الثلاثاء , 19 مارس, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » الرواية والتاريخ

الرواية والتاريخ

واسيني الأعرج، كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد، بيروت، دار الآداب، 2006.

ملخص

رواية كتاب الأمير :مسالك أبواب الحديد، لواسيني الأعرج، من الروايات القلائل التي كتبت حول الأمير وتاريخه. وهي بذلك من الروايات التاريخية التي يلتقي فيها السرد الروائي بالسرد التاريخي، حيث يبدو فيها التاريخ الواقعي شفافاً خلف لعبة السرد. ويبدو أن الكاتب الروائي حاول في عمله أن يقلص المسافة الفنية بين السرد التاريخي والتخييل السردي، مع ما يستتبع ذلك من مراعاة الصنعة الروائية ومتطلباتها، ومحاولة المحافظة -بقدر أو بآخر- على متطلبات الصنعة التاريخية. وسنقتصر في هذا التقديم على بعض القضايا التي توحي بها قراءة هذه الرواية. وهي قضايا مرتبطة أساساً بالعلاقة بين السرد الروائي والسرد التاريخي؛ مثل، تأليف الرواية، ولعلبة التوازي في الرواية، وشفافية السرد.

1- تأليف الرواية

المقصود بتأليف الرواية هنا كل ما يتعلق ببنائها وتركيبها وصوغها صياغة حكائية وسردية. ذلك أن الوصول إلى تلك الصياغة الروائية تَطَلَّب تأليف مجموعة من العناصر المختلفة والمتنوعة؛ معظمها مستمد من الوقائع التاريخية التي وقعت، ومن حياة أشخاص تاريخيين واقعيين. وقوام ذلك التأليف هو مجموعة من المصادر والوثائق المختلفة التي يمكن التأكد منها في عالم الكتابة التاريخية والوثائقية. ناهيك عن المشاكل التي تثيرها مثل هذه الوثائق في تنوعها واختلاف مصادرها الجزائرية والعربية والفرنسية والإنجليزية، إذا ما اقتصرنا على المرجعية الوثائقية التي ألف منها الكاتب روايته، المعتمدة على التاريخ الحديث للجزائر في مرحلة صراع الأمير عبد القادر مع الفرنسيين الغزاة خلال سنوات 1832 1847-.

وقد فرضت هذه المادة التاريخية المختلفة والمتنوعة على الكاتب أن يبحث عن شكل صوغي تخييلي، يجمع كل تلك المواد والوثائق في سرد روائي يعطى لذلك الزمن التاريخي بعداً فنياً يبعده عن التاريخ الحدثي، ويرتبط به في نفس الوقت بمسافة فنية يخلقها ذلك الصوغ الحكائي والسردي الذي قد يقول، أو يحيل على ما يحيل عليه الحدث التاريخي. ولكن قد يتجاوزه ويغنيه ويسائله في نفس الوقت. فكيف ألف الروائي الباحث واسيني الأعرج رواية كتاب الأمير؟

رواية كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد، هي من الروايات الأخيرة لحد الآن في مسار الكتابة الروائية للباحث والروائي الجزائري واسيني الأعرج(1). وهي من الروايات القلائل عن الأمير عبد القادر الجزائري. ذلك أن الأمير عبد القادر لم يحظ في السرد الروائي بمثل ما حظي به في السرد التاريخي. بخلاف بعض القادة التاريخيين في العالم العربي أو الأوروبي. ونلقي هنا بهذه الملاحظة للتأمل فيها الآن فقط.

وقد نبادر إلى القول بأن رواية واسيني الأعرج تشكل مرحلة جديدة في كتابته الروائية، لأنها حاولت أن تقتحم سرداً روائياً معقداً، يتماهى مع التاريخ والواقع أحياناً بشكل أكثر وضوحاً مما هو في رواياته السابقة. فهو يكاد يستمد مادته من التاريخ الجزائري الحديث في القرن التاسع عشر. ويركز بالخصوص على مسار شخصية تاريخية هامة، في تلك المرحلة، وهي شخصية الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري (26 شتنبر 1807- 24 مايو 1883)(2)، في فترة صراعه مع الفرنسيين الغزاة؛ ما بين 1832 و1847. ثم فترة نفيه (أو أسره أو سجنه) في فرنسا؛ ما بين 1847 و1853. كما يركز المؤلف كذلك على شخصية دينية مسيحية فرنسية، هي شخصية الأسقف أنطوان – أدولف ديبوش Antoine-Adolphe Dupuch (1800-1856) (3)، الأسقف الأول في الجزائر، ما بين 1838 و1846.

