الخميس , 5 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » حج الأنثروبولوجي

حج الأنثروبولوجي

Abdellah Hammoudi, Une saison à la Mecque : Récit de pèlerinage, collection La couleur des idées, Paris- Seuil, 2005

 الحج انثروبولوجيا، طقوس ومناسك، المسافة النقدية، الذات والموضوع، المدنس والمقدس

 

milaffat_0217-01صدرت رحلة عبد الله حمودي الحجية باللغة الفرنسية سنة 2005[1]، وترجمت  إلى أزيد من أربعة عشر لغة، من بينها اللغة العربية سنة 2010[2]. وقد حضي الكتاب في مناسبات صدوره بقراءات عديدة ومتنوعة. وبالرغم من أهمية بعض هذه القراءات، فإنها لم تستوف الكتاب حقه. وهدف هذه الورقة تقديم إضافة إلى التراكم المحدود الحاصل في التعامل مع الرحلة، علما بأن طبيعتها وكثافة إفاداتها الإخبارية والمنهجية والنظرية يتطلبان قراءات إضافية من زوايا نوعية مختلفة.

الرحلة: الزمن والكتابة

1- الكتاب رحلة حجية قام بها الباحث والأكاديمي عبد الله حمودي في ربيع 1999م، غير أنها تختلف وتتميز عن مثيلاتها التي اعتاد تصنيفها فقهاء المغرب وصوفيته وأدباؤه وسفراؤه في قوالب معلومة.

وقد نجحت الرحلة – الكتاب في التوصيف الدقيق والعميق والشامل لكل مراحل أداء فريضة الحج الدينية، التي تعد ركنا من أركان الإسلام الخمس، بل وركن إتمام وكمال مشروط بالاستطاعة البدنية والمادية، بحيث استوفت في مستوياتها الظاهرة توثيق السفر والمناسك في مختلف مراحلهما، أي منذ الاستعداد النفسي والتحضير المادي في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان عبد الله الحمودي يقطن ويدرس، مرورا بالمغرب حيث واجه متاعب الإدارة والانتظام في سلك ركب الحجيج “العادي”، وانتهاء بالديار المقدسة وأداء المناسك من دون تفريط قبل العودة إلى ديار الانطلاق.

كما نجحت الرحلة – الكتاب، في مستوياتها العلمية، في إشغال آليات البحث الأنثروبولوجي وأدواته، أي ثلاثية الملاحظة والتفكيك والتحليل، بحيث استطاعت إنتاج نص يفسر، تأسيسا على المنهج الوظيفي، رموز ودلالات بنية مشحونة بالطقوس، يهيمن عليها زمن تحكمه مواقيت المناسك وأمكنة تحكمها الشعائر.

2- وقد تزود عبد الله حمودي للرحلة بمخزون تراثي أصيل، قوامه استعادة العلاقة بالعبادات، واسترجاع ما حفظه من آيات قرآنية في سن الصغر، وما طالعه قبيل السفر من كتب الرحلات الحجازية ومنها رحلة أبي سالم العياشي الناصري، وما قرأه من الأمهات الحافظة للقصص والمرويات المأثورة، الشارحة للمناسك الطقوس والمتعقبة لأصولها. كما أنه استغل شهور ما قبل الرحلة ليستعد نفسيا لأداء الفريضة وليعد محيطه القريب لها، إلى أن استوى الإعداد مشروعا اختياريا روحيا وبحثيا.

حدد عبد الله حمودي الهدف من مشروع رحلة الحج، ويكمن في ثلاثة مطالب. الأول، إعداد بحث يسلط الضوء على الدين الإسلامي من خلال مناسك الركن الخامس والخاتم لبنيانه، وذلك ضمن ما يطلق عليه علم الطقوس في الانثروبولوجيا. والثاني، السعي إلى معرفة الذات والوجود معا، بعيدا عن العقلانية المطلقة، وعن طريق المشاركة في العبادات والانخراط في المناسك. والثالث، تدوين الرحلة بخصوصياتها في كتاب ينشر بين جمهور القراء والباحثين على حد السواء.

