 16. إن الحقبة التاريخية ما هي سوى زمن نحن من نحدده ونعطيه لأنفسنا، بحيث أننا يمكن أن نستغله كما نريد، أو نتجاوزه، أو ننقله كما يحلو لنا (…) لكن التخلي عن سلطة تحديد الحقب لا يمنع من أن نجتهد ونعمل على وصفها. إن هاته الفترة التاريخية (من ق 13 إلى 16) تتجاوز ما يصطلح عليه مؤرخو القرون الوسطى بقطيعة التقويم الغريغوري (3). وعند وصفهم لهاته الفترة، يظهر المؤرخين أقل صرامة وقطعا في ضبطها وتحديدها كما يفعلون مثلا مع بداية الألفية الميلادية (1000 ميلادية) حيث يعتبرون أن هناك تاريخا لما قبل العام ألف وتاريخا آخر لما بعده. فالقطيعة الغريغورية ليس لها شكل خط قاطع وواضح ولكنها تأخذ شكل خط عريض وكثيف يمتد ويتسع ليشمل القرن 12 بكامله. إن ما يسميه علم التاريخ التقليدي ب”الإصلاح الغريغوري” لا يعني فقط ذلك الحدث التاريخي الديني المتمثل في الدفاع عن الممتلكات المادية والصلاحيات الروحية للكنيسة، ولكنه يعني إعادة ترتيب شامل لجميع السلط، وتنظيما للعالم ككل حول أملاك الكنيسة. (…) هاته المؤسسة ستنبني إذن على التقسيم بمعنى إقصاء اليهود والكفار والزنادقة – أي كل الذين يستنكرهم خطاب الكنيسة لأنهم لا يؤمنون بمقدسات الكنيسة وبمكانة رجال الدين (…) من منا لا يلاحظ اليوم مدى كئابة الإيديولوجيات المبنية على التقسيم؟ من منا لا يرى الآثار المدمرة للرؤية الدينية للعالم التي تجعل كل فرد مجبرا على التقيد بهوية محددة بجوهره وبذاته؟ إن المؤرخين، من خلال كشفهم لهاته الجينيالوجيا الخاصة بالسلطة أي لفن حكم الناس، قاموا بتسليط ضوء مظلم وصارخ على ما يشكل إلى غاية اليوم حداثتنا. وداخل هاته الجينيالوجيا ينكشف لنا ذلك الجوهر وتلك النواة التي لا يمكن كسرها والتي يمكن تسميتها، عن طيب خاطر، ب لغز الديني – السياسي عندنا. هذا اللغز هو الخاصية المميزة لتاريخ الغرب، وهي تلك البقية التي لا يمكن دمجها لأننا ما نزال مدينين ( سواء أبينا ذلك أم كرهنا، وعرفنا ذلك أم جهلناه) لهذا التاريخ الطويل الذي جعل من السر أو القربان المقدس (4) تلك الإستعارة أو الصورة الفعلية لكل تنظيم مجتمعي عندنا.
والواقع أن البرنامج الغريغوري سينتهي إلى الفشل. هل السبب في ذلك هو أن البابا كان يريد أن يكون هو الدكتور العارف بالحقيقة ومالكها؟ هذا في الوقت الذي كانت كنيسته غير موحدة تخترقها التوترات وعلاقات القوى، وفي وقت كانت الحقيقة التي تنتجها الكنيسة آنذاك تنتشر عبر العالم، وهو عالم واسع كان يشمل وحدة المعارف العربية واللاتينية. وهكذا سيستولي دكاترة العلم والعقل على الحاجة الملحة إلى الحقيقة وهي حاجة كانت في تقهقر لكنهم قاموا بإعلاء قيمتها من خلال النقاش والجدل فجعلوها بالتالي تنتشر وتصير متعددة ومبدعة ومنفتحة لأن العقل الفلسفي يتعارض، إجمالا، مع العقيدة المجردة والبليدة التي يتخيلها اليوم الأصوليون. وهكذا برزت سلطة ثالثة إلى جانب سلطة الكهنوت وسلطة الدولة ألا وهي سلطة العلم والدراسة.
