– محمد برادة، بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات، نشر الفنك، الدار البيضاء، 2014.
سنحاول في هذه المداخلة التطرق إلى ثلاثة محاور رئيسة؛ في البداية سنتوقف عند مفهومي التناص وإعادة الكتابة ودلالتهما، ثم سننتقل بعد ذلك إلى تأمل مظاهر التناص في رواية “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات،”* لنصل في الأخير إلى تتبع مظاهر إعادة الكتابة، بإبراز أوجه التشابه والاختلاف بين روايتي محمد برادة: “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات” و”حيوات متجاورة“*.
I. من التناص إلى إعادة الكتابة
- أهمية مفهوم التناص
يرتبط مفهوم التناص بالشعرية الغربية، خصوصاً بأعمال جوليا كريستيفا، التي قدمت أبحاثها عن مفهوم التناص في أعمالها المنشورة في مجلة تيل كيل. لكن لا بد من الإشارة إلى أن مجموعة من الباحثين يرون أن الإلماحات الأولى لظهور هذا المفهوم ترتبط بعدة أبحاث كأعمال اللساني السويسري فرديناند دي سوسير(1857-1913)، حيث أكد أن “سطح النص مكوكب، تبنيه وتحركه نصوص أخرى حتى ولو كانت مجرد كلمة مفردة”(1).
بعد كريستيفا اهتم عدة باحثين ونقاد بدراسة المفهوم وأهميته وكيفيات حضوره. فرواد هذا المفهوم الأوائل هم: ميخائيل باختين (Mikhaïl Bakhtine)، وجوليا كريستيفا (Julia Kristeva)، وجيرار جينيت (Gérard Genette)، وميخائيل ريفاتير (Michael Riffaterre)، ولوران جيني(LaurentJenny)(2) وقد نتج عن ذلك “أبحاث ودراسات وكتب بالمآت إن لم تحسب بالآلاف”(3) أثمر تعدد المنطلقات والمقاربات التي اهتمت بالتناص، اختلافاً وتنوعاً في تعريفاته وتطبيقاته(4). كما تطرح علاقة النص الأصلي بالنص المحاور (المتناص) إشكالات كبرى. سواء عن طبيعة تلك العلاقة أو درجاتها ومرتباتها. فالتناص هو “إعادة قراءة نص لنص آخر”(5).
يرتبط مفهوم التناص أكثر باتجاه ما بعد الحداثة، وهذا ما يؤكده محمد مفتاح بقوله: “في سياق ما بعد الحداثة المعقد ازداد وليد في فرنسا الباريزية سمي، ثم شاع ذكره، فصار مفهوماً كونياً، لقبه المهتمون من العرب بـ “التناص” فذاع صيته في أقاصي البلدان العربية وأدانيها، وخصوصاً أنهم عثروا فيه على ما يعزز مركزيتهم وهويتهم” (مفتاح، 2010، ص. 302). فمفهوم التناص لا يقتصر، بذلك، على المجال الأدبي والشعري، بل تعداه إلى عدة فنون أخرى، “فهو موجود في المناقشات التي تدور حول السينما والرسم والموسيقى والعمارة والتصوير وكل الإنتاجات الثقافية والفنية تقريباً”(6). فضلاً عن كون التناص يمثل لقيم ما بعد الحداثة، فهو مفهوم “نشأ في ظروف اعتراضية: الاعتراض على المؤسسات السياسية والثقافية والعلوم الرائجة. وكانت شعارات المرحلة هي القطيعة، والإبدال والإبستيمي، والفوضى والعماء”(7).
إن التناص يمثل آلية من آليات معرفة درجات التجديد والتجاوز في ثقافة من الثقافات. كما أن كيفية حدوث فعل التناص ودرجاته يعطي صورة عن درجات الإبداع والخلق وعدم الارتباط بالنصوص السابقة. إن التناص “بالنسبة للكاتب ليس ظاهرة أدبية فحسب بل ثقافية وفكرية أيضاً”(8).
وقد بين سعيد يقطين أهمية التناص ودوره قائلاً: “إن جدوى هذا المفهوم لا يمكن أن ينكرها أحد. لقد أعطى دفعة جديدة للدراسة الأدبية وجعلها تنمو مختلفة عما كانت عليه في أواخر الستينات”(9).