3- وأصل الكتاب، أي مادته الخام، مذكرات تسجيلية وتوثيقية، قرر عبد الله حمودي تدوينها وحرص على كتابتها يوميا، في صيغة المتكلم، فيما يشبه مذكرة ميدانية un carnet de terrain أو يوميات سفر un journal de voyage. وكان يوميا يسترق اللحظات بين أوقات الصلاة ومواعد المناسك وفي الصباح الباكر ليسجل مشاهداته. وقد أورد، غير ما مرة، مقتطفات من هذه اليوميات في أصلها الخام محفوظة ومحفوفة بمزدوجتين. ولما كانت مادة هذه اليوميات في أصلها الخام وصفية وانطباعية، فقد اكتشف بعد انتهاء رحلة الحج أن ترتيبها وتمفصلها يستعصيان على لغته المهنية العالمة. مما تطلب سنوات لإعادة صياغتها في شكل تجربة مفكر فيها وسرد تحكمه الثنائيات التي “يعشقها” الانثروبولوجي، من قبيل روحي – مادي ومقدس – مدنس ومناسكي – طقوسي. مع الحرص على ابتكار صيغة/ توليفة للمصالحة بين المادة الأصل والمتن النهائي، وتكمن في انتاج تركيب لغوي مفعم بالمشاعر الإنسانية ويمزج بين المستويين الروحي والعلمي.

4- يعترف عبد الله حمودي بأن رحلته إلى الأماكن المقدسة لأداء فريضة الحج جاءت في لحظة مهمة من مسار حياته ككل، إذ تظافرت فيها أوضاع دقيقة ذاتية وموضوعية. ونصادف اللقاء بهذه الأوضاع متقطعا في ثنايا الرحلة الكتاب، لكونها خضعت لإعادة ترتيب، وتم استدعاؤها في مناسبات معينة وسياقات محددة من العلاقة الوجدانية والعلمية التي تكونت بين الباحث الإنسان وبين الحج تجربة وموضوعا.

الوضع الأول له علاقة بـ “طبيعة تفكيره في الدين”، ويكمن في حصيلة اشتغال عبد الله حمودي في حقل الأنثروبولوجيا وما ترتب عليها من استنتاجات وخلاصات، والتي ضمنها العديد من الأعمال التي أنجزها قبل الرحلة المغامرة. والسؤال المركزي في هذا الوضع “غير العادي” هو كيف له أن يحج منخرطا وهو الأنثروبولوجي الحداثي؟

والمفيد في هذا السياق أن نذكر بوضع عبد الله حمودي قبل الحج. فهو باحث أنثروبولوجي، اشتغل أستاذا باحثا في المغرب بين سنتي 1972 و1982، وفي جامعة Princeton الأمريكية ابتداء من سنة 1990. وقدا أدى فريضة الحج خلال إدارته معهد الدراسات الإقليمية Trans-regionals في نفس الجامعة بين سنتي 1994 و2004. وشد حمودي الرحال إلى أماكن المسلمين المقدسة بعد أن أصدر من الكتابات مؤلفه حول الأضحية وأقنعتها سنة 1988[3]، كما أنه لم ينشر رحلة حجه هاته إلا بعد أن أصدر كتابه الشيخ والمريد سنة 2001[4]. فهل تزود الانثروبولوجي الحاج بمحتوى الكتابين نظرية وعتادا مفاهيميا ومنهجيا وهو يستعد للسفر المقدس، ويؤدي المناسك، ويدون تلقائيا ومباشرة ما استوفاه من عبادات ومناسك، ثم حين العود إلى اليوميات لإعادة صياغتها بعد حين؟

الوضع الثاني له ارتباط بـ “تخطيه سن الخمسين”[5]لحظة عزمه على أداء مناسك الحج. ويعترف بأن نظرته إلى الدين في علاقته بقيم التسامح كانت قد تغيرت حينها.

