الإثنين , 20 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » فرنسا الأنوار بعيون سفير عثماني

فرنسا الأنوار بعيون سفير عثماني

محمد أفندي، جنّة الكفار: سفير عثماني في باريس سنة 1721،  دراسة وتحقيق عبد الرحيم بنحادة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2017 ، 174 صفحة.

 

الكتاب في الأصل تقرير سفاري أنجزه محمد أفندي بعد زيارته فرنسا على رأس سفارة عثمانية أوفدها السلطان العثماني أحمد الثالث (1703-1730)، باقتراح من الصدر الأعظم نوشهيرلي داماد إبراهيم باشا، إلى العاهل الفرنسي لويس الخامس عشر عام 1721. وتكمن أهمية هذا النص (سفارتنامه فرنسا) في إبرازه بدايات انفتاح العثمانيين على الحداثة الأوروبية بوجه عام والحداثة الفرنسية على وجه الخصوص.

وبالفعل، نجح هذا التقرير في إبراز مختلف مظاهر الحداثة الفرنسية، العلمية والثقافية والعسكرية والتقنية والعمرانية والاجتماعية. كما أفلح في تصحيح تصورات النخبة الحاكمة في الدولة العثمانية عن التحولات العميقة التي كان يعرفها الغرب الأوروبي آنذاك، وكان أيضًا من بين عوامل تبنّي السلطة العثمانية النموذج الفرنسي في إصلاح مؤسسات الدولة وتحديثها.

 
 

كتاب جنّة الكفار: الأهمية والمضمون[1]

يعدّ هذا الكتاب الذي حقّقه عبد الرحيم بنحادة إضافة نوعية في التاريخ الدبلوماسي للدولة العثمانية خلال الحقبة المعاصرة، يضاف إلى أعمال جادة اهتمت بموضوع السفراء والسفارتنامه العثمانية[2]. ويتألف من قسمين، خصص الأول للدراسة والثاني لتحقيق المتن الموسوم بـ بيان ما ذكره محمد أفندي المرسول من طرف الدولة العلية إلى فرنسا وجميع ما شاهده هناك. وقد وضع خالد زيادة تقديما للكتاب أبرزً فيه مميزاته والجهد المبذول في تحقيقه[3].

قدم المحقق للكتاب بدراسة علمية دقيقة ومستفيضة، بيّن فيها السياق والملابسات التي حفّت بإرسال السلطان أحمد الثالث سفارة محمد أفندي إلى العاصمة باريس من أجل توثيق العلاقات بفرنسا والتعرّف على ما بلغته هذه الدولة من تقدّم في مختلف الميادين. وقد توقّف عند تاريخ إرسال السفارات العثمانية إلى الديار الفرنسية والتحوّل الذي عرفه مفهوم السفارة العثمانية خلال القرن الثامن عشر، والذي توُّج بتعيين السفراء المقيمين في بعض العواصم الأوروبية منذ سنة 1793[4]. كما بيّن مفهوم السفارتنامه بوصفها نموذجًا من الكتابات التي تزاوج بين الوصف الجغرافي والإثنوغرافي، والتقرير الدبلوماسي السري، والاهتمام بمظاهر الحضارة المادية الأوروبية من أجل دعم سلطة الدولة العثمانية وتجديد هياكلها.

