جون بورنمان، الجناية السياسية والسلم الاجتماعي، ترجمة المصطفى حسوني، الدارالبيضاء: دارتوبقال للنشر، 2007.
هذا الكتاب عبارة عن مقالات لم تنشر من قبل، ويحمل عنوانا جديدا يضاف إلى مؤلفات بورنمان، وهو لذلك يعتبر سبقا في ميدان النشر تنجح في تحقيقه توبقال. جون بورنمان أستاذ للانتروبولوجيا القانونية والسياسية بجامعة برينستون، الرائدة في ميدان الأنتروبولوجيا على المستوى الدولي، أصدر مجموعة من الدراسات حول موضوع الجناية السياسية أهمها كتاب عن آريال شارون ومصير العدالة الدولية، وكتاب آخر عن العنف والعدالة والمساءلة في أوربا الشرقية ما بعد الاشتراكية.
تعكس الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب قيد المراجعة الذي يتكون من 115 صفحة، الاهتمام المركزي للكاتب بقضايا المحاسبة والذاكرة والمصالحة، بينما خصص الكاتب الفصلان الأخيران لموضوع راهن هو الاحتلال الأمريكي العراق، والذي حلله مقارنة باحتلال أمريكا لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وفسر المواقف المتباينة منه لكل من أمريكا وأوربا.
يهتم بورنمان بالكيفية التي تتم بها محاسبة الجناية السياسية وينظر إليها انطلاقا من تجارب مارستها عدد من الدول، مثل كامبوديا وأوربا الشرقية، لكن التجربة الرائدة في هذا الميدان تبقى هي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ربط بورنمان المحاسبة بأربعة أنواع، إثنان منها ذوا طابع قانوني هما الجزاء والتعويض، وإثنان ذوا طبيعة ثقافية ونفسية وسياسية تشمل الاعتذار ولجن الحقيقة، (وهو ما يطلق عليه الكاتب تقويم الإنجاز)، ثم طقوس إحياء الذكرى والتي ترتبط بمأسسة أيام الحداد وتهيئ أماكن لحفظ الذاكرة.
لا تركز مقالات بورنمان بالأساس على تقييم مدى نجاح أو فشل هذه الأنواع من المحاسبة، لكنها تسعى إلى فهم الحالات التي يتم فيها اللجوء إلى نوع من المحاسبة دون الآخر، وإلى إبراز السياقات الثقافية والسياسية لكل منها. ومع ذلك، فإن الحالات التي طُبقت فيها أشكال المحاسبة الأربعة (الجزاء، أو التعويض أو تقويم الإنجاز أو الحفاظ على الذاكرة)، تبقى محدودة من حيث الكم، كما أن نتائجها لم تكن في أي حالة مكتملة.
تبرز ألمانيا من خلال نصوص بورنمان كالحالة النموذجية التي عرفت تطبيقات لكل أنواع المحاسبة. فألمانيا شهدت ممارسة الجزاء القانوني في محاكمة نورمبورغ، وهي أول محكمة عسكرية دولية حاكمت 21 من كبار المسؤولين في النظام النازي الألماني بتهم الجرائم ضد الإنسانية مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وتابع الحلفاء محاكمة نازيين آخرين في محاكم أمريكية وأوربية، كما حوكم الآلاف من النازيين في محاكم الألمانيتين الشرقية والغربية بهدف استئصال النازية.
لكن الجزاء القانوني بقي محدودا. فكامبوديا لم تعرف محاكمات بعد سقوط نظام بول بوت بعد مذابح الخمير الحمر. وفي لبنان لم يحاكم سوى شخصان على جرائم الحرب الأهلية التي دامت 18 سنة وخلفت ما يقارب 100.000 ضحية، وسمح العفو العام لعودة متهمين بالجنايات السياسية لاستئناف نشاطهم السياسي. وبالرغم من تمكن ضحايا المذبحة التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في صبرا وشاتيلا في لبنان سنة 1982 من استصدار قرار محكمة بلجيكية لمتابعة شارون عن تلك الجرائم، إلا أن القرار ألغي سنة 2005 نتيجة الضغط السياسي الذي مارسته الحكومتان الإسرائيلية والأمريكية.