الوضع الثالث له علاقة بالتساؤلات الملحة والمتزايدة الحدة التي كانت تحاصره والمتعلقة بـ ” الهوية”. وهي تساؤلات مترتبة على بحثه الأكاديمي، كما هي مترتبة على مغادرته منبثه الأصلي/”دار إسلامه”، وعن هجرته وأسرته إلى الولاية المتحدة أستاذا وباحثا ومقيما.

الوضع الرابع له ارتباط بالنظرة المتوجسة والمتحفظة إلى الإسلام ثقافة وبشرا، والتي عمت الغرب بل وشريحة من الأوساط الأكاديمية المشتغلة على الثقافة الإسلامية. كما له ارتباط بأحوال المسلمين المتعثرة باستمرار منذ سقوط غرناطة الأندلس وإلى حدود زمن الرحلة الراهن، والموشومة بالتخلف الفكري لما “تحول الإلهام النبوي إلى كلام لله والقرآن إلى مخزون للاستشهاد”، وبالضعف والمذلة والهوان منذ التدخل الاستعماري والعدوان الإسرائيلي، وانتهاء بمآلات العالم العربي الإسلامي ومصائره زمن الرحلة.

5- وقد نجح عبد الله حمودي، كما توقع، في إنتاج محكي ممتع وشيق، ذي نفس روائي بين في امتلاك فن الحكي وآليات السرد، مما يعلل السنوات الست التي تطلبها النص النهائي للإنضاج والصياغة.

وقد حاكى عبد الله حمودي بنصه كلود ليفي ستروس Claude Lévi- Strauss في كتابه الرحلة الشهير Tristes tropiques [6]، سواء في نسج حوار داخلي أو في نمط الكتابة. مع فارق أن رائد الأنثروبولوجيا البنيوية حاور معرفته بالأساس[7]، وأن الأنثروبولوجي المغربي حاور ذاته باحثا عن هوية مفتقدة. وبالمناسبة، فقد استشهد حمودي، في الرحلة – الكتاب، بتجربة كلود ليفي ستروس، واستدل بتعاطفه مع الديانة البوذية ليشرعن تعاطفه هو الآخر مع ديانته الإسلامية، وليلوح بهذا الشاهد – الدليل، المتمتع بفيض من الحكمة الإنسانية والكثير من المصداقية العلمية، في وجه المنتقدين و”الساخرين” المتوقعين[8].

6- وقد حاول عبد الله حمودي ألا يفرض ويسقط على القارئ ومنه المسلم خطابا للسلطة الأكاديمية بتلوينات ماركسية وفرودية، كما فعل بعض المستشرقين والباحثين العرب. بل اهتدى إلى الاعتقاد بإمكانية التقاء الدين والأنثروبولوجيا، شرط عدم الخلط بين لغتيهما الخاصتين، وإذابة الدين في مقولات العقل والمعرفة، والنظر فيه على أساس كونه نسقا تأويليا وتأمليا يستجيب للمعضلات الوجودية.

تخطي الملاحظة إلى المشاركة

1- أدى عبد الله حمودي كل مناسك العمرة والحج وشعائرهما، وبنفس “الطقوسية”، ووفق ميقاتها الزمني والمكاني، مع الاستجابة لما تشترط من تبدل للهيأة والتسليم بما تفرض من تغير للأحوال. وهكذا زار المسجد والمقام، ونوى واغتسل ولبى وأحرم، وطاف حول الكعبة الحرام، وسعى بين الصفا والمروة، ووقف عرفة، ورمى الجمار وقدم الهدي وتحلل في منى. كما صلى الفرض الواجب والنافلة المستحبة، وداوم على قراءة القرآن وتفكره.

