– عبد الرحيم لحبيبي، تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، أفريقيا الشرق، ط2، 2014
غاية هذه الورقة هي ملامسة الحدث التاريخي عبر ثنايا عمل روائي بعمق تاريخي مهم. إذ يقدم الأديب عبد الرحيم لحبيبي عملاً أدبياً اتخذ من التاريخ، وتحديداً زمن القرن 19م، إطاراً له. وذلك عبر تتبع رحلة فقيه مغربي، من مدينة آسفي تحديداً، تشوف لزيارة الحجاز. بيد أن متغيرات مفاجئة دفعته صوب السودان الغربي لما يربو عن عقدين من الزمن، قبل الوصول لعلة خروجه من فاس. ليقدم لنا في مذكرات رحلته تلك تصوراً هاماً جداً حول قضايا عديدة، من قبيل التدخل الاستعماري و نظرة الأنا للآخر الغربي و تجليات التأخر التاريخي بالعالم الاسلامي.
تندرج رواية العبدي ضمن تصور نظري للكتابة الإبداعية، يتداخل فيه الحدث التاريخي بالإبداع الأدبي والخيال. ومعلوم أن التاريخ لم يكن في شكل انكتابه أو ملامح سرده خالصاً للواقعة والحدث، بل كثيراً ما يكشف عن هوية، إن لم نقل هويات أخرى، توازي طبيعته الوقائعية والاجتماعية والاقتصادية والذهنية، مضمرة، وعن كره واستحياء حيناً، وعلانية وصراحة أحياناً أخرى.
همش المخيال في أجندة ديكارت، غير أنه عاد سريعاً مع كانط، ليقصى مرة أخرى زمن القرن التاسع عشر وسيادة تحليل المادية التاريخية، ليظهر مجدداً مع سارتر وجيليين و الاتجاه الفينومينولوجي عموماً. وكان لبول ريكور أن وقف مطولاً عند التداخل القوي بين التاريخ والسرد، فبحسبه التاريخ دون مخيال يجعل الزمن بمنزع لا إنساني. وهو نفس توجه هايدن وايت مؤلف “الميتاتاريخ”، الذي عد الخطاب التاريخي خطاباً أدبياً شعرياً يستعاد من خلال توظيف مختلف أنواع الحبكات، وبول فاين الذي قرن جدة الحدث التاريخي بوجود حبكة، إذ الوثيقة ليست إلا حكاية عن الحدث.(1)
وبعد أن أنكرت الحوليات اقتران التاريخ بالسرد، بداعي كبح علمية الأول، وإجهاض لولادة فيزياء اجتماعية، كانت العودة مؤخراً لأهمية البعد السردي في التاريخ، “فالمؤرخ يقوم بإحياء المصادر الهامدة من خلال بعث روح جديدة فيها، ولا غنى له من الاستعانة بالسرد لإعادة تمثيل الماضي”.(2)
ولما كان الواقع، الحياة، والعالم، ميداناً مشتركاً لــ “وقائع” التاريخ و”وقائع” الرواية، ولما كانا معاً ينتميان إلى مملكة السرد، صارت أشكال التبادل بينهما ميسورة نسقياً. فقد تشي أشياء عديدة بأن النسغ السردي للكتابتين يطوي هوية واحدة. صحيح هناك تمايز، بيد أن أنوية ماض مشترك مترسبة بقوة في جينيالوجيا الخطابين، تطفو معالمهما بين الفينة والأخرى للتذكير بذلك.
فلو تعقبنا تآليف تاريخية عديدة لألفيناها تعج بحكايات الخيال والأساطير، ولو تعقبنا الحكايات، لألفيناها غزيرة بالوقائع التاريخية والأعلام المشهورة والأحداث المشهودة، بل هناك أجناس فرعية عديدة لا تزال وفية لاندغام التاريخ والرواية من قبيل السيرة الشعبية وأدب المناقب.
