“المعنى يسكن النص حقيقة كجوهر ملغز،
إنه عمق هذا الكيان الفضولي المسمى شكلا وفعل القراءة يسعى إلى كشفه”
يسعد مجلة “رباط الكتب” و”مركز تواصل الثقافات” أن يستضيفا اليوم هذا اللقاء العلمي حول التجربة الثقافية والأدبية لأمبرتو إيكو الذي وافته المنية في 19 فبراير 2016. كنت شخصيا أحسب أن الموت لن يختطف بيسر شخصا من طينته أو على الأقل كنت أحسب أن إيكو يزيد شبابا كلما أصدر كتابا جديدا خصوصا بعد أن قرر التخلص من لحيته الكثيفة التي عرف بها سنين طويلة. غادرنا أمبرتو إيكو وترك وراءه إرثا دسما من روايات ودراسات وترجمات نأمل اليوم أن نفتح نقاشا حرا وعلميا حولها.
- حين نشر إيكو حاشية على اسم الوردة سنة 1987، بعد كل النقاش الفكري والثقافي الذي أحدثه صدور رواية اسم الوردة سنة 1980، كان ذلك إيذانا بظهور نمط جديد من الخطاب الموازي لما سمي قبل ذلك بالخطاب المقدماتي. خطاب ينتبه لوجهة نظر القارئ ويحاوره. وكأن إيكو برهن بالممارسة على ما قاربته كتاباته النظرية من مفاهيم متصلة بنظرية القراءة وجمالياتها، مفاهيم سيتم تطويرها في كتابات لاحقة أهمها: القارئ في الحكاية الذي يعد علامة فارقة في التنظير للممارسة النصية التي تجعل من القارئ محورا بعد أن كانت السلطة للمؤلف يمارسها كيف يشاء.
نشر إيكو اسم الوردة إذن في مرحلة ناضجة ومتطورة من مسيرته العلمية والأكاديمية، ولم تقف الأمور عند هذا الحد فقد توالت الإصدارات الروائية بعد ذلك: باودولينو، مقبرة براغ، جزيرة اليوم السابق، ثم العدد صفر التي سيختم إيكو مسار حياة ثرية ومدهشة.
ويرى المهتمون بتجربة إيكو أن اسم الوردة ما كان لها ربما أن ترى النور لو أن إيكو لم يكتب عمله الأكاديمي عن القديس توما الأكويني. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن مسيرته الطويلة جمعت المفكر والفنان، جمعت كذلك الفن والتسلية، فإيكو لم يكن دوما صارما في تحليلاته، كان يتقن الجمع بين السجلات، كل منها يضيء الآخر ويثريه.
تجدر الإشارة هنا إلى أن إيكو لم يكن خلال مساره العلمي والأدبي يخفي محتوى مطبخه. كان يكتب ويعلق ويضيء ويسخر ويتسلى ثم يخرج بعمل جديد. وبالعودة إلى حاشية على اسم الوردة، فقد كانت نصا أساسيا في فهم خلفيات كتابة النص الأول وتقنيات العمل وزمنه وهمومه وسياقه. وهو ما سماه سعيد بنكراد في معرض تقديمه للترجمة بــ” بسيرورة التـأليف والخلق وبناء الكون الروائي وتأثيثه”.
- في كتابه السيميوطيقا وفلسفة اللغة، عالج أمبرتو إيكو مجموعة من المفاهيم الأساسية في النظرية السيميائية أهمها: الدليل والمدلول والرمز والاستعارة والسنن. وقد استثمر في ذلك كل الأمثلة الممكنة من داخل الأدب ومن خارجه. بل إنه حفر بعمق في كل التاريخ البلاغي والمنطقي داخل الثقافة الغربية، بدء بأرسطو وصولا إلى بيرس وما بعده. أقول هذا لأن مسيرة أمبرتو إيكو الحافلة بالكتابات والنظريات والتأملات لم تقف عند التأمل النظري أو الاقتراحات العلمية، بل جعلت الحياة ورشة عمل مستدامة أنتجت متنا روائيا وفكريا ذا اعتبار.
لكن إصدار هذا الكتاب كان مسبوقا ومتبوعا بدراسات واكبت تطور الكتابات النظرية حول الفن والأدب والفكر بصفة عامة.
يمكن الوقوف عند ثلاث مراحل أساسية في مسيرة إيكو الفلسفية والسيميولوجية:
1/ مرحلة العمل المفتوح
بصدور هذا الكتاب في طبعته الإيطالية سنة 1962، نكون أمام مدخل نظري أصيل يبين فيه إيكو كيف تحتمل النصوص تعدد التأويلات والقراءات وكيف أن النص لا يغلق المعنى. ويمكن ربط هذه المرحلة بهيمنة الروح البنيوية التي ترى أن تشييد المعنى يأتي أولا من النص.
2/ مرحلة القارئ في الحكاية
صدر هذا الكتاب سنة 1979 وفيه ينتقل إيكو إلى مستوى آخر من القراءة. إذ أن تعريفه للنص يقارب صيغة أخرى لما يكون عليه العمل الفني “فالنص آلة كسولة يتم تنشيطها من قبل القارئ”.
النص بهذا المعنى ليس شيئا وليس له حضور فعلي بدون القارئ الذي يأتي متأبطا معارفه حول العالم ومعارفه حول المحكي نفسه.
3/ مرحلة حدود التأويل
أصدر إيكو هذا الكتاب سنة 1994 في نسخته الفرنسية، وفيه يعيد النظر في مفهوم التأويل وحرية القراءة. ويطرح الأسئلة الآتية: ما الذي يميز الاستعمال عن التأويل، كيف نعرف هل تأويل ما صحيح أو خاطئ، هل يمكن للسيميوطيقا أن تخطئ طريقها وتسقط في الإفراط، الإفراط في التأويل طبعا.
بعبارة أخرى، إن القول بأن النص هو في عمقه بلا نهاية لا يعني أن كل فعل تأويلي يمكن أن تكون له نهاية سعيدة. من هنا جهود المؤلف في إقامة جدلية بين حقوق القارئ وحقوق النص.
يسعدني أخيرا أن أرحب بالأستاذين ادريس كسيكس وسعيد بنكراد الغنيين عن التعريف، والذين سيضيئان هذا الصباح جوانب أساسية من تجربة أمبرتو إيكو النقدية والأدبية.