تخشع الحاج عبد الله إلى أن صعد الدمع إلى مقلتيه، وجاهد للتعلق بأستار كسوة البيت العتيق، وحاول تقبيل الحجر الأسود، وتهيأ له رؤية قبر الرسول، وغمرته حشود الحجاج التي شاركها لحظات السكينة والانفعال في تجربة مكاشفة واختبار للذات.

كذلك تجلى انخراط الأنثروبولوجي – الحاج قويا واضحا في مغادرته “زمنه العادي”، زمن الباحث العقلاني الحداثي، ليختلط ويذوب في زمن تحكمه عبادة مؤسسة على الايمان والعاطفة/المشاعر. ومن تم خرق العرف وخالف القاعدة، لما استحال عليه حصر نفسه في وضع الباحث الملاحظ.

2- سؤل عبد الله حمودي في حوار مع منبر إعلامي مغربي[9] سنة 2015، أي بعد عقد ونصف من الرحلة الحجية وعقد من إصدارها في كتاب، عن كيفية تحكمه في المسافة التي كانت تفصل، خلال رحلة الحج، بين انتمائه لهوية ثقافية مسلمة وبين مهنته كباحث أنثروبولوجي.

أجاب حمودي، وقد استعاد حرفته، بأن المسافة في الأنثروبولوجيا وبالنسبة للبحث في الدين ثقافة وهوية بالأساس مسألة مركزية، وأنه اشتغل على هذه المسافة قبل قيامه بأداء فريضة الحج، وأن خبرته أقنعته بأن هذه المسافة لا يمكن أن تكون إلا حميمية. وأضاف أن من سمات هذا الوضع المفارق، والذي يشكل منهجا عنده، أن الحميمية تطغى أحيانا عليه، لكنه يتذكر المسافة، فيدفعها إلى الوراء ليفسح المجال للوصف والتشخيص والتحليل.

واعترف، في نفس زمن الحوار الاسترجاعي، بأن التجربة في مكة كانت قاسية وعميقة، لكونها جاءت بعد مسار عمر مديد قضاه في البحث وبنى فيه تلك المسافة الحميمية. اعترف بأن محك الامتحان والاختبار كان صعبا، لكونه انخرط في أداء الشعائر من دون تحفظ في المشاعر والخشوع، ولأنه اشترط على نفسه: إن قادته التجربة إلى التخلي عن قناعاته كباحث فعل من دون تردد، لكون التجربة كما عاشها مطلق حياة، أما الأنثروبولوجيا فمجرد مهنة، والحياة أوسع وأقسى من أي معرفة علمية.

“جربت، يقول عبد الله حمودي، هل تقضي الحميمية على طاقتي في الوصف والتحليل، وكلاهما يشترط وجود مسافة. لكن الذي حصل أنني كنت أقوم بالشعائر ثم أعود إلى مقامي فأكتب. وكانت الكتابة هي من تعيد إقامة/ بناء المسافة والمحافظة عليها. لأن حيث تكتب فأنت تتفكر ما شاهدته”...

وانتهت التجربة، كما يقول، إلى ترجيح كفة العلم بضوابطه وشروطه على المشاعر المبنية على المشاهدة الذاتية والفردية المحدودة. وتبين له ذلك حينما كان مرافقوه ينبهونه إلى أن ما يكتبه مجرد زاوية مشاهدته الخاصة، وأن الرؤيا لا تكتمل إلا بإضافة جوانب أغفلها أو نسيها أو لم ينتبه إليها. وهكذا تولد لديه، تأسيسا على هذا النقاش، اقتناع بترجيح كفة المسافة المؤدية إلى اكتمال المشاهدة على كفة الرؤية الحميمية المشوبة بالنقص بل والقصور.

