علي أومليل، مرايا الذاكرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت، 2016.
كتاب علي أومليلمرايا الذاكرة نص أدبي جميل، يقرأ متعة، ويغري بالقراءة وإعادة القراءة أكثر من مرة. أول ما يلفت الانتباه فيه إيقاع الجملة المقتضبة، وتكسير السرد الخطي، والتوفيق بين السلاسة والعمق. ولا يتخلص القارئ من السؤال التالي: إلى أي جنس ينتمي هذا التأليف؟
تحضر من حين لآخر ملامح السيرة الذاتية، لكن بصورة متشظية تنحو في أغلب الأحيان منحى الاستطراد والتداعي. ويقيم الكاتب نوعاً من التناوب بين ضمير المتكلم وبين خطاب يوحي بوجود مسافة مع سارد مفترض. هناك فضاءان يرسمهما أومليل بأسلوب التداعي. ففي جبال منطقة سوس، توجد قرية الأجداد الأمازيغية التي كان المؤلف يزورها بانتظام في عطلة الصيف، وكان أهلها “لا يعرفون حتى أسماء أغلب بلاد المسلمين، ولا شيء عن أخبار العالم إلا ما يخبرهم به قادم من المهاجرين إلى مدن الداخل”. والقنيطرة هي مدينة النشأة. يسترجع أومليل تأسيسها من طرف مؤسس نظام الحماية، ومشاهد المجاعة الكبرى التي اجتاحت المغرب في أواخر الحرب العالمية الثانية.
“زحف الجياع على المدينة هاربين من القحط الذي ضرب دواويرهم. يحملون متاعهم الهزيل على ظهورهم فقد نَفَقت دوابهم في الجفاف. انتشروا في المدينة يتسولون. ينامون في العراء. يمشون في شوارعها كالكائنات الخارجة من القبور” (ص. 16).
ثم هناك مقاومة الاستعمار، واعتقال المتظاهرين في سجن المدينة، وتحول القنيطرة بعد الاستقلال إلى فضاء استنبت أحياء الصفيح ومقاهي العاطلين الذين يحنون إلى زمان أمجاد فتوحات المسلمين الذين وصلوا شرقاً إلى الصين وغرباً “قرب عاصمة الفرنسيس الذين يحكموننا اليوم”. وكان منطلق اشتغال ذاكرة المدينة هو لحظة مرافقة أومليل، مسؤول الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، للكاتب العام لمنظمة العفو الدولية إلى السجن المركزي للقنيطرة من أجل التفاوض مع السلطة حول ظروف نزلاء معتقل تازممارت الرهيب. غير أن حضور السيرة الذاتية بشكل حي وتفصيلي جاء في المقطع الذي يحكي فيه أومليل قصة مغادرته للقنيطرة، على إثر حصوله على الإعدادية في إحدى مدارس الحركة الوطنية، من أجل الالتحاق بمصر لمتابعة الدراسة. كان الحصول على تأشيرة السفر أمراً متعذراً، وبالتالي كان السفر مغامرة حقيقية بالنسبة لتلميذ عمره أربعة عشر عاماً، بحيث تطلب الأمر اجتياز منطقة الحمايةالإسبانية رفقة مهرب للحشيش، والتوقف بتطوان، ثم الإبحار إلى الجزيرة الخضراء، ثم الانتقال إلى مدريد، حيث كان من المنتظر أن يسهل طبيب تونسي عملية الحصول على الوثيقة الإدارية الثمينة.