وما يلاحظ هنا على المجال الثقافي يمكن ملاحظته على جميع المجالات التي يوجد به رهان حول السلطة. وهكذا ستدخل أوربا الغربية في القرن 13 إلى مرحلة جديدة في تاريخها هي مرحلة يسميها البعض ب “العصر الوسيط الثاني” الذي يشكل، عموما، ما يمكن تسميته ب “عصر وسيط طويل المدة نوعا ما” سيمتد، بشكل واضح، إلى القرن 16. وهو عصر وسيط آخر بالمعنى الذي يعطيه إياه المؤرخ جاك لوغوف- وهو الأستاذ الذي كان يتلذذ بتكسير الحقب التاريخية – عصر نمو المدن وتسييرها وتحديات العلمانية (…) يتعلق الأمر إذن بزمن سياسي عرف سقوط سراب سلطة الكنيسة والإنفتاح على آفاق تجارب جديدة ممكنة… وإذا ما قمنا بمتابعة تاريخ هذا الزمن السياسي، انطلاقا من لوحة “العاصفة” للرسام الإيطالي جيورجيوني (5) إلى غاية مسرحية “العاصفة ” (6) للكاتب وليام شكسبير، أو قمنا بمتابعة ذلك الزمن السياسي انطلاقا من كتاب “المحاولات” للمؤلف الفرنسي ميشيل دي مونطيني وصولا إلى الكاتب الإسباني دون كيشوط.. إن متابعة كل هؤلاء الذين سيسمون ب “الرجال الحزانى لمرحلة ما بعد 1560” من قبل المؤرخ لوسيان لوفيبر، هي طريقة تساعد على فهم لماذا أصبحنا، منذ ذلك التاريخ، نولد حمقى نوعا ما ومزعزعين وقلقين.
إنني أبحث عن فهم السبب الذي جعل هذه الثغرة داخلية وحميمية فينا وجعلها في نفس الوقت جرحا قديما جدا: إنه أثر الجرح الذي تركه فينا التاريخ وخاصة تاريخ توسع العالم في القرن 15. هذا الجرح هو ما سينتج ذلك الوصف الرائع الذي أعطاه ميشيل دي مونطيني للهنود أكلة لحوم البشر في البرازيل. حيث أنه قام بتوظيف كل ما يملك من معرفة ومن فهم إثنوغرافي ليتخلص من الأحكام المسبقة، حيث أنه قام بالمقارنة وبضبط أحكامه بكامل النسبية بشكل يؤدي إلى الإعتراف بأن الآخرين هم نحن، وذلك دون أن يتخلى الكاتب أبدا على مراهنته على ما هو إنساني وكوني. ولهذا يقول مونطيني ما يلي: نعم هؤلاء برابرة ومتوحشون ولكنهم برابرة بالنظر إلى قواعد العقل وليس “بالنظر إلينا نحن الذين نتجاوزهم في جميع أشكال البربرية ” (…) أن تقوم بالمقارنة وأن تقارن نفسك بالآخرين هو ما سمح ل “مونطيني”بأن يتخلى عن قناعاته ومعتقداته وخاصة تلك القناعة الراسخة والجاثمة في أعماق تمثلاتنا والتي تعتبر أن وجهة نظرنا هي دائما الصائبة. إننا عندما نقوم بتحريك وململة وجهة نظرنا، وعندما نجعل للآخر مكانا في كتاباتنا، فإننا نقوم بأرقى المبادرات إنسانية، كما أننا نتذكر، في نفس السياق، بأننا عندما نقرأ فإننا نتدرب على الاعتراف بالجميل.