- مفهوم إعادة الكتابة
يدل مفهوم إعادة الكتابة على إعادة صياغة نص أو تعديله، سواء بالإضافة أو بالحذف. وإعادة الكتابة هي ظاهرة لدى عدة كتاب منهم بورخيص في قصائده، وأدونيس وغيرهم. وتتمظهر إعادة الكتابة سواء في إعادة الكاتب أو الشاعر كتابة أعماله، أو في إعادة كتابة عمل لمؤلف آخر. كما نجد مثلاً في عمل محمد بنيس: كتاب الحب، حيث أعاد كتابة كتاب ابن حزم: طوق الحمامة. وقد يتخذ فعل إعادة الكتابة مظهراً آخر من خلال إعادة المبدع كتابة تجربته الإبداعية، كما نجد في أعمال أدونيس ومحمد بنيس، الذي يؤكد ذلك في مقدمة أعماله الشعرية قائلاً: “كنت باستمرار أحرص على إعادة الكتابة. تبديل كلمة غير ملائمة بكلمة ملائمة. حذف الزائد بيتاً أو أبياتاً. إضافة مقطع جديد، كلما أحسست أن الأبيات غير كافية. عملية تصحيح لا تنتهي، أو كتابة لا تنتهي في مغامرة بناء القصيدة، حرصاً على حماية المعنى الشعري من التبديد، حفاظاً على الصفاء”(10).
مفهوم إعادة الكتابة من المفاهيم المرتبطة بالتناص(11). لذلك نقصد بإعادة الكتابة في هذا المقام، أن محمد برادة أعاد كتاب رواية حيوات متجاورة حينما كتب رواية بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات. لذلك سنحاول أن نتبين مظاهر التداخل والتفاعل والتناص بين الروايتين، ومظاهر الاختلاف.
II. مظاهر التناص في رواية بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات
سندرس التناص في الرواية وفق عنصرين أساسيين هما: التناص الخارجي، ثم التناص الداخلي.
- التناص الخارجي:
- تميزت رواية بعيداً من الضوضاء قريباً من السكات، بمحاورتها لعدة نصوص وخطابات، منها التاريخي والفكري والأدبي والفني… وما دام أن موضوع هذه الندوة هو “الرواية والتاريخ”، فإننا سنركز على مظاهر محاورة الرواية وتداخلها مع الخطاب التاريخي. فالرواية تستدعي تاريخ المغرب إبان الاستعمار، مروراً بالاستقلال وأجوائه، ووصولاً إلى الزمن المعاصر، من خلال عدة أحداث راهنة. إن حضور الخطاب التاريخي بشكل ملفت في الرواية لن يصرفنا عن تمعن وتتبع الخطابات الأخرى التي تتناص معها الرواية كالمجتمع والفكر والفن والأدب.
ا– التاريخ:
يمكن تقديم حضور الخطاب التاريخي في الرواية من خلال مظهرين أساسيين؛ يتمثل الأول في كون الرواية تتأسس على فعل التأريخ؛ فالسارد في الرواية، أو ما سماه المؤلف ب”مساعد المؤرخ (الراجي) يقوم بوظيفة المؤرخ، بالاشتغال مع الأستاذ المؤرخ الرحماني، الذي يحضر كتاباً عن تاريخ المغرب الحديث. فالراجي (مساعد المؤرخ) حاصل على الإجازة في التاريخ. لذلك اتفق مع الرحماني بالقيام باستطلاع شهادة الفاعلين، مقابل مبلغ ألفي درهم في الشهر (ص.7)، مركزاً على ثلاثة أسئلة:
- ماذا تعني مقاومة الاستعمار وما الذي كنت تنتظره من الاستقلال؟
- كيف ترى أن الأزمة تعبر عن نفسها الآن من خلال الواقع اليومي؟
- هل نتوفر على الشروط الضرورية للانخراط في الألفية الثالثة؟
وبعد التقاء الراجي بالرحماني، خلص إلى أن غاية ومقصد المؤرخ الرحماني هو “الوصول إلى معرفة العوامل التي جعلت فترة مقاومة الاستعمار، أفضل من حاضر الاستقلال، هل هي نوعية المناضلين ومعدن القيادة؟”(ص.9). هكذا اعتمد الراجي، حتى في كتابة الراوية على التأريخ، من خلال اختيار ثلاثة تواريخ، يرتبط كل تاريخ بشخصية من الشخصيات الرئيسة في الراوية (1931، 1956، 1956).