و”إذا رجعنا إلى محاولات أولية تجرب كتابة نص روائي عربي، سنكتشف أنها فعلت ذلك بين يدي التاريخ. فمنه أخذت موضوعها وفي مضماره ترعرعت قبل أن تشق منوالها الخاص، لتقدم نصوصاً روائية تستطيع استيعاب التاريخ بندية فائقة”.(3) فقد عمد الروائي للنبش في مكنونات الشخوص وأحاسيسها، وجعل الداخل الإنساني مرئياً بوضوح أكبر بتعبير ميلان كانديرا، حتى لا تضيع الأنّات والزفرات، في عرض الإيقاعات الكبرى للتاريخ، متوسلاً بمداخيل السوسيولوجيا وعلم النفس، جامعاً بين الكائن والممكن لتوليد الأحداث، متفوقاً على المؤرخ، وفق طرح أرسطو، في الافتراض والاحتمال. وكذا التصرف في الزمن والخروج من إرغامات الظرفية المحدودة، وحتمية الوثيقة، لتعرية الواقع من نسكه الوهمي، “أليفاً من خلال لغة الغزل، بلغة باختين، لفضح ممارسات وطقوس تتستر بالجد المزعوم، وفرصة لتغريبه، بلغة بريخت، حتى تنزاح حجب الإلف والاعتياد وتخرج الصورة في مظهر أدعى للتأمل والاكتشاف”.(4)
إجمالاً، فالتاريخ يطلب ما وقع فعلاً، وكما وقع، ويجتهد في طريقهما، والرواية تطلب ما يمكن أن يقع افتراضاً واحتمالاً وتبدع في أساليبهما.(5)
في ذات السياق، تعمد هذه الورقة، على استكناه الواقعة التاريخية عبر ثنايا رحلة تغريبة العبدي. كما تعمل على تقييم الحدث التاريخي في زمن القرن التاسع عشر من منظور فقيه مغربي، نعت في الرواية بولد الحمرية، قدم من الهامش (آسفي) حيث الصرخة الأولى والنشأة، صوب المركز( فاس) حيث التحصيل والمعرفة. وتلك شهادة طبعها البعد الذاتي بقوة، بيد أن الوقائع التاريخية في ثناياها كانت جلية.
بعد توطئة وسمت بكسر النمط التقليدي، التوسل والتضرع إلى الله بالحفظ والسلامة والأمان في الذهاب والإياب، ينبهنا المؤلف لتساوق لحظة الخروج ومعركة تطوان 1859-1860، لحظة اقترنت ببداية التكالب الأجنبي حول المغرب. فبعد وقعة إسلي 1844 وهزيمة الجيش المغربي، وبداية الاقتطاعات الترابية لحكومة باريس في شرق المغرب كحصيلة لمعاهدة صلح غامضة، للامغنية في مارس 1845، وحظوة إنجلترا تجارياً بموجب معاهدة 1856، تشجعت إسبانيا لفض الحصار المضروب على حاميتيها في سبتة ومليلية منذ عقود، إن لم تكن قروناً، فاحتلت الجزر الجعفرية، وعملت على اختلاق الذرائع لإشهار الحرب على المغرب بعد موت السلطان عبد الرحمان (1822-1859) وقبل أن يستتب الأمر لخلفه، “وتعمدت إضفاء صبغة دينية على الأزمة حتى يجبر السلطان الجديد على رفض الإنذار الموجه إليه ويدخل في الحرب رغماً عنه”(6)
وهذا يعني أن لحظة البداية تزامنت وبلوغ الضغط العسكري ذروته ما بين 1844 و 1860، لكي يفتح المخزن باب البلاد على مصراعيه في وجه الآخر. وذلك ما وقف عنده العبدي واصفاً حال الصنائع بفاس، نموذج حرفة الدباغين، ومدى تدهور وتردي أحوال أهلها، مفسراً ذلك بمزاحمة الكفار. فالاختلال الذي شمل جل بنيات المجتمع، صوره أهل القافلة التي رافقها العبدي في مسامراتهم، من قبيل غرق في القلاقل والمنكرات، وانتشار الخمور بالحواضر كفاس ومراكش، ناهيك عن ظواهر “شاذة” أخرى.
تدهور ربطه صاحب الرحلة بعطب فكري وغرق في أتون السلبية الفقهية والخوض في أمور الحرام والحلال، حيث حرم كل جديد بدعة من مخترعات “كالبارود والطبنجية والصابون والشمع والخياطة والمطبعة والسكر والآلات الموسيقية والاعشاب المرقدة والمسكرات وحلق اللحية والتزيين والورق النقدي والتجارة مع الأورباويين وغيره كثير”.(7) كما تم إيقاف العلوم العقلية، والفلسفة بأمر سلطاني، فكانت النتيجة أن ” تكالبت علينا الأجناس وطمع فينا الطامعون، واكتفى فقهاؤنا بالتحريم والترخيص والرد، بعضاً على بعض، نقداً وتعقيباً وحاشية ونظماً في الأراجيز، ومنع درس العلوم العقلية والخيمياء والطبابة الأورباوية وفتحت الأبواب وشرعت على وسعها للشعوذة والدجل والموبقات والمسكرات والدعارة والزنا” (لحبيبي، ص. 66).