ليست هذه أول مرة يعتمد فيها واسيني الأعرج على تاريخ الجزائر، بل جل رواياته تدور حول الجزائر الحديثة والمعاصرة وتستمد نسغها وإطارها وواقعها من ذلك أيضاً. ولكن الذي يميز هذا العمل الروائي هو الحضور القوي للمادة التاريخية، المتمثلة في الوثائق والكتابات والمراسلات والمصادر المشهود لها في كتابات تاريخ الجزائر في تلك الفترة، وبالخصوص في تاريخ الأمير عبد القادر، وتاريخ الأسقف الفرنسي ديبوش ، مع بعض الإشارات الدالة إلى تاريخ فرنسا في ذلك الوقت؛ وبالخصوص ما يتعلق منه بالصراع بين الأمير عبد القادر والفرنسيين. وتتمثل كذلك في قوة لغته السردية التي كانت تخرج من صلب الوقائع التاريخية وترائب السرد التاريخي. أي من الحقائق التاريخية الموثقة، ومن عملية الكتابة التي تحاول رفع تلك الوثائق إلى مستوى التخييل السردي، حتى يكاد يصبح السرد التاريخي شفافاً تُرى من ثقوبه الوقائع التاريخية، ويشرئب منه السرد التاريخي. بالإضافة إلى تعقد موضوعها وتعقد العلاقة القائمة بين موضوعاتها التي تؤلف في النهاية صوغها الحكائي والروائي.

الرواية بهذه الصفة المذكورة عمل روائي تطلب من الكاتب جهداً كبيراً لتأثيثها بالوثائق والمستندات والرسائل والمصادر. كما تطلب منه بحثاً طويلاً ودقيقاً، وانتقاء مقصوداً؛ فعالاً ودالاً يخدم القصد الروائي الفني، بعد القصد التاريخي والاجتماعي والديني والإنساني. ولهذا قد يبدو من الصعب تتبع خيوط هذه الرواية ومقاصدها ما لم يتوفر القارئ على قدر معين من المعرفة بالمصادر المعتمدة عليها، لأنها ” ’’رواية –عمل‘‘ بحث روائي”. وقد سماها كتاب الأمير، لأن الكتاب هنا يفيد السجل أوالشهادة التي تنصف الأمير. وهي مثل الروايات الكبرى التي تعتمد على التاريخ بهذه الصورة التي وُظِّف فيها في هذه الرواية. فهي تدعو القارئ إلى القراءة، والمساهمة في تشييد الرواية ودلالاتها. وتلك ميزة مثل هذه الأعمال الروائية. ولنا في بعض الأعمال الروائية التاريخية الإنسانية ما يدل على ذلك؛ مثل أعمال تولستوي، وبلزاك، وهمنغواي. وفي أعمال بعض المعاصرين؛ مثل الأعمال الروائية لأمبرتو إيكو، وأعمال أمين معلوف، وغيرهم.

ولكي يتمكن الكاتب من تأليف ذلك الكل التاريخي بمختلف مستوياته وعلاقاته المعقدة، لجأ إلى تبني تقنية الكتابة بالمسارات المتوازية. وهي تقنية تقوم على مستويات مختلفة من التوازيات التي تسير جنباً إلى جنب خلال مسار السرد. ولكنها توازيات تنفتح على العلاقات المعقدة التي يفرضها الصوغ الحكائي، وتفرضها الوقائع التاريخية أيضاَ. كما سيفرض هذا التأليف الروائي نوعاً من التناوب في السرد على الطريقة النهرية أحياناً. وقد أسعفت المؤلف هذه التقنية على تتبع مسار الأمير ومسار ديبوش ومختلف العلاقات المختلفة التي ولدها المساران في جزائر الثلاثينيات والأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن التاسع عشر.

