السبت , 9 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » قضايا النقد الأدبي العربي خلال القرن العشرين

قضايا النقد الأدبي العربي خلال القرن العشرين

*محمود ميري، أسئلة النقد الأدي العربي خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين – الفضاء الثقافي، منشورات دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى، 2015.

 

Kiraat_0416_03تظل مقاربة النقد العربي من الأمور التي شغلت بال الباحثين طيلة عقود من الزمن، خاصة وأن مسألة التقعيد والتنظير تأخذان اتجاهات مختلفة حينما تتعلقان بتجربة عامة تمتد لفترات طويلة من الزمن.

في هذا الاطار صدر أخيرا للمرحوم الدكتور “محمود ميري” أستاذ النقد الحديث بجامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، كتاب جديد بعنوان: “أسئلة النقد الأدبي العربي الحديث خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين – الفضاء الثقافي والبناء المنهجي” عن دار الأمان، بدعم من وزارة الث

جاء كتاب “أسئلة النقد الأدبي العربي الحديث” في طبعة أنيقة، تضم 278 صفحة من الحجم المتوسط. يتقدمها إهداء بقلم المؤلف إلى الأهل ومجموعة من الأصدقاء.

وقد قسّمه صاحبه إلى خمسة فصول، هي:

  • الفصل الأول: النقد العربي وتجليت الحداثة.
  • الفصل الثاني: بوادر التأثير الغربي في النقد العربي.
  • الفصل الثالث: طموح النقد الأدبي العربي وإكراهات الثقافة.
  • الفصل الرابع: عقد السبعينات والثمانينات من القرن العشرين ومؤشرات التحول النقدي.
  • الفصل الخامس: النقد العربي والفضاء الثقافي.

تصدّر هذه الفصول مقدمة، وضّح فيها الناقد أطروحته، وصاغ ضمنها إشكاله العام. كما ختم الكتاب بخاتمة تضمنت خلاصات لما تم طرحه للمناقشة في المؤلَّف.

يدخل هذا الكتاب ضمن خانة الكتب النقدية التي تتخذ من مقاربة النقد الأدبي العربي الحديث موضوعا لها، متتبعا تحولاته ضمن صيرورة تتداخل فيها جل مكونات الحركة الأدبية والنقدية بالمشرق والمغرب. غير إن ما يطبع هذا الكتاب هو تميزه بخصيصة تحديد الفترة التاريخية التي يدرسها وهي فترة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، فالحيز المكاني واسع وممتد في جغرافيات الوطن العربي، بينما الفترة الزمنية قصيرة وضيقة لا تتجاوز العشرين سنة، تتداخل ضمنها أشكال وتلوينات متعددة من النظريات، والباحثين، والنقاد الذين أثّثوا فضاء العمل النقدي بشتى المناهج. وهو ما يجعل عملية المقاربة هذه تحمل من الصعوبة والمخاطرة الشيء الكثير.

سوف ننطلق في قراءة هذا الكتاب من مناص العنوان الذي وُسم به، وهو من العناوين الموضوعاتية الطويلة التي تتضمن فكرة عامة عن المؤلَّف، تمكننا من طرح مجموعة من الفرضيات ما قبل القراءة.

وعليه فإن التساؤلات التي يمكن طرحها حول هذه المضامين من خلال تفكيك العنوان سوف تتشكل كالآتي:

ï أسئلة النقد الأدبي الحديث:

حينما نتحدث عن النقد، فلا بد أننا أمام زخم فكري، أدبي وثقافي، متعدد الأوجه والاتجاهات. وبما أن الأسئلة المطروحة – هي- حول النقد، فغالبا ما تكون أسئلةً ثقافية. وما دام الأمر يتعلق بالأدب العربي الحديث، فالمقصود هو أن الكتاب يرصد مجموعة من التحولات التي شهدتها الساحة النقدية- الثقافية العربية، والوقوف عند المحطات الأساسية التي اجتازها العمل النقدي العربي.