يسعنا القول بذلك أن فقيهنا انتصر لموقف تقدمي مثير، إذ كثيراً ما عبر عن مواقفه المعادية للذهنية السائدة، فهو يرى أن “كثرة التحريم طريق للخمول والجمود والتقاعس، فكل أمر عجزنا عن مجابهته وتحديه أو لم نقدر عليه حرمناه ومنعنا الناس عنه، وكم من حاجة قضيناها بتحريمها” (لحبيبي، ص. 68). وكثيراً ما استشهد في هذا الباب بنهضة المشرق وأصدائها، وخاصة مصر وتجربة محمد علي.
ويستشف معطى مهم آخر من ثنايا الرحلة، وهو ورود مفهوم “السيبة” كمؤشر على غياب الأمن، بعد تجاوز القافلة لمدينة أزرو وعبورها للأطلس المتوسط وبلاد زيان، حيث اضطر الركب لدفع ثمن الزطاطة لضمان عبور آمن، بل يذكر العبدي “هنأ كبار التجار بعضهم البعض، فقد نجونا من بربر زيان- قطاع الطرق بهذه الناحية- بسلكنا لهذه الطريق، لكننا رغم ذلك لم نتوقف، فقد اكتفى كل نفر منا بأن يأكل ويشرب راكباً مطيته، ومن أراد قضاء حاجته فليؤجلها، فإن لم يستطع فليسرع في قضائها وليلتحق بالقافلة ركضاً، كذا صدرت الأوامر لنا هذا الصباح ” (لحبيبي، ص. 46).
ونلاحظ أن هناك معطى تاريخي مهم اقترن بالمرحلة ونبهنا إليه العبدي، هو امتيازات المحميين، وغالبيتهم من الشرفاء والتجار والوزراء والكتاب. فعلاوة على الاعفاء الضريبي والجبائي، يشير لتمكن هؤلاء من ربط علاقات تجارية، عبر وسطاء مرافقين له، مع عدد من مدن السودان الغربي كتنبكتو حيث قال: “إنهم اليوم يضعون أيديهم ويحكمون قبضتها على تجارة الصادر والوارد، ويستحوذون على كل ناتج الفلاحة من غلات الحبوب والمواشي والعطريات.. يحتكرون ويضاربون بالسلع ويتلاعبون بالأسعار”(لحبيبي، ص. 49). وعلى الرغم من تحريم الفقهاء للأمر، لمخالفته للدين في نظره، فالأمر لم يكن غير صيحة في واد.
انقلبت فجأة بوصلة رحلة الفقيه العبدي صوب السودان الغربي، حيث سيتيه لما يربو عن عقدين، بإيعاز من تاجرة، “الشريفة”، كانت ضمن نخبة الركب. شكلت مدينة جيني، أحد أهم منابع التجارة الصحراوية، الوجهة المفاجئة، والتي لم تسلم بدورها من متغيرات المرحلة وبداية التدخل الأجنبي، حسب العبدي “فالمكان لم يعد آمنا كما كان الأمر من ذي قبل عندما كانت الأوامر السلطانية تأتي من فاس ومراكش ومكناس، وعندما كانت الزكاة والعشور وأحمال الذهب تذهب كل عام إلى بلاد المغرب … فعصر الذهب مقبل على السقوط والانقراض، وأعيان الوقت هنا وفي تنبكتو يدبرون أمورهم لما ستأتي به الأيام المقبلات” (لحبيبي، ص. 97-98).
بعد توغل مطول في الصحراء الإفريقية على طول حوض النيجر، وبحكم الظروف المناخية وسمات المجال، يتعرض العبدي لغيبوبة مطولة، كانت صلة وصل بينه وطبيب نصراني كان بالصحراء الإفريقية. هنا يتوقف عند معطى تاريخي جد هام ألا وهو اختراق الطبابة الأوروبية للصحراء الإفريقية، ومعلوم الدور الاستخباراتي الهام الذي قام به الطب الكولونيالي، وتلازم الأخير والجاسوسية، لفعالية القطاع في استقطاب الجماعات والأفراد.(8) وهو ما نلمسه من رد فعل العبدي بعد تماثله للشفاء، وبالرغم من التحفظ من مخالطة النصراني الكافر، فإن صنيع الطبيب، من رعاية وتطبيب، شفعت له، لكونها في رأيه “من أفعال المؤمنين بالله، وإن لم يكن على دين الاسلام” (لحبيبي، ص. 116).
