عبد الكريم مدون، مصر وفرنسا. العلاقات الاقتصادية والقانونية، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2016.
لم يكن بمقدور فرنسا النظر إلى مصر كمستعمرة أو منطقة نفوذ، فقد كانت فرنسا تسعى إلى الحفاظ على مصالحها المهددة فيها ومراقبتها، حتى تأتي بمردود أفضل سواء على المستوى المالي والصناعي أو على المستوى الثقافي. وفي هذا السياق ساندت فرنسا مشروع محمد علي التحديثي طوال عقود، وذلك في إطار صراعها مع بريطانيا. غير أن الانجليز كانوا يدركون أن نجاح محمد علي سيشكل انتصارا لنموذج التحديث الفرنسي، فخاضت لندن حربا شرسة لضرب الأهداف الاستراتيجية للتحالف الفرنسي – المصري.
وفي إطار معرفة ماهية المصالح الاقتصادية الفرنسية الخفية وراء السياسة الفرنسية في مصر، صدر كتاب عبد الكريم مدون، مصر وفرنسا العلاقات الاقتصادية والقانونية، بتقديم أحمد زكريا الشلق. وضم الكتاب خطاطات وجداول توضيحية، بالإضافة إلى قائمة للمصادر والمراجع.
1- الكتاب: إشكالية وهندسة وأرشيف
حاول المؤلف البحث في مدى إسهام الاقتصاد الفرنسي في حركية الاقتصاد المصري خلال الفترة الممتدة بين 1860- 1882، سواء في مستواه السلبي أو الإيجابي، وذلك للإجابة على ثلاث إشكاليات. تتعلق الأولى بمدى مساهمة الاستثمارات الفرنسية في تطوير الاقتصاد المصري سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى اقتصاد الأزمة. والثانية بما تمثله التجارة الفرنسية في مصر، بعد التحول الذي حصل في السياسة الاقتصادية الفرنسية بداية من سنة 1860، بالنظر إلى البعدين الوظيفي أو المؤسسي. والثالثة بطبيعة العلاقة التي ربطت بين المواقف الفرنسية على مستوى الجمعية الوطنية مع الحركية القانونية التي أنتجت المحاكم المختلطة في بعدها النظري والتطبيقي والمصالح الفرنسية في مصر.
وللإجابة على هذه الإشكاليات قسم الباحث عمله إلى ستة فصول، تناولت عناصر الضغط الفرنسية على الاقتصاد المصري، واقتصاد الأزمة، والتجارة في العلاقات المصرية الفرنسية، وفرنسا والمؤسسات التجارية المصرية، ونظام الامتيازات في بعده المفاهيمي والقانوني، والقضاء المختلط في منظور المؤسسات السياسية.
اعتمد المؤلف مادة مصدرية متنوعة أرشيفية ومنشورة، من بينها الوثائق الإحصائية التي كانت تصدرها وزارة الداخلية المصرية، وتضم مجموعتين. الأولى مجموعة الوثائق القومية بالقاهرة، وتتضمن محافظ الأرشيف الأوربي والأرشيف الفرنسي. والثانية مجموعة الوثائق المحفوظة في غرفة التجارة والصناعة بمرسيليا. كما اعتمد الكاتب على بعض وثائق الخارجية البريطانية.
2- نتائج الدراسة
ركز المؤلف على الدور الاقتصادي والقانوني لفرنسا في مصر خلال حقبة التنافس الانجليزي – الفرنسي، وبالضبط فيما بين 1860 و1882. وعزا هذا التحديد الزمني إلى التحولات التي عرفتها كل من مصر وفرنسا بدءا من سنة 1860، حيث عقدت فرنسا معاهدة تجارية مع إنجلترا، ثم تلتها المعاهدة الفرنسية – العثمانية سنة 1861. وأنهى المؤلف عمله بسنة 1882، وهي سنة الاحتلال الإنجليزي لمصر. وخلص إلى أن علاقات فرنسا بمصر مرت بمرحلتين، الأولى أسماها بـ “دورة رواج” وامتدت من 1860 إلى 1872، والثانية أسماها “دورة انكماش” وامتدت ما بين 1872و 1882.
وعمد المؤلف في ختام عمله إلى تحديد عدد من المفاهيم المرتبطة بالعلاقات الفرنسية –المصرية.
