MOREAU (Odile) and SCHAAR (Stuart), ed., Subversives and Mavericks in the Muslim Mediterranean. A Subaltern History, Preface Edmund Burke III, Austin, University of Texas Press, 2016, X-219 p.
مساراتُ رجال ونساء من العالم الإسلامي في مرحلة مفصلية من التاريخ توافق نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، عاشوا في الظل، في الهامش، في قاع المجتمع، رجال ونساء كانت لهم الجرأة على رفض النظام السائد، كانت لهم القدرة على العصيان، كانت لهم الرغبة في تغيير الوضع القائم، فبرزوا وأثَّروا على مجرى الأمور. هذا هو موضوع الكتاب الجماعي الذي صدر في متم عام 2016، عن منشورات جامعة تيكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، تحت إشراف أوديل مورو وستيوارت شار، وتقديم إدموند بورك.
ويعد هذا الكتاب، المكون من ثمانية فصول بقلم باحثين من المغرب (خالد بن الصغير)، وتونس (ليلى بليلي)، ومصر (سناء مخلوف)، وتركيا (سوهناز يلماز)، وفرنسا (أوديل مورو)، والولايات المتحدة الأمريكية (جوليا كلانسي سميث، وويلفريد رولمان، وستيوارت شار)، مساهمة في تاريخ الهامش، أو ما يسمى أيضا بـ “التاريخ من تحت” أو “التاريخ المجهري”. هذا الصنف من التاريخ، الذي يهتم بالبسطاء، بالقرى النائية، بالفلاحين، بالعمال، بالنساء، بالأقليات، يجد أصوله المنهجية في مقولات التاريخ الاجتماعي والثقافي على النحو الذي مورست به بدايةً من طرف مدرسة شيكاغو السوسيولوجية مع ويليام توماس وفلوريان زنانيكي، ثم بواسطة المدرسة البريطانية مع المؤرخ إدوارد بالمير تومسون، والمدرسة الإيطالية مع جيوفاني ليفي وكارلو غانزبورغ، والجيل الثالث من مدرسة الحوليات، والمدرسة الهندية التي ابتكرت مفهوم السوبالتيرن ستاديز.
وتتجلى أهمية ممارسة البحث التاريخي هذه في القدرة على الجمع بين تاريخ الأفراد وتاريخ الجماعات، بين التاريخ الاجتماعي والسُّرود الحياتية، بين تاريخ البنيات وتاريخ العقليات، لرسم مسارات فوق العادة لرجال ونساء أهَّلتهم مواقفهم الجريئة وحِدَّة مزاجهم وكثافة تجربتهم على التخلص من الضغوطات والموروثات وفرض وجودهم على الساحة العمومية. تقول أوديل مورو في تقديمها للكتاب: “على مر التاريخ، استطاع أناس ساخطون على الوضع القائم فعفعة النظام الاجتماعي، وخلق أساليب جديدة للتعامل مع الأمور، وتصور العالم برؤية مغايرة عن رؤية معاصريهم. وغالبا ما كان هذا السخط صادما بالنسبة للنخب، وفي نفس الوقت حافزا للذين احتكوا بهم لمراجعة القيم المهيمنة”.
تنبني مقاربة الكتاب على الرؤية المجهرية، ولكن بالحفاظ في نفس الوقت على مسألة الجدلية بين الأفراد والقوى الاجتماعية. هنا، تأخذ بيوغرافيةُ عامّةِ الناس شكل “قصةٍ حقيقية” حول مقطع من مقاطع الحياة اليومية، شكل نافذةٍ للإطلال على مرحلة ما أو موضوع ما، شكل عدسة كاميرا تنقل القارئ، من خلال تقنية التصغير والتكبير، من الشخص إلى المجتمع ومن المجتمع إلى الشخص، عبر لقطات تتداخل فيها السياسة والمصالح، والمواقف والأفكار.
المساهمات التي تؤثث هذا الكتاب قيمة، بدون استثناء، لثراء المقاربة وأصالة المصادر المعتمدة. وهي محفِّزة أيضا لمن أراد من الباحثين فتح نوافذ بيوغرافية حول أشخاص آخرين. وهي قيمة كذلك لكونها تقدم التاريخ في قالب سردي. فالتاريخ السردي وسرد الحياة لهما بطبيعة الحال ميزة رئيسية، ألا وهي ميزة الكتابة الجامعة بين الصرامة الأكاديمية والسلاسة الأدبية.