نذر الطبيب الفرنسي دانييل نفسه لمداواة أفراد القبائل الإفريقية ومساعدتها، على تنظيم معاشهم الفلاحي والتنقيب عن الماء وحسن استغلاله. فنال بذلك مرتبة مميزة وحظي بإقبال ملفت وثقة كبيرة من طرف هؤلاء. وقد أورد العبدي حضوره في سياق توافد عدد من الأطباء الأوربيين على الصحراء، منبها لما كان عليه واقع الحال ببلاد المغرب حيث حضر عدد من الأطباء لمداواة المغاربة، وهنا يذكر أن “ما أثار حنق العلماء والفقهاء فأفتوا بتحريم دوائهم وعقاقيرهم وكل ما يقدمونه للمسلمين من مفاسد متأتية من التطبيب على يد الكفار” (لحبيبي، ص. 121). بيد أنه يعبر مجدداً عن موقف جد متقدم في هذا الباب قائلا: “أتخمنا عقولنا بما يحل وما يحرم، ونسينا فقه الضرورة والمصالح المرسلة والمصلحة الوقتية، ناهيك عن حفظ الصحة وقوام الأبدان، فقد ضاع منا ونسينا حتى تراث الطب العربي الإسلامي .. ضاع كما ضاعت المروءة والشجاعة والعزة والأنفة، ولم يبق إلا القمل والقحط والجراد، ثلاث خلقن للفساد. حتى لو سردت مئات الأعلام والمشاهير، فالطبيب النصراني حجة علي وعلى النخوة الخاوية التي أتظاهر بها. ما معه من الآلات وما يعرفه من أمور الطبابة والجس وتتبع الداء ليعلم سره ومكمنه فيبادر إلى علاجه، شيء لم أره من قبل في بلاد المغرب، وأجزم صادقاً أن لا أحد منا درسه أو زاوله” (لحبيبي، ص. 122).
تواشجت بين الغريبين أواصر علاقة إنسانية، توسل بها العبدي لملازمة الطبيب الفرنسي والتعلم على يديه. رغم ثقل الخلفيات، برر لنفسه الأخذ عن أهل الذمة والكتاب، إذ هو أمر محمود ما دام ينفع المسلمين ولا يضر بدينهم. لكن ستأتي عملية المراجعة سريعاً بعد طول المعاشرة، حيث تبدت للفقيه المقاصد البعيدة المدى لحضور الطبيب الفرنسي، وهو استكمال التغلغل الاستعماري بالمنطقة بعد النزول بالجزائر، إذ يقول: إن “الطبيب النصراني “دانيال” تنكر بالزي المحلي- ولا أحد يعلم إن كان طبيباً حقاً أم منتحلاً صفته- وأخذ يجوب المناطق والديار في غفلة عن عيون الحكام والرقباء” (لحبيبي، ص. 124). وحتى يحسم الأمر يقول “هذا عهد بيني وبينك أيها الشيخ النصراني، أنقذت حياتي من الهلاك ولن أنس لك هذا الجميل، لكنني لن أقيم بأرض أراك توطئها للغزو والاحتلال والتنصير، لا أراك صادقاً في ما تزعم أنه بوازع الانسانية والتحضر والرقي بهذه الأقوام إلى مرتبة الأمم الناهضة، وحتى لو كنت طبيباً حقاً ولست منتحل صفة، فإنك خادم الساسة وملك فرنسا” (لحبيبي، ص. 124).
وبعد مرحلة اختلط فيها الواقع بالخيال، بين تصوف وزهد، سحر وسلطة، يوقف الفقيه السفياني الزمن ويطوي المكان، في لحظة نعتها بالفردوس المفقود، ليفاجئنا بعدها بوصوله لجنوب مصر سنة 1882. وهو زمن لا حظ فيه أن أمر بلاد الكنانة استتب لإنجلترا بعد أن انسحب عنها نابليون، وقضي على ثورة أحمد عرابي. منها قصد غايته الأولى وعلة خروجه، الوصول لبلاد الحجاز، وهو ما تم بتاريخ 1885، أي بعد مرور ربع قرن عن مفارقة فاس والقرويين.
