كان أصل هذا الكتاب أطروحة للحصول على الدكتوراه تقدم بها المؤلف سنة 1993 إلى جامعة كومبلوتنسي بمدريد بإشراف مارسيا خيسوس بيغيرا، وكانت في جزأين كبيرين. لكن النسخة المنشورة لا تستوعب كل عمل المحقق في تحقيق النصوص الثلاثة كما قدمتها الأطروحة، ولكن تنقص منها التعليقات التي وضعها للتعريف بالأعلام البشرية والجغرافية والمصطلحات الواردة في المتن، والتي يبدو أن إكراهات النشر والحجم قد تحكمت في الناشر فدفعت به إلى حذفها، وتقع في 84 صفحة من الرسالة المرقونة.
1- مضامين النصوص الثلاثة:
نلاحظ من الناحية العلمية أن الأمر يتعلق بتأليفين حول البربر من زاويتين متقاربتين ومتكاملتين، وهما كتاب الأنساب لصالح بن عبد الحليم ومفاخر البربر لمؤلف مجهول، إضافة إلى رسالة أبي بكر بن العربي التي تبدو شديدة التميز بين مثيلاتها من كتب الرحلات.
أ- كتاب الأنساب: حاول ابن عبد الحليم الأيلاني في مقدمته التعريف بالمغرب الأقصى وبعض وحداته الجغرافية الكبرى وحدوده اعتمادا على مصادر جغرافية وتاريخية مختلفة، ثم تحدث عن هدف كتابه وهو ذكر أصل أهل المغرب وأنسابهم وأخبارهم.
كان هاجس المؤلف هو الوصول إلى أبعد أصل ممكن للبربر، لذلك فإنه فضل الرجوع إلى أصل الخليقة مرورا بتواريخ الأنبياء ليربط البربر بأصل بعيد يعود إلى حام بن نوح عليه السلام تحديدا، معتمدا على ما ذكرته الروايات العربية انطلاقا من التقسيم الذي يرى أن سام بن نوح هو جد العرب والفرس والروم، وأن حام هو جد القبط والبربر والسودان، وأن يافث هو جد الترك والصقالبة وياجوج. وذكر أن حام ابن نوح قد غادر الشام على إثر خصومة بينه وبين أخيه سام والتحق بالمغرب الأقصى ونزل منه بالموضع المعروف بأصيلا، وأن قبره استمر معروفا هناك إلى زمن المؤلف، ثم جاء أبناؤه يطلبونه فمن التحق به بقي بالمغرب، وظلت منهم بقية بالشام وهم الذين عرفوا بالجبارين الذين سكنوا فلسطين وكان منهم جالوت الذي قتله النبي داود عليه السلام، ثم خرج من تبقى من قومه من فلسطين يؤمون المغرب فانتشروا بالمنطقة الممتدة من مصر إلى المغرب الأقصى، ثم توزعت قبائل البربر بالمنطقة فيما بعد.
كان ابن عبد الحليم واعيا أنه يتناول موضوعا كثير المطبات وغير محسوم بسبب كثرة الأقوال واضطراب الروايات، لذلك فإنه فضل استعراض الأقوال وإيراد النقول من مختلف المصادر المتداولة في عصره. وبعد عرضها أفرد بابا لذكر اختلاف المؤرخين حول أصل أهل المغرب وقسم أقوالهم إلى أربعة مذاهب:
أولها أن البربر من الكنعانيين الذين خرجوا من وقعة جالوت، ونسب هذا الرأي إلى أغلب المؤرخين.
الثاني أنهم من العمالقة، حسبما ذكره بالخصوص المفسرون مثل الطبري.
والثالث أنهم من أولاد إفريق بن إبراهيم، على قول أبي عبيد البكري.
والرابع أنهم من أوزاع من اليمن، خرجوا على إثر سيل العرم. وأتبع ذلك بذكر الاختلاف حول نسبة البربر إلى أحد الأجداد بين الأقوال الآتية :
أنهم من أولاد بربر بن نقشان بن إبراهيم.
