– عبد الرحيم لحبيبي، تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2013.
منذ ظهور الرواية، باعتبارها جنساً أدبياً غير مكتمل، وهي تسعى جاهدة إلى تنويع الوسائل الفنية لتمنح لتخييلها جاذبية مستمرة، وهو ما يسمح لها بالانفتاح على الكثير من الحقول المعرفية والأدبية والفنية. ومنذ ظهورها أيضاً لم تكن مجرد خَيالِ، وإنما حاولت دائماً ألا تُبقي على الفواصل بينها وبين التاريخ، نظراً لكونها تعيد الاعتبار للمسكوت عنه في الحيوات الفردية والجماعية، وذلك بترميم ثغرات وفجوات التاريخ. ومكنها الانفتاح على التاريخ من النظر إلى نفسها على أنها ذات أهمية “معرفية وتوثيقية” نقدية مسائلة تدفعنا إلى إعادة النظر في معرفتنا بماضينا، كما تساعدنا على توسيع دائرة الوعيبحاضريةالتاريخ. وذلك عندما يسمح السرد الروائي بالكشف عما لم يتحدّث عنه السرد التاريخي وفق الإمكانات التي تتيحها حرية التخييل الروائي،الذي يسعى إلى الاقتراب من الحقيقة في تعقيداتها وتعرجاتها(1) وتقديم وجهة نظر نسبية حول الواقع المعاش في الماضي.
استثمرت الرواية العربية منذ نشأتها التاريخ بطرق مختلفة ومتفاوتة، من فترة لأخرى ومن جيل لآخر بل ومن روائي لآخر، وذلك وفق رؤى خاصة بما يتناسب وروح العمل الروائي وتصوّره والإشكالات والقضايا التي يطرحها والقيم والمواقف التي سيسائلها. وهو ما يؤكد أن علاقة الروائي بمعطياته ومنابعه السردية تقوم على حرية أكبر(2). ورواية تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية(3) واحدة من الروايات العربية المعاصرة التي جعلت من التاريخ عنصراً مؤسساً لعالمها الروائي،انطلاقاً من أن غاية الرواية هي الفهم الجيد للعالم ولوجود أبطالها الإشكاليين وعلاقتهم المتوترة مع عوالمهم. كما اختار الكاتب الرحلة قالباً لروايته، نظراً لكون الرحلة تجسد اللقاء مع الآخر، كما أنها تعبير عن التصادم بين ما كان يحمله الرحالة من أفكار وتصورات وأحلام قبل خوضه غمار رحلته، وبين ما وجده على أرض الواقع ولدى الآخر أثناء فعل الرحلة، ولأن الرحلة دعوة للتأمل التاريخي لتأسيس أحكام مبنية على المشاهدة والمعايشة وعبر لقاء الآخر. كل ذلك حقق في رواية تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية تداخلاً وتفاعلاً بين الرواية والتاريخ والرحلة.
نحاول في هذه الورقة إبراز دوافع التحول نحو الرواية التاريخية ودور التاريخ في توسيع الآفاق الجمالية للرواية وتوسيع دائرة التلقي، وكيف تدفع الرواية الوقائع والأحداث والوثائق التاريخية لتكشف أكثر عما هو مجهول في الوثائق وفي الأحداث التاريخية، وذلك وفق صوغ حكائي يسمح بالتخييل لينفتح أكثر على العوالم الإنسانية الدفينة. وقداضطلع حضور التاريخ بعدة أدوار في رواية تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية.
ما ينبغي التنويه به هو أن رواية الحبيبي لا تجعل من التاريخ تخييلاً، وبالتالي لا يمكن أن ندرجها في خانة التخييل التاريخي أو الرواية التاريخية التي تقوم بتحبيك أحداث زمنية سابقة بنفس تخييلي روائي. ذلك أن أحداث الرواية لا تعود إلى معطيات أنطولوجية مستقلة وسابقة زمنياً(4)، وإنما تستثمر التاريخ بجعله إطاراً لأحداثها وخلفية تجري فيها أحداث الرواية، من خلاله يتفاعل الموضوعي بالذاتي، عبر تأطيره لوضع السارد البطل في الرحلة عبر التاريخ. ذلك أنه لا يسرد لنا أحداثاً تاريخية، وإنما يقدمها كإطار وسياق تجري فيه أحداث رحلة العبدي بطل الرواية. يقول مثلاً، محدداً سياق خروجه من بلاد المغرب: “يكون خروجي مقروناً بسقوط تطاون في يد الإسبان الذين لم يغمدوا سيفاً ولم يسكتوا مدفعاً منذ سقوط غرناطة وطرد المسلمين من الأندلس.”(الرواية، ص.35.) فكان خروجه مقروناً بهزيمة الأنا أمام الآخر الغربي واجتياح هذا الأخير لأراضيه وبداية حركة الاستعمار. وهنا يصرح الكاتب بالأحداث والشخصيات والسنوات لإضاءة ظروف خروجه التي كانت دافعاً من دوافع خوض رحلته.