تحضر الرحلة كثيراً في كتاب أومليل، بشكل يذكر أحياناً بأدب الرحلة، لكن مع اختلاف في المقصد والمضمون. في الجنس الذي ينتمي إلى موروثنا الثقافي، يلتقي الرحالة بشيوخ العلم أو الطريقة، ويستعرض مناقبهم وشيوخهم. ولم يخرج المؤرخ المنظر ابن خلدون عن هذه البنية في رحلته “شرقاً وغرباً”. أما أومليل فنراه يسترجع بعض الرحالة مثل الإدريسي، وابن بطوطة، وحسن الوزان وكولومبوس. ويحكي عن زيارته لبعض الأضرحة، ويستعرض شخصيات أخرى، ويجعل من الأعلام المذكورة، معالم تؤرخ لنماذج ثقافية تنتمي إلى فضاءات وعصور مختلفة. ابن عاشر، وابن العريف، وابن برجان، وابن الخطيب، والمعتمد بن عباد، وابن رشد، وابن عربي، والولي سيدي بوغابة قرب القنيطرة، وفقيه قرية الأجداد، وماو تسي تونغ “آخر أنبياء الشيوعية”. وربما كان الخيط الرفيع الذي يجمع بين كل هذه الشخصيات هو مسألة الموت. موت الوالدة، وموت الأخ. ثم هناك ثقافة الموت، والتفكير في الموت. كيف تحضر الموت في فكر المتصوف والفقيه. “الفقيه يلوح بشبح الموت للإمساك بخناق الأحياء. لا يتحدث عن الحياة إلا للتذكير بالموت، يذكر به للسيطرة على الحياة. الفقيه مقاول الموت، يستثمره، ينصب شباك الخوف والندم ليأتي الناس إليه وأيديهم معقودة وراء ظهورهم تائبين. يحاصر الحياة، يختزلها في أحكام قاطعة يحفظها عن ظهر قلب. يخرج الأموات من كتبه الصفراء للتحكم في الأحياء.” (ص. 38)
ينتقل أومليل بين عدة أمكنة: المغرب، الأندلس، المشرق، باريس، أمريكا، المشرق العربي، الصين. وينتقل أيضاً بين عدة أزمنة. والكتاب هو في آن واحد مقالة فكرية حول الزمان، وثقافات الزمان. تأثر الزمان المغربي بالحصار منذ الاحتلال الإبيري، وساهم ذلك في ترسيخ ثقافة الزهد والتصوف. “فقد قومك السيطرة على المكان فتحصنوا في أعماق النفس. احتل العدو الشواطئ والقلاعوعجزوا عن جهاده فأعلنوا الجهاد على الجسد. يولج المتصوف الموت في الحياة ويولج الحياة في الموت.” (ص. 18)
وفي مستوى آخر، يقيم أومليل تعارضاً بين زمان المجتمعات التقليدية والمجتمعات المتطورة. زمان الأولى “متباطئ رتيب يعيد العادات”، أما الثانية فهي “تقتحم الزمان فالإنسان فيها يخوض زماناً متحركاً يحاول امتلاكه بالتحكم في مجراه بالتخطيط والتنظيم وابتكار المستقبل”. “أصبح المستقبل وليس الماضي هو الجاذب لوعي الغرب بالزمان”، بيد أن “زماننا يختلط فيه الحاضر بالماضي اختلاط فوضى، غامضٌ المستقبل. وحتى الحداثيون عندنا فهُم كما يقول المثَل الأمازيغي كقنفُذ انكفأ عليه غربال، يرى النور من الخارج يتسرب من ثقوب الغربال ولا يجد طريقا للخروج” (ص. 95-96). أما الربيع العربي فــكان “قصيراً مثل فصل الربيع في بلاد العرب”. “الشباب العربي الذي نزل إلى الشوارع والميادين رافعاً شعارات الحرية والكرامة أزاحته مخلوقات مُخيفة خارجة من الكهوف، تواجَه زمانان كل منهما سريع الإيقاع: زمان الشباب العربي المنفتح نحو المستقبل، وزمان الملوحين بالأعلام السوداء يغلقون باب المستقبل ويخنقون الحياة” (ص. 70-71).
عبر كل هذه التأملات، نلتقي بأصداء الكتابات الفكرية لأومليل: ابن خلدون، الإصلاحية ومسألة الدولة، المورسكيون،سلطة الثقافة وسلطة السلطان، ورحلة الأفكار. بيد أن سارد النص الجديد يعلن أن علاقته بالزمان هي التي كانت وراء اشتغال الذاكرة والتأليف. “قال عمري لا يقاس بالسنين، بل بالعُصور، اختزلتها في عمر واحد. وكالممثل البارع تقمصت أدواراً من بيئات وعصور مختلفة”(ص. 150). ووراء لعبة التقمص هناك التوغل في العمر، و”أفول الأصحاب القدامى الواحد تلو الآخر”، والرغبة في الإمساك بالذاكرة تجنباً للنسيان.
في كتاب أومليل لا تسترجع لعبة الذاكرة مسار تجربة الذات، بقدر ما تسترجع شذرات من تجربة مسافة التفكير في مآلات الجماعات والأمكنة والأزمنة، بما فيها انخراط زمان الإنسان داخل زمان الطبيعة.