أو من أولاد إفريقش بن قيس.
أو من أولاد بربر بن قوط بن حام بن نوح.
وأن منهم من ينتسب إلى قيس عيلان وهو إلياس بن مضر.
وأمام هذه الاختلافات والأقوال المتعددة فإن المؤلف لم يكتف بما كانت تتناقله مصادر التراث العربي، بل إنه لجأ إلى الأخبار التي كان المغاربة يتداولونها في عصره فقال: “كتبت رسالة إلى الفقيه المؤرخ محمد بن مسعود الملقب بالشريف بمراكش فسألته عن أنساب البرابر وما صح منها فيما اختلف فيه، فقال لي: أصح ما رأيت في ذلك ما جمع عن أهل إفريقية، والذي نقلنا من ذلك الكتاب أنهم قالوا أكثر البرابر من أولاد أيلان بن سفكو إلى كنعان”، وهكذا فمن خلال التدقيقات التي حاول تتبعها يتضح أن كلا من المصادر العربية والروايات المحلية الأمازيغية تلتقي حول معطيات متقاربة، خاصة وأن المؤلف قد لجأ إلى العديد من المصادر المتخصصة في الأنساب التي ذكر منها كتاب ابن أبي المجد المغيلي، وما نقل عن الشيخ العالم النسابة كهلان بن أبي لوا المطماطي، والعالم النسابة سابق بن سليمان المطماطي، والنسابة هاني بن يكون الضريسي.
بعد ذلك انتقل إلى ذكر تعمير المغرب الأقصى فذكر أن أول من سكن هذا القطر هو حام بن نوح وأنه نزل بأصيلا وبها قبره إلى زمنه، ونزل ابنه سبت بن حام بسبتة، ونزل سلا بن قوط بن حام بسلا. ثم نزل فيه بعد ذلك طائفة من البربر الذين خرجوا من فلسطين، وأنهم لم يكثروا في المغرب الأقصى إلا في قريب من الإسلام، ومن هؤلاء الذين سكنوا المغرب الأقصى أكثرهم الوربيون (أي الأَوْرَبِيون) والمصامدة. وفي تتبعه لما كان معروفا من أنساب البربر في المغرب في عصره نقل روايات شفوية حول أنساب بعض القبائل البربرية عن بعض النسابين وكبار السن مثل يحيى بن يلارزك بن يليلتن الذي حدثه بأخبار فسخي جد بني سكور؛ وحدثه عيسى بن عبد الخالق بن عبد المومن بن وقاريط بأخبار بني مصطاو؛ وحدثه دينار بن عبد الرحمن بن يوجكل وابنه بأخبار واسكور. أما رجراجة فقد نقل أخبارهم عن أبي عثمان سعيد بن يعقوب بن ياسين بن تمتنا. ونقل أخبار المصامدة عن المؤرخ النسابة أبي عبد الله محمد بن مسعود المشهور بالشريف نزيل مراكش.
بجانب هذا المحور النسبي انتقل إلى محور لا يقل أهمية وهو التأسيس لنسب آخر، ويتعلق الأمر بنسب البربر في الإيمان، وارتباطهم بالديانات السماوية، فذكر أن أول من أدخل الإيمان إلى المغرب الأقصى مجموعة من حواريي عيسى بن مريم عليهما السلام، الذين نزلوا بأغمات هيلانة وبنوا بها مسجدا قبل الإسلام بنحو 400 سنة، وبنوا مساجد أخرى كثيرة بالمغرب الأقصى. وفي نفس السياق ذكر وصول أقوام من أهل المغرب إلى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به، وذكر أن واسمين الرجراجي نقل كتابا من الرسول عليه السلام إلى أهل المغرب فجمع المصامدة لقراءته بالموضع الذي عرف فيما بعد برباط شاكر برجراجة، فلما قرأوه أرادت كل قبيلة أن تأخذه فاتفقوا على أن يدفنوه بذلك الموضع، ثم صاروا يجتمعون في ذلك الموضع في ذلك الوقت من كل عام. كما تحدث عن وصول مجموعة أخرى إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب (ض) وأخرى في خلافة عثمان بن عفان (ض)، ونعتقد أن هذه الروايات هي منشأ قضية صحبة الركراكيين للرسول والتي لا زال من بين الكتاب المعاصرين من يجتهد في إثباتها(2).