الانخراط اختيار منهجي

1- تتميز رحلة عبد الله حمودي الحجية بوصفها الدقيق لكل مناسك الحج وشعائره، في تتابعها الزمني والمكاني، كما يؤديها عادة “ضيوف الرحمن”. كما تتميز باعتماد صاحبها منهجا أنثروبولوجيا في تحليل البنيات الكامنة خلف هذه المناسك/الشعائر، باعتبارها “طقوسا” تتطلب الكشف عن الرمز والدلالة. وتتميز أيضا باعتماد المنهج الوظيفي، بالتركيز على الأدوار الاجتماعية والسياسية التي تقوم بها هذه الطقوس.

2- تطلب البحث من عبد الله حمودي، من هذا المنظور ولهذه الغاية، انخراطا عضويا في مسالك الحجاج “العاديين”. وتجلى هذا الاختيار المنهجي المقصود منذ مرحلة الاستعداد للرحلة – السفر، التي استغرقت زهاء السنة لاستيفاء متطلبات الإعداد النفسي والزاد المعرفي والشروط الإدارية. كما تجلى في تقييد حمودي نفسه طالبا للحج في المغرب وضمن اللوائح “العادية” المخصصة لعامة الراغبين في أداء الفريضة، وذلك مع كل ما شاب هذا الانخراط الاختياري من اصطدام بمشاكل المحاصصة/ “القرعة” وعراقيلها، ومن معاناة مضنية مع بيروقراطية الإدارة الوصية وفساد رجال السلطة وأعوانهم. وقد كان بإمكانه تجنب كل هذه المتاعب العراقيل لو انطلق حاجا من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يقطن ويشتغل[10]. وقد نددت الرحلة بمختلف المشاكل الإدارية والتنظيمية التي تعترض الحاج المغربي “غير الرسمي”، سواء في المغرب قبيل السفر أو في موطن الحرمين الشريفين، والتي تعد من المظاهر السلبية لـ “مخزنة” الفريضة ومأسستها في الزمن الراهن.

ووفق نفس الاختيار المقصود حرص عبد الله حمودي أيضا، وهو الأستاذ الباحث، على تلقي التكوين الذي تشرف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الوصية، والمخصص لشريحة واسعة من بسطاء الحجيج محدودي المعرفة والمعارف والبعيدين عن حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهكذا تابع برامج التوعية بأحكام الحج، وخضع للتدريب على أداء المناسك وتمرن، كما تزود بكتيبات الإيضاح والإرشاد والوعظ والأدعية.

وحرص، خلال كل مراحل الحج ومحطاته الزمنية والمكانية، على مخالطة رفقة من مشارب اجتماعية متنوعة وبسيطة في الغالب، مكونة من حرفيين وتجار وأساتذة وفقهاء وعدول… وكان يتبادل معهم الحديث عن الحج ومناسكه/ طقوسه، بل وعن مشروعه كتابة رحلة حجية.

3- اعتبر عبد الله حمودي أن الرحلة بمثابة تجربة، بل ومغامرة طويلة مشوبة بالحيرة والقلق. لكونه هو الباحث الأنثروبولوجي، الذي لم يعد متعلقا بالشعائر من صلاة وصوم وزكاة ولا مواظبا على ممارستها وأدائها بانتظام منذ سنوات خلت من حياته، لم يحصر نفسه في دائرة معرفته/علمه. ذلك أنه خرق العرف وتخلى عن القاعدة المشروطين، لما استحال عليه أن يكون مجرد ملاحظ غير مشارك، ولما انخرط في العبادات بالمشاركة فيها، وحينما أدى الفريضة لمتعة المعرفة وللرغبة فيها، خلافا لما دأب عليه في مشاريع بحثية سابقة عن الأضحية والمسخرة والسلطة الطقوسية. ومن تم راهن على أن غيره من زملاء المهنة سيطالبونه من دون شك بـ “الحساب”، خصوصا وأن مرحلة الاستعداد للحج، التي دامت أزيد من سنة، لم تخل من نظرات الاستغراب الممزوجة بالدعابات والممازحات التي عبر عنها محيطه القريب في Princeton[11].