بعد تحديد المفاهيم الأساسية المتعلقة بموضوع الدبلوماسية العثمانية، قدّم المحقق تعريفًا وافيًا بالسفير محمد أفندي وأهمّ أقسام الرحلة السفارية، وتناول بالشرح والتحليل أهم مضامينها ومنهج اشتغاله على المتن. ولخّص مضمون متن السفارة بقوله: “عندما نقرأ الرحلة نجد أنّ الخيط الناظم هو توصيف مشاهدة الغريب بقلم يمزج بين الانبهار بمنجزات فرنسا في مختلف الميادين والحسرة على الواقع الذي آلت إليه الدولة العثمانية، والدعوة المبطّنة إلى اعتماد التجارب الفرنسية في الدولة العثمانية…” (ص 35). كما توقّف عند مختلف الأصداء التي تركتها سفارة محمد أفندي إلى فرنسا سواء في التقارير الصحافية والسياسية، أو لدى المثقفين الفرنسيين من رجال الإدارة والسياسة، وكذا عند الفنانين والرسامين الذين أبدعوا في تصوير بعثة السفير العثماني إلى باريس، ومن أبرزهم شارل باروسيل Charles Parocel وج. مارتن J.Martin. وأنهى المحقق الدراسة بالحديث عن امتدادات نص “جنّة الكفار” سواء في الزمن أو بالنسبة إلى المجتمع والسلطة في الدولة العثمانية، وعن سياق تسمية المتن وحيثيات اختيار “جنّة الكفار” عنوانًا لسفارتنامه فرنسا. وأكد أنّ ذلك المتن لا يعدو أن يكون تقريرًا لمشاهدات السفير يتضمن ثلاثة موضوعات رئيسة: الانطلاق والسفر برًا وبحرًا، وأهم المشاهدات، ثم طريق العودة وما جاء فيها. وقد ذيّل المحقق المتن بثلاثة ملاحق، أولها بعنوان “قبل الوصول إلى فرنسا”، وثانيها “رحلة العودة”، أما الملحق الثالث فقد ضمّنه كرونولوجيا السفارة. وختم الكتاب بلائحة ببليوغرافيا وفهرس الأعلام والمصطلحات.

 

معالم الحداثة من خلال تقرير محمد أفندي

توقّف السفير محمد أفندي في تقريره السفاري عند أهم معالم الحداثة في المجتمع الفرنسي. وقد ظهر ذلك من خلال موضوعات متنوعة، سياسية وعسكرية ومعرفية وثقافية وعمرانية واجتماعية. وكان الهدف من وراء بسط تلك المعالم هو تقديم النموذج الفرنسي للسلطة العثمانية قصد إصلاح مؤسسات الدولة وتحديثها. وقد اتضحت معالم الحداثة التي سجّلها السفير العثماني في المجالات التالية:

1.    المجال الاجتماعي

أول ما أثار السفير حفاوة الاستقبال والجمع الغفير من الفرنسيين الذين جاؤوا لمشاهدة موكبه، وكذا المكانة التي حظيت بها المرأة في المجتمع الفرنسي سواء في مناسبات الاستقبال أو خلال مشاركتها في الحياة العامة وتمتعها بكافة الحقوق والحريات. وهو ما سجّله السفير بعناية فائقة في مختلف فصول التقرير. ومن أبلغ ما قاله حول دور النساء: “في مملكة فرنسا إكرام النساء غالب على إكرام الرجال، وكل واحدة منهن تعمل ما تشاء ويختار خاطرها، وتمضي إلى حيث تشتهي وتريد. وعلى هذه الطريقة أكبر شيخ منهم يراعى ويحترم لأدنى حرمه بأكثر ما تستحقه. وفي تلك الولاية الحكم للنساء”[5].

ما شدّ انتباه محمد أفندي أيضًا هو وباء الطاعون الذي ضرب المجتمع الفرنسي، وخاصة سكان مدينة مرسيليا وبروفنسيا وبلاد الطولون، مما أحدث خسائر ديموغرافية جسيمة، اضطرت معها السلطات إلى اتخاذ إجراءات وقائية قصد التخفيف من الوباء عن طريق إخضاع المرضى للحجر الصحي.

2- المجال السياسي والدبلوماسي

تزامنت زيارة السفير العثماني لباريس مع فترة الوصاية وانتقال الحكم إلى الملك الفتى لويس الخامس عشر (1715-1774) بعد وفاة الملك لويس الرابع عشر في فاتح شتنبر 1715. وقد أُعجب السفير بالنظام السياسي الفرنسي القائم على تعدد المناصب الوزارية، والذي يسمح بتقلّد مهمات محددة ودقيقة أبرزها منصب وزير الخارجية الذي كان دوره ينحصر في “فحص إمكانيات توقيع السلم والسهر على شؤون التجارة والتفاوض مع سفراء الأمراء الأجانب وتسمية السفراء الذين يمثلون فرنسا في الدولة العثمانية”. وكان هذا النظام غير موجود في الدولة العلية التي تتركز فيها السلطات في يد السلطان وأحيانًا في يد الصدر الأعظم. كما أبدى محمد أفندي تقديرًا واضحًا لنظام الوصاية الذي يعهد بالحكم إلى وصي يشرف على تسيير شؤون البلاد حتى يبلغ الملك سن الرشد، والذي ضمن انتقال السلطة بسلاسة في فرنسا عكس الدولة العثمانية التي عرفت عدة أزمات سياسية في لحظات انتقال الحكم.

