عبد القادر الشاوي، باب تازة، الرباط، منشورات الموجة، 1994 .
يسافر الصحفي (عبد الله المتوكل) إلى باب تازة عبر تطوان قبل اندلاع حوادث سنة 1984 على متن حافلة عمومية. الطريق متعرج، ضيق، منجرف الجنبات في بعض الأحيان. لم يكن يتأمل مشاهد الطبيعة فقط، أو يتحدث إلى جارته التي شاركها طعامها، بل كان يقرأ روبورتاجا روائيا عن عودة المخرج السينمائي (ميغيل ليتين) إلى بلاده الشيلي متخفيا بسبب مواقفه من الدكتاتورية: فهل رأى المسافر نفسه في مرآة المغامر؟
أزعم أن رواية باب تازة تشكل أحد النصوص السردية الأكثر روائية في إنتاج عبد القادر الشاوي. لا أعني بهذا أن العنصر السير ذاتي منعدم فيها (فباب تازة هي مسقط رأس الكاتب)، بل هو متوارٍ خلف متوالية أحداث تكتسي، عند انغلاقها، صفة متخيل روائي كامل ينحو منحى صياغة سرد قوامه التباعد واستبطان مسارات العلائق ورؤى الناس الناتجة عنه. هكذا تخترق الرواية وعي ساردها، باعثة فيه الدهشة والإحباط والانصياع حيال تدفق الأوامر وتضارب الأمزجة، فارضة عليه إيقاعا لم يكن في حسبانه. فبين سفر السارد وعودته، وبين التجربة والكتابة، هناك توقعات تجعل من التخييل مدى مفتوحا على المراوحة، بما في ذلك مراوحة التحول، نظرا لوجود فجوة زمنية ما بين تاريخ الأحداث المسرودة وتاريخ تذكرها وتدوينها. كان السارد يحدس فقط كيف تنحاز الدلالات وتنزلق بين يديه، محيّـنة نفسها عند كل قراءة، مقيمة بين المتن والحاشية، وبين الماضي والحاضر.
عندما اقترحتُ على منظمي هذه الندوة التكريمية موضوع مداخلتي، وهو « قراءة جديدة لرواية باب تازة»، تساءلت عما إذا كان بإمكاني، اعتمادا على الشكل، بلورة السياق التاريخي لما قلته من قبل في مساهمات متعددة عن الرواية:
فلقد نشرت بالملحق الثقافي لجريدة العلم مقالا بعنوان « خـراب داخلي ينهشه الصمـت» (22/1/1994).
ونشرت مقالة أخرى عن الرواية بعنوان « غياب الموت وفسيفساء الغياب » بمجلة الوسط التي كانت تصدر بلندن (6/6/1994).
كما شاركت في جلسة عن باب تازة ضمن برنامج إذاعي هو «الريشة والقناع» بحضور المؤلف.
وساهمت مجددا في ندوة حول الرواية نظمت بمقر النقابة الوطنية للصحافة، إلى جانب الأستاذين محمد برادة ومحمد الهرادي.
وعقب ذلك أجريت حوارا مع عبد القادر الشاوي حول الرواية نفسها نشر بمجلة المنبر الليبرالي (أكتوبر 1994).
ترتبط هذه الوقائع كلها بسنة صدور الرواية، وهي سنة 1994 . لقد مرت، منذ ذلك التاريخ، ثلاث عشرة سنة. كان عمري حينها تسعة وأربعون عاما، وأنا الآن في الثانية والستين. إنني كقارئ وناقد أدبي تغيرت بفعل ذلك، وأيضا بفعل تغير طبيعة مقارباتي للنصوص التي أهتم بالكتابة عنها. لذا فإن قراءتي مجددا لرواية باب تازة كان لا بد أن تطرح علي أسئلة ربما لم تخامرني من قبل: فإذا كان وجودي يحمل حاليا علامات تاريخه، أفلا تعبُر الرواية نفس المسافة حاملة أسئلة الحاشية على المتن؟
لعل السؤال الذي استبد بي، والذي يشغل محور هذه المداخلة، هو ما إذا كانت باب تازة تمسك تاريخها بصلابة؟ أم أنها تنفلت من ذلك التاريخ لتحيل على راهن متحول؟. بطبيعة الحال، الرواية، من ناحية الشكل، لن تتغير: فمكوناتها الجمالية ثابتة وسياقها هو النوع الروائي بصفة عامة. لكن ما يتجدد هو مقاربتنا لمسارها السردي حين يقترن بزمن القراءة، هنا والآن. معنى ذلك أن الأصداء التي تخلفها الرواية في وجداني، بقدر ما ترتبط بالماضي، ترتبط بحاضر فعل القراءة.