أول هذه المفاهيم هو تحديد أصل مصطلح العلاقة التي ربطت بين مصر وفرنسا. فهذه العلاقة ترتبط ببعدين، بعد ثقافي وآخر يرتبط ببنية القوة والضعف. وتحليلا لمفهوم العلاقة، استنتج المؤلف أن أوربا عموما وفرنسا على وجه الخصوص، لم تعمل على تصدير النظام الرأسمالي إلى مصر بكل مكوناته المفاهيمية التي رافقته خلال بروزه في أوربا. ودفع هذا الاستنتاج الباحث إلى استعمال كلمتي رأسمالي ورأس مال بدل رأسمالية. ووظف نفس التحديد للحديث عما سمي بالبورجوازية المصرية، التي نعتها في هذه الأطروحة بـ “الرأسمالية المحلية”. وقصد بها مجموعة الأفراد الذين توفر لهم رأس المال، الذي استثمر عن طريق شراء مجموعة من الأسهم لدى الشركات المساهمة الفرنسية بمصر.
كما قرأ الباحث مدلولي التبعية الاقتصادية واقتصاد السوق في بعديهما التاريخي والزمني المحدد لأطروحة الكتاب. فمصر لم تخضع في نشاطها الاقتصادي للقوة الاقتراحية الفرنسية، بدليل تشتت السياسة الفرنسية في مصر بين عدد من الفاعلين الفرنسيين. كما أن مصر مثلت بالنسبة لفرنسا، وسيلة للتمويه عن ضعفها أوربيا، في حين مثلت فرنسا بالنسبة لمصر رمزا للحداثة والتحديث. وبالتالي، فإن مساهمة فرنسا في حركية الاقتصاد المصري كانت مساهمة نسبية.
وطرح الباحث أيضا في استنتاجه مفهوم الدولة في مصر، وخلص إلى أن هذا المفهوم في بعده الدولي كان مرتبطا بالمعطى الاقتصادي، الذي شكل أداة لطرفي اللقاء، أي فرنسا ومصر، لمحاولة إثبات وجودهما على الساحة الدولية.
2- قضايا للنقاش
أثار الكتاب عدة قضايا مهمة تقتضي المناقشة والتفاعل، ووضع بعض التحولات التي عرفتها ولاية مصر العثمانية وعلاقاتها بفرنسا في إطار صلة تركيا الأستانة بمصر الإيالة.
لقد توالى على حكم مصر خلال الفترة قيد البحث (1860-1882)، ثلاثة ولاة من الأسرة الخديوية[1]، وهم الخديوي سعيد والخديوي إسماعيل والخديوي توفيق. وذلك بعد وفاة محمد علي باشا، الذي سبق وأن حصل على حكم مصر وراثة في أسرته بعد معاهدة لندن[2]. وشكل بناء الدولة على عهد محمد علي تحديا مباشرا للسلطنة العثمانية، لذلك اندلعت سلسلة من الحروب بين الباشا والسلطان العثماني، انتهت بانتصار شكلي للعثمانيين وعودة مصر إلى السيادة العثمانية تحت قيادة الأسرة الخديوية التي أسسها محمد علي[3].
كان النفوذ الفرنسي كبيرا على عهد الخديوي إسماعيل، وبلغ أوجه بعد تدشين قناة السويس سنة 1869، حيث برز التأثير الفرنسي على الإدارة المصرية، واستخدم الخديوي إسماعيل أعدادا كبيرة من الفرنسيين في معاملاته المالية، وفي الحصول على القروض من الخارج. كما أسند إلى خبراء فرنسيين العديد من المشاريع العمرانية والعسكرية. إلا أن هزيمة الفرنسيين في حربهم ضد الألمان سنة 1870-1871، أفقد فرنسا الكثير من هيبتها على الصعيد الدولي، وتضاءل دورها في مصر بشكل واضح، مما دفع الخديوي إسماعيل نحو بريطانيا لضمان حكمه وتلافي الإفلاس المبكر[4].
لم تظهر آثار الاستثمارات الفرنسية في مصر نظرا لعدة عوامل، من أبرزها سياسة ولاة مصر من الأسرة الخديوية بعد محمد علي، الذين حولوا حركة التحديث إلى تغريب للمجتمع المصري. فقد كان الخديوي إسماعيل يقول: “لم تعد مصر إفريقية وسأجعلها قطعة من أوربا”[5] . هذا بالإضافة إلى مسألة انعدام الوحدة والتخطيط المسبق بين الصناعيين الفرنسيين وأصحاب الرساميل النقدية من الفرنسيين العاملين في المجالات العثمانية، إذ كان الصناعيون الفرنسيون والرأسماليون يعملون من دون تنسيق[6].
من القضايا التي تثير الاهتمام أيضا الصلة بين العامل الاقتصادي والقانوني في العلاقات المصرية – الفرنسية. إذ يمكن اعتبار فترة 1860- 1882 مرحلة مارست من خلالها مصر نوعا من الاستقلال عن الباب العالي على المستوى القانوني، حيث شكل الإصلاح القضائي، الذي باشره ولاة الدولة العثمانية في مصر، محاولة للحد من سلطة المحاكم القنصلية وإحلال قضاء مختلط تابع “للسلطة المصرية” مكانه[7].