ï خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين:

إن حصر المسافة الزمنية وتحديدها في مدة لا تتجاوز عشرين سنة، يحمل من الجرأة والمخاطرة الشيء الكثير.

ï الفضاء الثقافي والبناء المنهجي:

إنها رحلة تميزت بضراوة صراعاتها الثقافية المتأججة، بين القديم والجديد، بين العريق والوافد، بين الأصيل والدخيل، بين ما تشهده  الساحة الثقافية العربية، وبين البحث الدائم والمتواصل من أجل بناء خصوصية منهجية عربية تستقي أدواتها الاجرائية من صلب التجربة النقدية نفسها.

هذه، إذاً، هي المحاور التي تشكل منها موضوع الكتاب، فهو يرصد التجليات الكبرى للعملية النقدية العربية خلال العقدين السابع والثامن من القرن الماضي.

– مضامين الكتاب:

إن مُساءلة النقد العربي، تنطلق من كونه –النقد- عرف منذ بداية القرن العشرين تحولات عميقة مسّت جميع بنياته، ووظائفه، وطرائق اشتغاله، ضمن نسق ثقافي متشعب. لذلك كان لابد للباحث -محمود ميري- من الرجوع إلى الأصول الأولى التي مهدت لقيام حركة نقدية واضحة المعالم والتوجهات في ظل موجة الحداثة العربية منذ عشرينيات القرن الماضي. وهذا ما جعله يقسم الكتاب إلى خمسة فصول، خصص كلَّ واحد منها لجانب من جوانب الصيرورة النقدية العربية، بدءا بالمؤسسين الأوائل، وصولا إلى الحديث عن تبلوُر نظرية نقدية عربية حديثة.

يتوزع الفصل الأول الذي يحمل عنوان النقد العربي وتجليات الحداثة إلى أربعة محاور، هي: أسئلة النقد، أسئلة الثقافة. المؤسسون الأوائل. أسئلة النقد العربي الكلاسيكي. الولوج إلى فضاء المثاقفة.

وقد حاول فيه محمود ميري البحث في العلاقة القائمة بين أسئلة الثقافة وأسئلة النقد الأدبي، وهي أسئلة ارتبطت بموجة الحداثة العربية التي اصطلح عليها تسمية “المدرسة الجديدة“، وهي حركة ظلت مرتبطة بالموروث الثقافي، تستوحي منه مرجعيتها، رغم بوادر التجديد التي طبعت بعضا من أعمال هذا الجيل حيث يتعلق الأمر “بالمجتمع العربي الذي يندرج في إطار ما يسمى بالمجتمعات التقليدية والمحافظة، فقد كان يعاني من نقص واضح على مستوى الموارد الذاتية في مجال إنتاج الأفكار والمناهج والمفاهيم، من أجل الدفاع عن نفسه إزاء التحديات التي يفرضها الآخر في زمن المثاقفة اللامتكافئة التي لن تكون في العمق سوى ثقافة المهيمن والغالب.“(أسئلة النقد، ص. 25.26)

في هذه المرحلة بدأ النقد يتخلى عن دوره كناطق باسم الجماعة، وبات يؤسس لوعي جديد في مجال النقد هو النزعة الفردية التي صبغت إنتاجات مجموعة من نقاد تلك المرحة أمثال: شاكر الكرمي، قصطاكي الحمصي، رئيف خوري، وعمر فاخوري… وغيرهم. لكن وحسب محمود ميري: “فإن الحقل الثقافي، والذهنية الموروثة، هما المجالان الأكثر قدرة على مقاومة التغيير، وفي هذه الحالة فإن التحول الذي يمكن أن تعرفه الأشكال، لا يمكن أن يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن التغيير سيكتسح الجوهر.” (ص. 44)

