Jacques Le Goff, Les intellectuels au Moyen Age (1957), Paris, Seuil, collection Points Histoire, H78, 2014, 227 pages.
من أمهات الكتب التي تغني المكتبة التاريخية عموما، ومكتبة التاريخ الأوربي على نحو خاص، كتاب “مثقفو القرون الوسطى” للمؤرخ الفرنسي جاك لوغوف. صدر هذا الكتاب لأول مرة عام 1957. وهو ثاني مؤلَّفٍ كتَبه بعد دراسته الأولى “التجار والمرابون خلال العصر الوسيط” (1956). ويندرج هذا الكتاب ضمن الأعمال الأولى، بما فيها كتاب “حضارة الغرب الوسيطي” (1964)، التي ضمنت له اعترافَ جماعة الباحثين في التاريخ، والتميزَ بين نظرائه من مؤرخي مدرسة الحوليات. ما يجمع بين هذه المؤلفات الأولى في مسار هذا المؤرخ الذي أصبح فيما بعد رائد الأنثروبولوجيا التاريخية بدون منازع، هو هذا الموطن الجديد الذي احتضن كل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، ألا وهو المدينة. المدينة التي أحياها الأوربيون في القرن الثاني عشر، ومنحوها وظيفة جديدة، تجارية وثقافية.
المدينة. هذا هو الفضاء الذي نشأ فيه المثقف الأوربي خلال القرن الثاني عشر. ومعلوم أن هذا القرن يوافق، لدى المؤرخين، ما يسمى بالنهضة الثانية، أي قبل نهضة القرن السادس عشر الكبرى، وبعد نهضة القرن التاسع، زمن الملك الكارولنجي شارلمان، مؤسس المدرسة. فمن أحشاء العصر الوسيط، عصر الفيودالية والكنيسة، بزغت بدايات التحول: تفككُ بنيات المجتمع الزراعي الإقطاعي، مجتمع الفرسان والرهبان والأقنان، مجتمع الحصون والأديرة، ونشوءُ بنيات جديدة ارتبطت بمجتمع حضري ينشط فيه التجار والحرفيون والمثقفون وتسود فيه مؤسسات جديدة هي المدارس والجامعات. “في البداية، يقول صاحب الكتاب، ارتبط كل شيء بالمدن. المثقف في العصر الوسيط نشأ معها، إذ مع تطور وظيفتها التجارية والحِرفية، ظهر المثقف كواحد من هؤلاء المهنيين الذين احتضنتهم هذه المدن التي فرضت تقسيم العمل”. ومعنى ذلك، أن المدينة لم تكن فقط محل رواج للسلع والبضائع، بل أيضا للكتب والأفكار. كانت الكتب تأتي إلى أوربا بفضل التجارة البعيدة كما تأتي التوابل والأحجار الكريمة وأثواب الحرير، فتحمل إلى الغرب المسيحي الثقافة الإغريقية-العربية.
المثقفون، بمفهوم هذه المرحلة، هم أهل المدينة الذين يفكرون، الذين يحترفون المعرفة، بحثا وقولا وتدريسا. البحث عن المخطوطات الإغريقية والعربية في الخزانات الخاصة والعامة، القريبة والبعيدة، وقول الشعر في الساحات العمومية، وتوليد الأفكار وتدريسها في المدارس والجامعات. وقد شكل الأدباء والخطباء والشعراء والفلاسفة وفقهاء القانون سلطة ثالثة داخل المجتمع إلى جانب سلطة الكنيسة وسلطة الدولة. لقد مكنتهم معرفتهم للغة الإغريقية وللقانون الروماني من التحول إلى “جماعة سوسيو-مهنية مؤثرة في المشهد الحضري”. لكن الفلسفة، كممارسة فكرية وكخلفية معرفية للأفكار والأشعار، هي التي ميزت المثقفين كشريحة اجتماعية ذات خصوصية على مستوى المزاج وأسلوب الحياة. بهذا الخصوص يورد جاك لوغوف نصا في غاية الأهمية للفيلسوف الدنماركي بُويسيوس دوداسي، الذي درَّس الفلسفة بجامعة باريس في أواسط القرن الثالث عشر. يقول هذا المثقف: “الفلاسفة بطبيعتهم فضلاء، أعفّاء، يتصفون بالعدل والاعتدال، بالعزم والحرية، بالطيبوبة والشهامة، يحترمون القوانين ويبتعدون عن الملذات”.