بالنسبة للتعويض، يطرح بورنمان السؤال حول مدى قدرة المال على أن يكون تعويضا ملائما لتعويض خسارة قاسية، ويشكل بالتالي حالة من الجزاء القانوني المناسب على الجنايات السياسية . وبسبب الإشكالات الأخلاقية والنفسية المرتبطة بهذا الموضوع، رفض بعض الضحايا التعويض المالي، أو اشترطوا مصاحبته بأنواع أخرى من رد الاعتبار مثل العقاب، والاعتذار وتخليد الذاكرة. ويعتبر بورنمان أن التعويض المالي يعوض الخسارة التي لحقت بالضحايا وليس الذكرى المرتبطة بالخسارة، التي لا يمكن أن يساويها مبلغ مادي. فبالرغم من أن ألمانيا قامت بتقديم التعويض المالي للضحايا والذي وصل حجمه حتى حدود سنة 2000 إلى ما يناهز 102.6 بليون مارك ألماني، إلا أن ذلك لم يمح الإحساس بالذنب الجماعي للألمان تجاه الجرائم السياسية في العهد النازي. ولذلك كانت هناك الحاجة لنوع آخر من المحاسبة. فمنذ الستينات شهدت ألمانيا تقديم الاعتذارات العمومية عن جرائم الماضي، وكان أبرزها اعتذار ويلي برانت في وارسو بالحي اليهودي سنة 1970 واعترافه ومن تلاه من الرؤساء الألمان بالمسؤولية الجماعية للشعب الألماني على جرائم النازية. كما أقيمت أيام للحزن، وتأسست لجن لتقصي الحقائق ودعم التاريخ، وشُيدت النصب التذكارية والمتاحف وأُنشأت مواقع للذكرى.
لكن هذه الأنواع من المحاسبة لا تضمن النتائج المتوخاة، أي تجنب تكرار الجريمة والضرر. بل إن بورنمان يستنتج بأن “…أنواع المحاسبة بالشكل الذي تم به تنفيذها وتطبيقها منذ سنة 1945 في ألمانيا –الجزاء والتعويض المالي وتقويم الإنجاز- يمكن أن يطبق بشكل معكوس ويؤدي التنفيذ إلى أغراض مخالفة للحسابات الأصلية.” فخوف الناس من اتهامهم بالمعاداة للسامية منع نقاشات عمومية حرة حول أماكن ذكرى الهولوكوست التي أقيمت في برلين مثلا. كما أن هذه المعالم عوض أن تصبح أماكن لتذكر ضحايا جرائم الماضي، تتحول إلى فضاءات عمومية عادية، “للقاء الأصدقاء وتناول الوجبات…” وأدى حصر ذكرى الجرائم على الضحايا اليهود دون غيرهم إلى “خلق موجة جديدة من العداء المستمر ضد السامية.” ومع كل ذلك فإن جراح الذاكرة تُعالج، رغم أننا كما يعترف بذلك بورنمان، لا نعرف الكثير عن الكيفية التي يتم بها ذلك.
خُصص النص المتعلق بالمصالحة، الفصل الثالث في الكتاب، لتحليل الكيفية التي يلجأ إليها الضحايا بعد صراع عنيف لمواجهة الخسارة عند استحالة استرجاع ما ضاع، والشروط التي تجعل المصالحة ممكنة. يجد بورنمان أن أحد أشكال مواجهة الخسارة في حالة صراعات التصفية العرقية هو التوالد، والذي يؤكد به الضحايا استمرار الحياة حيث “يشكل الإنجاب مباشرة بعد التصفية العرقية استبدالا لطفل بخسارة المحبوب، واستبدال الحي بالميت.” وتظهر استراتيجيات الإنجاب في أبعاد سياسية أيضا عندما تتحول إلى مقاومة ضد التصفية العرقية أو تقوية الوجود السياسي من خلال التزايد الديموغرافي. برزت هذه الاستراتجيات بأشكال مختلفة في النزاعات المرتبطة بالحكم الذاتي، كما هو الحال لدى الفلسطينيين وكل من سريلانكا وأندويسيا، وأكراد العراق، وشيشان روسيا والمجموعات العرقية في البلقان. لكن بورنمان يرى أن مواجهة الخسارة عن طريق الإنجاب لا تؤدي إلا إلى ترسيخ العرقية، باعتبار أنها ترتكز على البحث عن الأصول والجذور، وحماية العرق المهدد عن طريق التقوقع داخل أفراده. وبالتالي، فإن استراتيجية الإنجاب هاته، تقود إلى تمديد ظروف تكرار العنف عوض تجاوزه.