ثم انتقل للحديث عن فتح المغرب الأوسط، والمغرب الأقصى معتمدا على الروايات التي ترددت في المصادر الإسلامية وسرد تفاصيل الصراع الذي عرفته سنوات الفتح في المجال الكبير الممتد من طرابلس إلى المغرب الأقصى.
وفجأة ينقطع المؤلف عن موضوع التاريخ لينتقل إلى الجغرافيا العامة فذكر ابتداء الخلق وذكر الأقاليم السبعة اعتمادا على بعض الأدبيات الجغرافية القديمة، وعقد فصلا في هذا الباب للحديث عن عجائب الدنيا، وآخر لعرض اختلاف الأمم في كيفية الأرض وذكر طول الأرض اعتمادا على كتاب الجغرافي المشهور الجيهاني. ويبدو أنه فضل النقل الحرفي بحيث لا يتدخل إلا بوضع العناوين. ولا شك أنه جعل ذلك مدخلا للباب الذي خصصه لمعرفة القبلة بالنجوم الثابتة بالليل والنهار، مرتبطا بذلك بمجاله الأصيل وهو الفقه، وبالذات علم التوقيت والفلك الذي ألف فيه رسالة القبلة (3)، والتي نقل منها فقرات هنا.
ثم يعود إلى مبحث آخر جعله بابا ونقله عن كتاب سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي، وهو حول تمثيل أخلاق البشر بأخلاق البهائم. لينتهي إلى باب في مجال آخر جعله في ذكر النوع الرابع والأربعين من علوم الحديث (معرفة أعمار المحدثين) ذكر فيه وفيات بعض الصحابة. وبهذا انتهى الكتاب.
أما المصادر التي اعتمد عليها فهي متعددة ومتنوعة منها كتب التفسير وكتب الحديث والسيرة وكتب الفقه وكتب الجغرافيا وكتب الأنساب والتاريخ.
ب-كتاب مفاخر البربر: يبدو أن مؤلف هذا الكتاب قد انطلق من أول جملة في مقدمته إلى عرض موضوعه بطريقة مباشرة أفصح فيها عن غرضه من التأليف فقال: “إذا كان البربر عند كثير من جهلة الناس أخس الأمم وأجهلها وأعراها من الفضائل وأبعدها من المكارم رأيت أن أذكر ملوكهم في الإسلام ورؤساءهم وثوارهم وأنسابهم وبعض أعلامهم وتواريخ أزمانهم” مؤكدا على الاختصار.
يتفق المؤلف مع الكتاب السابق في أن البربر سكنوا المغرب بعد فرارهم من الشام بعد قتل جالوت على يد النبي داود. لكنه لا يفتأ أن ينتقل إلى ذكر أخبار الخلفاء الأمويين بالأندلس وصراعهم مع الفاطميين على أرض المغرب نقلا عن ابن حيان باحثا عن دور للبربر في كل ذلك، ومؤكدا على حركيتهم في المعسكرين الأموي والفاطمي من خلال المجهود الكبير لكل من الزناتيين والصنهاجيين، أي بني يفرن وكتامة، ثم تحدث عن استمرار العلاقة بين الأندلس وبربر المغرب إلى ما بعد انقراض دولة الأمويين ومجي المنصور بن أبي عامر.
