Zette Guinaudeau, Fes vu par sa cuisine (1957), Rabat, Laurent, 1966.
يعتبر هذا الكتاب من أشهر مؤلفات الفرنسية زِيت كينودو، وقد صدرت له عدة طبعات يرجع تاريخ أولاها لسنة 1957. ليست صاحبته بالكاتبة ولا الصحفية ولا الرحالة ولا حتى الدبلوماسية، بل هي كما تصف نفسها في الكتاب “مجرد طبّاخة”. عاشت في فاس رفقة زوجها الطبيب كينودو لأزيد من ثلاثين سنة، متنقلة بين بيوتات المدينة الراقية ومتجولة بين دروبها وأزقتها وفي رحاب روابي ووديان باديتها.
مكّنتها هذه الإقامة الطويلة بفاس من تعلم اللهجة المغربية والتعرف على تفاصيل بعض جوانب الحياة اليومية، بل تجاوزت ذلك إلى الغوص في أعماقها واكتشاف خباياها ودواخلها. لذلك فإن كتابها يكشف أسرار عالم خفي لم ير معاصروه من المثقفين جدوى التعبير عنه أو وصفه، ولم يملك صانعوه الحقيقيون من البسطاء الأدوات المعتادة للتعبير عنه ونقله إلينا، فظل فضاءً عجيبا يلفه الغموض، قد تحكي الجدّات بعض صوره للبنات والحفيدات افتخارا أو تظلما، لكن دون أن يكشف ذلك ستره أو يبدد غموضه، بل بالعكس قد يزيده ذلك غرائبية وعجائبية. إنه عالم الحياة المنزلية اليومية وخاصة عالم المطبخ والطعام وما يتعلق به من فضاءات وأشخاص.
تصف كينودو هذا العالم بكل مكوناته بدقة متناهية: الأماكن والحركات والأصوات والألوان والروائح والأضواء وحتى المشاعر، مما يجعل القارئ يتجاوز عتبة متابعة المشهد من الخارج، فهو سرعان ما يُشد إلى الداخل ليجد نفسه جزءً من المشهد الموصوف، مستمعا لأصواته ومنتشيا بروائحه ومسحورا بجماله، بل ومتفاعلا مع أحداثه بمشاعر تتراوح بين الإعجاب والتعلق تارة، والأسف والخيبة تارة أخرى، هذا فضلا عما يجيش في نفسه من رغبة عارمة في سبر أغواره واستكشاف المزيد من مكنوناته وأسراره.
عندما تصف كينودو حركة الأحياء وجلبتها يرى فيها القارئ صبية “الفرّان” وهم يضعون على رؤوسهم اللوحات الخشبية الحاملة لقطع الخبز النيئة أو المطهوة، حاثّين الخطى جيئة وذهابا بين المارة، أو يحملون الصفائح الحديدية المزينة بالحلويات الصغيرة متنقلين بين الأفران والبيوت، بل يسمع أصواتهم التي تتنوع بين الصرخات والنداءات والشتائم.
وعندما تسجل كينودو الوصفات فهي لا تكتفي بمقاديرها وكيفيتها فقط، بل تصور كل ما يحيط بإعدادها وتقديمها من أجواء، وبذلك تنقل القارئ إلى مطبخها ليتابع الأحداث من الداخل، وتقدمها له بشكل جميل ومحبّب يستحث المتعة ويستدعي الانبهار، تقول مثلا: “وددت لو أنني أسمعتكم الألحان التي يعزفها بريق النحاس الأحمر والأصفر وألوان سلال الدوم والحلفاء، … لو أنني جعلتكم تشعرون بصلابة ملمس الخشب وببدائية الفخّار، لو أنني جعلت أذواقكم تستمتع في آن واحد ببساطة وخشونة أشكال الأواني المحلية والمواد التي صنعت منها وبالرقي والغنى الذي يميز زخرفة الخزف الانجليزي والصيني وكريستال أوربا الوسطى الملون والمذهب”.
وعند الحديث عن الأطعمة فإن وصفها يكون مطرزا بالتفاصيل مهما كان الطعام بسيطا، فتصف “البغرير” مثلا بالفطائر القروية الملونة بلون التبن والشبيهة بالشهد، وتعتبر تناولها مع العسل المجني بعد إزهار الربيع والزبدة المنكهة برائحة اللبن وجلد الماعز وكأس الشاي، طعاما لا يمكن أن يضاهيه طعام آخر لا من الناحية الصحية ولا من حيث الطعم.
وقد تحجز الكاتبة لقارئها مكانا إلى جوارها على المائدة ليشاركها متعة الطعام وما يحيط به، ناقلة إليه حركات الطاعمين والأحاسيس التي تملؤهم وهم يتناولون هذه المأكولات، فإذا كان إقبالهم على طبق “البسطيلة” أشبه بالهجوم الذي يفجّر القرفة والسكر في الفم، فإن شعورهم بالشبع يتجسد في تثاقل حركة أيديهم من الإناء إلى الأفواه واتساع الفراغ الذي يحدثه كل منهم في الجزء المقابل له من الإناء، مع فتور في الشهية لا يلغي ترقّبهم للأطباق الموالية. وإذا كانت النكهات القوية والصلصات الثقيلة تحدث تأثير السُكر على الضيوف، فإن طبق الخروف المطهو على البخار يتيح لهم الاستمتاع بفترة استراحة من حدة التوابل المدهشة.