أولى السفير للجانب الدبلوماسي عناية فائقة، وخاصة المراسيم والبروتوكولات التي حضرها أمام رجال الدولة والملك الفرنسي. وظهر ذلك من خلال وصفه بعض المواقف التي شهدها بعد وصوله إلى باريس، إذ استقبله عساكر الملك وأعيان المدينة وخواصها وأكابرها. وقد أسهب في وصف تنظيم الاستقبال واللباس والحلي والمجوهرات الفاخرة والفرق العسكرية الاستعراضية ووضعية كبار رجال الدولة الفرنسية أمام الملك الذي تشرّف السفير بتقديم الرسالة السلطانية ومكتوب الصدر الأعظم له. وقد نالت تلك الرسالة المرسلة من السلطان العثماني رضى الملك الفرنسي وقبوله، وأسهمت في تعزيز الروابط السياسية والدبلوماسية بين البلدين.

3- البنى التحتية والمواصلات والعمران والتمدن

استرعت اهتمام محمد أفندي البنى التحتية والجوانب المادية في فرنسا، من تنظيم الطرق والقناطر والجسور والقنوات، ومنها قناة لونك دوك ( Languedoc) التي أسهمت في تسهيل المواصلات بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، مما أدى إلى تنشيط الأسواق والتجارة عمومًا. كما ساعد تطور المواصلات في تحسين خدمات النقل والتنقل بين البوادي والحواضر، وهو ما جعل الفرنسيين يدركون قيمة الوقت ويهتمون بالزمن.

اهتم محمد أفندي بالجوانب المعمارية والعمرانية للحواضر الفرنسية سواء في رحلة الذهاب أو الإياب. ومن أبرز تلك المعالم العمرانية، القصور والقلاع والكنائس والجسور والقناطر والموانئ والحدائق. كما شدّ انتباهه كيفية انتظام المدن والحواضر وتطورها، وأهمها مدينة باريس التي انبهر بمعالمها المعمارية وما احتوته من بنايات عالية وبيوت ومنازل، وقد عقد مقارنة بينها وبين القسطنطينية، على المستوى العمراني والديموغرافي والطبيعي (ص 99-134).

4- الثقافة والعلوم والفنون

انبهر السفير العثماني بالحياة الثقافية والفنية في باريس، وهو ما جعله يسهب في وصف أهم المعالم الثقافية التي تزخر بها العاصمة الفرنسية، وأبرزها المتاحف والقصور (سان كلو وفرساي ومدون وتريانون)، بحيث أسهب في وصف حدائقها ونوافيرها وشلالاتها وقنواتها وتماثيلها. ومن جانب آخر تحدّث عن مختلف الأنشطة الترفيهية التي تقام في دار الأوبرا، مثل حفلات الموسيقى والرقص والباليه وألعاب الشهب. ويبرز هذا الحديث أنّ السفير العثماني كان يبدو غريبًا عن الثقافة الفرنسية.

وحرص محمد أفندي على التدقيق في وصف التطورات العلمية والمعرفية والتقنية التي عرفتها فرنسا، بحيث ركّز على أسس التفوق العسكري من خلال الحديث عن مميزات الجيش الفرنسي والمستشفى العسكري في باريس الذي عدّه من أبرز معالم قوة المؤسسة العسكرية الفرنسية. كما تحدّث عن التطورات التقنية والعلمية التي شاهدها في باريس بانبهار شديد، وأبرزها المرصد الفلكي والأدوات الموجودة فيه، وخاصة المنظار الذي يمكّن من تتبع حركة الفلك والنجوم، والمحترفات الخاصة بصنع النسيج، ومصانع المرايا والآلات الموجودة فيها وكيفية اشتغالها. وكشف أيضًا اهتمام الفرنسيين بعلم الكرطوغرافيا من خلال رسم الخرائط والمجسمات بما في ذلك كرة العالم التي تمكّن من معرفة البلدان والأقاليم والحدود الفاصلة بينها كما تُستخدم لغايات عسكرية. ولم يفت السفير زيارة خزينة الدولة الفرنسية والوقوف عند مجوهرات القصر الملكي التي أعجب بها كثيرًا، وأعجب أيضًا بمتحف التاريخ الطبيعي، وأبدى اهتمامه بمختلف أجنحة هذا المعلم ومنها قسم علم التشريح والطب والنباتات.