أود أن أشير إلى مجرى أحداث الرواية وإلى الشخصيات الفاعلة في تطورها: تُسرد الرواية على لسان صحفي يدعى (عبد الله المتوكل)، وكذا على لسان بعض سكان قرية باب تازة، وهي تتألف من خمسة فصول، ويوميات السارد، وملحق أخير. ومع أن أحداث الرواية تدور حول تكليف الصحفي بمهمة التحقيق في وفاة رجل يدعى (محمد المكوتي) قضى نحبه (أو لعله انتحر) داخل حانوته، مع ما تلا ذلك من خروج ابنه (المفضل) من سجن تازمامرت بعد قضائه هناك نحواً من اثنتي عشرة سنة بتهمة مشاركته، كطيار، في محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت وقائعها في سماء المناطق الشمالية سنة 1972. غير أن هذين الحدثين، في مجرى التحقيق الذي يعمل ( عبد الله المتوكل) على إنجازه، سيغدوان مشجبين للإحباطات المهنية والأسرية التي تخترق كيان الصحفي، ولوضعية باب تازة في أواسط ثمانينات القرن الماضي كقرية مهمشة، متداعية، يترصدها الخوف والصمت. سنكتشف إثر ذلك أن مدير الجريدة التي يعمل بها (عبد الله المتوكل) رفض نشر التحقيق دون سبب واضح، وإن كنا يمكن أن نظن أن السبب سياسي، وعوض ذلك حثه على الذهاب إلى تطوان لمعاينة الأحداث التي اندلعت بها سنة 1984، وهي الأحداث التي عرفت بانتفاضة الجوع. والواقع أن (عبد الله المتوكل)، أثناء مقامه بباب تازة، لم يفتأ أن شُغِف بمجريات اليومي فيها، فشرع يتأمل القرية وتاريخها وناسها، ويحاول ترصد ما يجري في ساحتها من صراعات فردية وجماعية، ضاربا عرض الحائط بمهمة التثبت مما إذا كانت وفاة (محمد المكوتي) طبيعية أم لا.
ذلك هو منطوق الرواية، أما منطقها الثاوي في بنيتها العميقة فهو الصمت: إّذ لا أحد يدري لماذا ذهب (محمد المكوتي) إلى القنيطرة قبل وفاته، ولا أحد يبوح بظروف هذه الوفاة. وعندما عاد (المفضل) من تازمامرت منهكا بفعل سنوات العزلة الطويلة والمرهقة، فضل الصمت على الاحتجاج والشكوى بعد التهديد الذي تلقاه من ممثل السلطة في القرية. ورفضت الجريدة التي يعمل بها (عبد الله المتوكل) نشر تحقيقه رغم أنها كلفته بذلك (ألم يقل هذا الأخير في رسالة إلى المدير: « وفي جميع الأحوال فإن نشر التحقيق قد يكون مناسبة للتذكير بواقع منطقة تعاني من شتى أنواع الحصار» (ص41)، ومنحت صدر صفحتها الأولى لخبر من تونس، فيما كانت تطوان تعاني من ويلات حصار محكم. خرس كئيب في باب تازة، وتمرد صارخ في تطوان: فهل يكون الأفق الممكن للكتابة هو خروج الروائي من شرنقة الصحفي؟
أتذكر أنني، عندما فرغت من قراءة مخطوط رواية باب تازة قبل نشرها على هيأة كتاب، عبرت لعبد القادر الشاوي عن اعتقادي بأن العنوان قد يكون مضللا بالنسبة للقراء غير المتنبهين بحيث يعتقدون أن الأمر يتعلق بكتاب يؤرخ لباب تازة، أو أنه يتعلق، في أحسن الأحوال، برواية واقعية خالية من أي طموح أدبي. عبرت له أيضا عن رأيي بأن خلو الرواية من نص «التحقيق» لن يساعد القراء على إدراك السبب الحقيقي الذي جعل مدير الجريدة يرفض نشره. غير أني، بعد إمعان النظر، اكتشفت خطأ تقديري في الحالتين معا: ذلك أن باب تازة لم تكن في الرواية مجرد اسم لقرية حقيقية، بل فضاء متكاملا، وجدانيا وواقعيا، ينتمي إلى مجال الهامش غير