في الفصل الثاني من الكتاب يتوقف محمود ميري عند بوادر التأثير الغربي في النقد العربي. حيث تناول في المحاور السبعة التي اشتغل ضمنها هذا الفصل، الصراع والسجال الذي طغى على النقد من أجل إثبات التميز بين دائرة من المثقفين، حيث واجه العديد من الباحثين عراقيل جمة ناتجة عن الموروث الثقافي، فراح كل واحد يحاول رسم مسلك خاص يقدم من خلاله البديل النقدي لأدب تلك المرحلة، ومن هؤلاء وجدنا عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان جزءا من الصراع الدائر في حلبة النقد الأدبي، وهو صراع أملته طبيعة التوجهات الثقافية والأيديولوجية بصدد الموقف من اللغة من ناحية، ومن الصراع بين القديم والجديد من ناحية أخرى. حيث أصبح السؤال المحوري في هذه المرحلة، هو: أي النماذج أنسب لأن يكون المَثَل الأعلى؟ هل هو القديم الموروث؟ أم المشرقي الحديث؟ أم المنقول عن الغرب عبر المثاقفة والترجمة؟

لقد توقف محمود ميري للإجابة عن هده الأسئلة عند إسهامات عدد من النقاد في إغناء الحقل النقدي عبر الوقوف عند إنجازات كلٍّ من طه حسين، وجهود مدرسة الديوان (عباس محمود العقاد، عبد الرحمان شكري، وعبد القادر المازني)، وصولا إلى محمد مندور الذي تملكه الهاجس المنهجي حسب الناقد، ثم نشأة النقد اليساري، فالواقعية ، والواقعية الجديدة…

إن هذه المرحلة، وما شهدته من تحولات على جميع المستويات (السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية…) جعل منها بداية حقيقية لطرح أسئلة جوهرية حول النقد الأدبي العربي، رغم ما شابها من ميل إلى الارتباط بالموروث. يقول محمود ميري عن هذه المرحلة: ” ومما لا شك فيه أن هذه المرحلة الانتقالية قد عانت الكثير من المعوقات، والإكراهات التي لا يمكن أن تسلم منها أية مرحلة انتقالية، كيفما كان الحقل الذي نتحدث فيه.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إرادة التحديث التي عبر عنها الكثيرون في المجال النقدي، كما هو الشأن في مجال الإبداع عموما، ليست كافية وحدها، خصوصا وأنها ستفرز لنا كثيرا من أشكال التجريب، قليلها ممتنع وكثيرها رديء. وستضعنا أمام صعوبة التمييز بين ما هو نقد، وبين ما يشتبه بالنقد…” (ص. 93-94)

حمل الفصل الثالث عنوان: طموح النقد الأدبي وإكراهات الثقافة. وقد تضمن خمسة محاور، هي: سلطة القديم وجاذبية الحديث. تجليات الحداثة في الحقل النقدي العربي الحديث. النقد المعارض ونزعة المحافظة. طموح النقد وحدود اللغة. حداثة النقد وقدم الثقافة.

تشكل المضامين في هذه المحاور امتدادا للكرونولوجيا التي سطرها محمود ميري في رصد التحولات الكبرى للعملية النقدية في العالم العربي خلال القرن الماضي، حيث ظلت الرغبة في التحديث جامحة. وقد عكس هذا التوجه جملة من النقاد الذين اصطدموا مرة أخرى بسلطة الموروث “فرغم بعض الانحرافات التي أتاها بعض المبدعين في الحقلين الأدبي والنقدي. تحت تأثير الموهبة الفردية الخلاقة، فإن الأعراف الموروثة سرعان ما تعيد تصحيح الأمور وذلك بإرجاعها إلى النسق الثقافي السائد.” (ص. 96)

ورغم ذلك فقد استمرت أسئلة النقد في فرض ذاتها، حيث تسلح النقد في هذه المرحلة بعتاد علمي وازن، اقتضته عمليات المثاقفة مع الغرب، حيث أصبحت الذخيرة التي تشكلت عبر الاطلاع على موضوعات البنيوية، واللسانيات، والأنثروبولوجيا، والسيكولوجيا، والظاهراتية، خطرا  يهدد الموروث الكلاسيكي الذي استنفذ أهم أسئلته البلاغية والنحوية واللغوية.