وبأسلوب تفاعلي مميز تخاطب قارءها، فتوجه له تارة نصائح خبيرة وتارة تدعوه لتجربة، ولا يفوتها تحذيره من بعض ما خبرت صعوبته، ومن ذلك أنها تشير بطلب ملعقة وعدم محاولة صنع كويرات من الكسكس كما يفعل المغاربة.
وحتى خارج المطبخ وغرفة استقبال الضيوف لا ينفك عن كينودو أثر الانبهار بما تراه، وتلازمها دقة التعبير عنه والقدرة البالغة على سبر أغواره، حيث تصف نفسها في سوق العطارين بكونها نزلت سكرى بالرائحة والأصوات والألوان على الجانب الضيق لبائع التوابل بين كيس الفلفل الأحمر وقفة براعم الورد، وهي في ذلك لم تقم قطعا باختيار عشوائي، فلكل من الفلفل والورد تمثلات ذهنية خاصة، كما أن الجمع بين التابل ذو الطعم الحريف والورد ذو الأثر اللطيف قد يعبّر ربما عن التناقض الذي لمسته في هذا المجتمع أو هو للدلالة على عالم حيث يوجد كل شيء.
كما رأت كينودو في احتفالات جني الزيتون، والشاحنات المحملة به على الطرق ومعاصره وأسواقه وعلب الصفيح التي تحملها الحمير ممتلئة به، وأواني باعة الفطائر الدسمة، والأطعمة المحضرة بزيته القوي الذي يجرح الحلق، صورا أصيلة في المشهد المغربي.
واذا كان للأماكن والأشياء كل هذا السحر والحضور، فإن للأشخاص بدون شك حضور أقوى وأبلغ، ومنهم مولاي أحمد القهوجي الذي توجه له الخطاب معبرة عن المشاعر الجياشة التي ربطتها بالمكان وصاحبه بأسلوب راق ورفيع، وبائع حلوى “جبان” الذي رفض تزويدها بوصفة التحضير خشية أن تنشرها فالتمست له العذر لحرصه على حفظ مصدر عيشه. أما المرأة فتظهر في كتاب كينودو في شخصية الطباخة والدّادة والخادمة، وهن اللواتي يشكّلن المحور في المطبخ والضيافات، وهي تصفهن كشخصيات من كتاب ألف ليلة وليلة يغلّفهن سحر الشرق، ومن خلالهن تعبّر عن إعجابها بهذه المدينة السعيدة التي ما يزال لدى نسائها ما يكفي من الوقت ومن رفعة الذوق لإتقان تحضير أطباقهن.
وعندما تخاطب كينودو مدينة فاس فإنها تستخدم عبارات تتجاوز ظاهر الأشياء لتستجلي لبها وعمقها وتلامس مظاهر الجمال في جوهرها كقولها: “إنه وهج مطابخك القاتمة، إنه عبق الحياة في أزقتك، إنها روحك نفسها يا فاس”
في كل حيثية من حيثيات كتابها لا تنفك كينودو تنظر بعين العاشق، كلماتها محملة بالمشاعر، تحكي شغفها الكبير وافتتانها بالمدينة وبمطبخها وعاداتها وتقاليدها وتكشف عن خشيتها من اندثارها تحت تأثير المستجدات التي سجلت بعضها بالفعل. لذلك جاء كتابها مزركشا بألوان فاس، دافئا بمشاعر سكانها وزوارها، مطرزا بتفاصيل يومها، فواحا بروائح توابلها وعبق قطر زهورها.
كذلك أبت كينودو رغم دقة الوصف إلا أن تخلِّد ما رأته بالرسم أيضا، فكل وصفات الكتاب تقابلها رسومات بخطوط بسيطة بقلم أسود رفيع بدون تفاصيل، لكنها مدهشة في تعبيرها حتى إنها تبدو حقيقية في تلقائيتها وبوْحها، وهي تدل على أن صاحبتها تحمل بين جنبيها روح فنانة ذات حس مرهف يطبع كل تفاصيل الكتاب.
لقد أدركت كينودو أن ما تقوم به ليس مجرد تسجيل لمكوّنات وطرق تحضير مجموعة من الأطعمة، لذلك اختارت عنوانا معبرا جدا: “فاس من خلال مطبخها” في إشارة واضحة إلى كونها لن تتحدث فقط عن مطبخ فاس بل عن كل فاس. ومن ثم كان هذا المنتج ليس مجرد كتاب طبخ بل مرآة تعكس المجتمع الفاسي بتفاصيل دقيقة تهم مختلف جوانب الحياة.
يحق لنا أن نتساءل في ختام هذه الاطلالة كيف استطاع كتاب طبخ من الحجم المتوسط أن يلم بكل شيء تقريبا حتى لكأن القارئ يشاهد المدينة تتحرك داخله بكل مكوناتها من لباس وعمران وأسواق ومطابخ وشخوص كاشفة عن ثقافة وطباع وعقليات. ومقابل التساؤل لا نملك إلا أن نقول إنها تلك القوة الكامنة في شخوص طالما عاشت في الظل فاعلة بصمت، ولم نكن نتصور يوما أن لها هذه القدرة على كتابة التاريخ لكنها لما أُخرجت للنور فعلت.