أما المظهر الثاني فيرتبط ببناء الرواية، التي مثلت محطة بارزة لإبراز أهم المحطات التي مر بها تاريخ المغرب بدءاً من فترة الحماية والاستعمار، مروراً بفترة المقاومة ثم الاستقلال، وصولاً إلى الزمن الراهن من خلال الحديث عن الربيع العربي وحركة 20 فبراير. لذلك يمكن الحديث عن تاريخ المغرب في الرواية من خلال أربعة محاور:
- ما قبل الاستقلال
تعود الأحداث أحياناً إلى ما قبل استعمار المغرب، من خلال الحديث عن ضريبة الترتيب، التي سنها السلطان الحسن الأول سنة 1881، وأعادتها فرنسا إبان الحماية إلى الوجود (ص.39).
كما تعالج الرواية وقائع الاستعمار الفرنسي للمغرب منذ فرض الحماية سنة 1912، إلى أن اشتدت المقاومة المسلحة بعد نفي محمد الخامس، لتضطر فرنسا إلى التوقيع على وثيقة استقلال المغرب.
وقد وردت عدة وقائع تاريخية ترتبط بمرحلة الاستعمار، في الفصل الخاص بتوفيق الصادقي، باعتباره عايش مرحلتي الاستعمار والاستقلال، ويمثل نموذجاً للذين استفادوا من الاستعمار، حيث كان أبوه قائداً بمنطقة زعير، كما استفاد من الاستقلال، حيث أصبح نقيباً للمحامين، بعد أن أخذ مكان المحامي الفرنسي كلود.
من الأحداث التاريخية الأخرى التي ارتبطت بمرحلة الاستعمار: خطاب محمد الخامس بطنجة سنة 1947، وتوالي العمليات الفدائية ضد المستعمر، وكذا إرسال مجموعة فرنسية ليبرالية رسالة إلى الجمهورية تطالبها بالتفاوض مع المغرب والإنصات لمطالب الشعب المغربي وقعها 75 شخصية بارزة يوم 8 مارس 1954(ص.47).
كما تحضر في الرواية أجواء اتفاقية إيكس ليبان، واستقبال المقيم العام لمبارك البكاي والفاطمي بنسليمان وعباس التازي المقربين من محمد الخامس، وكذا لقاؤه مع ممثلي حزب الاستقلال والشورى. كما عرض لموقف علال الفاسي المقيم في القاهرة والرافض للتفاوض مع فرنسا.(ص.49).
- إبان الاستقلال
وصف السارد مرحلة الاستقلال وفرح المغاربة بها، خصوصاً استقبالهم لمحمد الخامس بعد العودة من المنفى(ص.50)، وانتشار الاحتفالات بالاستقلال، ثم الدعوة إلى التطوع والعمل لبناء طريق الوحدة وتشجيع الاقتصاد الوطني..(ص.51).
- ما بعد الاستقلال
لكن ما إن حصل المغرب على الاستقلال حتى بدأت مشاكل، عبر عنها خال توفيق الصادقي، المنخرط في جيش التحرير: “إن مركز الثقل يوجد وراء ستار، والذين يمسكون خيوطه يتحركون داخل الكواليس(…)سكت قليلاً ثم أضاف وفي صوته أسى: أخشى أن يغدو الرهان هو تثبيت شرعية المخزن الموروثة عن عهد ما قبل الاستقلال المعتم، بدلاً من أن يكون هو تشييد مجتمع العدالة والتحرر الذي ناضلنا من أجله”(ص.51-52).
لذلك ستتوالى في الرواية عدة أحداث تاريخية عرفها المغرب بعد الاستقلال كإقالة حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1961، وانتشار المظاهرات العنيفة (الدار البيضاء ومدن أخرى في مارس1965)، وحدوث انقلابين عسكريين فاشلين في 1971 و1972، والمسيرة الخضراء سنة 1975، وخطابات الحسن الثاني مهاجماً المثقفين والشباب (الأوباش، أنصاف المتعلمين، ص. 99). واغتيال عمر بنجلون، بعد المؤتمر الثالث الناجح للحزب العتيد.(1975)(ص.103-104).
من مظاهر معالجة واقع ما بعد الاستقلال، حديث السارد عن الحكومات المتوالية منذ إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، فقد شبه تلك الحكومات بالحكومة-الدمية (ص. 105)، مبيناً انتقاد الحزب العتيد لها، ليصل بعد ذلك إلى مرحلة إعلان الحسن الثاني أن المغرب على مشارف سكتة قلبية، مما أدى بالحزب العتيد إلى الدخول في حكومة التناوب. فضلاً عن ذلك تمت الإشارة إلى واقع التنظيمات الأصولية التي أخذت تستقوي، مشيراً إلى كتاب: “الإسلام أو الطوفان: رسالة إلى الحسن الثاني”، لزعيم العدل والإحسان عبد السلام ياسين.