لقد قسم الكاتب روايته إلى ثلاثة أبواب كبرى، هي: باب المحن الأولى، وباب أقواس الحكمة، وباب المسالك والمهالك. ويتوزع كل باب على لحظات يتم فيه توزيع السرد وتوجيهه ، وينفتح على الذاكرة بشكل خاص. وعدد هذه الوقفات هو اثنتا عشرة وقفة. كما اتخذ من مكان تاريخي هام ، هو الأميرالية ، وهي بناية قديمة على قدم البحر في ميناء الجزائر العاصمة، اتخذ منها منطلقاً لتوزيع السرد على أميراليات أربع؛ منها ينطلق وإليها يعود ليتوزع من جديد حتى الأميرالية الرابعة الأخيرة. ويلاحظ على هذا التأليف “للكتاب- الرواية” نوع من التدرج في السرد، ونوع من التقسيم المحكم الذي كان يراعي التتابع التاريخي وتطور الأحداث، والتي يكاد يظهر منها التقسيم الثلاثي للحكاية: بداية، وسط نهاية. والتقسيم الأكاديمي في البحث التاريخي كذلك. ألم يُسَمِّ روايته بكتاب الأمير؟ الرواية تجمع بين روح الإبداع الروائي وروح البحث العلمي.

وخلال هذا التوازي السردي تنفتح الرواية على توازيات أخرى موضوعاتية ومكانية وعقائدية واجتماعية. وقد أدى هذا الوضع الحكائي، الذي يتوخى التأليف بين تلك الأوضاع والمستويات المختلفة والمتنوعة المستمدة من المادة التاريخية، إلى القيام بتسريد الوقائع التاريخية، وذلك بشحنها بالمتخيل الكامن في اللغة السردية ولعبتها من جهة، وبفك بعض المفاصل التاريخية من جهة أخرى، بتنسيلها وجعل السرد يتجزأ ويتشظى ليطول أوضاعاً وأماكن وأشخاصاً ولغات دقيقة تنفذ إلى أعماق المشاعر الإنسانية وأحاسيسها، وتنبش في جيوب مهملة في الذاكرة والتاريخ والأشخاص والمواقف … !

2 – لعبة التوازي.

نقصد هنا بالتوازي أن الرواية قد تحكم في نسجها السردي وجود مسارات متوازية مختلفة. إذ هناك مساران كبيران متوازيان بارزان يَتَّبِعُهما السرد من بداية الرواية إلى نهايتها. ويقوم هذا التوازي الأكبر على سرد حياة الأمير عبد القادر الجزائري في فترة معينة من حياته؛ فترة مقاومته للمستعمر الفرنسي للجزائر منذ 1832، إلى لحظة استسلامه لفرنسا بشروطه الخاصة، ونفيه أو سجنه في فرنسا، ما بين 1847 و1853. والتوازي الآخر هو سرد حياة الأسقف الفرنسي المسيحي أنطوان –أدولف ديبوش.

ونجد بمحاذاة هذا المستوى من التوازي بين الحياتين مستويات أخرى من التوازي. منها تواز ثان، يتمثل في حياة شخص مجاهد عربي مسلم، وهو الأمير عبد القادر بن محيي الدين الحسني، الذي يصل نسبه إلى أهل البيت حسب بعض الروايات.وحياة شخص فرنسي أسقف مسيحي، قضى جزءاً من حياته في الجزائر قائماً فيها على الكنيسة، وعلى الأعمال الخيرية، وقضى الجزء الآخر منها في فرنسا .

والمستوى الثالث من هذا التوازي هو تجربة المنفى. التي عرفها الأمير في فرنسا ثم في تركيا وسورية. ولم تتطرق الرواية إلا إلى منفاه في فرنسا بشكل خاص. مع الإشارة إلى سفره إلى تركيا التي ذهب منها إلى دمشق بسورية. كما عرف الأسقف ديبوش بدوره المنفى كذلك، عندما أعفي من مهامه في الجزائر رغماً عنه، فاضطر إلى الذهاب إلى إيطاليا، ففرنسا، ليضطر مرة أخرى إلى مغادرة فرنسا إلى إسبانيا، ثم يعود إليها في الأخير.

والمستوى الرابع هو وجود وضع استعماري فرنسي متدرج في شراسته، ووجود وضع جزائري متدرج في مقاومته بكل صعوباته وتعقداته الداخلية والخارجية.

والمستوى الخامس هو الموقف الفرنسي من نفي الأمير إلى فرنسا؛ في طولونToulon ، فبو Pau ، ثم في قصر أمبواز في بوردو. وموقف الأمير الذي طالب بتنفيذ فرنسا لوعدها بالسماح له بالذهاب إلى مكة أو عكا (أو تركيا أو سورية).