كماتُعيد رواية تغريبة العبدي تصوّر التاريخ بطريقة روائية تخييليّة لا تسْتعيد أحداث التاريخ وشخصياته، كما عودتنا الرواية التاريخية، وإنما تقوم بتشخيص التاريخ من خلال حُبكات روائية ليست محاكاة للتاريخ أو تحبيكاً له، وإنما هي تجسيد للتاريخ بلغة إيحائية روائية، تبتعد عن الحس المباشر كنوع من المراوغة السردية وتنأى بنفسها عن الرواية التاريخية لتدخل رحابة السرد الروائي الذي يوظف كل المعارف، ويجعل من أحداث التاريخ موضوعات للتأمل، ويدفعنا إلى “معرفة الماضي” ولحظاته أساساً، أي الوعي بالتاريخ، ولكن عبر التخييل، بتصوير المآل الذي وصل إليه وضعنا التاريخي في واحدة من لحظاته الحرجة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما بعده. ومن ذلك يمكن أن نشير إلى العناصر التالية:
– العثور على المخطوط: وجد السارد المحقق مخطوط رحلة العبدي مهملاً في سوق الخردوات على الرغم من أهميته والذي يؤكد إهمالنا للمعرفة في راهننا؛
– مرض العبدي أثناء مغامراته في إفريقيا: وحمله من قِبل الطبيب النصراني يوحي بأن العالم العربي والإسلامي صار مريضاً ويحتاج إلى من يعالجه، ولا علاج له إلا بالأخذ عن الغرب وقبول تدخله؛
– وعي المصريين بالشرخ الحضاري بين النحن والآخر الغربي، ووعيهم من خلال حوارهم مع العبدي بمسببات فشل الحضارة العربية وضرورة الأخذ عن الآخر والاتصال به،
– الرغبة المتأخرة في السفر إلى الشمال: في نهاية الرحلة تراود العبدي الرغبة في الرحلة إلى الشمال، وهي تعبير عن نوع من الندم من أنه كان من الأولى له الرحلة إلى الشمال، بدل رحلته الطويلة غير المجدية نحو الشرق. وفي ذلك إشارة تؤكد أن وعينا يظل دائماً متأخراً ولا يستثمر اللحظات التاريخية في حينها ولا يحسن التقاطها، فكم من الفرص التي فوتها وخصوصاً بالمغرب.
ويضطلع التاريخ بعدة أدوار أخرى في رواية تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، منها:
– تحويل أحداث التاريخ إلى وسيلة لتحليل وتفسير المآل، وإعطاء الرحلة سنداً موضوعياً يمنحها واقعيتها. وهو ما يجعل التاريخ يقوم بمهمة التصديق والإيهام بواقعية أحداث الرواية؛
– استعادة الأحداث لإبراز المفارقة بين الماضي والحاضر: “وكنت أسمعه يحكي لي عن مقالب التجار ومناوراتهم وحيلهم الشيطانية لتجنب الخسارة والحصول على المكسب الفاحش كمن يحكي عن بدر وأحد والقادسية واليرموك، فتوحات المال والذهب والحرير، ولا يذكر، بل يستعيذ بالله من معارك العقاب وإيسلي وتطاون، حينما ذكرته بذلك، تحاشى سماعه.” (الرواية، ص. 58-59)
– الإقرار بالخيبة والدعوة إلى التجرد من الأوهام: كما يقول تودوروف: “كما أن الترحال وتغيير الأمكنة والقدرة على النظر إلى الذات عبر الآخر بدل الذات، تسمح بالتجرد من الوهم.”(5) وما قيمة الرواية إن لم تجرؤ على زحزحة اليقينيات المزعومة ومساءلتها بهدف تجديد المعرفة بها.