- الزمن المعاصر
يمكن أن نربط هذه المرحلة بوفاة الحسن الثاني. فقد وضح السارد أجواء تولي ملك جديد يلوح بالإصلاح، وتقليص الطقوس والفخفخة (ص.129).
يصف السارد أجواء أول انتخابات في ظل الملك الجديد، حيث تم التعامل بطريقة مهينة مع الحزب العتيد، الذي احتل المرتبة الأولى في الانتخابات 2002، لكن منحت رئاسة الحكومة “لصالح أحد خدماء القصر، نصف تقنوقراط ونصف رجل أعمال“(ص.129). لكن رغم الإهانة فإن الحزب العتيد ظل متشبثاً بالكراسي، وهذا أمر جعل الناخبين يعاقبون الحزب العتيد في انتخابات 2007، لكنه ظل متشبثاً بالكراسي مرة أخرى، ولم ينسحب إلا مع فوز حزب له مرجعية إسلامية في انتخابات 2011.
من مظاهر الزمن الراهن في الرواية حديثها عن الربيع العربي، حيث انفجرت أصوات الشباب في ميادين تونس والقاهرة ثم الدار البيضاء والرباط، ثم في صنعاء والبحرين وكل أرجاء سوريا (ص.226). فقد أشار السارد إلى حركة 20 فبراير في المغرب التي طالبت بمحاربة الفساد، وإرساء دعائم الديمقراطية(ص.130). لكنه ينتقد أوضاع ما بعد 20 فبراير في المغرب، مؤكداً أن المشهد “يوحي بخلط الأوراق، ولكن سرعان ما تعود الأوضاع إلى سيرتها الأولى مع رتوش خفيف يلهي ويسلي وينفخ في مسالك الكوميديا المغذية لشعبوية لها، على الأقل، فضيلة الإضحاك“(ص. 130).
ويبقى موقف الأستاذ الرحماني من حركة 20 فبراير مثيراً للانتباه، حيث يقول: “إن لعنة المغرب هي المخزن الذي يتلبس أزياء متعددة ليستديم الامتيازات والسلطة المطلقة والتقاليد الماضوية…“(ص. 217-218).
هناك عدة أحداث ووقائع تاريخية كثيرة في الرواية، منها ما يرتبط بتاريخ المغرب، ومنها ما يرتبط بالتاريخ الإنساني عامة كتحطم الطائرة الفرنسية القادمة من البرازيل، التي تحطمت سنة 2009، وكذا اجتماع الدول الثماني الكبار في كندا، والفيضانات في الهند والاجتياح الإسرائيلي للقدس، وتدمير منازل فلسطينية، وكذا حدث تحويل الأخوين جيل وإميل بوجو لطاحونة حبوب إلى مسبكة للفولاذ ثم معمل للدراجات الهوائية، ثم مصنع لإنتاج أول سيارة بنزين سنة 1980(ص. 86).
ب. المجتمع
تتناص الرواية مع المجتمع من خلال حضور ظواهر اجتماعية متنوعة ومتعددة. منها ظاهرة الخادمات القاصرات، القادمات من زعير ووزان، “لأن آباءهم لا يريدون أن يرسلوهن إلى المدرسة، ويفضلون أن يأتوا بهن إلى دار القايد ليتعلمن الطبخ والنفخ والحذاقة والتقاليد…”(ص.38).
هناك عدة ظواهر اجتماعية أخرى منها:
– حضور عدة طقوس كطقوس الزواج والاحتفالات والإسراف في الطعام والولائم، وطقوس الجنازة.
– ظاهرة الخيانة الزوجية، كما نجد لدى فالح الحمزاوي، التي يقابلها الوفاء والإخلاص كما نجد لدى توفيق الصادقي.
– ظواهر وطقوس سلبية بالية كالعنف في ليلة الدخلة وانتظار سروال العروس (ص. 59).
– ظاهرة البطالة في صفوف المتخرجين وحاملي الدكتوراه (ص.10).
– ظاهرة التهريب..(ص. 14).