4- وساهمت ردود فعل بعض الحجاج الذين رافقوا عبد الله حمودي خلال القيام بالفريضة-الركن في مضاعفة حدة شعوره بالحيرة والقلق. فخلال لحظات الاستراحة القليلة من تعب أداء المناسك والشعائر كان يعود إلى مهنته ويختلي بقلمه ويومياته، فتعود إليه أسئلة الباحث المستفزة، لكنه كان يواجه بردود فعل مستنكرة وتصرفات تبعث على الانكماش. ومن ذلك مصارحته بكونه في الحج للعبادة لا غير، وأن عليه أن يثبت إيمانه ويتقبل المناسك بشعائرها في سبيل الله ومن دون استفسارات، وأن من الواجب المفروض أن يؤمن ويسلم بأن الله وحده يحتفظ بسر العبادات، وأن أداءها بتلقائية دليل على الخضوع لأوامر الخالق وشهادة على تفويض المصير إليه، بل وذهبت بعض هذه الردود إلى حد التشكيك في إيمانه بسؤاله هل هو مسلم حقا.

غير أن هذه الردود لم تحل دون اقتناعه المتجدد بالانتماء إلى “أمة الإسلام”، لا سيما وأنها لم تتطور إلى مستوى السؤال عن المقاصد المضمرة والقناعات العميقة، تأسيسا على القاعدة المشتركة: “كل واحد ونيته”. والنتيجة أن الحاج عبد الله كان يشعر بحرية في التفكير لما يخلو بنفسه، من دون الحاجة إلى التستر، خصوصا وأن تقييد الرحلات تقليد إسلامي عريق يمنح حصانة وحماية من رقابة “شرطة الاخلاق”/هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

العين الملاحظة

تستوقفنا في الرحلة – الحج استنتاجات عبد الله حمودي الأنثروبولوجي الشارحة لبنية متوارية خلف المناسك الطقوس، ومن بينها:

1- الالحاح على تأصيل فريضة الحج، بحيث يتوارى في الحكي والسرد دور رسول الإسلام ونبيه، لتبرز جلية وفاعلة وشارحة أدوار الأسرة المؤسسة، أي إبراهيم وهاجر وإسماعيل. ويتبين ذلك في كل محطات الحج وفضاءاته، بدءا باختيار المكان المقدس نفسه بيتا للخالق وكعبة للناس بعد حادثة “نفي الزوجة الضرة” إلى القفر، ومرورا بالسعي بحثا عما يروي الظمأ وتدفق ماء البئر من بين أصابع الطفل، وانتهاء بالاسترشاد بجبريل في بناء البيت وسن الطواف والرجم وافتداء الذبيح وعمارة أم القرى…الخ. وتكمن وراء مطلب التأصيل رغبة ملحة في التأكيد على البعد الإنساني للحج وعلى وحدة الرسالة السماوية عند مجموع الديانات، في زمن مستعاد ومستأنف بلا انقطاع.

2- ملاحظة ذلك التعايش بين الثنائيات المتناقضة، أي المقدس الطاهر والروحي مقابل المدنس الملوث والدنيوي، وذلك في كل مراحل أداء مناسك الحج. وهكذا يشير مثلا إلى سوء التنظيم والتدبير والخلل البيروقراطي في إدارة فريضة تتطلب الانتظام التلقائي العفوي، سواء في المغرب أو في موطن الديار المقدسة. كما يشير إلى تعايش الديني والاقتصادي، بتحول الحج في شكل صارخ إلى سوق استهلاك مربحة ورائجة بل وجشعة. ويشير أيضا إلى نزوع الحجاج إلى التقوقع الهوياتي ضمن جماعات لغوية وقطرية مما يناقض مطلب وحدة الامة.