(6) إذ تعبّر الرواية عن فشل المشروع التأصيلي الذي يُريد التحصّن أمام قوة الغرب، بل هي إعلان عن انتهاء دور الفقيه وعجزه عن مسايرة التحولات التي تجري من حوله. وقد عبّر عن الخيبة قائلاً: “فما حصلت عليه حتى هذه الساعة لا يعدو أن يكون سرابا وعدماً […] خرجت من المسجد تائهاً حائراً شاردا، إن لم تكن الحقيقة في هذا المكان فأين تكون؟” (الرواية، ص. 199) بعد أن وجد حال الشرق مثل حال المغرب: “لم يكن حال أهل المشرق أحسن من حالنا في المغرب، لم يكونوا في مأمن مما أصابنا.” (الرواية، ص. 201) فما هرب منه وجده بالمشرق، وهو تهديد الاستعمار الغربي ومحاصرته للعالم العربي. فقد وجد التكرار وغياب التجديد: “جلست أمام العلماء والفقهاء والمحدثين والمشايخ فما رأيت ولا سمعت منهم إلا كلاماً معاداً ومكروراً.” (الرواية، ص. 205) كما وجد المشرق قد أقفر: “ما لي مقام في هذه الديار، فقد أقفرت بعد خصب، ونضبت بعد ارتواء وبادت بعد عمران.” (الرواية، ص. 206) “ظننت أنني سأعود من الشرق بقبس من نور يضيء الطريق ويطرد الظلمة، فإذا هي شمعة كلما هبت عليها نسمة هواء انطفأت. التجدد سمة الوجود […] ما جرى مع عبد الله بن ياسين ومع ابن تومرت لن يتكرر معي ثانية ولا مع غيري.” (الرواية، ص. 237) واعياً بأن التاريخ لن يعيد نفسه.
– ضرورة التفاعل مع الآخر: تخلق الرواية خرقاً، من خلال عنوانها، فهي تغريبة، ليس بمعنى الذهاب إلى الغرب، وإنما هي تغريبة بمعنى التغرّب،لأننا حين ننطلق إلى الهناك نخضع لتغرّب ونقبل ببداهة الاختلاف ونفقد مؤقتاً موجّهاتنا(7). بالمعنى الإشكالي للبطل الروائي، وأيضاً من التغرّب، أي التوجه غرباً، والذي كان ضرورة تاريخية وحضارية وظل حلماً بالنسبة للسارد وبعد فوات الأوان. يقول: “لو شفيت مما بي واستعدت صحتي، ولو نصفها، لرحلت إلى بلاد الشمال، لن أعود إلى المغرب قبل أن أرى بلاد الأندلس وما خلّفته ثمانية قرون من حكم المسلمين، وقد ينطق الحجر بالحقيقة. ربما يكون المنطق معكوساً، فلكي أعرف الشرق علي أن أعرف الغرب، وقد تكون أوربا مفتاح فهم ومعرفة ما نحن عليه من تأخر وتدهور، وما أصابنا من تحلل وانحلال، ألا تريك المرآة وجهك، وسيماً كان أم قبيحاً؟ هل يستطيع وجهك أن يريك نفسه دون مرآة؟ فلتكن المرآة آخر كشاف لعيوبنا وأخطائنا علّنا نجد الطريق الصحيح” (الرواية، ص. 252). وعلى الرغم من أن الرحلة تمت إلى الشرق فإن الآخر الغربي ظل حاضراً فيها بشكل غير مباشر، إذ يعي الرحالة بأن مكانة المسلمين قد تغيرت أمام الآخر، ويعي تمام الوعي بصعوبة التكيف مع مجريات الأحداث التي لم تكن تسير لصالح العرب والمسلمين، وإنما صارت بيد خصمهم المسيحي(8). وتدعو الرواية إلى التفاعل مع الغرب كما حدث لنا في الماضي مع الفرس واليونان. وهنا يقوم دور التاريخ بدور المحاجة والإقناع. ويعترف البطل بالضعف أمام الآخر في إشارة تاريخية مقارنة واضحة، وذلك بالقول “هذا البحر الذي يفصلنا عن بلاد النصارى ولا يمنعهم من الوصول إلينا متى شاؤوا بسبب ضعفنا وتخاذلنا وتفرقنا شعوباً وقبائل، ووراء هذا البحر كذلك علوم وفنون وصنائع ما أحوجنا إليها لو أحسنا تعلّمها وإتقانها كما فعل أجدادنا مع الفرس والهند واليونان” (الرواية، ص. 32). كما أن لقاءه مع الآخر النصراني بطريقة مباشرة متمثلاً في الطبيب يدفعه إلى وضع اليد على الداء الذي تعاني منه الذات والتي بقيت لمدة طويلة حبيسة ثنائية التحليل والتحريم، فيقول “اتخمنا عقولنا بما يحل وما يحرم، ونسينا فقه الضرورة والمصالح المرسلة والمصلحة الوقتية، ناهيك عن حفظ الصحة وقوام الأبدان، فقد ضاع منا ونسينا حتى تراث الطب العربي الإسلامي.” (الرواية، ص. 121) كما يعبر عن حرصه على التعلم من الآخر ونقد الذات: “ضاع كما ضاعت المروءة والشجاعة والعزة والأنفة، ولم يبق إلا القمل والقحط والجراد.” (الرواية، ص. 122)