يميز جاك لوغوف في هذا الكتاب، الذي نظمه في ثلاثة فصول (نشأة المثقفين في القرن الثاني عشر، ونضج الثقافة في القرن الثالث عشر، والتحول من الثقافة الجامعية إلى الثقافة الإنسانوية)، بين أصناف عدة من المثقفين. ويستجيب هذا التصنيف للتطور الحاصل في تركيبتهم الاجتماعية والفكرية بالعلاقة مع الإكراهات السياسية والدينية التي عرفتها أوربا حتى نهاية العصر الوسيط الكلاسيكي.
يعرض الكاتب في البداية لصنفين رئيسيين من المثقفين خلال القرن الثاني عشر. مترجمون ولاهوتيون مستنيرون من جهة، وشعراء غاوُون من جهة ثانية. ما يثير الانتباه في هذه الدراسة هو التأكيد على مسألة أساسية، كون أن المثقفين الأوربيين الأوائل كانوا مترجمين. في القرن الثاني عشر، ارتبطت الثقافة بحركة الترجمة، حيث انكب أهل المعرفة، على نحو فردي أو بشكل جماعي، بمساعدة الإسبان الذين عاشوا في كنف الإسلام، على ترجمة النصوص المكتوبة أصلا بالعربية أو النصوص العربية المنقولة عن اللغة الإغريقية. لقد ترجموا كتب المنطق والفيزياء (أرسطو)، والرياضيات (أقليدس والخوارزمي)، وعلم الفلك (بطليموس)، والطب (أبقراط وابن سينا). وفي عملية الترجمة هذه برع الإيطاليون والإسبان، منهم جاك البندقي الذي اختص في ترجمة نصوص أرسطو من الإغريقية إلى اللاتينية، وجيرار كريمون الذي اشتهر بترجمة مؤلفات عالم الرياضيات الخوارزمي، وهوغ سانتالا الذي نقل إلى اللاتينية الكتب العربية ذات الصلة بعلم الفلك والكيمياء.
وإلى جانب المترجمين، برز عددٌ من المثقفين اللاهوتيين الذين وسَّعوا من مساحة العقل في تناول القضايا الدينية. ويجسد الفرنسي أبيلاردوس نموذج المثقف الذي أنجبته التحولات الاجتماعية في القرن الثاني عشر. فهو ينتمي إلى طبقة النبلاء الصغار الذين عاشوا ظروفا صعبة بسبب نماء الرواج النقدي الذي تسبَّب في تراجع الاقتصاد المرتبط بالأرض، إذ تخلى عن الفروسية وفنون الحرب والتحق بعالم المعرفة. لكن روح العراك ظلت حية في نفسه، لأنه نقل هذه الروح إلى المجال العلمي. ولذلك نعته المؤرخون بـِ “فارس الجدل”. لقد استطاع أبيلاردوس، صاحب كتاب “اعرف نفسك بنفسك”، مقارعة مدرِّسي اللاهوت والتفوق عليهم بأدوات المنطق المكتسبة من الاطلاع الواسع على الفلسفة الإغريقية، فكان “أول أستاذ” بارع في هذا الميدان.
