الخميس , 5 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » الذاكرة بين البحث الأكاديمي والبعد البيداغوجي

الذاكرة بين البحث الأكاديمي والبعد البيداغوجي

عبد العزيز الطاهري، الذاكرة والتاريخ: المغرب خلال الفترة الاستعمارية (1912-1956)، الرباط، دار أبي رقراق، 2016.

 

kiraat_0517صدر للباحث عبد العزيز الطاهري، أستاذ التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط، كتاب “الذاكرة والتاريخ: المغرب خلال الفترة الاستعمارية (1912-1956)” عن دار أبي رقراق سنة 2016. وقد حاز هذا الكتاب جائزة المغرب للكتاب في صنف العلوم الإنسانية برسم سنة 2017.

يتموضع هذا الكتاب في نقطة الالتقاء بين البحث التاريخي الأكاديمي والوظيفة الاجتماعية للتاريخ المدرسي (تلقين الذاكرة الجماعية)، مما يستدعي توجيه قراءة الكتاب لاستنطاق المعرفة التاريخية والمدرسية في موضوع الذاكرة، “لا عما تريد أن تقوله فحسب، بل وعما إذا كانت تقول الحقيقة، وبأي حق تدعي ذلك، وما إذا كانت تقول الصدق أم تزيفه” (ميشيل فوكو). وبالتالي، فإن هذه القراءة تنشد أفقا مزدوجا: أولا، التأطير النظري والمنهجي والتحليل المعرفي لقضايا الذاكرة. وثانيا، استثمار هذا “التراكم” الأكاديمي لمساءلة الخطاب التاريخي المدرسي حول ماهية “الذاكرة” ومقاصدها، وتفكيك  مضامينها المعلنة أو المضمرة…الخ.

ينبني هذا الاختيار (المزاوجة بين النقاش النظري- الأكاديمي وتحليل الخطاب التاريخي المدرسي) على تقديرين اثنين: أولهما، عمق الهوة بين البحث التاريخي وتدريس التاريخ بالمؤسسات التعليمية والبحث الديداكتيكي، كما لاحظ ذلك  عبد الرحمان المودن، في مستهل قراءته لكتاب “التفكير التاريخي” لمصطفى حسني الإدريسي، كمؤلف مرجعي في الديداكتيك. وتجسد قضايا الذاكرة، كموضوع للتاريخ الأكاديمي، وكوظيفة اجتماعية للتاريخ المدرسي، مثالا شاخصا لهذا التباعد/ الانفصال بين المعرفة (التاريخية) الأكاديمية والمدرسية والديداكتيكية.

وثاني التقديرين، يتعلق بندرة البحث التربوي حول قضايا “الذاكرة الجماعية” في الخطاب المدرسي، وخاصة في مواد الاجتماعيات، مما يؤكد الحاجة اليوم إلى التداول العمومي، وخاصة بين الفاعلين التربويين، في رهانات الخطاب التاريخي المدرسي حول قضايا الذاكرة والهوية…الخ.

تتركب هذه الورقة من إضاءة نظرية ومنهجية، وقراءة تفكيكية للذاكرة في مرآة التاريخ المدرسي.

 

أولا، إضاءات نظرية: في مفهوم  الذاكرة، خصائصها وآليات اشتغالها.

إن الذاكرة، كمفهوم ملتبس، ليست استرجاعا مباشرا وتأملا للتجارب والأحداث الماضية فقط، بل هي القدرة على التمثل الانتقائي لهذا الماضي بشكل إرادي أو لا إرادي، قصد إعادة بناء وإعادة هيكلة الهوية الفردية والجماعية.

في هذا الصدد، ميَّز بيير نورا، في دراسته حول “التاريخ والذاكرة”، بين الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية: فالأولى هي “صورة ذكرى أو مجموعة ذكريات واعية أو غير واعية لتجربة معاشة أو مشبعة بحمولة أسطورية، قوامها هوية جماعية ذات ارتباط وثيق بالإحساس بالماضي… وإرث غير قابل للتصرف، وفي الوقت ذاته سهل الاستعمال وأداة نضال وسلطة”. وعلى العكس من ذلك، يضيف بيير نورا، فإن الثانية -الذاكرة التاريخية- هي”الذاكرة الجماعية لجماعة المؤرخين” كثمرة للتقاليد المعرفية والعلمية.