لقد تشكل لدى العديد من نقاد هذه المرحلة -خاصة عن طريق الاحتكاك بالغرب- نوع من الولاء للحداثة من حيث التنظيم المنهجي، وبذلك بدأت تتشكل بعض بوادر الخصوصية في النقد العربي ، ليس على مستوى الموضوع فحسب، بل حتى في اغترافه من حقول معرفية متعددة.

غير إن الشك والصراع الدائر في الساحة الثقافية، والتخوف من الدخول في محاذير أسئلة الهوية الثقافية، والتوجس من الوقوع في شرك الاستلاب جعلت “العودة إلى التراث بالنسبة لهم وسيلة من وسائل المقاومة والدفاع عن الذات في مواجهة الآخر، خاصة بعد الهزة الكبرى التي أحدثتها نكسة 1967، ولم يصمد إلا القليل، وفي طليعتهم أولئك الذين اقتنعوا بأهمية الانخراط في مناخ الحداثة رغم لغط المتعصبين.”     (ص. 100)

في الفصل الرابع من الأسئلة ينتقل الناقد محمود ميري إلى  صلب موضوع الأطروحة من خلال الحديث عن تجليات التحول في نقد عقد السبعينات والثمانينات من القرن العشرين. وقد سبق للناقد ان نشر جزءا من هذا الفصل (المحور الأول منه) ضمن مجلة علامات العدد 27 (2007)، تحت عنوان: الخطاب النقدي العربي وبوادر التحديث.

وعموماً فهي مرحلة متميزة رغم ما طبعها من غياب للعقل النقدي العربي، إذ ظلت التحولات في مجال النقد خجولة إلى حد بعيد، حيث عني النقاد في هذه المرحلة بتأسيس الخطوات الاجرائية في التحليل النقدي وتوضيح المصطلحات والمفاهيم. مقابل غياب تصور رصين يمتح من صلب استراتيجية واضحة، إذ ظلت محاولات الانخراط في موجة الحداثة مواجهة بأسئلة الهوية والثقافة التي فرضت نفسها في سياق المواجهة الدائرة بين الذات والآخر، وبين الذات وموقعها داخل بوتقة العملية الابداعية بجل مكوناتها.

يقول محمود ميري: “لقد فشل التحديث في الحقل النقدي العربي، إسوة ببقية الحقول الأخرى، فشل لأنه كان يفتقر إلى تأسيس بناء يشرع بتفكيك الأنساق الموروثة، وإلى فضاء ثقافي مساعد، في حاجة إلى فلسفة للتنوير، كما كان الشأن بالنسبة للتجربة الأوربية. ذلك أن الحداثة والتطور لم يأتيا من سماء؛ بل كانت استجابة لنمو شروط تاريخية، وفكرية وثقافية عامة، هذه الشروط التي تم وضع لبناتها الأساسية بداية الاصلاح الديني، وبفصل الدين عن الدولة، كل ذلك بدعم من الفلسفة العقلانية والمنهج التجريبي.” (175-176)

لعل هذه الفقرة تلخص عملية الاجهاض المبكر الذي تعرضت له محاولات التحديث العربية في الحقل النقدي، حيث تضافرت عوامل عديدة لإسقاط المشروع التنويري، وعلى رأس هذه العوامل كانت السلطة الدينية والسياسية اللتان تحالفتا مع النسق الثقافي المحافظ لِقَبْر كل المحاولات التجديدية في مهدها. وعن ذلك يتساءل محمود ميري: “هل الأمر يتعلق بنظريات غربية لا يمكن استنباتها في تربة مخالفة، لا تتوفر على نفس المكونات ولا تلقح بنفس الأسمدة؟” (ص. 179-180)

لكن مع ذلك يجب أن نسجل بأن سبعينات وثمانينات القرن الماضي عرفت نوعا من التحول الذي طبع القراءة النقدية في ظل الاقتداء بمناهج الدراسة النقدية الحديثة عند الغرب، كالبنيوية والشكلانية، والأسلوبية، والشعرية الحديثة.