(…) إن ما يستطيعه التاريخ هو كذلك أن يعطي كامل الحق لما يخبئه لنا المستقبل المتعدد من مفاجئات، وما يخبئه من طاقات وإمكانيات غير مكتملة. هذا برأيي هو ما يعني تغريب أوربا وتغييرها للأجواء. فأوربا لم تتوقف أبدا عن وصف العالم ووضع لائحة لما ينقصه. لكن ماذا سينقص عالم اليوم، الخاضع للإمبراطوريات، لو نقصت منه أوربا؟ وأين يوجد المسار الضال والتائه لمستقبل أوربا؟
إنه يوجد، برأيي، في قيامنا بقلب حمولة ما هو مألوف وما هو غريب لنساهم، بذلك، في خلخلة وإرباك كل اليقينيات التي ظلت، بكل براءة، غير مرئية بالنسبة لنا (…) إن المشرق يظل دائما اتجاها أو جهة ما، في حين يظل المغرب نقطة توقف ووقوف. ولهذا كان ينبغي التخلي عن المشرق والتوجه نحو المحيط الأطلسي حتى يجد “الرجال الحزانى” في القرن 16 معنى لفكرة أوربا الغربية. لأنها فكرة كانت منعدمة قبل هؤلاء الرجال باستثناء تلك الفكرة الفطرية البسيطة التي سميت “المغرب العربي” والتي كانت تعني بالنسبة لعلماء الجغرافية العرب تلك الجهة التي تغرب إليها الشمس والتي تحمل نذائر الشؤم والنحس. وهذا الإفتتان بما ملعون وحتمي يحمل في أعماقه خطر أن نكره أنفسنا وأن نحقد عليها. وعندما يصبح هذا الإحساس حملا ثقيلا لا نستطيع التعايش معه، فإننا نفرغه بسهولة على كاهل شعوب نستهدفها ونحملها عبء كراهيتنا لأنفسنا نحن. من هنا إذن يأتي الرعب والهلع الذي يسكن فكر إنسان العصر الحديث. وقد قالها هامليت، وهو أمير الأيام الأخيرة وملك العصر الوسيط عندما وقف متأخرا أمام حدود الغرب الأقصى، وهو مسكون بزمن رديء جعله يحتد ويغضب ويقول في النهاية: “لقد كنت أحب أوفيليا” (7) ولكنه سيقولها أمام قبرها. ولاحقا سيقول الشاعر الفرنسي إيف بونوفوا: إن “فات الأوان” التي قالها هاملت أمام قبر أوفيليا تعني في الحقيقة “فات الأوان” على الغرب (…)
لكن هل فات الأوان فعلا؟ لا. بدون شك لم يفت الأوان إذا ما عرفنا كيف نعطي لأنفسنا الوسائل، أي جميع الوسائل، وبما فيها الوسائل الأدبية لإعادة توجيه العلوم الإجتماعية نحو خدمة المدينة، وإذا ما تخلينا، بسهولة، عن اللغة الميتة التي تتخبط فيها تلك العلوم. إننا في حاجة إلى مجهود جماعي لوضع تأمين علمي جديد لنظام الحقيقة لمهنة التاريخ، وهو مجهود جماعي ينبغي أن يوفق بين عمق المعرفة والخيال في نفس الوقت. فالمعرفة الواسعة هي ذلك الحذر والحرص العلمي الذي يسمح بمواجهة كل مبادرة خبيثة يقوم بها أي نظام ظالم بغرض تصفية الواقع تحت ذريعة الواقعية. أما الخيال فهو مثل كرم الضيافة يسمح، في ظل ما نحسه في الحاضر، بالترحيب بكل ما يشحذ ويقوي شهيتنا إلى الآخر.
إذا كان هذا هو التاريخ، وإذا كان يستطيع فعل كل هذا، فإن الأوان لم يفت تماما. وإلا لماذا نتعب ونكد من أجل تعليم التاريخ وتدريسه. إننا نفعل ذلك بالضبط من أجل إقناع الشبان بأنهم لا يأتون أبدا بعد فوات الأوان، ومن ثم فإننا نعمل حتى نبقى مدينين بالفضل للشباب.
(…) نحتاج إلى التاريخ لأننا نحتاج إلى أن نرتاح، وإلى أن نتوقف لوهلة ليرتاح ضميرنا وحتى تبقى هناك إمكانية لوجود الضمير – ضمير لا يكون فقط مرجعا للتفكير ولكن مرجعا لعقل إجرائي وعملي يعطي كامل الحرية للتصرف والفعل (…) لأجل كل هذا فإن التاريخ هو، بالتعريف، بدون بداية ولا نهاية. وعلينا ألا نتعب ونضعف في معارضة جميع أولئك الذين ينتظرون من المؤرخين أن يجعلوهم مطمئنين إلى يقينياتهم حتى يواصلوا، وبهدوء، الركون إلى زاوية الإستمرارية (…) إن مقولة نهاية التاريخ لم تدم طويلا كما نعلم جميعا. ولهذا ينبغي أن، نطالب، بنفس الحماس، بتاريخ بلا نهايات – لأن التاريخ يبقى دائما منفتحا على ما يتجاوزه وعلى ما يرحل به – وبدون غايات. تاريخ نستطيع أن نسافر عبره بحرية وبهجة، وأن نزوره عبر جميع أمكنته الممكنة، وأن نعشقه مثل جسد يحتاج إلى مداعبة وملامسة، وذلك حتى نبقى، عبر ذلك، في حركة دائبة.