المساهمة الأولى للمغربي خالد بن الصغير “حياة من مغرب ما قبل الاستعمار: بوبكر الغنجاوي من جمّال إلى رجل من الأعيان”. والثانية للأمريكي ستيوارت شار “مختار العياري: تونسي متطرف خلال سنوات 1920 ودوره في تاريخ الحركة العمالية”. والثالثة للتونسية ليلى بليلي “ثلاث نساء عشن بين اسطنبول والقاهرة وتونس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين: نازلي هانم، والأميرة قمر، وخيرية بن عياد”.
يقدم خالد بن الصغير نصه الكثيف (31 صفحة) حول الموضوع بطريقة جيدة. رجل عصامي آتٍ من قعر المجتمع يستطيع الوصول إلى قمة الهرم الاجتماعي. هذا هو المسار الحياتي لبوبكر الغنجاوي الذي اختار المشرفان على الكتاب صورتَه لوضعها على الغلاف. انطلاقا من وثائق دفينة، تمكن خالد بن الصغير إعادة بناء الطريق التي سلكها هذا الرجل، والتي تبقى استثنائية بالنظر إلى واقع المرحلة، وذلك من عام 1870، تاريخ ظهوره على مسرح الأحداث إلى غاية وفاته سنة 1905. بدأ هذا الشخص مسيرته في الحياة جمّالا مغمورا يحمل السلع بين مراكش ومراسي المحيط الأطلنتي، خاصة الجديدة والصويرة، وأنهاها شخصيةً بارزةً. بسرعة فائقة، تسلق الرجل الدرجات، فأصبح محميّا بريطانيا يعمل لفائدة شركة إنجليزية ذات وكالات في مراكش والصويرة، مما أهله ليتحول من تاجر بسيط إلى ثري مهاب الجانب. والأكثر من ذلك، استطاع هذا الشخص الأمِّي، الذي توحي ملامحه السمراء بأصوله الجنوب صحراوية، كسب ثقة جون دراموند هاي (1845-1886)، ممثل الملكة فيكتوريا بالمغرب، وثقة السلطانين سيدي محمد بن عبد الرحمان (1859-1873)، ومولاي الحسن (1873-1894)، حيث قام بمهمة صعبة للغاية، وهي إيصال الرسائل السرية بين المخزن والدبلوماسية البريطانية بطنجة. فمن حياة الشخص وسعيه إلى تكوين ثروة فاحشة، قُدِّرت عند وفاته بأكثر من مليوني فرنك ذهبي، وسبل تيسيره للتغلغل الاقتصادي البريطاني بالمغرب، ينقل خالد بن الصغير القارئَ إلى عالم الملابسات والمفاوضات السياسية والدبلوماسية والمصالح الاقتصادية. وبصفته شاهدا على العصر وفاعلا فيه، يكون بوبكر الغنجاوي قد “لعب دورا كبيرا في تاريخ العلاقات المغربية البريطانية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر”.
النموذج الثاني يخص رجلا عاديا نجح في الوقوف في وجه النظام الاستعماري. يتعلق الأمر بمختار العياري الذي سرد حياته بصورة شيقة الأمريكي ستيوارت شار. اشتغل الرجل في بداية أمره حلاّقا، ثم جنديا بالجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الأولى، قبل أن يلتحق بعالم العمّال، حيث كان سائقا بشركة الترام بتونس العاصمة، ويصير وجها من الوجوه البارزة للكفاح الشيوعي ضد الاستغلال والهيمنة الاستعمارية. مسلك هذا الرجل فريد الأطوار. كان سلوكه حادا، عنيفا، معاكسا لأوامر رؤسائه لما كان في الجيش، ومزعجا للسلطات الاستعمارية الفرنسية، كما تشير إلى ذلك حادثة الشجار مع أحد الزبائن، والتي تسببت في طرده من العمل. وقد تقاطعت نزعته اليسارية مع الحركة الشيوعية والعمالية في تونس، إذ قاد إضرابات عمال سكة الحديد عام 1920 وعمره 31 سنة. وبشكل سريع، تمكن مختار العياري احتلال واجهة المشهد عندما “صار زعيما من الزعماء التونسيين القلائل لنقابة العمال والحزب الشيوعي الحديث التأسيس”، وذلك بفضل فصاحته وطاقته وذكائه. لقد تمكن رفقة الطاهر الحداد ومحمد علي الحامي، وبدعم ممن حزب الدستور، من تأسيس أول نقابة عمالية، “جامعة عموم العَمَلة التونسية”، عام 1924، الثانية من نوعها بإفريقيا بعد نقابة جنوب إفريقيا. لكن مسار هذا الرجل “السليط اللسان”، والمكافح ضد الاستغلال والاستعمار كسرته سلطات الحماية لما نفته عام 1925، حيث ظل بعيدا عن بلاده لمدة عشر سنوات. بدراسة مصير هذا الحلاق، كشف ستيوارت شار عن مرحلة أساسية من مراحل تونس الحديثة، التي دشنت لمسلسل التحرر من الاستعمار.