ومن بين ما أثار انتباه عبد الله حمودي، في إطار هذه الثنائيات، تعايش العفة والدعارة في فضاء من المفروض أن تنتصر فيه قيم الطهارة والأخلاق النبيلة. ومن الصور المعبرة عن هذا التناقض مشاهدة فتيات مغربيات في مصاعد وممرات الفنادق ومخادع الهاتف، يلبسن أحدث موضة تحث البرقع ويضربن مواعد مشبوهة للالتقاء في بعض إقامات الضواحي. ومنها مجالسة امرأة مغربية في طائرة العودة، وكانت ذات مفاتن بارزة من تحت حجاب، دعته إلى زيارتها في المغرب، واعترفت له بأنها وعدد من مثيلاتها لا يرحلن الى الديار المقدسة بقصد الحج بل للتجارة وكسب المال، وبأنها ربت أطفالها من هذه “المهنة”، التي لا تضر بالمغرب مادام أرض فائض من النساء…!‏

ويختزل الحوار، الذي دار داخل سيارة الأجرة التي أقلت عبد الله حمودي في رحلة العودة إلى المطار، الصورة المختزلة والنمطية التي تشكلت لدى أهل الخليج عن المرأة المغربية. فقد سأله السائق ومرافقوه عن أكثر مدن المغرب فحشا وفجورا، وهل تكون مدينة الدار البيضاء أم طنجة. ولما رد عليهم بالسؤال من هي أفسق مدينة في الجزيرة العربية، أجابوه: “جميعها طاهرة”‏!‏

3- ملاحظة حضور الموت والعنف مرافقين وساكنين قلب كل المناسك/الشعائر، ومن ذلك تقديم الأضحية/الذبيحة والصلاة على الجنازة التي لا تكاد تنقطع وتنتهي والرجم والإحرام. ويقابلهما حضور مضمر ولكن قوي لمطلبي الخلاص والنجاة. وفي هذا الصدد يشير عبد الله حمودي باستغراب إلى أن الإنسان، الذي فداه الخالق بكبش طاهر يقتات من نبات الأرض الطيب الحلال من غير أذية لبني جنسه، يدنس في زمن الرحلة الهدي ويشوه الرمز والدلالة بفساده في الأرض وما يقترفه من تقتيل في حق بني جنسه.

4- ملاحظة حضور إسلام متشدد عنيف بين الحجيج إلى جانب الإسلام المتسامح المعتدل، ويتمثل في “السلفية الشمولية الجديدة”. ومنها الفكر الوهابي المروج لإسلام تمييزي “طاهر وحق”، غايته إعادة بناء الهوية بمقاسات سياسية محددة. ومنها كذلك الفكر المتشدد الذي كانت تنشره شبكة من “الدعاة” المغاربة غير الرسميين في محاضرات مرتجلة. وتشترك هذه الأنماط من الفكر المتشدد في الدعوة إلى التكفير وترجيح التأديب الزجري ورفض الأنظمة السياسية المخالفة. كما أنها تتشابه في تشيئ المرأة باعتبارها مجرد أداة للتمييز ووسيلة، وفي منع الاختلاط بها، وفرض ارتداء البرقع والحجاب عليها، والنظر إليها كأصل للخطيئة وعورة مثيرة للشهوة. وبذلك يرسخ هذا الفكر ثنائيات الذكر – الأنثى، والطاهر – المدنس، والأقرباء – الأغيار، والمسلمون – الكفار…الخ.

عودة من دون لقب وبهوية

لم تكن عودة عبد الله حمودي عودة حاج على المألوف عند أمثاله. ذلك أنه عاد وحيدا من دون رفقة ولا صحبة، خلافا لما كانت عليه أحواله أيام عقد النية على شد الرحال إلى الديار المقدسة ورتب لذلك جماعيا. كما لم ترافقه الاحتفالات المعهودة بعودة الحجاج، بل ورفض أن يتوج بحمل لقب الحاج العزيز على كل من أدى الفريضة من عامة المسلمين وخاصتهم. وبالتالي لم يتأكد الحج اجتماعيا، لكونه لم يستثمر الرأسمال الرمزي المترتب عليه، وتحول إلى مجرد “علامة في مسار” حسب تقييمه هو نفسه. تحول الحج في آفاقه وامتداداته إلى حقل لممارسة الاشتغال الأنثروبولوجي ولدراسة الظاهرة السوسيولوجية وللتأمل الفلسفي.