في فبراير 1967 سافر المفكر الفرنسي ميشيل فوكو إلى تونس هربا من الضجة الإعلامية التي أثارها كتابه “الكلمات والأشياء” واختار الإقامة في مدينة سيدي بوزيد على شط البحر. وكتب محاضرة بعنوان “الفضاءات الأخرى” وبدأ يبحث عن أسلوب جديد لوجوده وهو يحاول أن يلحق بمستقبله اليوناني. كان يجلس قبالة البحر ويقرأ “الثورة الدائمة” لليون تروتسكي ويقرأ أيضا كتاب “البحر الأبيض المتوسط” للمؤرخ فيرناند بروديل إلى جانب كتب كثيرة حول التاريخ. وقد كتب آنذاك في إحدى رسائله: ” إن التاريخ شيء مسل وبصورة مذهلة. بحيث أنه يجعلنا نحس بوحدانية أقل وبحرية في نفس الوقت”. وأتذكر، شخصيا، لماذا اخترت أن أدرس التاريخ: لأنني اكتشفت فجأة أنه فعلا شيء مسل وبصورة مذهلة. لكنني ما زلت أتذكر كم كان طويلا وصعبا علي أن أدرك أن التاريخ يمكنه أيضا أن يكون فنا للفكر. كما أتذكر الإحساس بالوحدة وبكيفية تركها ومغادرتها بدون استئذان، وكذا بالرغبة في الإجتماع بالآخرين وفي التشتت. وأتذكر أن هناك أوقاتا سعيدة نعبر خلالها البحر الأبيض المتوسط من ضفة إلى أخرى، وأوقاتا أخرى مظلمة يتحول فيها هذا البحر إلى مقبرة.
عندما نكون أمام البحر، لا يرى كل واحد منا نفس الشيء. لهذا نجد أنفسنا اليوم مرة أخرى أمام قولة فيكتور هيغو: “حاولوا وواصلوا وثابروا”. لأن هناك بالتأكيد شيئا ما يستحق أن نحاول من أجله، إذ كيف يمكننا أن نرضخ لمستقبل لا يحمل أي مفاجئات، ولتاريخ لا نتوقع من أفقه أي شيء ما عدا خطر الإستمرار؟ لا أحد يستطيع أن يعرف ماذا يحمله لنا الغد. لكن كل واحد منا يدرك أن فك لغز الغد والترحيب به يتطلب منا أن نتحلى بالهدوء وبالتنوع وبالحرية المفرطة.
هوامش المترجم
(1) – الإشارة هنا إلى أحداث نونبر 2015 الإرهابية في باريس التي خلفت 130 قتيلا ودفعت عشرات الآلاف من الفرنسيين إلى الإحتجاج في ساحة الجمهورية وسط باريس.
(2) – ماريان هي من القرن 19 رمز الجمهورية الفرنسية في شكل امرأة. وهي تجسد قيم الجمهورية الثلاث الشهيرة: الحرية والمساواة والأخوة.
(3) – التقويم الغريغوري أو المسيحي كما يسمى اليوم انطلق في 1582 وسمي على اسم صاحبه البابا غريغوار 13. وانتشر عبر الدول الكاثلوليكية ثم عبر العالم كتقويم جديد للعالم المسيحي. وكان الغرض منه هو إعادة حساب وضبط السنوات الكبيسة ومن ثم ضبط تواريخ الأعياد المسيحية المقدسة.
(4) السر أو القربان المقدس هو أحد الأسرار السبعة المقدسة وهو مكون أساسي في الديانة المسيحة وطريقة للتقرب من الله.
(5) “العاصفة” من اللوحات البارزة والملغزة إلى اليوم وهي من روائع فن النهضة (سنة 1500). ويتسائل المختصون عن رمزية التمرد على الكنيسة فيها من خلال تصويرها لامرأة عارية، كما يشيرون إلى ما حملته من إشارات إلى أثر العلم على العالم من خلال تطور الهندسة والبناء.
(6) “العاصفة” مسرحية لشكسبير كتبت في حوالي 1610 وتدور حول السلطة والحرية والقضايا الكبرى لعصر النهضة.
(7) “أوفيليا” شخصية رئيسية في مسرحية “هاملت” لشكسبير وهي رمز للحب والطاعة الذي سيؤدي بها إلى الجنون وإلى الموت.