لكن كانت صدمة الفقيه ستتفاقم، فالفردوس المنشود ومكمن الخلاص، من هم وجودي سكن الفقيه منذ خروجه عن مسقط رأسه ينضح بالإفلاس، فواقع حال أهله مماثل لحال أهل المغرب. وذكر في هذا الصدد أن الناس “لم يكونوا في مأمن مما أصابنا، أترانا توائم أشقياء… كانت الجزية من مكة إلى أقصاها على محدة فارس عرضة للنهب والسلب من طرف النكليز … ما خرجت هارباً منه، وما جئت باحثاً عنه، وجدته ماثلاً أمامي، فدار الحرب حاصرت العرب من السد الشرقي إلى السد الغربي، بعد أن تنازلوا للنجليز صاغرين عن غنائم وأسلاب دون أن يشنوا حرباً، وما سيأتي من الأيام المقبلات أعظم وأشد ويلاً وثبورا” (لحبيبي، ص. 201).
تعمقت المأساة وخاب الأمل وتبخرت اللحظة الحالمة، ليقفل العبدي عائداً صوب مصر مرة ثانية، عبر صحراء سيناء ليدخل الاسكندرية سنة 1890 ثم القاهرة في 1891، مثقلا دائماً بهم الخلاص وأسئلة النجاة وآمال القيام بعد انحطاط؟ ونهوض بعد سقوط؟ فالوضع لم يكن محتملاً إذ يذكر أن ” الخمارات والحانات وفنادق الدعارة في كل درب وحارة، ومحاكاة الأورباويين في كل مناحي حياتهم – الساقط منها على وجه التخصيص- على قدم وساق، ولا من ناه ولا منته، ولا منكر ولا منذر” (لحبيبي، ص. 210).
بعد طول مستقر بالقاهرة، واندماج في أحوالها سيما مع وجود عدد من التجار المغاربة بها، يكشف لنا عن اتصاله هناك بعدد من نخب المدينة الحاملين لهم الانعتاق من السبات الطويل وآفة التقليد والاتباع، وتقديس الأولياء والخرافات، والعزوف عن العلم والحكمة ومنافحة التكالب الأجنبي ومفاسده المتوالية على بلاد المسلمين.
في سياق اللقاءات والتداول ذاك، يقدم العبدي حلولا مثيرة، ويعبر عن مواقف فكرية متنورة حيال أزمات المرحلة، معلنا القول “إنني أدعوكم إلى أن تقاسموني مبدأ واحداً، نسعى إليه جميعاً ألا وهو الحرية، للإنسان والأوطان، لا عبودية ولا استعباد… تربية النفوس وإعلاء شأن الانسان من أجل أن يكون مالك شأنه … لن أردد مع القائلين بأن هذه الحرية التي أحدثها الإفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة، لأنها – كما يدعون- تسقط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الانسانية ” (لحبيبي، ص. 240-241).
أفصح كذلك عن موقف جد متقدم من متغيرات الغرب سياسياً وتقنياً، بشكل مخالف للنظرة الفقهية الضيقة السائدة خلال المرحلة، مؤكداً عن ضرورة الأخذ بهذه المستجدات. حيث ذكر في هذا الباب أنه “آن الأوان لنتعلم كيف نعيش ونحيا ونسوس أنفسنا … إذا كنا علمنا الإنسانية في الماضي ونقلنا إليها تراثنا وحضارتنا ومعارفنا، فقد جاء الدور علينا لنتعلم منهم.. خذوا العلم ولو كان في الصين، فما بالكم إن دق أبوابنا، وكان الدق شديداً وعنيفاً… لا نظام إلا بالعقل الذي يؤسس الشرائع ويبدع التنظيمات … فلم نقبل بالنظام في أمور الجيش والعتاد العسكري وخوض الحروب، ولا نقبل به في السياسة الوقتية؟! لا زلنا نجنح كلياً للسياسة الشرعية حيث ندوخ ونتيه بين تحريم وتحليل، ونهدر وقتنا في الافتاء عن كل كبيرة وصغيرة … إننا نفكر بعقلين منفصلين، أو نعمل على أن يكونا منفصلين، حتى في أصغر الأمور، عقل ظلماني ندرك به أمور الدنيا الفانية، وعقل نوراني ندرك به الأمور الأخروية الخالدة ..جاء الوقت لنضع الميزان ونحكم بالقسطاس على أنفسنا وغيرنا..”.