وعقد بعد ذلك بابا ذكر فيه أخبار ثوار البربر بالأندلس بعد اختلال الخلافة الأموية نقله عن المقتبس في أخبار المغرب وفاس والأندلس لابن حمادوه السبتي، وعن المقباس في أخبار المغرب والأندلس وفاس لأبي مروان عبد الملك بن موسى الوراق وهما من المصادر المفقودة. ثم ذكر عددا من من ثوار المغرب مثل برغواطة وميسرة المطغري ومهدي بن توالى اليجفشي وموسى بن أبي العافية المكناسي وغيرهم متتبعا بعضا من أخبارهم. ويبدو أن كتابي كل من أبي عبد الله محمد بن أبي المجد المغيلي المعنون بكتاب أنساب البربر وملوكهم، وكتاب ابن حزم في نقط العروس قد أسعفاه في ذلك. وتحدث أيضا عن رؤساء البربر وملوكهم خاصة ملوك صنهاجة إلى قيام دولة المرابطين وما تلاه من توحيد المغرب والأندلس نقلا عن ابن بسام فيالذخيرة، ثم تعرض لذكر الموحدين على الاختصار.
أما أهم أبواب الكتاب فهو الذي خصصه لذكر ملامح من التاريخ الثقافي للمجتمع المغربي بما أنتجه من العلوم في شتى ضروب المعرفة، وما تركه علماء البربر من الآثار والمؤلفات، وذلك سواء بالمغرب أو الأندلس. وعقد ضمن هذا الباب فصلا لذكر النشاط الروحي للبربر تعرض فيه لمن ظهر في المجتمع المغربي من المتنبئين والأولياء والصلحاء والزهاد فتتبع أخبارهم ومواضعهم وآثارهم.
ثم عقد فصلا لذكر سبق البربر إلى الإسلام وفخرهم به، أورد فيه بعض الأخبار التي تعود إلى عهد عمر ابن الخطاب عندما زاره بالمدينة بعض أعلام البربر، وذكر بعض الأحاديث النبوية في فضل البربر، محاولا البرهنة على فضل البربر وما يتمتعون به من سجايا كالسماحة والسخاء والرأفة والرحمة للغرباء، ومشيرا إلى أن الله قد سد بهم الثغور وعضد بهم المسلمين وأعز بهم الدين.
ومثل الانتقال الموجود في كتاب الأنساب نجد صاحب المفاخر ينتقل في فصل جديد إلى الحديث عن الجغرافيا فيخصص فصلا لذكر حدود المغرب، لكنه عاد من جديد إلى الأنساب فتعرض لذكر بيوتات البربر بالأندلس، وذكر ولاة لمتونة بالأندلس. ثم خصص فصلا في ذكر القيروان وفتح المغرب؛ بعده خصص بابا لذكر أصل البربر وقدومهم إلى المغرب. ضمنه فصلا في الأحاديث التي وردت في المهدي. وجعل في الأخير بابا في ذكر خلفاء الدولة الموحدية أنهى به الكتاب. والمتأمل في ترتيب هذا الكتاب أيضا يلمس ارتباكا في ترتيب أبوابه ومباحثه الشيء الذي أثر على بنيته العامة، فصار إلى التقييد أقرب منه إلى الكتاب.
مصادر الكتابين :
إذا كان ابن عبد الحليم الأيلاني قد اعتمد كتب التفسير والفقه والحديث كمصادر له فإن صاحب كتاب مفاخر البربر يبدو أكثر قربا من التاريخ، فمصادره أغلبها تاريخية منها عدد من كتب التاريخ الأندلسية والمغربية والمشرقية يعتبر أغلبها في حكم المفقود.