النافع، لكنه يرتفع في الرواية إلى مقام دلالة كبرى حولت المكان إلى زمنية، وجعلت للزمن مكانية متميزة. إنها ليست مجرد حيز منهار ومهمش ومتلاش، وإنما حيز يحيل على زمنية الانهيار والتهميش والتلاشي. أما فيما يتصل بـ «التحقيق» فإن غيابه المفترض هو ما يبرر أصلا وجود الرواية: ألم يخبر (عبد الله المتوكل) زميله (توفيق الشاهد)، في رسالة (ص75)، بأنه وضع تصورا لما سيكون عليه التحقيق، فإذا هو نفس التصور الذي ينطبق على الرواية برمتها في نهاية المطاف؟
والواقع أن قرية باب تازة، بسبب هامشيتها «فليس المشهور عن باب تازة أنها مرت بالأحداث السلطانية الجسام ولا لها ذاكرة محفوظة في السيبة حتى يشفق ]المؤرخون] على وجودها» (ص17)، شكلت متنها التاريخي الخاص الذي حفر لنفسه مسارب تجسدها وقائع عديدة: هناك الحماية الإسبانية التي جعلت من باب تازة موقعا عسكريا ساعد على ازدهار الحياة المدنية فيها. وهناك إشارة إلى حرب الريف بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهي الحرب الطاحنة التي جرت بعض معاركها حوالي القرية. وفي مستهل سنوات الاستقلال دار بين أنصار حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال صراع لم يخل من شراسة وعنف، وذلك بغاية تحقيق أهداف هيمنية. ويفرض «المخزن»، ممثلا في القايد المتنفذ، سلطة لا حد لها على السكان، فارضا قيودا صارمة على حرية التعبير، ومخيرا (عبد الله المتوكل) بين السجن أو المغادرة، وذلك بسبب الشكوك التي أحاطت بمقامه في القرية طيلة 5 أشهر. في خلفية ذلك، هناك الجفاف، وفشل مشروع (ديرو) الذي موله الأوروبيون، واكتساح زراعة الكيف للمنطقة. متن تاريخي يحمل، في طياته، رؤية موتورة تتراوح بين مقاومة الاستعمار والتحرر من إرثه، وبين الخضوع لهيمنة «مخزن» يكبت الآنفاس ولا يطرح بديلا للفقر المستشري، وأحزاب همها هيمنة مصالحها الإيديولوجية، ما يدفع الساكنة المهمشة إلى الحنين إلى العهد البائد هربا من واقع أليم لا يرحم.
في الفصل الثالث من رواية باب تازة يشرع السارد في الحديث عن مصاعب الكتابة، وكيف أن تخلق السرد يتعثر حينا ويمانع حينا آخر، ما يدفعه إلى الشعور بأنه يمارس كتابة حاشية على متن غائب هو تجربة الإقامة في باب تازة قبل عشر سنوات. إن المتن موجود في التجربة، لكن مصاعب التذكر، والتوتر الناتج عن كتابة لا تنصاع للذاكرة، يوسع مسافة الهوة بين الماضي والحاضر، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل: ما الذي حرك في السارد جاهزية الاسترجاع؟ وهل يعيد زمن الذاكرة نفسه شأنه في ذلك شأن التاريخ؟.
في الحوار الذي أجريته مع عبد القادر الشاوي لحساب مجلة المنبر الليبرالي سألته عما إذا كان يعتقد أن رواية باب تازة ستغدو، مع مرور الوقت، تاريخا يعكس حقبة معينة. فأجابني على النحو التالي: «إن تحول الرواية إلى نوع من التأريخ للماضي له علاقة في رأيي بالقصة المروية من حيث زمن أفعالها وزمن قصها. وأستطيع القول إن جميع الروايات (بما في ذلك تلك التي كتبها جورج أورويل) أضحت جزءا من التاريخ. والمهم في تقديري هو التساؤل عن المعنى الدلالي الذي تنتجه أثناء عملية التلقي، وهل تنتج رؤية للواقع المتحول؟».