يعود الفقيه لتربته الأولى مثقلاً مكسوراً في نهاية القرن، في ظرفية استعرت فيها الاختلالات وتداخل الاقتصادي بالسياسي والاجتماعي بل والصحي. وقد قال في هذا الشأن: “وقد علمنا .. أن الريح الأصفر (الكوليرا)، قد تحرك فهب على المغرب عن طريق الحجاج الذين سبقونا، وأن الصدر الأعظم أحمد بن موسى قد أعلم باشادور النكليز بعزم دار المخزن إشعار الكمبانيات بعدم نقل الحجاج من المغرب إلى الديار الحجازية، ولما لم يعجب هذا الأمر النكليز فقد استمرت الكرنطينة وواصل مجلسها إهانة المسلمين وانتهاك حرماتهم، مما دفع بالمخزن لمنع الحج” (لحبيبي، ص. 247).
ويقدم لنا صور بليغة عن بعض ملامح التنكيل الأجنبي بالحجاج في المحاجر الصحية في مدينة طنجة. إذ ذكر “بعد مضي الأيام السبعة رخصوا لنا بالنزول إلى المحجر الذي شيدوه وأقاموا به المباخر … ما نزلنا البر إلا بعد مشقة عظيمة .. ثم رشونا بماء، رائحته كريهة وأخرجونا من طريق غير تلك التي سلكناها من قبل، وهنا وجد كل واحد منا ملبوسه ملقى على الأرض بعد تبخيره، في حالة رثة سيئة، ما هو محروق ممزق، وما هو مبلل بمياه تزكم الأنوف برائحتها العطنة، ومرأى الحاج الذي يبكي على حوائجه المحروقة، والحاجة التي تلطم خديها على ضياع حليها… لبثنا بالكرنطينة أربعين يوماً هي المدة الواجبة لحفظ الصحة والاحتراز من العدوى، ولذلك سموها الكرنطينة بلغتهم أي الأربعينية، وكانوا أشداء في إقامتها لا تأخذهم شفقة ولا رحمة ..” (لحبيبي، ص. 248) والمثير أنه رغم تلك الظروف المزرية الموصوفة، والمواقف الفقهية التي وصفت الحجر بالبدعة المرفوضة، كان للعبدي موقف مخالف، ففي رأيه “لا بأس من الاستعانة برأي الإفرنج إذا اقتضى الأمر، فالضرورة تبيح المحذورة، وقد برعوا في كيفية التحفظ والتحرز من الوباء وحسم مادته” (لحبيبي، ص. 250)..
يعلن الفقيه في خلاصة رحلته هاته عن ضرورة العبور للضفة الأخرى، علها موطن الخلاص ومرآة كشف الخلل، من يدري؟ ففي اعتقاده أنه “قد تكون أوربا مفتاح فهم ومعرفة ما نحن عليه من تأخر وتدهور، وما أصابنا من تحلل وانحلال، ألا تريك المرآة وجهك، وسيما كان أم قبيحا؟ هل يستطيع وجهك أن يريك نفسه دون مرآة؟ كذلك الأمر بالنسبة للشرق والغرب، فلتكن المرآة آخر كشاف لعيوبنا وأخطائنا علنا نجد الطريق الصحيح..”. لكن هيهات بنبرة الحسرة يختم “يلزمني لذلك شباب قشيب جديد، وصحة جيدة، فالآمال وحدها لا تفي بالغرض المطلوب ” (لحبيبي، ص. 252).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، دار توبقال للنشر، ط1، 2014، ص. 118-119.
2- فسه، ص. 121.
3- عبد السلام أقلمون، الرواية والتاريخ: سلطان الحكاية وحكاية السلطان، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2010، ص. 105.
4- نفسه، ص. 311.
5- نفسه، ص. 24.
6- عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب،، ج3، المركز الثقافي العربي، ط2، 2004، ص. 146.
7- عبد الرحيم لحبيبي، رواية تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية- رواية، افريقيا الشرق، ط2، 2014، ص. 68.
8- أحمد مكاوي، الدور الاختراقي والاستعماري للطبابة الأوربية في المغرب، منشورات الزمن، الدار البيضاء، 2009، ص. 61.