– إرادة المعرفة: من المميزات الكبرى للرحلة قدرتها على استقبال تعدد في الأجناس والأنماط الخطابية دون الانشغال بانسجامها. كما أنها تمس مفاهيم جغرافية وتاريخية وسوسيلوجية وأدبية واثنوغرافية باستثمار مجموعة من المراجع والمصادر التراثية في معارف شتى يحيل عليها بشكل مباشر، مما يجعل هم المعرفة حاضراً بقوة في الرواية. فبالرغم من هويتها التخييلية تحاول الرواية جاهدة تقديم معرفة تخييلية، وتجلى ذلك في تسلح الروائي عبد الرحيم لحبيبي بمعارف كثيرة لكتابة روايته، كالشعر والتاريخ والجغرافيا والسحر والأعشاب والفقه… لتقترح الرواية “معرفة” تسمح لنا بفهم العالم ومحاولة إثارة إشكالات إنسانية والسعي إلى حلها، باعتبار السرد الروائي تأملاً في التجربة الزمنية ومحاولة كشف أسرارها، ولأن الرحلة نوع من التجرد من معارف والامتلاء بأخرى جديدة(9). كما أن الإكراه الثقافي للاستكشاف يستمد مشروعيته الطبيعية من الخروج من الذات.(10) فالرحالة يسعى إلى الانفصال عن ما هو مألوف ومعروف ويسعى إلى الكشف عن حدوده في ظروف غير معروفة.(11)
اختار الروائي عبد الرحيم لحبيبي الرحلة قالباً لأحداث رواية، لأن السفر يمكن من الربط بين الفانتازيا والمعرفة، ولأن الرحلة خروج من الذات للقاء الآخر من أجل لقاء الذات. وتغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية هي رحلة من أجل معرفة الأنا. يقول: “خرجت لأجد نفسي، ولن أجدها إلا بالبحث عنها، أين ومتى؟ هذا ما لا أعلمه.” (الرواية، ص. 60). وعلى خلاف الرحلات الحجازية في القرن التاسع عشر التي كانت مغرقة في فقه المناسك بشكل مكرور يعتمد أساساً على النقل، كانت الرحلة مناسبة لنقد حال الأمة وتشخيص أسباب هزيمتها. يقول: “ليذكرني بما آلت إليه الأمة من ضعف ووهن حتى طمع فيها الأجناس من كل صوب وحدب، وإننا ولا ريب مقبلون على زمن أغبر تُداس فيه كرامتنا ويمتهن كبيرنا قبل صغيرَنا، وإن غزو الجزائر واحتلالها وحرب تطاون واستيطانها وهزيمة إيسلي ومرارتها…” (الرواية، ص. 66). كما يبرز أسباب هزيمتها حيث يقول “لقد تكالبت علينا الأجناس وطمع فينا الطامعون، واكتفى فقهاؤنا بالتحريم والترخيص والرد، بعضاً على بعض،[…] ومنع درس العلوم العقلية والخيمياء والطبابة الأورباوية وفتحت الأبواب وشرعت على وسعها للشعوذة والدجل والموبقات.” (الرواية، ص. 66). وتعتبر الرواية مناسبة لنقد الخطاب الفقهي في نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث جاء فيها عن الفقهاء “ولكنهم أفتوا بتحريم كل جديد بديع كالبارود والطبنجية والصابون والشمع والخياطة والمطبعة…” (الرواية، ص. 68)، كما جاء عن موقفهم السلبي من الأمور الحديثة القول “إن كثرة التحريم طريق للخمول والجمود والتقاعس، فكل أمر عجزنا عن مجابهته وتحديه أو لم نقدر عليه حرمناه ومنعنا الناس عنه…” (الرواية، ص. 68). وهكذا تدعو الرواية بطريقة غير مباشرة إلى تجديد الخطاب الفقهي وتشخيص عيوب الأمة ونقد الفكر الإصلاحي النكوصي، مؤكدة على أن الأخذ عن الآخر أصبح ضرورة حضارية.