في اعتقادي إن الرواية إذا كانت بالضرورة تحمل بصمات تاريخ حقبة ما، فإن لهذه البصمات، بفعل الثقافة والسياق الاجتماعي، دلالات تستمر في الحاضر، وربما في المستقبل: دلالات تحيلنا كقراء على راهن مرتبط بزمن القراءة، ويتشكل كحاشية على هيأة أصداء تتردد بيننا وبين الرواية، وتوحي لنا بأن وقائع الماضي تفرض نفسها علينا فرضا بسبب سلطة ما أو بسبب وتيرة التطور وعناد التقاليد: فالصحافة لا تزال ترسف تحت ثقل الخطوط الحمراء والرقابة الذاتية والحسابات السياسوية؛ والقرى لم تتحرر بعد من طائلة التهميش والحرمان؛ ولا يزال «المخزن» مهيمنا كسلطة تحرك خيوط التطورات، تسعفه في ذلك أحزاب متواطئة؛ ووقوع انفجارات اجتماعية مفاجئة أمر محتمل بمجرد المساس بالحد المتدني لمعيش السكان (1984 في تطوان، 2007 في صفرو)؛ ولا تزال زراعة الكيف سيدة اقتصاد الظل يحميها سياق اجتماعي و سلطوي متسم بالفساد؛ وإذا كانت صفحة سجن تازمامرت قد طويت، فإن معتقلات أخرى تشكل كتابا ينفتح حاليا على وقائع مؤلمة، غير منظورة، ويكتنفها خرس مطبق.
أعود إلى كلام الشاوي الذي استشهدت به قبل قليل، وخصوصا إشارته إلى رواية (أورويل) المعنونة 1984. كتبت هذه الرواية سنة 1948 على شكل مجاز يرسم مخيال نظام كلياني، رقابي، يطحن الحريات الفردية، ويقولب الأهواء والمصائر من خلال «لغة جديدة» مصطنعة (Novlangue). ورغم أن الكاتب استشرف سقفا زمنيا لتحقق المجاز في الواقع، إلا أن مرور سنة 1984 حوّل الرواية إلى بنية استبطان لمستقبل لا يزال قيد التشكل، لكنه آت باستمرار. إنني أعتقد أن تذبذب روايةباب تازة بين زمنين، جعل تاريخها تاريخا سائلا يحمل عبء ثوابته التي لا زلنا نعاني منها إلى اليوم: ثوابت مصدرها المتن الذي تكرس الحاشية وجوده على شكل مرآة يبدو أنها تتحرك، لكنها لا تريم.
ختاما، إذا كان للأشخاص والشخصيات بيوغرافياتهم أو سيرهم الخاصة، فإن لكل رواية سيرتها الذاتية، وذلك حينما تختط لنفسها مسارا متميزا، وتصنع لوجودها هوية استثنائية. لا يتعلق الأمر بالكاتب، أو بمدى اندراج عالمه الحيوي في نصه، ولكن بالطريقة التي يستقل بها النص عن كل ذلك، ويفرض نفسه فرضا على الكاتب. فالرواية تبتكر سيرتها، بالنسبة للمتلقي، عندما تنفصل عن مسار النموذج لتكتشف مقومات أدبيتها. وأنا أظن أن باب تازة تمكنت من اكتشاف ذلك حين جعلت من نفسها نصا يقرأ ذاته، ونقرأ فيه هامشيتنا وعزلتنا وتواطؤنا الجماعي على الصمت حيال عبث التاريخ.
خلافا للسفر في اتجاه باب تازة، حيث كان السارد منشغلا بالقراءة وبوصف ما يراه عبر زجاج نافذة الحافلة العمومية، فإن رحلة العودة تجري فيما يشبه السديم: لقد كان صدر (عبد الله المتوكل) يغلي غضبا وانفعالا وخيبة بسبب عدم نشر تحقيقه، لذلك لم يكن يرى شيئا بل كان يحس بإرهاصات مخاض عسير، مخاض التحول من صحفي مرهق بالإحباطات إلى روائي مسؤوليته الكتابة فقط.
ملحوظة: قدمت هذه القراءة في اواخر 2007 خلال الندوة التي نظمها اتحاد كتاب المغرب بمدينة الرباط لتكريم عبد القادر الشاوي.