 

نتائج سفارة محمد أفندي

كتب السفير محمد أفندي نص السفارة بعدما رجع إلى إستانبول وقدّمها إلى الصدر الأعظم إبراهيم باشا والسلطان أحمد الثالث واطلعت عليها النخبة العثمانية. والحقيقة أنّ متن الرحلة السفارية يطرح مجموعة من الأسئلة التي تفرض نفسها على الباحث، ومنها: هل نجحت السفارة في تحقيق أهدافها؟ وما هي أبرز نتائجها بالنسبة إلى السلطة والمجتمع؟ وما المضمر والمعلن في نص السفارتنامه؟ وما هي مآلات جهد النخبة والسلطة العثمانيتين في ترجمة بنودها إلى مشاريع الإصلاح والتحديث؟

لقد كان للسفارة التي قادها السفير العثماني محمد جلبي نتائج مهمة، لعل أبرزها اطّلاع العثمانيين على التحولات العميقة التي شهدها الغرب عمومًا وفرنسا على وجه التحديد، وتمكينهم من التعرّف على أسباب التقدم العلمي والتقني والثقافي والعمراني للمجتمع الفرنسي ومظاهره. غير أنّ الأهم هو محاولة تصحيح تصورات النخبة العثمانية عن العالم الأوروبي، وتجاوز فكرة “المركزية العثمانية” التي ظلت تسيطر على أذهان العثمانيين لقرون، على الرغم من الهزائم العسكرية التي تعرّض لها الجيش العثماني أمام الهابسبورغ وروسيا وما نتج منها من معاهدات قلّصت نفوذ الدولة العسكري والترابي (كارلوفيتس 1699، وكوجك قينارجة 1774).

وبفضل التقرير الدبلوماسي الذي كتبه محمد أفندي تمكّن العثمانيون من تبنّي مشاريع مهمة، أبرزها تأسيس المطبعة بحروف عربية في إستانبول سنة 1727، بمبادرة من سعيد محمد أفندي ابن السفير الذي تأثّر بالغ التأثر بالثقافة الفرنسية وخاصة بدور الطباعة والنشر، واستطاع أن يستصدر فتوى من شيخ الإسلام وفرمانًا من السلطان أحمد الثالث بهدف تأسيسها، وتكليف إبراهيم متفرقة بالجوانب التقنية للمشروع. وقد تنوعت المؤلفات التي صدرت عن هذه المطبعة بين ترجمات لكتب فرنسية وقواميس اللّغة، إلى جانب كتب التاريخ والجغرافية والعلوم. وعلى الرغم من توقّف هذا المشروع بموت إبراهيم متفرقة سنة 1745، فقد استمر الانفتاح على العالم الخارجي باستدعاء خبراء ومهندسين فرنسيين للعمل في المجال العسكري بخاصة سلاح المدفعية.

كان التقرير أيضًا بمنزلة المرشد والمعين للسفراء والدبلوماسيين العثمانيين الذين قصدوا فيما بعد أوروبا سواء على مستوى الكتابة والتأليف، أو من أجل فهم طبيعة المجتمع الأوروبي والتحولات التي عرفها، وأبرزهم: أبو بكر راتب أفندي وعلي مورالى أفندي وعبد الرحيم محب أفندي وسيد محمد أمين وحيد أفندي وغيرهم[6].