يشكل الانتقام الشكل الثاني من محاولة الضحية استرجاع ما ضاع له عن طريق معاقبة الظالم عندما تفشل في ذلك الدولة والسلطات القضائية. لكن الانتقام لا يسعى فقط لفعل المستحيل، بل إنه يؤدي إلى تكرار العنف بعد أن تُقلب الأدوار ليصبح الجاني ضحية والضحية جان. وإذا كان بورنمان يعتبر أن كلتا الوسيلتين، الإنجاب والانتقام، لا يشكلان موانع لتكرار العنف، فإنه يرى أن الشهادة والعدالة الجزائية يمثلان البديلين الممكنين للمصالحة، التي يعرّفها بأنها “الاتفاق للخروج من العنف في حاضر مشترك”، وبالتالي تسمح بتحقيق السلم الاجتماعي.
وعلى ضوء التجارب التي شهدتها أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا في إطار لجن الحقيقة والمصالحة، ينظر بورنمان إلى الشهادة باعتبارها فرصة تسمح لمن أجبروا على الصمت من ضحايا الجنايات السياسية بقول الحقيقة أمام الجمهور وتُمكّن من تصحيح رمزي للخطأ. كما أن الشهادة تقود إلى بناء جو الثقة بين الأفراد ثم بين الفرد والدولة، لكن هذه الثقة ليست متناقضة مع استمرار الحذر الدائم من العدو. وتساهم الثقة الجديدة في تأسيس التضامن داخل المجتمع، لكنه تضامن لا يرتكز على الإدماج والتراضي، بل على أساس القبول “بالاختلاف داخل مجتمع نشيط من خلال التناقضات الحية.” لكن قصور العديد من لجن الحقيقة يتجلى في كونها كانت تفصل بين قول الحقيقية وبين الجزاء. ولذلك فإن بورنمان يعتبر أن “الإنصات، والشهادة والجزاء تشكل عناصر لا يمكن فصل بعضها البعض لإقامة مشروع للمصالحة.” وكان بورنمان أكد في كتاب سابق له كان خصصه لتصفية الحسابات في دول أوربا ما بعد الاشتراكية على ضرورة المحاسبة القانونية في ظل نظام قضائي مستقل، باعتبار ذلك من أسس النظام الديمقراطي وشروط استقراره.
بالرغم من اتفاق واسع على الصعيد الدولي لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة كوسيلة لممارسة الجزاء إلا أن هذه المحاكم تعتبر غير ديمقراطية لأنها تفتقد إلى دعم من طرف أغلبية منتخبة ديمقراطيا الشيء الذي يؤثر على التقبل الشعبي للأحكام التي تصدرها. وبالرغم من تعقيدات تنفيذ أحكام المحاكم الدولية، لكن أهميتها في الوقت الراهن تتجلى في أن هذه المحاكم، شأنها شأن المحاكم الوطنية، تقوم “بالإنصات للحقيقة وتقديم الشهادة وتوثيق الأضرار المرتكبة وتقديم الحلول لها.”
تشكل مجهودات حفظ السلام العالمي عن طريق تدخل طرف خارجي مثل الأمم المتحدة لإنهاء النزاعات وتحقيق المصالحة نموذجا آخر للبعد الدولي في موضوع الجنائية السياسية وتحقيق السلم. يقر بورنمان بفشل هذه المجهودات، ويرجع سبب هذا الفشل إلى غياب إدراج منتديات لتقديم الشهادات ولقول الحقيقة والاعتراف بطبيعة الاختلافات في هذا التدخل. ولذلك فهو يقترح إخضاع القائمين على السلم الدولي إلى تداريب على عملية الإنصات إلى الشهادات، والتي يُعتبر الأنتروبولوجيون بحكم خبرتهم في هذا الميدان، أكثر تأهيلا وحرفية من غيرهم لتأطيرها.
يرتبط الفصل الرابع بموضوع الاحتلال والذي يتمثل في التدخل العسكري في دولة أجنبية. يحلل بورنمان الموضوع من زاوية أنتروبولوجية تعتبره شكلا من أشكال التبادل الضروري والمتداول بطريقة غير متكافئة بين دولتين، ويتحقق الاحتلال عندما ترفض مجموعة التبادل الاختياري وتفضل الاحتفاظ بما تملكه من أفكار وتكنولوجيا وموارد وممتلكات الشيء الذي يرفع من قيمة هذه الخيرات ويثير الرغبة لدى الطرف الآخر، مما قد يؤدي إلى الحرب. يقترح بورنمان قراءة افتراضية ومجردة إلى الاحتلال الأمريكي للعراق انطلاقا من كونه تبادلا (بالمفهوم الأنتروبولوجي) يحصل من خلاله العراقيون على التخلص من حكم صدام حسين الدكتاتوري وإقامة الديمقراطية، مقابل حصول أمريكا على تبادل العلاقات بين العراق وإسرائيل، وإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية دائمة في المنطقة وتأمين السيطرة على النفط. ووقع الاحتلال الأمريكي بسبب رفض العراقيين لهذا التبادل. بالرغم من الغرابة التي يثيرها هذا الوصف لحرب العراق، إلا أنه يسمح بإجراء مقارنات مثمرة بين الاحتلال الأمريكي للعراق ونظيره في كل ألمانيا واليابان على إثر هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. ففي الوقت الذي أدى فيه الاحتلال الذي دام أكثر من ست سنوات في اليابان وأربع سنوات في ألمانيا، إلى إقامة أنظمة ديمقراطية مترسخة فيهما، وإلى تحقيق ازدهار اقتصادي باهر، لم يؤد احتلال العراق بعد سنة ونصف، وهو تاريخ كتابة مقال بورنمان، إلا إلى الدمار الذي ساوى في حدته ما ألحقه الحلفاء بألمانيا في الحرب الثانية.