والمستوى السادس هو علاقة الأمير المعقدة ببعض القبائل الجزائرية؛ بأوضاعها الاجتماعية والحربية الموروثة، وعلاقته التي تعقدت في مراحلها الأخيرة مع سلطان المغرب، مولاي عبد الرحمان وأمرائه وولاته. ثم العلاقة المعقدة أكثر أيضاً مع فرنسا، ووضعها المتقلب خلال فترة صراع الأمير مع الفرنسيين.(4)

والمستوى السابع هو التوازي بين بناء الرواية انطلاقاً من رغبة ديبوش في كتابة رسالة إلى لويس نابليون، يدافع فيها عن الأمير، واحترام فرنسا لكلمتها وشرفها بإطلاق سراح الأمير. وبين سرد الأحداث أو انفتاح الرسالة على الأحداث التي يريد ديبوش التدقيق فيها، وإقناع الفرنسيين بما فعل الأمير، وبراءته مما حصل، أحياناً، أثناء حروبه مع فرنسا. وعندما يكون ديبوش قد استوفى كل دقائق الأحداث الدالة على لسان الأمير، وهي التي يريد عرضها على لسان لويس نابليون، تكون الرواية قد وصلت إلى نهايتها أيضاً. هناك علاقة بين الرسالة وتصور بناء الرواية. وكأن الرواية “رسالة”، أو “مرافعة”، للدفاع عن الأمير أمام لويس نابليون. وواضح هنا أن الرواية قد اعتمدت على هذه “الوثيقة-الرسالة” التي صدرت في كتيب بعنوان: عبد القادر في قصر أمبواز، مهدى إلى السيد لويس نابليون بونابرت، رئيس الجمهورية الفرنسية. بقلم مونسينيور أنطوان-أدولف ديبوش أسقف الجزائر السابق. الطبع والليتوغرافيا ل.: ح.فاي. شارع سان كاترين، 139. أفريل 1849.( الرواية . ص. 20). ولهذه “الوثيقة-الرسالة” عدة طبعات بالفرنسية في شكل كتيب صغير، مؤلف من125 صفحة (5).

وهناك مستوى آخر يصاحب الرواية ويسير مع الرسالة الرواية، وهو المستوى الذي يحُثَُُّ فيه الأسقف ديبوش الأميرَ على الإعتراف. وذلك من خلال سرد الرواية للوقائع التي عرفها الأمير مع الفرنسيين في الجزائر من خلال الأسئلة التي يلقيها على الأمير، ويطلب منه أن يجيبه عنها بصراحة. لا شك أن هذا السلوك نابع من صميم التصور المسيحي الذي يتقنه الأسقف ديبوش. وكذلك روح الصراحة التي يظن أنها قد تُطَهِّرُ الأمير مما افتُرِيَ عليه من طرف الفرنسيين. وكأن الرواية، بحكم تحكم الأسقف في السرد، قد وجه الرواية بهذه الروح المسيحية التطهيرية، التي يقوم بها مع الأمير لتُغفَرَ ذنوبه. وكأن الأمير هنا في مقام الإعتراف بالذنب وطلب صكوك الغفران…‍‍‍‍‍ !

يبدو أن هذه الأوضاع المتوازية والمتداخلة، هي التي فرضت على الكاتب أن يقرأ كثيراً عن مختلف هذه المستويات، ويحاول تركيبها في صوغ سردي وروائي محكم. وقد فرض عليه هذا الوضع التاريخي أن يلتزم التتبع التاريخي (الكرونولوجي) الدقيق أحياناً، بحيث يكون ذلك الخيط التتابعي للأحداث منسجماً مع ما يمليه الواقع التاريخي لمسار تاريخ عبد القادر. ويكون ذلك التتابع التاريخي هو الممسك بتوزيع السرد في الرواية. ولهذا غالباً ما نجد التأكيد في بداية كل مرحلة سردية في الرواية على تواريخ معينة دقيقة وغير وهمية. لاحظوا أننا هنا أمام صنعة التاريخ في يد صانع روائي. ولم ينقص هذه الرواية إلا الهوامش التي تشير إلى توثيق المصادر والمراجع والوثائق.