كما كان لسفارتنامه فرنسا نتائج مهمة على تطور الدولة العليّة على المدى البعيد، إذ مكّنت من خلق تراكم معرفي وعلمي جعل السلاطين يتبنون نموذج الحداثة الفرنسية في إصلاح مؤسسات الدولة المختلفة وتحديثها، مثل الجيش والإدارة والتعليم. وقد ظهرت التأثيرات الفرنسية بقوة في عهد السلطان سليم الثالث (1789-1807)، وتجلّت في الكتابة والتأليف ونشاط السفارة الفرنسية والصحافة. وتطور ذلك التأثير في عهد التنظيمات الخيرية من خلال نشاط حركة الترجمة، وبروز معرفة جديدة تمتح جوهرها من الثقافة الفرنسية، بحيث ظهر تأثّر العثمانيين بكتابات فلاسفة الأنوار أمثال فولتير وجون جاك روسو وديدرو وغيرهم، وتعززت المذاهب العلمية والعقلانية في أوساط النخبة العثمانية سواء لدى الخبراء العسكريين أو لدى السفراء أو المفكرين والمهتمين بالاقتصاد. وبذلك تسربت تأثيرات الأنوار بالتدريج إلى أوساط النخبة الحاكمة العثمانية. ومن جانب آخر، فقد كان لسفارة محمد أفندي دور في ازدياد اهتمام الفرنسيين بالثقافة العثمانية التركية والعربية، بحيث أسهمت في تحفيز الساسة الفرنسيين على الاهتمام باللغات التركية والفارسية والعربية، ودفعتهم فيما بعد إلى تأسيس مدرسة اللغات والحضارات الشرقية سنة 1786 (ص 59).

لقد أفلح محمد أفندي في إظهار القيم الإنسانية المبنية على التسامح أثناء زيارته، وأبان عن حنكة سياسية ودبلوماسية مهمة، بحيث تفادى إحداث مشاكل وأزمات دبلوماسية مما جعل سفارته تتكلل بالنجاح. عكس بعض السفراء الذين لم تكن لهم المؤهلات الكافية للتعامل بمرونة مع القضايا الدبلوماسية. لكن في المقابل تمكّن محمد أفندي من كشف الوجه الآخر لفرنسا وتعامل بعض السياسيين والوزراء بمكر وخديعة (ص 150-155).

طرحت السفارة مجموعة من الإشكالات بالنسبة إلى السلطة والنخبة والمجتمع العثماني، وكانت لها انعكاسات على مآلها ونتائجها على الرغم من نجاحها في تحقيق مجموعة من الأهداف.

فإذا كانت السفارة قد لاقت قبول رجال النخبة المثقفة العثمانية واستحسانهم، فإنّها من جانب آخر أحدثت بلبلة في أوساط التيار المحافظ والعامة، بحيث لم تتعامل شريحة من رجال الدولة العثمانية مع السفارة والسفير بما يستحق من الاهتمام، بل ظلت تنظر إليهما نظرة ريبة وشك. وعلى الرغم من الاحتياطات التي اتخذها السفير في تحرير نص التقرير وسعي السلطة وخاصة الصدر الأعظم  إلى ترجمته إلى مشاريع إصلاحية من خلال استقدام تقنيات الحداثة الفرنسية ، فإنّ مضامين النص السفاري ظل محكوما بهاجس الخوف والاحتراس من ضغط المجتمع والفئة المحافظة. وهو ما جعل بعض الموضوعات لا تنل حقها بما يكفي في التقرير. ذلك أن السفير تفادى مثلا مناقشة قضايا الجدل الديني (الإسلامي/ المسيحي) والهوية العثمانية (الأنا والآخر). وهو عكس ما لاحظناه في نصوص سفارية أخرى لسفراء مسلمين زاروا فرنسا واستطاعوا إفحام رجال الدين الفرنسيين في مناظرات شهيرة، وأبرزهم السفير المغربي أبو القاسم الحجري[7]. كما تجنّب السفير الإشادة بالفكر الفرنسي، ولم يتحدث عن استقدام كتب أرسطو من باريس، ولم يرو تفاصيل زيارته المكتبة الوطنية وأكاديمية باريس وتصفّحه الكتب والمخطوطات، نظرًا لما كانت تمثّله مسألة الانفتاح الثقافي من حرج في أوساط بعض العلماء ومؤسسة شيخ الإسلام التقليدية.

لم يُول محمد أفندي مسألة التباينات العميقة التي لاحظها بين العالم الأوروبي المتمثل بفرنسا والدولة العثمانية اهتمامًا كبيرًا، فأغلب المقارنات التي قام بها كانت عفوية على الرغم من اقتناعه بأنّه أمام عالمين مختلفين (جنة الكفار وجحيم المسلمين). فبالنسبة إلى الجانب العسكري، وعلى الرغم من إعطاء السفير التطورات العلمية والتقنية التي شهدتها فرنسا أهمية كبيرة، فإنّه لم يتحدث عن العلوم المرتبطة بتطوير المؤسسة العسكرية مثل الهندسة العسكرية والصنائع الحربية وأنواع الأسلحة والمعطيات المتعلقة بالعدة والعتاد والذخائر والخطط العسكرية. بل اكتفى بالحديث عن جوانب الاستعراض العسكري للحرس الملكي الفرنسي. مع العلم أنّ الدولة العليّة كانت في حاجة ماسة إلى معرفة مكامن قوة الجيوش الأوروبية، وهو ما تنبّه له غيره من السفراء في تقاريرهم أمثال أبي بكر راتب أفندي ودرويش محمد أفندي وأحمد رسمي أفندي، وبعض رجال النخبة في رسائلهم أمثال إبراهيم متفرقة وسيد مصطفى ومحمود رئيف أفندي.