ج. الفن والأدب
تتناص الرواية مع الفنون والأدب، بشكل كبير. وهذا يتجلى حسب المستوى الثقافي والمعرفي للشخصيات وحسب تكوينها واهتماماتها المعرفية. ومن هذه النصوص المحاورة نجد:
– السينما والفنون:
يتجلى حضور السينما، بداية في مشاهدة توفيق الصادقي لفيلم “دم الشاعر” بقاعة ملحقة الكنيسة، وما طرحه ذلك من أسئلة في نفسه.(ص.41-42). ولم يكتف السارد بتقديم الحدث، بل عمل على تحليل الفيلم ونقده على لسان الشخصية.
تمظهرت السينما أيضاً في حديث السارد عن فالح الحمزاوي، الذي يحكي عن مشاهدة أفلام رعاة البقر وغيرها من أفلام فريد الأطرش وعبد الحليم، بالسينما القريبة من بوجلود بفاس.
تحضر الفنون في زيارة توفيق رفقة ابنته فدوى لمتحف اللوفر بفرنسا، ومشاهدتهما لمسرحيتي “لوسيد” لكورني، و”البخيل” لموليير بمسرح لاكوميدي فرانسيز، ومشاهدة مسرحية “الكراسي” لأوجين يونيسكو.
كما تحضر الفنون من خلال الموسيقى، حيث حضر توفيق رفقة ابنته حفلاً لموسيقى الجاز وكذا من خلال الحديث عن مهرجان موازين، الذي حضرته الحاجة الحمداوية 2007، ووصف جمهورها من الضباب، وكذا مهرجان 2011، الذي حضره المغني عبد الغفور الملقب بفيغون VIGON.
– الأدب:
نجد الأدب حاضراً في عدة أشكال أهمها:
الرواية: حيث يقوم الراجي بمحاورة تقنيات العمل الروائي معتبراً أنه يروم كتابة أول رواية له، باستثمار الاستطلاعات التي قام بها، بإيعاز من الأستاذ الرحماني. كما تحضر الرواية كذلك في استدعاء نبيهة سمعان لأعمال روائية متعددة كأعمال جورج صاند، وأعمال توليت ويلي، ولويز ميشيل وكذا الكاتبة الفرنسية أنييس نين، في يومياتها (ارتكاب المحرمات: Inceste)، فضلاً عن ورود إشارة لأعمال نجيب محفوظ وغالب هلسا.
الشعر: أما الشعر فيتمظهر في تناص الرواية مع أبيات للشاعرة والكاتبة المصرية درية شفيق، وقد استحضرتها نبيهة سمعان، معبرة عن إعجابها بتجربة هذه الكاتبة وجرأتها. فضلاً عن حضور الشعر العامي والشعر الغنائي؛ الشعر الغنائي ممثلاً في قصيدة لعبد الغفور: الملاك الأسود (ص.135)، وفي أغاني الحاجة الحمداوية (ص.133-134). أما الشعر العامي فيتجلى في أبيات لعبد الرحمان المجذوب (ص.137)، ومع الحكايات الشعبية (ص.95).
الرسائل: يحضر فن الرسائل في الرواية من خلال الرسالة التي بعثها جورج والد ميشيل إلى توفيق الصادقي (ص.85-86-87-88)، وكذا الرسالة التي بعثها حفيظ إلى المؤتمر الرابع للحزب العتيد (ص.111-112-113).
– اللغة العامية:
تميزت الرواية بتنويع خطابها اللغوي بين اللغة العربية الفصيحة، وبين اللغة العامية؛ تحضر اللغة العامية للتعبير عن المستوى الثقافي للشخصيات أحياناً، كما نجد في كلام زوجة مدير شركة الإسمنت، التي تشكو خيانة زوجها، في الصالون الثقافي الذي كانت تقيمه نبيهة سمعان. كما يلجأ السارد إلى العامية بين الفينة والأخرى، واضعاً عباراتها بلون أسود مضغوط، حتى ولو تعلق الأمر بالشخصيات المتعلمة. وهذا ما يساهم في خلق تنوع لغوي داخل الرواية.
ذ. الخطاب الديني
يتجلى الخطاب الديني في الحديث عن مؤسسات دينية كالمساجد (جامع السنة، يوم الجمعة،…) والكنائس. وكذا الإشارة إلى الاتجاهات الأصولية ذات المرجعية الإسلامية.. فضلاً عن الإشارة إلى الاحتفالات الدينية التي تنظمها أم توفيق الصادقي، والمتمثلة في ليالي الذكر والأمداح (ص.36).