شواهد الجلة:
نعتقد أن وضع شواهد الجلة ضمن هذا المجموع قد تم من طرف من اعتبر بينها وحدة موضوعية، بدليل ما جاء بعدها من نقول تبدو مكملة لمضامينها سواء في السياق التاريخي أو في السياق النظري. بعد مقدمة حاول ابن العربي فيها أن يتحدث عن ظروف رحلته نجد انتقالا سريعا إلى إيراد نصوص مجموعة من الرسائل التي يبدو أن مضمن الرحلة ضمن المجموع لم يكن هدفه هو نسخ الرحلة بقدر ما كان هو إيراد الرسائل التي لها دلالات تاريخية عميقة. وقد تضمنت الرحلة مجموعة الرسائل الآتية :
رسالة أبي محمد بن العربي الوالد إلى الخليفة العباسي المستظهر يطلب إصدار تقليد رسمي ليوسف بن تاشفين.
توقيع الخليفة العباسي بالموافقة على طلب ابن العربي.
رسالة التأييد والتوصية من الوزير ابن جهير باسم الخليفة المستظهر إلى يوسف بن تاشفين.
سؤال من أبي بكر بن العربي إلى الإمام الغزالي يطلب منه فتوى ورسالة بشرعية جهاد يوسف بن تاشفين ضد ملوك الطوائف.
نص فتوى الغزالي إلى يوسف بن تاشفين بشرعية جهاده.
رسالة من الغزالي إلى يوسف بن تاشفين يؤيده في جهاده ويوصيه بابن العربي.
رسالة من أبي بكر الطرطوشي يعظ فيها يوسف بن تاشفين ويوصيه بابن العربي.
نقول من إحياء علوم الدين ونهاية كتاب شواهد الجلة.
وبهذا يبدو أن كتاب الرحلة ينتهي لتأتي مجموعة أخرى من النقول متعددة المواضيع على الشكل الآتي:
نقول من كتاب الوراق.
رسالة ابن أبي زيد القيرواني إلى أهل المغرب.
نقول تعود إلى أوائل القرن السابع الهجري ويتعلق الأمر بفصول من رسالة لأمير المسلمين محمد بن يوسف بن هود إلى عماله في معنى رسالة ابن أبي زيد.
مرسوم تقليد الخليفة المستنصر العباسي إلى ابن هود.
رواية لابن عبد البر باختلاف الناس في أنساب البربر،
قصة المرتضى المرواني مع صنهاجة، وقصة المهدي المرواني مع البربر، والقصتان معا منقولتان من المقتبس لابن حيان.
التعريف بالمؤلفين:
على عكس ترتيب المخطوط فقد اتبع المحقق في دراسته الترتيب الكرونولوجي في التعريف بمؤلفي الرسائل الثلاث، فبدأ بتعريف أبي بكر بن العربي الذي يبدو أن المعلومات عن شخصيته أوفر سواء في كتبه ورسائله أو في المصادر الأخرى التي قدمت معلومات كثيرة ودقيقة حوله باعتبار شخصيته العلمية المتميزة التي كان لها إسهام قوي في التاريخ الأندلسي والمغربي سواء على المستوى الفقهي أو العقدي أو الصوفي أو السياسي. وبحث في تفاصيل حياته ورحلته رفقة أبيه إلى المشرق عن سياق لفهم طبيعة الظروف المتحكمة في تأليف رسالته شواهد الجلة.
أما ابن عبد الحليم الأيلاني فقد سمحت الأخبار المتفرقة حوله بتكوين فكرة عن ملامح شخصية عالم مصمودي ينتمي إلى قبيلة أيلانة، وحل الإشكال الذي تركه لدى عدد من المؤرخين التشابه في التسمية بين المؤرخ صالح بن عبد الحليم الغرناطي وابن عبد الحليم الأيلاني المصمودي. وقد تتبع المؤلف الإشارات المتفرقة حول المؤلف في مختلف المصادر، والإشارات إلى تآليفه التي منها رسالة في القبلة، وكتاب الأنساب. لكن أهم محاولة هي محاولة التعرف على الشخصية من خلال الإشارات المتفرقة في كتابه الأنساب حول الشخصيات التي أخذ عنها أو التقى بها والأماكن التي زارها، والنتيجة هي أن الأمر يتعلق بأحد علماء المصامدة وهو الذي ذكره صاحب مفاخر البربر بالشيخ الصالح أبو صالح بن أبي صالح ونقل عنه أخبار فتح المغرب.