وإذا كان الباحث عبد الطاهري قد أشار إلى الاختلافات بين الذاكرة الجماعية والذاكرة الفردية، ورغم وعيه بالفوارق بين الذاكرة الجماعية والذاكرة الجمعية، كما تبلورت في السوسيولوجيا الفرنسية، فإنه استنكف عن التدقيق في تمايزاتهما، لتبنيه الضمني لمنظور بول ريكور بصدد انتساب الذاكرة إلى كل الضمائر النحوية: أنا، هي/ هو، نحن، هم.

والحال أن عدم التمييز بين الذاكرة الجماعية (الخاصة بجماعة وحيدة معينة داخل المجتمع)، والذاكرة الجمعية (كذاكرة مشتركة بين مختلف مكونات المجتمع، أي مجمل كل الذاكرات الجماعية)، ترتب عنه مخرجات لم تراع “واجب الذاكرة”، مما جعل دراسة القضايا المعرفية والتاريخية (الباب الثاني من الكتاب/ الأطروحة)، تختزل كل الفعل الوطني في النخب المدينية/ المتعلمة التي امتلكت سلطة وامتياز الكتابة عن ذاتها وماضيها، وبالتالي فإن هذه “الذاكرة  المبتورة” لم تستوعب  المساهمة الوطنية لكل القوى الاجتماعية والسياسية لحركة التحرر.

وفي المحصلة، فإن الكتاب، رغم ثرائه النظري والمنهجي، ركز، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، على الذاكرة الجماعية للنخب الحضرية من الحركة الوطنية، ولم يتناول الذاكرة الجمعية/مجمل كل الذاكرات الجماعية (الحركة العمالية- الحركة النسائية- المجالات الهامشية أو المغرب غير النافع)،  وهو ما يعني أننا بصدد “ذاكرة مدبَّرة” (بول ريكور).

ميَّز المؤلف في الكتابات الذاكرية بين: المذكرات- والسيرة الذاتية- والسير- والكتابات التاريخية والسياسية والصحافية،  كما نبه، في المبحث الثاني-الفصل الأول، من الخلفيات والأبعاد النفسية والسوسيولوجية والسياسية، المعلنة أو المضمرة، للكتابات الذاكرية. فهي، من حيث خلفيتها النفسية، مشبعة بمركزية الذات، ولا تضع المسافة المطلوبة بين الذات والموضوع. وتثني – من المنظور السوسيولوجي- على دور الشاهد/ الفرد/ البطل في صناعة التاريخ مع نفي مساهمة باقي القوى الاجتماعية. ولأن السرد التاريخي مجال للصراع، فإن الكتابة الذاكرية، بكثافة خطابها السياسي، ترمي، في هذا الجانب، إلى إعادة بناء المشروعية التاريخية والوطنية (كرأسمال رمزي).

وعموما، فإن إغراق الذاكرة الجماعية بمركزية الذات، كونها أيضا مجال للصراع السياسي، وخاصة في قضايا الهوية، يؤكد الحاجة، اليوم، إلى بناء ذاكرة تاريخية تستوعب كل المساهمات الوطنية، وتقر بالتعددية الثقافية والجهوية لكل المكونات الوطنية.

في سياق تحليله لعلاقة الذاكرة والتاريخ (تماثل أم تمايز؟)، انكب المؤلف “على دراسة تاريخ تمثل الشعوب والأفراد لماضيهم، وكيفية اشتغال الذاكرة الجماعية وتحولاتها”، حيث استخلص هيمنة مركزية التأريخ للذاكرة الأوربية باعتبارها محور تطورات الذاكرة البشرية.

وتبلورت لدى الشعوب الشفاهية “ذاكرة إثنية”، تطغى عليها الأسطورة، وتتمحور حول المصالح الطبقية والرمزية والثقافية. بيد أن اكتشاف الكتابة، أفرز تطورا مزدوجا للذاكرة الجماعية: التخليد والاحتفالات بواسطة المعالم التذكارية، وتبلور السياسة الذاكرية للملوك في سياق الاعتماد على الوثيقة المكتوبة.