ولم يلق التقرير اهتمامًا ملحوظًا إلّا عند النخبة الحاكمة والأعيان والتجار المشاركين في التجارة الدولية وأصحاب النفوذ. وبرز ذلك أساسًا في السعي لتقليد العمارة الفرنسية في بناء القصور والمنازل الفخمة على ضفاف البوسفور وغيرها، مثل قصر “سعد آباد” على القرن الذهبي و”الياليات” وهي الدور المقامة على ضفاف البوسفور، واستقدام عدد من الفنانين الأجانب إلى العاصمة. كما لوحظ تشييد عدد من المنشآت العامة والخاصة التي تبرز التطور والبذخ في مستوى العمارة. هذا في وقت كانت الدولة في حاجة ماسة إلى المال لإنفاقه على مشاريع كبرى. وهو ما أدى إلى الزيادة في الرسوم والضرائب، وانتهى بحدوث نهاية مأساوية لفترة مؤقتة من السلم والاستقرار تميز بها عهد السلطان أحمد المعروف بـ “عصر التوليب”.

وبذلك يمكن القول إنّ محاولات الإصلاح والتحديث  لم تنضج ولم تكتمل، على الرغم من أنّ الدولة العثمانية شهدت هذه المحاولات منذ مطلع القرن الثامن عشر التي أسهمت في بلورتها سفارة محمد أفندي إلى باريس، لأنّ “ضريبة الحداثة” في الدولة العثمانية كانت دموية. ذلك أنّ التيار المحافظ المساند للحرب في البلاط تمكّن من السيطرة على الوضع بعد اندلاع الحرب الإيرانية العثمانية في يوليوز سنة 1730، حيث تمكّن أحد قادة الانكشارية وهو باترونا خليل باشا من القيام بثورة في العاصمة، انتهت بإعدام الصدر الأعظم المصلح الداماد إبراهيم باشا في 29 شتنبر 1730، ونفي السفير محمد أفندي إلى جزيرة قبرص حيث توفّي سنة 1732، وخلع السلطان أحمد الثالث وتعيين محمود الأول (1754-1730) سلطانًا بدلًا منه في الفاتح من أكتوبر 1730. وتزامن ذلك مع انتشار الرعب في إستانبول وتدمير القصور والدور والحدائق التي أقيمت على ضفاف البوسفور وتحطيم المطبعة التي توقفت عن الإصدار، وبذلك تم إجهاض التجربة التحديثية[8].

ومع ذلك، استمرت معركة الحداثة والتقليد في الدولة العلية خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وانتهت باستئصال شأفة التيار المحافظ وحلّ جيش الانكشارية سنة 1826، وحدوث تغيير جذري في مؤسسات الدولة وبناها التقليدية وقوانينها من خلال مشروع التنظيمات الخيرية (1839)، ثم بإلغاء الخلافة العثمانية وتحويلها إلى جمهورية علمانية مع مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924.

 

هكذا تعرّف السفير العثماني محمد أفندي عند زيارته باريس سنة 1721 على فرنسا في بداية عصر الأنوار. وهو ما جعل مشاهداته تراوح بين النظرة الغرائبية والاستكشافية لمجتمع جديد والنظرة التي تهدف إلى التعرف والتدقيق في أسرار العلوم والمعارف والصنائع وسبر أغوار النهضة والحضارة الفرنسيتين ومرتكزاتهما.