أما الشعراء الغاوُون، أو ما يسمى بالكُولْيارديُّون، فهم أدباء تمرَّدوا على النظام الفيودالي وعلى الحروب الصليبية، وسخِروا من النبلاء ورجال الدِّين، وقالوا الشعر في الخمرة والنسوة. وتكتسي مسألة التمرد هذه على النسق الاجتماعي أهمية بالغة بالقياس إلى الوضع القائم. فقوالب المجتمع الزراعي القروي، الذي أطرته الفيودالية والكنسية، كانت إلى حدود القرن الثاني عشر قد ثبَّتت كل شخص في مكانه طبقا لإيديولوجية المراتب الثلاث: محاربون (فرسان)، ومتعبِّدون (رهبان)، وكادحون (أقنان). لكن المدن كسرت هذا الوضع، ومنحت حركية غير مسبوقة للبشر والفكر، فأصبح بإمكان هؤلاء الشعراء التنقل بحرية من مدينة إلى أخرى لطلب المعرفة بالمدارس والمساهمة في إنتاجها، رغم حالتهم الاجتماعية الصعبة، إذ كانوا يعيشون من صدقات المحسنين. ومن أشهرهم الشاعر هوغ بْريما الذي درَس بمدارس مدينة أورليان، وهام في مدن تور ومانس وباريس، حيث قال أشعارا فصيحة سخِرت من المؤسسات القائمة.
ولم تكن السلطات الدينية والسياسية لتسمح لمثل هذه الأشعار بالانتشار، فشنت حملةً من القمع والاضطهاد في حق هذه الشريحة من المثقفين إلى أن قضت عليهم. لكن التطور المتواصل الذي كانت تعيشه المدن أفرز صنفا جديدا من الأدباء والأساتذة المرتبطين بمؤسسات جديدة هي الجامعات. ففي القرن الثالث عشر، تحولت عددٌ من المدارس إلى جامعات في الكثير من المدن بفرنسا وإيطاليا وإنجلترا. “القرن الثالث عشر، يقول جاك لوغوف، هو قرن الجامعات”. في باريس مثلا، تمكَّن روبير سوربون (1201-1274)، وهو راهب مستنير، من تأسيس مدرسة تردَّد عليها إثنا عشر طالبا، وجهزها بكتب من مكتبته الخاصة ومكتبات أخرى حتى صارت تتوفر على ألف مجلد، ووضع لها نظاما من الدراسة والتمرين والامتحان خضع له الطلاب الممنوحون وغير الممنوحين. وهذه المدرسة هي التي شكلت النواة الأولى لجامعة السوربون.
من الناحية السوسيولوجية، اندرجت نشأة الجامعة ضمن دينامية المدينة التي انتظم تجارها وحرفيوها في هيئات تجارية وحرفية، فكانت الجامعة هي الأخرى هيئة تجمع محترفي المعرفة الذين يشتغلون بالآداب والفنون والعلوم، مدرِّسون ودارِسون، بواسطة الكتاب الذي شكَّل الأداة الرئيسية لهذه الحرفة. لقد استقامت شؤون الجامعة منذ البداية وفق تراتبية معلومة وقواعد مضبوطة وأنظمة مخصوصة على مستوى سير الدروس وإجراء الامتحانات ونيل الشهادات من الباكلوريا إلى الدكتوراه مرورا بالإجازة التي تمكن الحاصل عليها من ولوج عالم التدريس. هذا الانتظام المعرفي هو الذي مكَّن، مع مرور الوقت، من كسب نوع من الاستقلالية إزاء السلطتين، الدينية والسياسية.
لقد أصبحت جماعة المثقفين مع نشأة الجامعة واتساعها جزءً لا يتجزأ من النسيج الحضري للمدينة. نقرأ في نص حول مدينة باريس بقلم راهب إرلندي زار السوربون في نهاية القرن الثالث عشر، ما يلي: “مدينة باريس مثل أثينا، مقسمة إلى ثلاثة أقسام: قسم أول خاص بالتجار والحرفيين وعامة الناس، ويسمى المدينة الكبيرة، وقسم ثانٍ خاص بالنبلاء حيث يوجد قصر الملك والكاثيدرائية، ويسمى لاسِيتِي، وقسم ثالث خاص بالطلاب والمدارس، ويسمى الجامعة”.