في التاريخ الإغريقي، اشتغلت الذاكرة لفائدة العائلات النبيلة والملكية ورجال الدين. وإذا كانت الذاكرة، في العصر الوسيط الأوربي، ذات وظيفية دينية، فإنها كانت (وما تزال) تجسد، في العالم الإسلامي، الحنين إلى العصور الذهبية للإسلام. وانتقل تركيز الذاكرة على الإنسان في العصر الحديث، إلى الذاكرة الوطنية في التاريخ المعاصر، ثم تبلورت الذاكرة الإلكترونية في سياق الثورة الرقمية.

انطلاقا من هذه التجارب، يخلص الكتاب إلى أنه كلما تطورت المعرفة التاريخية، تراجعت الذاكرة الجماعية، لينتهي هذا التطور بالانتقال من التاريخ جزءً من الذاكرة إلى الذاكرة موضوعا للتاريخ (الذاكرة تمون التاريخ كما قال جاك لوغوف). وتعزز الطلاق غير المحسوم للذاكرة والتاريخ باختصاص الأخير-كمهنة- في معرفة الماضي بشكل نقدي وعلمي، مقابل اهتمام الذاكرة –كهواية- بتشكيل الماضي كوسيلة لإعادة بناء الهوية الفردية والجماعية.

يستدعي هذا الوعيُ بالتمايز بين الذاكرة والتاريخ، في تمثل الماضي، على مستوى مصدر الكتابة وطبيعة السرد وصدقية الحقيقة التاريخية (غير النهائية)، بالضرورة، استنطاقَ المتن/الكتابات الذاكرية، بهاجس نقدي، في ضوء التراكمات النظرية والمنهجية لحقل التاريخ.

 

ثانيا، الذاكرة في مرآة التاريخ المدرسي: ضمير الأنا!

إذا كانت الإسطوغرافيا، التقليدية والاستعمارية والوطنية، تفتقر لمقومات الكتابة التاريخية في موضوعي الذاكرة والتاريخ، فإن التاريخ الأكاديمي، رغم تراكماته النوعية والكمية، لم يتحرر من المنظور الوطني السجالي في تناوله لهذه القضايا. وهي الخلاصة ذاتُها التي تنسحب على المؤسسات الرسمية والمراكز الحزبية، التي تناولت موضوع الذاكرة، لغلبة طابعها التمجيدي ولرهاناتها السياسية والإيديولوجية.

والواقع، أن انتعاش النقاش والتداول، في الفضاء العمومي أو الأكاديمي، حول الذاكرة بالمغرب كان مدفوعا بدينامية الحركة الحقوقية، تصفية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان – الحركة الثقافية الأمازيغية، تحت سقف الحالة السياسية؛ التي وصفها عبد الأحد السبتي، باستعارة مفهوم بول باسكون، بالانتقال المركب: تقاطع مستويات الاستمرار مع مستويات التغيير.

وفقا للتوجيهات التربوية لسنة 1994، فإن وحدة الاجتماعيات ترتكز، في إطار عام، على المعارف والمناهج والقواعد المستمدة من مختلف فروع المجال المعرفي للعلوم الاجتماعية. وعلى أساس “أولوية الاهتمامات الوطنية والقومية، حددت برامج ذات صبغة وطنية وقومية، متحررة من رواسب التأثير الاستعماري”.

لكن المنهاج الحالي، لمادتي التاريخ والجغرافيا، يميز، لأول مرة في تاريخ تدريس المادة، التاريخ المدرسي عن التاريخ العالمي، حيث حددت التوجيهات التربوية وظيفتين للتاريخ المدرسي: وظيفة فكرية (تنمية الفكر النقدي)، ووظيفة اجتماعية (التكوين الشخصي للإنسان- تلقين الذاكرة الجماعية..)، اعتبارا من أن التاريخ حاجة اجتماعية قبل أن يكون حاجة علمية، مما يجعل وظيفته الاجتماعية، وفق التوجيهات التربوية للمادة في التعليم الثانوي التأهيلي، في “إنماء شخصية وطنية أصيلة، تحترم مكونات الهوية الوطنية، وتراعي مضامينها الخصوصيات الجهوية والمحلية”.