لم يكن دافع الرحلة هو الحج كما في الرحلات الحجازية، وإنما كان الهدف البحث عن أساس ديني جديد ينطلق منه، كما يوضح بطلها بالقول “إني خرجت من بلادي باحثاً عن النبتة الأولى التي نمت منها أمة الإسلام وترعرعت حتى تفرقت في أقاصي الدنيا فملكت أرض فارس والروم وبلاد آسيا وإفريقيا وأقطار من البلاد الأورباوية…” (الرواية، ص. 155). ويزيد بطل الرواية/الرحلة أن من غايات ترحاله البحث عن أساس غيبي يساعد على النهوض باتباع طريق الأوائل لأنه لم يجد ذلك في بلده.
تُعزّز الرحلة الدلالات التي أفرزها حضور التاريخ مشخصة هزيمة الأنا أمام الآخر، إذ إنه في رحلة الذهاب أدار ظهره للآخر ولقوته وسار عبر الصحراء. لكنه في رحلة العودة خضع للآخر، عائداً عبر السفينة، معبّراً عن فشل طموحه الطوباوي وإقراره بالهزيمة أمام الآخر والخضوع له. ففي رحلة الذهاب كان شاباً مفعماً بالحيوية، باحثاً عن الذات واستنهاضها، مفعماً بآمال وأحلام لم تتحقق، بل وكللت بالفشل. وفي رحلة الإياب عاد شيخاً عاجزاً مريضاً خائباً. يقول السارد المحقق “رحلته في الأقطار وتجواله بين الأقطار وأحلامه التي لم تتحقق.” (الرواية، ص. 14) مقراً بتفوق الآخر.
وكما أن صاحب الرحلة غير معروف نكرة لم يذكر له اسم، تشير المصادر إلى أن وجودنا الحضاري أصبح بدوره نكرة أمام المنجز الغربي، لتكون الرحلة اعترافاً تخييلياً بالهزيمة أمام الآخر، وتعبيراً عن فشل المشروع الإصلاحي، بمعنى أن حضارتنا صارت تعدم الأبطال الذين يصنعون التاريخ. هذا بالإضافة إلى تلميح الرواية إلى الكثير من الأسئلة المضمرة من قبيل: لماذا قام البطل بالرحلة إلى الشرق عبر الصحراء؟ لماذا أدار ظهره إلى أوربا؟ لماذا لم يتوجه إلى أوربا لفهم الآخر عن كثب؟ ألم تكن الرحلات المغربية إلى أوربا اضطرارية وغير اختيارية مع استثناءات قليلة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- محمد برادة، الرواية ذاكرة مفتوحة، آفاق للنشر للتوزيع والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2008، ص. 8.
2- Dorrit Cohn, Le propre de la fiction, Tr. Claude Harry-Scheffer, Ed. Seuil, 2001, p. 176.
3- عبد الرحيم لحبيبي، تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2013.
4 -D. Cohn, Op. cit., p. 175.
5- تودوروف، تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية، ترجمة محمد الجرطي، كتاب الدوحة، العدد 38، مع العدد 82، مجلة الدوحة أغسطس، 2014، قطر، ص. 145.
6-ميلود العثماني، “الهوية السردية بين التاريخ والمكان”، ضمن كتاب أبحاث في الرواية العربية، كتاب جماعي، تنسيق شعيب حليفي وعبد الفتاح الحجمري، منشورات مختبر السرديات، كلية الآداب بنمسيك، الدار البيضاء، ص. 239.
7- Tania Selena Jiménez, p.8. la rencontre de l’autre en voyage, mémoire présenté comme exigence partielle de la maitrise en communication, Université du Québec Montréal, avril, 2010, p.8.
8- برنار لويس، اكتشاف المسلمين لأوربا، ترجمة وتعليق وتقديم ماهر عبد القادر محمد، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 1996، ص. 46.
9- Tania Selena Jiménez, Op. cit., p. 21.
10- Marie Renier, «le récit au service du vécu ou de l’imaginaire? Premiers voyageurs en nouvelle France», in Ethnologies, vol. 29, n°. 1-2, 2007, p. 241.
11- Jiménez, Op. cité, p. 23.