أما المثال الثالث فهو نسائي. اختارت ليلى بليلي ثلاث نساء من وسط أرستقراطي، لكن مسارهن فريد من نوعه. فقد تمكنَّ بفضل تربيتهن العصرية من فرض وجودهن على عالم الرجال. وتمثل نازلي زينب هانم (1853-1913) هذا المسار الفريد الذي يشد القارئ. ولدت هذه السيدة بالقاهرة في عائلة من العائلات الكبرى، إذ كانت حفيدةً لمحمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة، حيث تلقت تربية داخل البيت أهلتها لتتصوَّر الحياة بطريقة مختلفة تماما عن المعهود، إذ بدت منذ شبابها ميّالة للتحرر من القيود الموروثة عن الماضي. أعادت ليلى بليلي بناء حياة هذه المرأة انطلاقا من مراسلات ومستندات أصلية. تزوجت نازلي هانم من رجل دبلوماسي مقيم بباريس، فشاركته أسفاره وتنقلاته عبر العواصم الأوروبية. ولما ترمَّلت، وهي في السادسة والعشرين من عمرها، عادت إلى القاهرة وعاشت عيشة حرة مستقلة، فأنشأت صالونا أدبيا احتضن مثقفي هذا العصر للتناظر في القضايا الفكرية والسياسية. وقد قادتها أسفارها ومغامراتها إلى الاستقرار في تونس لمدة 13 سنة، حيث تزوجت من أحد خَدَمِها، وأقامت بالمرسى، بضاحية المدينة، فيلا رامسيس التي اتخذتها صالونا أدبيا لجلب الأدباء والإصلاحيين التونسيين والمصريين. لقد كانت نازلي هانم “رائدة من رواد حركة الإصلاح في مصر وتونس”. وكلمة “رائدة” هنا ليست اعتباطية، لأن صالونها الأدبي بالقاهرة، الأول من نوعه في العالم العربي، “تكوَّن فيه الإصلاحيون المصريون الكبار، من أمثال سعد زغلول وقاسم أمين ومحمد عبده”.
نشأت كل التجارب المدروسة في هذا الكتاب، وبدون استثناء، من اللقاء مع الغرب، على نحو مباشر أو غير مباشر. فقد أفرزت سيرورة التحديث، التي كانت عنيفة ومفروضة بالقوة في معظم الحالات في سياق الهيمنة الاستعمارية، طاقةً قوية وفهما جديدا للعالم، وتصورا آخر للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وبين الرجال والنساء. كان الزمن الاستعماري قاسيا، لكنه حمل إمكانيات التحديث والتربية العقلانية والحرية، كما حمل معه في نفس الوقت الوعي السياسي ورايات العصيان في وجه نظام الاحتلال.
الكتاب غني على أكثر من صعيد. غني بالأفكار والرؤى والأماكن. ينقل القارئ إلى آفاق شتى: من مراكش إلى اسطنبول، من تونس إلى القاهرة، من حلب إلى طنجة. مصادر دفينة ومقاربات جديدة مكنت، كما قال إدموند بورك من “تجديد كتابة تاريخ العالم الإسلامي”. ويبقى الدرس الكبير الذي يلقنه هذا الكتاب هو أن التاريخ الاجتماعي للعالم العربي الإسلامي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين مرتبطٌ ارتباطا وثيقا بـِ “تجارب أشخاص من رجال ونساء أثروا بأفكارهم وأعمالهم على مجرى الأحداث”، كما قالت ليلى بليلي.