رسم المثقفون المعرفة بالمدارس الأوربية في إطار ما يعرف بـِ “الفنون الحرة” التي انتظمت في شعبتين رئيسيتين. شعبة الرابوع أو المسالك الأربعة (quadrivium)، وشعبة الثالوث أو المسالك الثلاثة (trivium). كان توجه الرابوع علميا، إذ ضم الحساب والهندسة وعلم الفلك والموسيقى، بينما كان الثالوث أدبيا يدرس ضمنه الطلاب النحو والبلاغة والجدل. وعلى مستوى التدريس، حرص الأساتذة على خلق جسور بين الشعبتين، بالتركيز على مواد الثالوث لأنها أساس التواصل وتبليغ المعرفة مهما كانت طبيعتها. هذه هي المعارف التي كان يجب على الطلاب تحصيلها قبل الالتحاق بالجامعة للتعمق في فرع معرفي محدد. التاريخ مثلا كان فرعا من فروع البلاغة. لقد شكلت “الفنون الحرة” في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تطورا كبيرا في نظام التدريس بالقياس إلى الهيمنة التي مارسها اللاهوت على هذا النظام على مدى قرون، وإن لم تكن هذه الفنون أمرا جديدا في الثقافة الأوربية، لأن جذورها تعود إلى الثقافة الإغريقية-الرومانية، التي كان قد أحيا روحها العالم الإنجليزي ألكْوِين الناطق باللاتينية، مهندس نهضة القرنين الثامن والتاسع، وواضع البرامج في مدارس إمبراطورية شارلمان.
وعلى مستوى طريقة التدريس، كان الدرس (lectio) والنقاش (disputatio)، هما الأساس. الدرس لتلقي المعرفة من خلال الاشتغال حول النصوص وتفكيكها وتفسيرها، والنقاش للتناظر حول موضوع من الموضوعات ذات الصلة باللاهوت والمنطق. وفي كل هذه العمليات كان على الطالب أن يتعلم سبل الفهم والبرهنة والتبليغ. ومن جهة أخرى، كانت لغة التدريس هي اللاتينية في كل جامعات أوربا. وهذه الوحدة اللغوية هي التي يسَّرت حركة المثقفين بين البلدان.
الإشكالية التي واجهها المثقفون الأوربيون في القرن الثالث عشر هي إشكالية العلاقة بين الدين والعقل. كانت أعمال الترجمة ذات الصلة بأفكار أرسطو وابن رشد قد خلقت تيارا فلسفيا مشككا في الإيمان. لقد ارتبط المثقف بالفلسفة وبصرامة الموقف. في جامعة باريس كانت قد تشكلت جماعة من المثقفين الأرسطيين والرُّشديين، مثل البلجيكي سيكار دوبرابان والدنماركي بُويسيوس دوداسي، الذين برعوا في الحِجاج والصرامة المنطقية، وفعفعوا بالبرهنة العقلية يقين السكولاستيكيين المبني على الجمع بين أرسطو والإنجيل، والذي قاده الألماني، ألبيرتوس ماغنوس، وتلميذه، الإيطالي توماس الأكويني. يقول جاك لوغوف بهذا الشأن: “في الوسط الرشدي بكلية الفنون (جامعة باريس) تكوَّن مثال المثقف الصارم”.