ه. الخطاب الفلسفي والفكري:
يتجلى الخطاب الفلسفي والفكري في الرواية من خلال محاورة أعمال الفيلسوف فرويد والكتاب الذي انتقدوه. ويحضر ذلك بشكل بارز في الفصل الخاص بنبيهة سمعان، الطبيبة في التحليل النفسي.
- التناص الداخلي:
تتناص أحداث الرواية داخلياً لتجعلها متداخلة ومتفاعلة ومتلاحمة فيما بينها. ويتمظهر هذا التفاعل في عدة مظاهر منها:
اعتماد تقنية الاسترجاع: حيث يقوم السارد باستدعاء أحداث سبق ذكرها فيما سبق، مما يوحي بترابط وتلاحم أحداث الرواية، ونجد ذلك مثلاً في استدعاء واستحضار فدوى لأحداث استضافة والدها لميشيل وعائلته، وهي في ضيافة الدكتورة نبيهة سمعان (ص.157). نفس الأمر نجده في حديث فالح الحمزاوي عن توفيق الصادقي مؤكداً أنه ينعت نفسه بالمخضرم، كما أنه تسلم المحاماة عن محام فرنسي…إلخ (ص. 109)
ويتخذ الاسترجاع ذروته في آخر الرواية من خلال قيام الراجي بالتعبير عن مواقفه تجاه شخصيات الرواية الرئيسة، واسترجاع علاقته برقية وصاحبة الصيدلية وسناء (ص. 212-214).
اعتماد تقنية الاستباق: أو استشراف الأحداث: فهو يشير إلى أحداث ترتبط بما سيأتي مثلاً، يقول: “أظن أنني سأتوقف عند هذا الحد من روي قصة توفيق الصادقي، مع أنني أعلم أن هناك تفاصيل أخرى لم أتطرق إليها. أتوقف مع احتمال أن أعود إليه من خلال ما التقطته في سهرات الدكتورة نبيهة سمعان حين كان الأستاذ يحضرها في فترات متباعدة..”(ص. 90). نشير إلى أن هذا الأمر يحضر في نهاية كل فصل، حيث أن الفصل يؤدي إلى الآخر ويشير إليه.
كما يتجلى التناص الداخلي من خلال ترابط وتفاعل شخصيات الرواية؛ فالشخصيات الرئيسة تحضر في فضاء وزمان واحد، من خلال الصالون الثقافي لنبيهة سمعان: “جلسة اللقاء الثاني حضرتها وجوه جديدة(…)من بينهم المحامي فالح الحمزاوي الذي كان من قادة الطلبة الجامعيين على أيامنا، وقد احضر معه توفيق الصادقي نقيب المحامين السابق، ومؤرخاً شاباً قدمه لي باسم الراجي“(ص.187-188).
III. مفهوم إعادة الكتابة:
1- مظاهر التداخل (التشابه)
ثمة أوجه تداخل وترابط وتشابه بين الروايتين، يمكن أن نجملها فيما يلي:
ا. الشكل
تتأسس الروايتان على مستوى الشكل على بناء مشابه؛
- ففي الرواية الأولى يتولى عملية السرد “السارد-المسرود له”، الذي قدمه الراوي لتقديم الشخصيات، معتبراً أنه عايش تلك الشخصيات وارتبط بها (نعيمة أيت لهنا، ولد هنية، الوارثي)، مما جعله يطلب منها أن تحكي له عن حياتها، قصد استثمارها في كتابة رواية وفي وصف شخصياته. الأمر نفسه نجده بالنسبة للرواية الثانية، حيث يتولى عملية الحكي الراوي (الراجي)، الذي يرغب في كتابة رواية، مستثمراً البحث الذي أنجزه بطلب من الرحماني.
- هناك تماثل بين طريقة الحكي في كلا الروايتين لكونهما معاً تلجآن إلى السرد المتزامن، يحكي عن شخصيات متداخلة ومترابطة في الزمن والمكان.
- ثمة تماثل بين الروايتين، على المستوى الشكلي، حيث أن كليهما انتهى بعمل أدبي؛ الرواية الأولى ختمت بسيناريو أعاد في المؤلف أهم الأحداث، أما الرواية الثانية فختمت بيوميات الدكتورة نبيهة سمعان.