وقد كانت نظرة الاستغراب والإعجاب متبادلة بين السفير وأعضاء البعثة العثمانية من جهة، ومختلف شرائح المجتمع الفرنسي (العامة والنساء ورجال السلطة) من جهة ثانية، أثناء مراسيم الاستقبال والبروتكولات، وأثناء الحفلات والمناسبات الرسمية. وكانت العادات المرتبطة بالأكل والشرب والطقوس الدينية واللباس والزي المدني والعسكري قضايا أدهشت السفير العثماني في العديد من المناسبات. كما كانت الحياة الثقافية والفنية، من حفلات الرقص وعروض الأوبرا وأدوار المرأة وحيويتها في المجتمع ومختلف الأنشطة الفنية، من الجوانب التي أثارت اهتمام محمد جلبي أفندي وسجّلها في تقريره. وعلى الرغم من التفهّم الذي أبداه بخصوص الحضور والتمتع بالفرجة والفرح، فإنّ هذه المظاهر تعكس التباين العميق بين فلسفة الفن والجمال والثقافة في عالمين مختلفين، العالم الفرنسي الحداثي المنفتح والعالم العثماني المحافظ.

وعلى الرغم من ذلك، فقد مثّل هذا التقرير الدبلوماسي المرشد والمعين للنخبة والسلطة العثمانيتين من أجل تصحيح تصوراتهما حول الحداثة الأوروبية، وعمّا كان يجري في الغرب بوجه عام وفرنسا بوجه خاص من تحولات عميقة في مختلف الميادين، ومثّل المرتكز والأساس الذي اعتمده الباب العالي لتبنّي مشاريع الإصلاح والتحديث في مختلف المجالات العسكرية والإدارية والمعرفية من أجل تجاوز الأزمات والإخفاقات التي عرفتها الدولة العثمانية.

 

 

[1]) نشرت لنا قراءة تفصيلية لهذا الكتاب ضمن مجلة أسطور للدراسات التاريخية، ع 6، يونيو 2017، ص. 173-180.

[2] أهمها:

Faik R. Unat, Osmanli Sefirleri ve Sefaretnameleri, Türk Tarih Kurumu, Ankara,1992; Hadiye Tuncer  ve Hüner Tuncer, Osmanli Diplomasisi ve Sefaretnameler, Ümit Yayιncιlιk, Ankara ,  1997; Virginia H. Aksan, An Ottoman Statesman in War and in Peace: Ahmed Resmi Efendi 1700-1783, Liden ; New York ; Köln : Brill, 1995; Stephane Yerasimos, Deux Ottomans à Paris sous le Directoire et l’empire Sindbad Actes Sud, Paris, 1988.

[3]) ) قام جيل فانشتين Gilles Veinstein  بإصدار الكتاب باللّغة الفرنسية، وترجمه خالد زيادة بعنوان “جنة النساء والكافرين”، وما ميّز تحقيق عبد الرحيم بنحادة هو اعتماده نسخة مخطوطة فريدة باللغة العربية لم تتوفر للباحثين من قبل ومقارنة مختلف النسخ العثمانية والتركية؛ محمد جلبي، جنّة النساء والكافرين، ترجمة خالد زيادة، دار رؤية للطباعة والنشر، القاهرة، 2014.

Mehmed Efendi, le paradis des infidèles, Un ambassadeur ottoman en France sous la Régence, introduction et notes par Gilles Veinstein, Maspero, Paris, 1981.

[4] Kuran E., Avrupa’da Osmanli Ikamet Elçilerinin Kuruluşu Ve Ilk Elçilerin  Siyasi Faaliyetleri (1793-1821), Türk  kültürünü Araştırma Enstitüsü, Ankara, 1988.

[5]) محمد أفندي، جنة الكفار: سفير عثماني في باريس سنة 1721، دراسة وتحقيق عبد الرحيم بنحادة، دار أبي رقراق، الرباط، 2017، ص. 88-118.

[6] ) انظر عبد الرحيم بنحادة، “بين الرحلة السفارية والتقرير الدبلوماسي: السفارتنامه العثمانية”، في: التاريخ والدبلوماسية قضايا المصطلح والمنهج، تنسيق عبد المجيد القدوري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2003، ص. 103-125.

[7] ) أحمد الحجري، ناصر الدين على القوم الكافرين، تحقيق محمد رزوق، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1987، ص. 49-56.

[8] (Robert Mantran, Histoire de L’empire Ottoman, Fayard, Paris, 1989, pp. 265-285.

 

- عبد الحي الخيلي

جامعة محمد الخامس / كلية الآداب بالرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.