ما يهمنا، هنا، هي الوظيفة الاجتماعية للتاريخ المدرسي المرتبطة “بتلقين الذاكرة الجماعية”. والأسئلة المطروحة، باستثمار التراكمات المنهجية للكتاب، موضوع الدراسة، هي: ما نوعية الذاكرة التي يلقنها الخطاب التاريخي المدرسي للناشئة؟ وهل تتطابق مضامين الذاكرة المدرسية مع التراكمات التي حققتها الدراسات التاريخية؟ وهل تحرر فعلا التاريخ المدرسي من نزعته القومية، التي لازمته في المرحلة السابقة عن الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة بتفكيك الخطاب التاريخي المدرسي، الوارد في الكتاب المدرسي للسنة الثانية باكلوريا آداب وعلوم إنسانية. وفي الآن نفسه، سنستأنف الحوار مع كتاب “الذاكرة والتاريخ” في هذه القضايا التاريخية والمعرفية: ظهير 16 ماي 1930- وثيقة 13 يناير حول مطلب الاستقلال والديموقراطية- مساهمة الهامشيين في “الذاكرة الجماعية”.

بعمق تحليلي نقدي، قارن المؤلف بين منظورين متناقضين لظهير 16 ماي 1930: منظور الحركة الوطنية، التي اعتبرته الحدث/البؤرة لميلاد الوطنية المغربية، بيد أن المؤلف طرح فرضية استغلال الحركة لهذا الحدث للظهور العلني وإعلان الذات، مبرزا  كثافة الأبعاد الذاتية في الخطاب الذاكري، الذي تناول الموضوع، من حيث تضخيم دور الذات/ الراوي، أو من حيث مركزية المجال الحضري الذي ينتمي إليه الشاهد.

بالمقابل، انتقد منظور الحركة الثقافية الأمازيغية الخلفيات الإيديولوجية والعنصرية لتسمية “الظهير البربري”، وتوظيفه لبناء هوية مغربية مستلبة تجاه الشرق (القومية).

أما كتاب التلميذ-ة للتاريخ، في السنة الثانية من سلك الباكلوريا، فإنه يعتمد، رغم كل الانتقادات، منظور الحركة الوطنية القائم على الدور المركزي لـ”ظهير 16 ماي في بروز الحركة الوطنية”، واعتماد وثيقتين بذات المعنى، حول ما يسميه بـ”السياسة البربرية”، لترسيخ المنظور الاختزالي للهوية لدى المتعلم-ة/ المواطن-ة المستقبل، كما تبنته الحركة الوطنية، رغم أن امتداداتِها الحزبية، كحالة حزب الاستقلال، راجعت منظورها للحقوق الثقافية الأمازيغية.

في هذا الموضوع، هناك ملاحظتان (بيداغوجية ومعرفية):

بيداغوجيا: رغم تأكيد الميثاق الوطني، في المرتكزات الثابتة، على أن النظام التربوي يتأصل في التراث الحضاري والثقافي للبلاد بتنوع روافده، ورغم حرص الوزارة الوصية، على وضع دفتر للتحملات المتعلق بتأليف الكتب، لتفادي المضامين ذات “النزعة التمييزية… أو ما يوحي بتكريسها، وأن تنفتح على التنوع الثقافي”، فإن كتاب التلميذ-ة، المشار إليه، انحرف عن كل هذه التوجيهات، بتمريره لخطاب تاريخي، في المدرسة العمومية، يقوم على إلغاء مكون أساسي في الهوية الوطنية، وتمرير مواقف لا تراعي الهوية الثقافية المغربية، المفترض حمايتها من طرف الدولة وفق أحكام الفصل الخامس من دستور 2011.