– هناك ترابط بين الروايتين كذلك على مستوى الشخصيات: فقد ركزت كل رواية على ثلاث شخصيات رئيسة، مع حضور شخصيات أخرى تستدعيها تلك الشخصيات الرئيسة. ونحن نجد تشابهاً كبيراً بين تلك الشخصيات:
فشخصية نبيهة سمعان تقابلها نعيمة أيت لهنا، وكلاهما يمثل نموذجاً للمرأة المتعلمة الجريئة. كما أنهما معاً عاشتا علاقات مفتوحة ومتعددة، وتمثلان للجرأة والتحدي.
أما شخصية توفيق الصادقي، فتقابلها شخصية الوارثي، فهما يمثلان للإنسان المحافظ، الذي يرتبط بأسرته وعائلته، ويظل محافظاً على القيم الموروثة، رغم أن الوارثي، وهو المتشبع بالأفكار الدينية تخلى عن كثير من مبادئه وانغمس في المتع والملذات في المرحلة الأخيرة من عمره.
شخصية فالح الحمزاوي، تقابلها شخصية ولد هنية، وكلاهما يمثل نموذجاً للرجل الجريء، الذي يؤمن بالعلاقات المفتوحة، كما أنهما يتميزان بالتجرئ على بعض الظواهر غير السوية كالعلاقة خارج إطار الزواج بالنسبة لفالح، والعلاقة مع الألماني بالنسبة لولد هنية. رغم أن بينهما اختلافات كثيرة سواء في المستوى الفكري والتعليمي، ذلك أن فالح محام فيما أن ولد هنية يشتغل في أعمال حرة..
– هناك ترابط أيضا بين الروايتين على مستوى الزمن، حيث أن أحداث الروايتين ترتبط بتاريخ المغرب، خصوصاً فترة الاستعمار والاستقلال، ثم ما بعد الاستقلال وما رافقها من أحداث كالانقلابات وأزمنة الرصاص والمسيرة الخضراء وغير ذلك من الأحداث.
ب. الموضوع
ثمة تناص وتداخل بين الروايتين على مستوى الموضوعات، حيث نجد أن الروايتين تتحدثان عن موضوعات مرتبطة بتاريخ المغرب، كالاستعمار والاستقلال وسنوات الرصاص، فضلاً عن تناول موضوعات الجنس، والعلاقة بين المرأة والرجل، فأغلب شخوص الروايتين، هي شخوص تؤمن بالعلاقات المفتوحة بين الرجل والمرأة، ما تعرض لبعض العلاقات الشاذة، كالخيانة والشذوذ والاستغلال، وغير ذلك من الموضوعات. على العموم فإن موضوعات الروايتين متفاعلة بشكل بارز.
2- تجاوز وتخطي
رغم التفاعل والتناص بين الروايتين، إلا أنهما تختلفان في أشياء كثيرة. مما يجعل كل واحدة منهما قائمة بذاتها. فالسارد في الرواية الأولى عايش الشخصيات، لذلك فهو يحكي عن حياتها كما عاينها، فضلاً عن ذلك إن هذا السارد متعدد بين: الراوي، وبين السارد المسرد له (سميح). أما السارد في الرواية الثانية فاطلع على الأحداث من خلال العمل الميداني الذي كلفه به الرحماني. ولكن رغم ذلك أصبحت له معرفة تؤهله للتدخل وتعديل مجرى السرد والأحداث، كما نجد في قوله عن توفيق الصادقي: “لا، قد لا تكون الهواجس التي مرت في خاطر توفيقهي هذه التي افترضناها، فسحة التخيل أوسع من أن نحيط بها”(ص.32)، رغم أنه ادعى أنه سيلتزم الحياد في السرد (ص.76).
هناك مظهر آخر للتجاوز في الرواية الثانية وهو تخلي الكاتب عن تعدد الراوي، فاقتصر على راو واحد (الراجي) وزاوج بين صوته وبين صوت الشخصيات، أحياناً يحكي الراجي وأحياناً تحكي الشخصيات عن نفسها، وأحياناً أخرى تحكي الشخصيات عن الراجي. أما في الرواية الأولى فيتدخل الراوي، ويتدخل السارد المسرود له، ثم تتدخل الشخصيات لتعبر عن نفسها، في شكل حكاية: تحكي عن نفسها، والسارد المسرود له يسجل كلامها بألة التسجيل ثم يقوم بتحويله إلى رواية.