أما الفصل الخامس والأخير الذي حمل عنوان النقد العربي والفضاء الثقافي، فقد انبرى فيه محمود ميري إلى الحديث عن جانب مشرق من العملية النقدية وهي مرحلة بناء شخصية نقدية نفضت عنها غبار الإتباع إلى حد بعيد، فتشكل عبرها نوع من الرصانة المنهجية في تبادل الأدوات الاجرائية إذ مكّن الاحتكاك الثقافي بالغرب إلى جانب توفر قدر كبير من الحرية لدى النقاد خاصة بعد نكسة 1967 وما تلاها من تحولات سياسية، واجتماعية، وثقافية، مست جميع جوانب الحياة في الوطن العربي، ما أدى إلى التخلص من قيود العقلية المحافظة التي كانت تسعى إلى إقصاء المناهج التي لا تتماشى مع تطلعاتها الأيديولوجية بالخصوص. في الوقت الذي سطعت فيه النظرية التي تقول بأن الجديد لا يمكن أن ينبثق إلا من خلال مواجهة القديم ومعارضته وليس فقط من خلال بعثه وإحيائه.

لقد ركز محمود ميري في هذا الفصل على مجموعة من القراءات التي صبغت المشهد النقدي العربي؛ ومن بين المحاولات الرصينة التي يصنفها محمود ميري، محاولة جابر عصفور في تحديد مستويات القراءة المشتغلة على التراث. وكذلك محاولات لطفي اليوسفي وسيد بحراوي، وكمال أبو ديب… وغيرهم.

وعموماً فإن هذه المرحلة –كما أسلفنا- شهدت تطوراً نوعياً في البناء المنهجي حيث “أعادت الاعتبار للأشكال الفنية، والصيغ والهياكل البنيوية، والوظائف الداخلية لأنساق الأعمال الأدبية، هذا بالإضافة إلى استثمار دراسة تقنيات السرد القصصي، والاهتمام بالنصوص الموازية، والقراءات البصرية، والنقد النسائي، وما سواها من المباحث التي لا تزال مواضيع بكرا في مجال الخطاب النقدي العربي، يتم كل ذلك –ربما- في غفلة من العراقيل والحواجز التي تنصبها المنظومة الثقافية التقليدية التي لا تنفك تجدد نفْسها ونفَسها.”(ص. 20)

أنهى محمود ميري هذا العمل بخاتمة رصد ضمنها تجليات العملية النقدية العربية انطلاقا من مقاربة التحولات التي طبعت جل مراحل تطورها إلى حدود العقدين السابع والثامن من القرن الماضي؛ مركزا على أهم المحطات التي أضاءت فضاء الفكر النقدي العربي في مرحلةٍ اتسمت بالصراع الدائر بين مجموعة من الأنساق الثقافية المتشعبة؛ والتي حالت دون اكتمال التصور النقدي العربي في إطار البحث عن كل ما تعتبره دخيلا على الثقافة المحلية.

– مناقشة بعض قضايا الكتاب

لقد وقفنا في هذه القراءة عند أهم المحطات التي رصدها الدكتور محمود ميري بعدسته الثقافية المُمَحّصة للنقد الأدبي في البلاد العربية على امتداد قرن من الزمن تقريبا؛ مسجلين الملاحظات الآتية:

– رغم من أن محمود ميري قد صرّح في عنوان الدراسة وبدايتها بأنه سوف يركّز الحديث عن فترةٍ زمنيةٍ محددة هي: العقدين السابع والثامن من القرن العشرين. إلا أن طبيعة الدراسة اقتضت منه تتبع التطور التاريخي للحركة النقدية العربية الحديثة، منذ المبادرات الأولى التي حاولت خلق تصور نظري نقدي رصين في العالم العربي بداية القرن العشرين، وصولا إلى بدايات تسعينيات منه.