أما مؤلف مفاخر البربر فيبدو أن المعلومات التي أمكن استخراجها من كتابه لا تفي بتحديد شخصيته أو تقريب ملامحها من إحدى الشخصيات التاريخية المعروفة، وقد انطلق المحقق من أحد شيوخه وهو الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد العزيز البرغواطي الزموري، وانطلاقا هذه الإشارة ومن احتفاء صاحب المفاخر بقبائل صنهاجة في كتاب المفاخر رجح المحقق انتماء المؤلف إلى قبيلة صنهاجة التي كانت إحدى فروعها مقيمة بأزمور وناحيتها. وتأكد لديه أنه لم يكن مؤرخا رسميا، بل يدافع عن هويته الأمازيغية، وفي ثنايا ذلك يدافع عن الموحدين ابتداء من إثبات لقاء ابن تومرت بالغزالي ومرورا بالحديث عن المهدية وعن الموحدين.
منهج التحقيق:
تضمنت الدراسة وصفا للمخطوطين 1275د و 1020د، وتوثيقا للنسختين اعتمادا على الشذرات التي تناثرت حول الكتابين خاصة لدى الدارسين المحدثين. وقد أشار المحقق إلى أن أيا من الكتابين لم يذكرا عند أي من مؤرخي العصر المريني، مما يترك الباب مفتوحا للتساؤل عن سبب هذا الصمت. وقد حاول توضيح العلاقة بين النسختين وترتيبهما، فتوصل إلى أن النسخة الأولى هي الأصح بناء على بعض المؤشرات، لكن أيا من النسختين ليست هي الأصل وإنما هما نسختان منقولتان.
لقد اختار المحقق أن يتعامل مع المجموع كوحدة مخطوطية لها شخصيتها المتميزة، فماذا يعني جمع ثلاثة كتب مع بعضها ضمن مجموع من الناحية التاريخية ؟ من المعروف أن ظروف التعامل مع المخطوطات في القديم وترتيب المكتبات قد اقتضت جمع بعض الرسائل الصغيرة مع بعضها فيما يعرف بالمجاميع، وذلك على أسس قد تختلف من هذا المجموع إلى ذاك، فقد تجمع بعض الرسائل على أساس حجم الورق، أو على أساس الموضوع، أو على أساس المؤلف الواحد، أو على أساس الناسخ الواحد أو وحدة الخط، أو على أساس انتمائها إلى العصر الواحد، وقد يجتمع أكثر من عنصر في بعض المجاميع. ويتبين أن الوحدة الموضوعية حاضرة في ضم هذه الرسائل إلى بعضها في المجموع المذكور.
سياق معالجة الأنساب والمفاخر البربرية:
لا يكتفي المؤرخ بالوقوف أمام مصادره التاريخية كوعاء بريء ومحايد للمعلومات، فالمنهج التاريخي يدفع إلى التساؤل عما يثوي خلف الكتابة من رسائل ضمنية يحملها اختيار الموضوع ووضع العنوان وتقسيم الكتاب وأسلوب المعالجة والمصطلحات الموظفة والإشارات الخفية والصمت المتعمد، وغير ذلك من الأمور التي قد تبدو شكلية لكنها حاسمة في التعرف على توجه هذا المؤرخ أو ذاك، واختبار وعيه بالقضايا التي يطرحها، والتعرف على سياقها في مجتمعه.