ومعلوم أن الانكباب على هذه الإشكالية قد أحرج الكنيسة، وجعل أربابها يتخذون موقفا من كل قضية. سنة 1210 أصدر البابا قرارا بمنع تدريس “فيزياء” أرسطو بهذه الكلية، وإن كان قرار المنع هذا قذ ظل صوريا، لأن البرامج الجامعية حافظت على تدريس الكتب الممنوعة. وقد استمرت الرقابة على الكتب والأفكار بطرق شتى. ففي عام 1277، أدان أسقف باريس إتيان توبي مثقفي الكلية، واضعا قائمة من 219 مقولة فلسفية، اعتبرها من البدع التي تجب محاربتها، منها أن المسيحية “لها خرافاتها وأخطاؤها كباقي الديانات”، وأنها “حاجز أمام العلم”. هذه الإدانة، التي عرَّضت الأساتذة لشتى أنواع التضييق والملاحقة والاضطهاد، وحرمت عددا من الطلاب من الحصول على الإجازة والدكتوراه، لقيت مساندةً من طرف أساقفة أوربا، في مقدمتهم أسقف كانتيربوري، اللاهوتي روبيرت كيلواردبي.
في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وبالرغم من انتشار المؤسسات الجامعية في مختلف أنحاء أوربا، إذ تأسست جامعات في روما وكولونيا وفيينا وكلاسكو وكوبنهاكن إلى جانب الجامعات الأولى في باريس وأكسفورد، فإن المثقفين الأوربيين أظهروا محدوديتهم من الناحية الإبداعية. ثم إن عددا منهم إما خضعوا لسلطة الكنيسة وظلوا يسبحون في فلكها بتكرار المقولات اللاهوتية، أو ارتبطوا بالمونارشيات الناشئة لتبرير سلطة الدولة القومية الجديدة. في هذا السياق برز مثقفون جدد، متحررون من قبضة الكنيسة، وهيمنة الدولة، ومنطق التفكير الذي غلبت عليه اللغة اللاتينية. وهؤلاء المثقفون هو الإنسانويون. أدباء ومصلحون دينيون، أشهرهم أليغيري دانتي، وجيوفاني بوكاس، وفرانسيسكو بيتراركه، وليوناردو بروني، وديديي إيراسم، وفرانسوا رابلي، ولورينزو فالا، وتوماس مور، وجون هوس، ومارتن لوثر وجون كالفن، وغيرهم ممن أبدعوا أفكارا جديدة وضعت الإنسان في صلب الاهتمام الأدبي والفني والفكري، ودعوا إلى التحرر من التقاليد والموروثات، وانتقدوا الكنيسة الكاثوليكية وبلوروا رؤية دينية جديدة تقضي بفردانية الصلة بين الفرد وخالقه.
لقد حصلت هذه النقلة، من المثقف الجامعي إلى المثقف الإنسانوي، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. المرحلة التي توافق ما يعرف بالنهضة. النهضة الكبرى. نهضة الفكر وإصلاح الدين وارتقاء اللهجات المحلية. إنه عصر الإصلاح الديني الذي أفرز مذهبا جديدا (البروتستانتية). عصر المطبعة التي ساهمت في نشر المعرفة على نطاق واسع. عصر الكشوفات الجغرافية التي فتحت أعين الأوربيين على عوالم جديدة. عصر اللهجات المحلية التي حدَّت من نفوذ الثقافة العالمة.
لكن هذا التحرر من قيود الجامعة حمل في طياته وضعا ثقافيا اتسم بالنخبوية. فإذا كان مثقفو القرن الثالث عشر قد ارتبطوا بالمدارس والجامعات ودرَّسوا جمهور الراغبين في التحصيل المعرفي، فإن مثقفي عصر النهضة فضلوا ممارسة التفكير في الأكاديميات المغلقة التابعة للأمراء والملوك. في إيطاليا، استقطبت أكاديمية فلورانسا الأفلاطونية التي أسسها آل الميديسيس عام 1459، عددا من الأدباء والفلاسفة. وكذلك الشأن في فرنسا. “لما غزت الإنسانوية مدينة باريس، يقول صاحب الكتاب، لم تلقَّن أفكارها بالجامعة، بل في مؤسسة مخصصة للنخبة: كوليج القراء الملكيِّين، الذي تحول فيما بعد إلى كوليج دو فرانس”. وفي هذه الدينامية الفكرية الجديدة، ركز المثقفون الإنسانويون على الشعر، على التأمل، على البعد الجمالي في الكتابة. في الجدل الذي ساد في النصف الثاني من القرن الخامس عشر حول النصوص المترجمة من الإغريقية إلى اللاتينية، ولاسيما نصوص أرسطو، كان الإنسانويون في انتقادهم للسكولاستيكيِّين يولون أهمية قصوى للشكل، للصياغة، للكلمة، حتى أن بعضهم أعاد ترجمتها، كما صنع الأديب الإنسانوي الفلورانسي ليوناردو بروني، الذي نشر ترجمة جديدة لكتاب “الأخلاق” لأرسطو.