– اعتمد محمود في هذه الدراسة منهجا استنباطيا انطلق فيه من العام نحو الخاص، حيث بدأ الحديث عن النقد الأدبي العربي، منطلقا من فرضية عامة صاغها في بداية الفصل الأول، يؤكد فيها العلاقة الوطيدة بين نتائج الحداثة العربية وبين الهاجس المنهجي الذي لم يسْلَم من الحرب التي شنّها عليه الموروث الثقافي، وأن أي محاولة تجديدية في الحقل النقدي سوف تكون عرضة لنفس الهجوم الشرس للعقلية المحافظة التي تتغذى من الماضي المجيد بما يوفره من ثراء بلاغي، ولغوي وتأويلي؛ وهي الفرضية التي تأكدت عبر فصول البحث، وعبر جميع الأشواط التي قطعها النقد العربي منذ بداية القرن العشرين.

– لقد سعى محمود ميري في هذه الدراسة إلى عدم تكرار تجارب سابقة، حتى لا يكون هذا العمل تحصيل حاصل؛ إنما استقى مادته العلمية بشكل دقيق، ومتميز، جعله يتفرد من حيث طبيعة الموضوع، وكذلك المنهجية. وهو ما يجعل هذه الدراسة تمثل إضافة جديدة للمكتبة النقدية العربية.

– لم يتوقف محمود ميري في هذه الدراسة عند الخطوط العريضة التي طبعت النقد العربي الحديث، إنما خاض في تفاصيل البُنى النقدية العربية، مُبدياً رأيه حول جميع المضامين التي استحضرها فيه مناقِشاً تارةً، ومجادلاً تارةً أخرى.

– ميزت لغة محمود ميري في هذا الكتاب، بالدقة، والتقريرية القائمة على توظيف الجمل الطويلة، والميل إلى التزام الطابع الإقناعي من خلال المزاوجة بين بنيتين: خبرية وحجاجية. كما تميزت أساليبه بالرصانة العلمية وقوة الأسلوب، رغم ما طبعها من الاستطراد والإطناب والتَّكرار في بعض المواقع؛ وهي سمة تطبع السرد التاريخي للوقائع والأحداث.

– لقد توسل الناقد ببلاغتين، هما: بلاغة الامتاع القائمة على تصوير المضامين تصويرا فنيا، وبلاغة الاقناع المتمثلة في ترتيب الأفكار والآراء، وتقصِّي الحقائق، بشكلٍ يحمل القارئَ على الإقرار بصدق المضامين الواردة في الدراسة، وهي خصيصة فريدة لا يملكها إلا ناقد متمرس.

– ما يميز هذه الدراسة، هو: الاتساق والانسجام بين عناصرها. إذ غالبا ما كان الناقد محمود ميري يربط السابقَ باللاحقِ، ويذكِّر بما تطرق إليه في الفصل السابق.

– هذا الكتاب سرد كرونولوجي لصيرورة النقد العربي خلال القرن العشرين، لم تتناوله دراسة سابقة. وهو كتاب تعليمي، يستفيد منه الطلبة والباحثون في مجال الأدب الحديث، جمع فيه الناقد ما كان متفرقا بين صفحات الكتب والمجلات، وقدمه في حلة لا تخلو من رصانة علمية، وحِنكة في تناول الموضوع، مع ما صبغه من انطباعات ذاتية، وتساؤلات شائكة حول النقد العربي، تفتح الآفاق للدراسة والتأويل.

 

 

*محمود ميري هو واحد من الأدباء الذين فقدهم المغرب الثقافي، نقش اسمه بأحرف من ذهب في ساحة النقد الأدبي ليس بغزارة انتاجه، إنما لحضوره الوازن ضمن المنظومة التربوية، فقد تخرج على يده أجيال من الطلبة والباحثين الذين تعلموا منه، وعنه، آليات البحث العلمي، وقراءة الابداع من زواياه المختلفة، ولعل هذا خير إنتاج وإبداع.

 

- منتصر هاشمي

أستاذ / الدار البيضاء

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.