غير أن الكاتب لكي يؤلف روايته من كل هذه التوازيات والعلاقات المعقدة، نجده يدخل في محاولة تجريب كتابة جديدة، قد تكون هي القادرة وحدها على استيعاب ذلك البناء، وذلك الصوغ الروائي. فقد وجد الكاتب نفسه أمام اختيارات فنية سردية صعبة؛ إما أن يكتب رواية تاريخية كلاسيكية؛ تركز على البطل والأحداث الكبرى، ممجدة للبطولات الأميرية. وممجدة للروح الإنسانية للأسقف ديبوش، ولكنها منفرة ومحطمة من سلوك القبائل والعامة، وسلوك العناصر الخارجية، أو يطور أدواته وتصوراته للكتابة السردية التي تتعامل مع التاريخ. الواقع، أن كل متمعن في الصوغ الحكائي لهذه الرواية سيلاحظ أن الكاتب لم يسلك ذلك الاختيار الكلاسيكي التقليدي، وإنما حاول تمثل بعض منجزات “رواية ما بعد الحداثة”، كما نَظّر لها النقد التاريخي الأمريكي والأوروبي؛ أمثال هايدن وايت، ولاكابرا، وهاتشيون، وبول فين، وبول ريكور، وغيرهم، في تعاملهم الجديد مع التاريخ، والسرد التاريخي والسرد الروائي في النهاية. وميزة هذا التصور الحداثي هو التقريب بين السرد التاريخي والسرد الروائي.

لقد حاول واسيني الأعرج هنا أن يقدم سرداً جديداً، ورواية تاريخية مختلفة عن الرواية التاريخية الكلاسيكية التي أشرنا إلى بعض خصائصها. مع الإشارة إلى الصعوبات التي ستعتري الكاتب في الصوغ الحكائي لمختلف المواد التاريخية، وبالخصوص الوثائق التاريخية والوقائع التاريخية؛ من حيث دمج التناص السردي مع التناص التاريخي. ونقصد بهذا النوع من التناص علاقة “النص-الوثيقة” التاريخية بالنص التاريخي السردي داخل الرواية. ولكنه سرد يقلص المسافة بين التاريخ والرواية كما سنرى فيما بعد. وكذلك بعض المشاكل التي يثيرها انتقاء الوقائع والأحداث، وعدم مراعاة تعقد بعض الأحداث في مستواها التاريخي، ثم اختلاق بعض الأوصاف غير التاريخية.

3 – شفافية السرد

الرواية والتاريخ مصطلحان تاريخيان لغويان، رضعا من ثدي واحد هو الخبر. هما مرهونان ببعد تاريخي متغير. وقد تأثرت كل من الكتابة التاريخية والرواية التاريخية ببعضهما البعض في القرن التاسع عشر. ثم تطورت الرواية التاريخية في اتجاه أشكال روائية أخرى، واتخذ التاريخ أشكاله المتنوعة بدوره. ولكن هذه العلاقة الزمنية واللغوية والسردية مازالت تسكنهما بدرجة أو بأخرى. وليس غرضنا هنا أن نفصل القول في علاقة هذين السردين التاريخي والروائي، ولكن أن نتبين في نص كتاب الأمير بالخصوص، هذه العلاقة التي أشرنا إلى تأليفها الذي يفرض علينا توضيح تلك العلاقة.

لما كان الكاتب واسيني الأعرج قد اعتمد على مجموعة من الوثائق والرسائل والنصوص التاريخية؛ وهي نصوص ووثائق لها مظانها وأصحابها، ويمكن التحقق منها في أصولها المحفوظة، مثل رسالة ديبوش إلى لويس نابليون، وحياة أنطوان-أدولف ديبوش، وتحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر، وحياة الأمير عبد القادر لشارل هنري تشرشل، وغيرها من المصادر الكثيرة؛ الفرنسية والعربية، التي تحيل عليها مجموعة من النصوص التاريخية التي وظفت في الرواية، فإن السرد التاريخي كان حاضراً في الرواية بهذه الصفة، الوثيقة أو الرسالة أو النص التاريخي المتنوع. ولعل احتفاظ الرواية بعض النصوص والوثائق باللغة الفرنسية يدل بدوره على التأكيد على توثيقية السرد.