سمحت هذه المقارنة لبورنمان ليبرز أبعاد وضعية العراق حاليا من منظور تاريخي أوسع لموضوع الاحتلال. فهدف إدارة بوش بالدرجة الأولى من احتلال العراق كان هو زعزعة الاستقرار بالشرق الأوسط من أجل ضمان أمن إسرائيل وذلك عن طريق عزل صدام حسين. ولم يواكب الاحتلال ما كانت وعدت به أمريكا من تدعيم فرص التبادل بين الشعبين الأمريكي والعراقي في المجالات الثقافية والاقتصادية، على غرار ما كان واكب تدمير ألمانيا. وفي غياب ذلك، أصبح الاحتلال الأمريكي مجرد سرقة ونهب، وعوض أي يؤدي إلى خلق أصدقاء فلم يخلق إلا الأعداء. يخلص بورنمان إلى أن احتلال العراق وعلى عكس احتلال ألمانيا واليابان يعتبر نموذجا فاشلا على غرار نماذج مماثلة في جنوب لبنان من طرف إسرائيل، أو في الفيتنام من طرف أمريكا، والذي لن يكون مآله في نهاية الأمر إلا رحيل المحتل.
في الفصل الخامس يحلل الكاتب الفرق في سياسة كل من أوربا وأمريكا تجاه الشرق الأوسط، والتي يعتبر أنها نتيجة لخلافات عميقة بينهما لدرجة يتحدث فيها عن توجّهين متمايزين لثقافتين وقوميتين مختلفين أطلق عليهما “الأوربة” و”الأمركة.” وإذا كانت هذه الهوة بين القارتين برزت خلال الحرب الباردة، إلا أن بورنمان يربطها بجذور أقدم يعكسها مصطلحا العالم القديم والعالم الجديد. تتجلى “الأوربة” في رؤية قارية تحقق مبادئ الديمقراطيات الكونية وتزداد دائرة تطبيقها اتساعا، على عكس “الأمركة” التي تتقوقع في إقليمية مغلقة.
ويبرز انفتاح “الأوربة” في التزايد المستمر للأوربيين المسلمين الذي يصلون اليوم إلى ما يناهز 12 مليون داخل الاتحاد الأوربي، والذين يحتمل أن يتضاعفوا عندما سيشمل الاتحاد البلقان وتركيا. وبالرغم من الخوف الذي يحدثه تنامي مسلمي أوربا لدى الأوربيين العلمانيين والمسيحيين واليهود، والتشنجات التي تحدث لهذا السبب، وأيضا بسبب المواقف المتعارضة حيال قضايا الشرق الوسط لكل من الأوربيين اليهود والمسلمين، وبالرغم من الاختلافات في الحسابات الوطنية لكل دولة أوربية على حدة، فإن بورنمان يرى أن هناك ما يشبه الإجماع حول السياسية الخارجية الأوربية التي تتجلى في الرفض الحاشد للرأي العام الأوربي للحرب الأمريكية ضد العراق.هذا الرفض الذي يعبر على “وعي بأن الجواب الأكثر إقناعا على الإرهاب لا يكمن في الحرب ضد العدو في الخارج، ولكن…في إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.” لا يعتبر بورنمان هذا الرفض خيارا هامشيا أو حلما طوبَويا، ولكنه يعكس قناعات أوربية بأولوية القانون والديمقراطية رسختها تجارب التاريخ الأوربي مع كل من الإخفاقات الاستعمارية والإمبريالية، وعنف الفاشية والاستبداد، وفظائع الحربين العالميتين وانهيار الأنظمة الاشتراكية لأوربا الشرقية.