على سبيل الختم:
حاولنا أن نبرز أوجه التناص في رواية بعيداً من الضوضاء قريباً من السكات، كما بينها مظاهر تداخلها مع رواية حيوات متجاورة، ويمكن أن نجمل أهم الخلاصات المتوصل إليها فيما يلي:
- لقد نسجت الرواية وحبكت بدقة متناهية وببراعة لا تخطئها العين؛ ذلك أن توظيف الكاتب للنصوص الأخرى ومحاورتها لم تكن بشكل تجميعي، وإنما كان السارد يقدم الأحداث المتعلقة بتاريخ المغرب من خلال أفعال الشخصيات وتصرفاتها، لذلك فإنه يحاول تحويلها عن سياقاتها الواقعية ليجعل منها أحداثاً متخيلة، تتجاوز تقديم الواقع ووصفه إلى مساءلته وتأمله ومحاولة تقديم رؤى جديدة، تتمثل في مواقف وتصورات الشخصيات وقراءاتها للأحداث.
- إن التداخل بين الراويتين وإعادة الكتابة ببينهما لا يعني أن إحداهما تعوض الأخرى، وإنما يمكن القول إن الروايتين متكاملتان، تحققان تراكماً يجعل من شخصياتهما رغم التشابه بينها تخلق عالماً متكاملاً يمزج بين الواقع والخيال، ويكشف عن تنوع الواقع وتشابه وقائعه وشخوصه.
- يمكن اعتبار الروايتين تساهمان في تحقيق مشروع متماسك، يسعى إلى نفض الغبار عن تاريخ المغرب وكشف أحداثه ومساءلتها في قالب روائي يغلب عليه التخييل، ويقدم رؤية جديدة للواقع، بقالب جمالي وبحبكة تغري على المتابعة.
- إن ارتباط الروايتين بالواقع، من خلال معالجة قضايا راهنة كالربيع العربي، يشي بمحاولة المبدع المساهمة، إبداعاً في تأمل ومساءلة ما وقع، وتقديم تصورات جريئة عنه.
- تتميز لغة المؤلف بكونها لغةً ناقدة، وتعتمد الإيحاء؛ فنحن نجد بعض العبارات دالة بصيغة كتابتها، كما هو الشأن مع “الحزب العتيد”، الذي يتحول إلى (الحزب “العتيد”)، بعدما فقد بريقه وهيبته. وهذا الأمر نجده في انتقاد الزعامات السياسية كذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
*- محمد برادة، حيوات متجاورة، نشر الفنك، 2009.
1- 1نهلة فيصل، التفاعل النصي، التناصية، النظرية والمنهج، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط. 1، 2010، ص.95.
2-Anne-Claire Gignoux, « De l’intertextualité à l’écriture », Cahiers de Narratologie [En ligne], 13 | 2006, mis en ligne le 01 septembre 2006, consulté le 18 mars 2014. URL : http://narratologie.revues.org/329, paragraphe 2.
3- محمد مفتاح، المفاهيم معالم، نحو تأويل واقعي، المركز الثقافي العربي، ط.2، 2010، ص. 41.
4- . جراهام آلان، نظرية التناص، ترجمة باسل المسالمة، ط. 1، 2011، دار التكوين للتأليف والنشر، دمشق، ص. 7، (مقدمة المترجم
5- Anne-Claire Gignoux, « De l’intertextualité à l’écriture », Vahiers de Narratologie (en ligne), 13 / 2016, mis en ligne le 01 septembre 2006, consulté le 18 mars 2014. URL; http ;//narratologie.revues.org/329,paragraphe 2.
6- جراهام آلان، مرجع سابق، ص. 235.
7- محمد مفتاح، المفاهيم معالم، نحو تأويل واقعي، المركز الثقافي العربي، ط.2، 2010، ص. 41.
8- جراهام آلان، نظرية التناص، ترجمة باسل المسالمة، ط. 1، 2011، دار التكوين للتأليف والنشر، دمشق، ص. 7، (مقدمة المترجم).
9- سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي، النص والسياق،2006، ط.3، ص. 93.
10- محمد بنيس، “حياة في القصيدة”، الأعمال الشعرية، ج.1، دار توبقال للنشر والتوزيع، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط.1، 2002، ص. 18.
11- يرتبط مفهوم إعادة الكتابة بالتناص، لكون أي نص يحاور نصوصاً أخرى سواءً كانت للكاتب نفسه أو لغيره. ينظر مثلاً:
Poirion Daniel. Ecriture et ré-écriture au Moyen Age. In: Littérature, n°41, 1981. Intertextualité et roman en France, au Moyen Age. pp. 109-118.