ويختم جاك لوغوف كتابه بفقرة جميلة حول الفرق بين المثقف الجامعي والمثقف الإنسانوي: “الأول أستاذ، غارق في التدريس، محاط بالطلاب، محاصر بالطاولات المملوءة عن آخرها، والثاني عالِـم منعزل، هادئ في مكتبه، مرتاح وسط غرفته المرتبة والفاخرة حيث تجول الأفكار بحرية. هنا صخب المدارس، وغبار قاعات الدرس، وإهمال المشهد المحيط بالمجهود الجماعي، وهناك كل شيء ذي نظام وجمال، وترف وانتشاء”.
منذ بداية مساره باحثا ومثقفا، وجاك لوغوف يتناول الموضوعات الإشكالية، ويشق دروبا جديدة وعديدة في ميدان التاريخ الاجتماعي والثقافي. سنة صدور هذا الكتاب، في أواسط القرن العشرين، كانت الدراسات حول تاريخ الثقافة والمثقفين قليلة جدا. اليوم تعدَّدت هذه الدراسات وقدمت أشياء إضافية كثيرة بتسليط الضوء على مثقفين مغمورين أو بتناول القضايا التي طرحت في القرن الثالث عشر بكثير من النسبية، كالأرسطية والرُّشدية مثلا. لكن هذا الكتاب، الذي يهم المؤرخين والفلاسفة على السواء، يمثل إسهاما رئيسيا لفهم نشأة المثقفين، لفهم جينيالوجيتهم، لفهم السلطة المعرفية التي أسَّسوا لها ووضعوها على محك السلطتين الفاعلتين في الفضاء العام، وهما سلطة الكنيسة وسلطة الدولة. وهذه السلطة الجديدة، سلطة الثقافة، لن تتوقف ديناميتها خلال القرون اللاحقة التي توافق الأزمنة الحديثة. فمن المثقف الغاوٍ إلى المثقف الجامعي إلى المثقف الإنسانوي إلى المثقف التنويري، نمت هذه الشريحة، مع مرور الوقت، وكبرت مع نمو الطبقة البورجوازية وكبرها، فأنجبت مفكرين كبار أكثر جرأة وشدة، من أمثال روني ديكارت، وباروخ سبينوزا، وجون لوك، وبيار بايل، وفرانسوا فولتير، وشارل مونتيسكيو، وجان جاك روسُّو، ودونيس ديدرو، وإيمانويل كانط، وفريديريك هيجل، وكارل ماركس، وغيرهم من الفلاسفة والأدباء ممن لعبوا دورا بالغا في قلب نظام التفكير ونظام المجتمع ونظام السلطة.
الأستاذ حبيدة كان فضلك سيكون كبيرا”لو أتتمت هذه القراءة الممتعة لهذا السفر التاريخي المتميز ، عبر قيامكم بترجمة الكتاب المذكور الى اللغة العربية ، حتى يتاح لنا ، نحن حبيسي لغة الضاد فحسب ، الاستفادة مما يفيض به مع معلومات قيمة . وعلى اية حال شكرا”لك لأنك أتحت لنا هذه الاطلالة