فماذا يعني تأليف كتابين حول أنساب البربر ومفاخرهم في الثقافة المغربية ابتداء من أواخر القرن السابع وبداية القرن الثامن الهجريين/13-14م ؟ من المعروف أن المغرب الأقصى قد عرف توافد العرب عليه منذ الفتح الإسلامي في دفعات متعددة أهمها على الإطلاق تلك الأعداد الكبيرة التي استجلبها الخليفتان الموحديان عبد المؤمن بن علي وحفيده يعقوب المنصور من إفريقية. وأصبحت الساكنة العربية بالمغرب الأقصى معبرة بعد أن كانت أعداد من العرب الوافدين قديما سواء في جيش الفتح أو الواردين من الأندلس أو القيروان في عهد الأدارسة قد اختلطت بالأمازيغ على نطاق واسع. فهل لهذا السياق الاجتماعي دور ما في إنتاج كتابي الأنساب والمفاخر ؟ أم أن للمسألة ارتباطا بظروف ما بعد الموحدين، وانتقال مركز الثقل إلى الشمال حينما انفرد المرينيون الزناتيون بقيادة المغرب وبدا وكأن المصامدة والصنهاجيين قد تم تهميشهم ؟ أم أن الأمر يتعلق بإعادة الاعتبار للبربر باعتبارهم أصحاب رسالة في الإسلام ما فتئت تتعزز بأدوارهم المتميزة منذ الفتح الإسلامي والتي لم يتم الوعي بها في غضون القرون الماضية ؟
لقد كان المحقق واعيا بأن الكتاب يطرح إشكالية عميقة تتجاوز الهدف المعرفي في ضبط أصول البربر وأنسابهم إلى البحث عن مشروعية معينة للبربر في مجموعهم ولبعض فروعهم على وجه التحديد، خاصة بربر المغرب الأقصى الذين اجتهد المؤلفان في بيان فضلهم وأسبقيتهم رغم تطرف بلادهم أكثر إلى الغرب. ينطوي الكتابان على نوع من الكتابة التاريخية مسكونة بأسئلة وهواجس دقيقة، لذلك فإن المحقق فضل التعامل مع هذا المجموع على أنه وحدة متكاملة، لأن المتأمل المتعمق في هذه الرسائل المتعددة يكتشف أنها تنطوي على رسالة ضمنية يحتاج فك مفرداتها إلى معالجة دقيقة ومتأنية ومقارنة.
بدأ المحقق بطرح السؤال حول خلفية ترتيب المجموع، والسياق التاريخي لجمعه، ورأى أن المجموع يطرح قضيتين تتناسبان لكنهما متميزتين:
القضية الأولى تعبر عنها شواهد الجلة وتتعلق بمشروعية حكم المرابطين الصنهاجيين للمغرب والأندلس وذلك من خلال الرسائل المتعددة التي تضمنتها الرحلة.
القضية الثانية هي التي يطرحها كتابا الأنساب ومفاخر البربر وهي قضية مشروعية من نوع آخر، أي مشروعية الوجود البربري بالأندلس، وأيضا تعبر عن التحولات التي حصلت للبنيات السياسية والاجتماعية والإيديولوجية داخل المجتمع المغربي ابتداء من القرن 7-8/12-13، وقد كان أحد مظاهر هذا التحول هو انتصار المرينيين وبداية تهميش الأثر الموحدي وبالتالي الوجود المصمودي، وظهور وعي لدى البربر المصامدة بهويتهم، لذلك فقد احتمى جزء منهم إلى حدود القرن العاشر بالتشبث بتراث ابن تومرت.
الهوامش:
1- ثلاثة نصوص عربية عن البربر في الغرب الإسلامي، مدريد المجلس الأعلى للأبحاث العلمية/ الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي سنة 1996، في 447 صفحة بما فيها الفهارس والببلوغرافيا. بينما غطى التقديم والدراسة التي خصصها المحقق باللغة الإسبانية للنصوص المحققة 101 صفحة.
2- تجددت مناقشة القضية في كتاب: السيف المسلول على من أنكر على الركراكيين صحبة الرسول، لمحمد السعيدي الرجراجي الصادر مؤخرا.
3- توجد منها نسخ خطية متعددة، وقد درستها الباحثة الإسبانية مونيكا ريوس وحققتها وترجمتها إلى الإسبانية، ونشرتها جامعة برشلونة.