مقابل هذه الثقافة الأوربية، ترتكز “الأمركة” منذ فترة إدارة ريغان على تكريس الإقليمية والخصوصية والمحلية العدوانية. ونتيجة ذلك، تبرز”الأوربة” و”الأمركة” كمشروعين متصادمين حول محتوى العولمة، وما ينتج عن ذلك من خلافات في السياسات الداخلية لكل منهما، وفي سياساتهما الخارجية بشكل عام، وعلاقاتهما بالشرق الأوسط بشكل أخص. ففي الوقت الذي تتخذ فيه “الأمركة” توجها اقتصاديا، وتركز على إنتاج الخوف من الشرق الإسلامي، والدعم الثابت للسياسة الإسرائيلية المعادية للعرب والمسلمين، وعلى فرض سياستها في الشرق الأوسط من خلال القوة العسكرية، ترتكز العولمة الأوروبية على مشروع ذي بعد سياسي، وعلى سياسة تحقيق الأمن بدل إنتاج القلق، وعلى إدماج مواطنيها المسلمين واليهود في ظل ما يسميه بورنمان “العلمانية المتقدمة للمسيحية الأوربية”، وعلى البحث عن إيجاد حلفاء في الشرق الأوسط وإغرائهم بوسائل سلمية.
هذه إذن هي الأفكار الرئيسية التي يشملها هذا الكتاب، والتي بالرغم من المواضيع الكثيرة التي تغطيها، فإنها مع ذلك تحافظ على الخيط الرابط الذي ينظمها، وهو المقاربة الأنتروبولوجية لموضوع الجناية السياسية، الذي لا يقتصر على إصدار الحكم الأخلاقي على الأحداث السياسية، بل يسعى إلى الكشف عن أغوار هذه الأحداث، وذلك عن طريق ربطها بسياقاتها الثقافية العميقة، وإجراء مقارنات على ضوئها. ومن دون شك، فإن قراء العربية في حاجة إلى هذا النوع من النصوص، التي توسع آفاق فهم قضايا محط جدل سياسي، ترتبط بالجرائم السياسية وسبل تحقيق السلم الاجتماعي، والتي كثيرا ما يغلب عليها الحماس الإيديولوجي والحسابات الآنية. لكن هذا لا يمنع أيضا من كون أن أطروحات بورنمان تعكس هي الأخرى السياق الثقافي لكاتبها. فتحليل بورنمان يطبعه أحيانا الإحساس بقصور كل الخيارات في مواجهة ماضي الجنايات السياسية، بما فيها تجربة ألمانيا، لدرجة يبرز فيها العجز الوجودي للإنسان أكثر من مدى قدرته على التجاوز العملي لما يواجهه من تحديات. أحيانا أخرى، كما هو الأمر بالنسبة لتحليله للعولمة، يظهر بورنمان مدافعا على المشروع السياسي لأوربا الديمقراطية الموحدة، بحماس غير مقنع، تطبعه الحسابات الآنية للصراعات السياسية الداخلية الأمريكية أكثر من تصور نظري منسجم. وبالنسبة للاحتلال الأمريكي للعراق، فبالرغم من الإضاءات التي سمحت بها المقارنة مع ماضي احتلال ألمانيا، إلا أن النص لم يقدم ما يسمح بتحديد الجهات العراقية، حتى لو كانت فرضية، التي يمكن أن تعتبر الوجود الأمريكي في بلادها كمقايضة للاحتلال بإحلال الديمقراطية في بلادها.
يبقى أن نشير إلى جودة الترجمة وبكونها سمحت بفهم أفكار بورنمان، رغم تعقيدها، ورغم افتقار اللغة العربية إلى عدة مصطلحات انتروبولوجية تفي بغرض الترجمة الدقيقة. وهذه الوضعية تدعو إلى حاجة المترجمين إلى العربية من الاستفادة من التراكم المهم لما يعرفه النشر العربي حاليا من تراجم غنية لنصوص رائدة ليس فقط في مجال الانتروبولوجيا، بل أيضا في مجال الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ومما يعاب على كتاب الجناية السياسية، وجود أخطاء مطبعية ونحوية كان من السهولة مراجعتها وتصحيحها قبل النشر. كما أن غياب مقدمة للكتاب تفسر المجهود الذي قامت به دار توبقال للحصول على النصوص المترجمة، وتشير إلى السياق السياسي المغربي المرتبط بموضوع الكتاب والمتعلق بأعمال هيئة الإنصاف والمصالحة، حرم الكتاب ودار النشر من معلومات ضرورية تنصف دار النشر في ما أنجزته من سبق محمود في هذا المجال.