وتتبين أيضا محاولة مصر تجاوز الباب العالي في تعاملها الاقتصادي، خصوصا التجاري والمالي، الذي لم يبق حبيس المعاهدات التي وقعها السلطان العثماني مع القوى الأجنبية. وقد استفاد ولاة مصر من الفرمان الشامل الذي منحه السلطان العثماني عبد العزيز لوالي مصر الخديوي إسماعيل سنة 1873، والذي سمح لوالي مصر بعقد اتفاقيات جمركية مع القوى الأوربية، وعقد اتفاقيات قروض دون إذن الباب العالي[8].
وعلى الرغم من تمتع والي مصر بكل هذه الامتيازات، والتي توحي بنوع من الاستقلال عن السلطان العثماني، من خلال ممارسة الولاة للحرية القانونية والاقتصادية في علاقاتهم الخارجية، إلا أن رموز التبعية بقيت قائمة. ومنها عدم تمتع والي مصر بحق التمثيل الدبلوماسي في الخارج وحق تشريع القوانين والضرائب وضرب النقود ورفع العلم[9].
وخلاصة القول إن علاقات مصر الاقتصادية مع فرنسا، تمثل جزء من حركية اقتصادية شهدتها الدولة العثمانية، واستمدتها من تنوع مواردها الطبيعية ومن استقرارها السياسي وسيادة الأمن في جميع ولاياتها. ذلك أن الدولة العثمانية شكلت في حد ذاتها سوقا داخليا واسعا دفع العديد من المؤرخين إلى اعتبارها Economie monde. ويبقى البحث التاريخي بعيدا عن معالجة آثار ونتائج هذه الحركية الاقتصادية التي عرفتها مجالات الدولة العثمانية، سواء منها الآسيوية أو الإفريقية أو الأوربية، الأمر الذي يفتح آفاقا رحبة للبحث التاريخي مستقبلا[10].
يقدم عبد الكريم مدون في هذا الكتاب دراسة علمية رصينة، مدعمة بالأرقام والإحصائيات الدقيقة، بحيث تملأ فراغا كبيرا في علاقات ولايات الدولة العثمانية بالقوى الخارجية.
——————————–
[1] – الخديوي لقب مستعار من اللغة الفارسية ويعني السيد أو الأمير.
[2] – عقد هذا المؤتمر في إطار إيجاد حل للمسألة المصرية بعد انتصار محمد علي على الباب العالي في معركة نصيبين سنة 1839، فناصرت فرنسا مصر، وكانت تميل إلى إقرار محمد علي على بلاد الشام. أما باقي الدول، وعلى رأسها بريطانيا والنمسا وروسيا، فكانت تتخوف من تحركات محمد علي في المنطقة. ينظر: محمد سهيل طقوش، العثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة (1299-1922)، بيروت، 1995، ص. 369.
[3] – بخصوص مشروع محمد علي التحديثي ينظر : مسعود ضاهر، النهضة العربية والنهضة اليابانية، تشابه المقدمات واختلاف النتائج، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999.
[4] – نفسه، ص. 211.
[5] – نفسه، ص. 205.
[6] – جاك توبي، الامبريالية الفرنسية والولايات العربية في السلطنة العثمانية 1840-1914، ترجمة فارس عصوب، مراجعة مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت، 1990، ص. 7.
[7] – عبد الكريم مدون، “فرنسا ودولية القانون المصري (1867-1876)”، في: العثمانيون والعالم المتوسطي، مقاربات جديدة، منشورات كلية الآداب، الرباط، 2003، ص. 201.
[8] – بخصوص الفرمان الشامل الذي منحه السلطان العثماني لخديوي مصر سنة 1873، ينظر: محمد فريد بك المحامي، الدولة العلية العثمانية، تحقيق إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، 1998، ص. 554- 559.؛ و
OsmanlI Belgelerinde MISIR , ( (مصر في الوثائق العثمانية , BaŞbakanlIk Devlet ArŞivleri
Genel MŨdurlŨğŨ, OsmanlI ArŞivi Daire BaŞkanlIğI, Istanbul, 2012.
[9] – ينظر: محمد بن أبي السرور، التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2005.
[10] – ينظر: خليل إينالجيك، التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية، ج2، ترجمة قاسم عبده قاسم، دار المدار الاسلامي، بيروت، 2007،
عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة، اتصالات سبو، البيضاء، 2008.