معرفيا: في كل الوحدات التعلمية، التي تتناول حركات التحرر، يظهر نمو الوعي الوطني، وبالتالي ميلاد الحركة الوطنية/حركات تصفية الاستعمار، نتيجة للتحولات الاجتماعية الناجمة عن قساوة الاستغلال الاستعماري. بيد أن كتب التلميذ.ة، باختلافاتها (الجديد- الشامل- في الرحاب)، تجمع على أن سبب ولادة الحركة الوطنية المغربية هو ما تسميه ب”الظهير البربري”.

وبالتالي، فإن انتظام الخطاب التاريخي المدرسي وفق مضمون الخطاب الذاكري للحركة الوطنية، رغم تناقض روايات رموزها، تحكمه، في واقع الحال، نفس الخلفيات السياسية والإيديولوجية السابقة: تضخيم دور النخب الوطنية المدينية- مركزية المجال الحضري- احتكار المشروعية- إلغاء مساهمة الهامشيين في حركة التحرر ….الخ.

انطلاقا من هاتين الملاحظتين، يظهر أن الخطاب التاريخي المدرسي ليس موضوعيا ومحايدا (ليس هناك خطاب بريء، رولان بارث)، بل يعيد إنتاج منظور الحركة الوطنية لهذه القضايا التاريخية، وبالتالي، تحولت المدرسة كحارسة للرأسمال الرمزي للحركة الوطنية المدينية.

وفي السياق ذاته، فإن المتأمل، مثلا، للصور التاريخية الخاصة بهذه المرحلة، يستخلص أن الموضوع التاريخي المركزي هو الملك محمد الخامس وأن “الشعب”، ذلك المجهول، لم يكن إلا مساعدا له. وتؤكد الدعامات الديداكتيكية لكتاب التلميذ.ة (الجديد في التاريخ- السنة الثانية باكلوريا) هذا الاستنتاج بشكل جلي، حيث أوردت، في الوحدة 4: كفاح المغرب من أجل الاستقلال واستكمال الوحدة الترابية، أربعة صور للملك محمد الخامس من أصل ثمانية صور معتمدة في هذه الوحدة.

من جهة أخرى، تظهر مسألة الهامشيين في “الذاكرة الجماعية” من خلال الحركة العمالية ومجالات هامشية أخرى. بخصوص الحركة العمالية، شكلت مذكرات النخبة الحزبية الحضرية، التي تكونت حسب ألبير عياش، من “مثقفين ذوي تكوين إسلامي أو غربي، منحدرين، في معظمهم، من البورجوازية المتوسطة، إلى جانبهم بعض الأغنياء..الممنوعين من السبل المؤدية للإدارة والسلطة”، المادة الأساسية والوحيدة في دراسة القضايا المعرفية والتاريخية. إن تركيز الكتاب (الذاكرة والتاريخ) على هذا النمط من المذكرات، ذات الطابع الحزبي، يعني إلغاء ذاكرة باقي الفاعلين؛ وفي مقدمتهم ذاكرة الفاعل النقابي، خاصة وأن الحركة العمالية (كالاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب) خاضت نضالات طويلة وقاسية ربطت بين المطالب الاقتصادية والدفاع عن الحريات والقضية الوطنية. وهو التهميش ذاته الذي طال المساهمة الوطنية للحركة النقابية المغربية في الخطاب المدرسي التاريخي، على خلاف التأليف المدرسي التونسي (مثال: درس الحركة الوطنية التونسية في العشرينيات) الذي يحتفي بالنضال الاجتماعي والوطني للحركة النقابية التونسية.

ولم يكن التنافس بين مكونات الحركة الوطنية حول التقدير السياسي للمواقف فقط، بل اشتد هذا التنافس، تحت تأثير الانتماءات المجالية، بين الحركة الوطنية في المنطقتين الشمالية (الخليفية) والجنوبية (السلطانية)، حول من له أسبقية إعلان المواقف والمبادرات في المطالبة بالإصلاحات، وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. كما اخترق هذا الصراع رموز الحركة الوطنية، في المنطقة السلطانية، حول أسبقية المدينة، التي ينتمي إليها الراوي/الشاهد، في النضال الوطني.