غير أن هذه المادة التاريخية الموثقة لما استعملها الكاتب في الرواية قد انتقلت من مستوى الوثيقة بالمعنى التاريخي إلى مستوى النص-السرد الروائي الذي يساعد التخييل على خلق تصورات جمالية يقترب بها القارئ من الزمان والمكان، بل يجد لتخييله وجوداً وكياناً واقعياً. ثم الذهاب بعيداً وراء الأحداث السياسية والاجتماعية وغيرها، لمحاولة فهم وتمثل الواقع المعقد في تمظهراته الحميمية والعميقة جداً. فالسرد الروائي عندما يصوغ حكاية تاريخية بطريقة ناجحة، لا يختزل التاريخ، ولكنه يكشف مهملاته ومنسياته، وأحياناً يبدد بعض شكوكه. وأحياناً يسقط في المحظور التاريخي، ويخرج التخييل عن معقوليته التي تحرف الوقائع والأحداث التاريخية.

4- كيف تشتغل الوثيقة التاريخية في السرد الروائي؟

ما هي الوثيقة التاريخية؟ قد يكون بندتو كروتشيه أحد من جمع أهم المفاهيم المختلفة التي عرفها مفهوم الوثيقة. وقد تبنى المؤرخ عبد الله العروي ذلك المفهوم ونقله عنه في الفقرة التالية: “يعنى المؤرخون بالوثائق عادة المعاهدات والعقود العدلية والقرارات الإدارية والرسائل الديبلوماسية، إلخ. ولا شك أن هذه تمثل من جهة بقايا من إنجازات الماضي، ولكنها من جهة ثانية تمثل شهادات عن واقع، ومن هذا المنظور يجب أن تضاف إلى أقوال الشهود. كما أن الأخبار المروية تكتسي وجهين اثنين. مهما استخففنا بها كروايات، فإنها تحتفظ، بمجرد كونها رواية، بقيمتها كشهادة”(6).

لو حاولنا تقصي الوثائق التي استعملها الكاتب في الرواية، والتي اكتست في الرواية صبغة نصية بحكم تسريدها، لوجدناها ماثلة في مختلف مراحل الرواية وفي مختلف الوقفات التي اعتمدتها الرواية في مَرْحَلَتِها –تقطيع السرد إلى مراحل- للسرد، وبخاصة تلك التي تنفتح على الذاكرة وتستعرض مختلف المواقف والمعارك والمحن واللقاءات والأسفار وغيرها. لنأخذ مثلاً، خطب الأمير وبيعته، ورسائله إلى القبائل، ورسائله إلى الفرنسيين، أو إلى خلفائه، أو إلى السلطان المغربي، أو إلى العلماء، أو أجوبته عن أسئلة الأوروبيين في بعض القضايا الدينية، أو مراسلاته مع الأسقف أنطوان- أدولف ديبوش، بل ووصية ديبوش نفسها، وكلمة نابليون بتحرير الأمير أو كلمة الأمير في حق ناببليون، أو كلمة تعهده له بعدم الإضرار بالمصالح الفرنسية، وعدم حمل السلاح ضدها. إنها كلها كتابات موثقة. لها مصدرها التاريخي الموثق، سواء في كتب الأمير، مثل، التحفة أو المخطوط الكبير، أو في أشعاره، أو في كتابات الذين اهتموا بحياته؛ سواء في حياته أو بعدها، أمثال، بيلمار، وشارل هنري تشرشل. وبول أزان، وبرونو إتيين. والمؤرخين الجزائريين، مثل، أبي القاسم سعد الله، ويحيى بوعزيز. ومحمد السيد محمد الوزير، وبديعة الحسني الجزائري، وغيرهم. أو الكتب والأبحاث العلمية التي اهتمت بتاريخ وثقافة الجزائر الحديثة.

هل يمكن تحديد المصادر التاريخية التي اعتمد عليها الكاتب في كتابته لرواية الأمير؟ من الصعب الجزم في هذا الموضوع، لأن مثل هذا التحديد قد يقتل الكتابة والقراءة في نفس الوقت، بل ويقتل متعة التخييل الفني. ولكن الذي يمكن أن نشير إليه في هذه المسالة، هو أن الكاتب قد اعتمد على منظومتين مرجعيتين أساسيتين: إحداهما خاصة بالأمير عبد القادر، وثانيتهما خاصة بالأسقف مونسينيور ديبوش. علماً بأن الرواية تقدم لنا الأمير من خلال الأسقف الفرنسي المسيحي. وربما هذا هو الجانب الطريف والجديد في التعامل مع الأمير تاريخياً وروائياً.