لكن كل هذا الإصرار على إعادة بناء المسافة بين الذات والموضوع، لا يمكن أن يخفي كون التجربة مثلت حالة ذهنية عند عبد الله حمودي الانسان، إذ غيرت لديه كما قال الكثير من الأحاسيس الوجدانية والفلسفية، لما بحث في الأبعاد الوجودية للدين عن صيغ لإعادة رسم علاقة الانسان بالخالق والأنا بالآخر.

اكتشف عبد الله حمودي من جديد وجوده، واستعاد هويته شبه المفقودة، ورسم بشكل غير مسبوق “أنا مسلمة” ملموسة. استعاد الحاج، في حالة اشباع روحي، بيته الوحيد/ “الإسلام بيتي”، الذي لم يفارقه قط في الواقع، بالرغم من تعدد البيوت المألوفة لديه، يونانية ورومانية وغربية وافريقية، يهودية ومسيحية وبوذية. غير أن “دار إسلامه” التي تحصلت له تكمن في فضائه الخاص، الذي يطويه على نفسه من جديد، بعيدا عن الفضاء العام المشترك والذي تحتل فيه المعرفة والعلم مكان المركز.

هكذا لم يستطع، كما اعترف بذلك غير ما مرة، مقاومة الألفة المفعمة بالمشاعر التي جمعته لأيام بقبر الرسول وكعبة الحجاج. ولكن مع الاقتناع بأن الدين عموما “إما أن يذوب في مقولات العقل والمعرفة، وإما أن يصير نسقا تأويليا وتأمليا يستجيب للمعضلات الوجودية”.

كذلك مارس الأنثروبولوجي حجه وقارب تدينه. غير أن بوحه بكلمة “وتستمر الحكاية”، في آخر ما سطر من مسرد الرحلة، يشي بـتخوفه من احتمال أن تلقيه “ذاكرة الافتقاد” في تيه جديد ونحو غير المتوقع…حسب تعبيره دائما.

 

[1] Hammoudi (Abdellah), Une saison à la Mecque : Récit de pèlerinage, collection La couleur des idées, Paris- Seuil, 2005, 315 p.

[2] حمودي (عبد الله)، حكاية حج: موسم في مكة، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، بيروت-دار الساقي، 2010، 363 ص.

[3] Hammoudi (Abdellah), La victime et ses masques : Essai sur le sacrifice et la mascarade au Maghreb, Paris-Seuil, 1988, p.

[4] Hammoudi (Abdellah), Maitre et disciples : Genèse et fondements des pouvoirs dans les sociétés arabes, Paris-Maisonneuve et Larose, 2001, p.

[5] ولد عبد الله حمودي سنة 1945.

[6] Lévi-Strauss (Claude), Tristes tropiques, collection Terre humaine, Paris-Plon, 1955, réimprimé.

[7] بوشنتوف (لطفي)، إثنولوجيا الإسلام في مدارات حزينة لكلود ليفي ستروس، ضمن الأنثروبولوجيا من البنيوية إلى التأويلية، الدار البيضاء- أفريقيا الشرق، 2014، ص.47-80.

[8] نفسه، ص. 50.

[9] مجلة هسبريس الإلكترونية، 24 ماي 2015.

[10] كان المسلمون القاطنون وحتى المقيمون في الولايات المتحدة معفون آنذاك من المحاصصة/”القرعة”.

[11] ظلت رحلة حج عبد الله حمودي، إلى عهد قريب، تثير بعض هذه الردود في نقاشات جانبية ومناسباتية داخل حنطة المشتغلين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية.

- لطفي بوشنتوف

كلية الآداب - الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.