وبصرف النظر عن خلفيات هذا الصراع، فإنه يستبطن مركزية المدن الكبرى، موطن النخب المتعلمة و”البورجوازية”، مما يلغي من الذاكرة المساهمة الوطنية للمجالات الهامشية. وبالتالي، فالمطلوب، على الأقل في التاريخ المدرسي، تخصيص أنشطة تعلمية (شهادات شفوية)، في إطار التاريخ الجهوي، لإبراز مساهمة رموز الحركة الوطنية في هذه المناطق والجهات التي تعتبر المحيط الثقافي والاجتماعي للمؤسسات التعليمية.

الذاكرة، إذن، ليست ملتبسة من حيث مفهومها، بل ملتبسة أيضا من حيث مضامينها، وتنطوي/ تختزل  ذاكرات متناقضة ومتصارعة: ذاكرة مهيمنة في مقابل ذاكرة مقصية، وذاكرة المركز في تعارض مع ذاكرة الهامش:

  • الذاكرة المهيمنة: يبدو أن الخطاب الذاكري السائد يكرس رواية النخب الوطنية، بما تستبطنه من مركزية الذات، واحتكار المشروعية التاريخية، وتستفيد من كل وسائط التنشئة الاجتماعية (المدرسة- الإعلام..) لترسيخ منظورها وتمثلها للماضي.
  • الذاكرة المبتورة: أنصت الكتاب لوجهات نظر مختلفة (الملك الراحل الحسن الثاني- الوطنيون في المنطقتين الشمالية والجنوبية- المسؤولون الفرنسيون- المتعاونون مع الاستعمار..)، لكنه لم يجد حيزا للاستماع لرواية رموز الحزب الشيوعي المغربي ولقيادات العمل النقابي حيال القضايا المعرفية والتاريخية المطروحة في الباب الثاني من “الذاكرة والتاريخ”.
  • الذاكرة الذكورية: يظهر من خلال المذكرات المعتمدة في الدراسة غياب مذكرات لنساء وطنيات حول أحداث المرحلة، رغم التأسيس المبكر لأخوات الصفا، كتنظيم نسائي موازي لحزب الشورى والاستقلال، في 23 ماي 1947، ومساهمة المرأة في كل مراحل الكفاح الوطني.
  • ذاكرة المركز: مركزية الوطنية المدينية، مقابل تهميش مساهمة المجالات المغربية، التي تنتمي إلى “المغرب غير النافع”، في النضال الوطني.

بهذا المعنى، فإن الكتاب يتناول الذاكرة الجماعية للنخبة الحضرية، ولا يقدم، في الباب الثاني، دراسة شاملة لمجمل الذاكرات الجماعية (الذاكرة الجمعية)، وهو ما يستدعي، إلى جانب الانفتاح على شهادات وروايات شفوية حول القضايا المعرفية والتاريخية المطروحة للنقاش مباشرة، عملا نقديا مزدوجا (عبد الكبير الخطيبي): تفكيك المعرفة التي يغلب عليها الطابع الغربي وإيديولوجيته المتمركزة حول الذات، وفي الوقت ذاته نقد المعرفة التي أنجزتها مجتمعاتنا حول ذاتها.

وخلاصة القول، يعتبر الكتاب مساهمة جادة في إثراء البحث التاريخي، منهجيا ونظريا، حول قضايا الذاكرة والتاريخ، ومساءلته بوعي نقدي خلفيات أسطرة التاريخ الوطني. هذا ما يعزز الحاجة إلى استمرار البحث التاريخي في الموضوع، لدراسة ذاكرة الهامشيين، وبالانفتاح على الوثائق غير التقليدية، في أفق تشكيل ذاكرة تاريخية تحتضن كل الذاكرات الجماعية، بما يتناسب، على الأقل، مع متطلبات مغرب المصالحات.

وترتيبا على الملاحظات السابقة، فإن التحولات التي تطال الرهانات المجتمعية، بالانتقال من الوطنية إلى المواطنة، يفرض مراجعة مضامين التاريخ المدرسي، ذات العلاقة بالوظيفية الاجتماعية، لمصالحة الناشئة المغربية مع ذاكرتها الجمعية.

 

- حميد هيمة

باحث من سيدي سليمان

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.