تبدو العلاقة بين الرواية والتاريخ علاقة متلازمة من حيث توسطهما باللغة السردية للعوالم التي يسرد ها كل من الرواية والتاريخ، ومن حيث استعمالهما للوصف بأنواعه المختلفة، واشتغالهما على الزمان والمكان وعوالم الأشخاص وعوالم الأشياء، مع تميز جنس كتابة كل منهما ومقاصد كل كتابة. فجنس الكتابة الروائية محكوم بمكونات هذا الجنس السردي الفني الذي يعتمد على تخييل عوالمه الممكنة وغير الممكنة. أما جنس الكتابة التاريخية فتخييلها مستمد مما يعتبر، أو قد يعتبر، واقعاً حدث في الزمان والمكان والأشخاص والأشياء، أو واقعاً شيده المؤرخ بلغة التاريخ المعقدة التي يختلف تخييلها عن تخييل الرواية. هل هناك تخييل في التاريخ؟ تخييل التاريخ متواطئ مع الواقع والحدث والعوالم التي يشيدها بلغته. غير أن المسافة بين التخييل في التاريخ والعوالم التي يسردها هي مسافة مقيدة، إلى حد ما. أما المسافة بين تخييل الرواية فهي غير مقيدة، إلى حد ما. وقد ويكون هذا بعض ما يميز الكتابتين.
هناك تقاطع، إذن، بين جنسي الكتابة التاريخية والروائية، لأنهما نهلا في الأصل من منبع واحد، وهو الخبر. ولكن لكل واحد منهما طريقة سرده لذلك الخبر. ومكمن الاختلاف بينهما في أصل جنس كتابتهما. التاريخ يؤرخ للعوالم التي يواجهها، ويبحث لها عن نحوها في الزمن. كما تفرض الكتابة التاريخية على الذات الساردة للعوالم التاريخية أن تقيم نوعاً من المسافة، بينها وبين موضوع كتابتها. أما الرواية فلا تخضع لنحو الزمن، وإنما تنتج زمنها الخاص بها المرتبط بذات الروائي والسارد. هي تخضع لنحو التخييل الذي لا يمكن التأكد من فعله إلا في الوقْع والأثر الذي يًحدثه للمتلقي الذي يفتح أمامه عوالمه التخييلية الذاتية.
لو أردنا أن نتأمل أكثر العلاقة بين الرواية والتاريخ، في الروايتين المقترحتين للقراءة هنا، سنرى أن تاريخ المغرب الراهن الذي سرده محمد برادة في روايته “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات”، هو جزء من زمن الحماية، وزمن ما بعد الاستقلال، وزمن العقود الأخيرة من مغربنا المعاصر. يحاول الروائي ملا حقة بعض مظاهر هذا الزمن وأفعاله وآثاره من خلال تخييل لا يخضع لتحقيب تاريخي له منعطفات غير واضحة المعالم، قد يستطيع المؤرخ أن يؤشر أكثر على معالم حدودها. ومع ذلك، فقد جعلت ذواتنا المتلقية لها تنفتح على بعض منعرجات هذا الزمن، ونتأمله كل حسب موقعه وحسب قدراته التخييلية، وحسب تجربته، بل يتكون لدينا وعي خاص بالتاريخ. أما رواية عبد الرحيم لحبيبي “تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية”، فقد سردت بدورها تاريخاً مغربياً أخر بعيداً نسبياً، في القرن التاسع عشر تقريباً، مع بدايات الاحتلال الغربي لعالمنا العربي. ولكن وسيلتها الفنية استمدتها من السرد الرحلي الحجازي، المعروف في تاريخ المغرب. فكانت الرواية بدورها، تبحث عن أجوبة لأسئلة تاريخية معقدة ومركبة، عندما اكتشفت ذاتها أمام الآخر الغربي القوي عسكرياً، ومادياً، وعلمياً، وتقنياً.
هل فارقت الرواية التاريخ، نعم، ولا؛ فارقته عندما خلقت عوالمها التخييلية التي كشفت عن مكنونات الذات والعوالم الممكنة وغير الممكنة التي عايشها البطل في رحلته الطويلة إلى المشرق، والتقت مع التاريخ عندما تذكرنا ببعض الأحداث وببعض الوقائع في القرن التاسع عشر التي كان تخييلها ينطلق منها. وقد نعيش بعض ملامح ذلك الزمن المغربي والعربي الواهن، في ذواتنا وبتخييلنا له عبر تتبعنا لسرود الرواية المختلفة، تلك التي تفتح أمامنا عوالم قريبة منه، وبعيدة عنه في نفس الوقت. وتلك هي متعة الرواية التي تتماهى مع التاريخ. أما متعة التاريخ فلها طعم آخر.
نقدم هنا ست قراءات لهاتين الروايتين، ثلاثة منها قاربت رواية محمد برادة، “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات”، وهي لكل من الباحثة مليكة معطاوي، والباحث رضوان ضاوي، والباحث محمد أيت الطالب. وثلاثة قاربت رواية عبد الرحيم لحبيبي، “تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية”. وهي لكل من الباحث بوشعيب الساوري، والباحث إبراهيم أيت إزي، والباحث خاليد مجاد.