عندما نمعن النظر في المادة التاريخية للرواية، وللمستويات السردية التي تألفت منها، وبصوغها الحكائي، نجدها قد انطلقت مع وصول رفات الأسقف ديبوش إلى الجزائر العاصمة من فرنسا في 28 يوليوز من سنة 1864، بعد ثماني سنوات من وفاته، سنة 1856، ليدفن في الجزائر. وبذلك يتم تنفيذ صديقه جون موبي لوصيته. وقد ترددت هذه الوصية في الرواية، والكتب التي تحدثت عن حياة ديبوش تؤكد ذلك. ولنأخذ هذه الوصية-الوثيقة كما جاءت في الرواية كمثال على السرد التاريخي وكيف يتحول إلى سرد روائي. تقول الوصية: “لقد أعدت ذراع القديس أوغسطين إلى هيبونة، آه! لو يكتب لي بعد موتي أن تعاد عظامي نحوتلك الأرض [الجزائر] الطيبة مع الناس الذين اختارهم لي الله. لو أستطيع أن أنطق سأقول لمن يغمض عيني للمرة الأخيرة : Redde ossa mea meis [ أي افعلوا مثلي] لو فقط…” (ص233).هذه الوثيقة مثبتة بالفرنسية في كتاب عن حياة ديبوش، بعنوان:

Vie de Mgr DUPUCH, Premier Evéque D’Alger par M. l’Abbé E. Pioneau .

وقد جاءت فيه بالصيغة التالية التي ترجمها الكاتب في الرواية بالصيغة المذكورة، وهي:

« J’ai apporté, écrit-il, les ossements d’Augustin à Hippone… Ah ! si après que je me serai endormi à mon tour, je pouvais espérer que les miens retourneront vers cette terre si tendrement aimée, vers ceux que le Seigneur m’avait donnés ! Si j’osais, je dirais ici d’avance à celui qui me doit fermer mes yeux : Redde ossa mea meis

لننظر الآن إلى هذه الوثيقة التاريخية، مثلاً، كيف سُرِّدت في الرواية، أي: كيف انتقلت من وثيقة تاريخية-شهادة، لها مفهومها وأعرافها القانونية أحياناً، ولها أثرها التاريخي والاجتماعي والديني، إلى نسق سردي جمالي نتج عنها كتابة روائية. فهي في عرف علم السرد حافز على إنتاج السرد والدفع به لينتج خطاباً. وهي المتحكمة في لا وعي الكاتب وفي السارد الذي جعلها منطلقاً للسرد، وللعمل الروائي كله. وبذلك كانت حافزاَ إلى استدعاء حياة الأمير عبد القادر، واستدعاء ذاكرته ليحكي لنا ما حصل له مع الفرنسيين أثناء مقاومته لهم. وربما كشفت هذه الوصية- الوثيقة عن خلفيات أخرى غير واضحة عندما نتعامل معها كوثيقة تاريخية بحتة، معزولة عن السياق السردي الذي نسجه الكاتب. الوثيقة هنا لها مؤلفها التاريخي، هو مونسنيور ديبوش، ولها مؤلفها الروائي هو السارد في الرواية، هو السارد ديبوش. وهنا نلاحظ الفرق بين ديبوش المنتج للنص التاريخي، وبين ديبوش المنتج للسرد في الرواية. لقد استطاع الكاتب عبر السارد، الذي كان هو جون موبي في الأصل، ولكن ترك ديبوش يقوم بتوزيع السرد في اتجاهات كان يرغب فيها ليصل السرد إلى مبتغاه، أن ينشئ لنا “كتاباً-نصاً روائياً” يحقق فيه رغبته الإنسانية.

إن هذه الوصية لما عزلها الكاتب عن صاحبها الأصلي ديبوش مؤلفها، وسلمها في يد السارد ديبوش تكون قد انتقلت من مجال الوثيقة التاريخية إلى مجال الخطاب السردي، لأن دلالتها ستنفتح آنذاك على احتمالات ومقاصد أخرى يفرضها النسق السردي. وهي وجهة السرد داخل الرواية. ووجهة السرد هاته لا تكتفي بالقيام بتنفيذ الوصية ونقل رفات ديبوش إلى الجزائر، مثلما نقل هو ذراع القديس أوغسطين من إيطاليا إلى هيبونة، عنابة، في الجزائر. وبالتالي يكون صديقه جون موبي والقائمون بالكنيسة في بوردو وفي فرنسا قد أرضوا ضمائرهم واستراحوا، كما يقتضي ذلك روح الوصية- الوثيقة التاريخية في عرفها الديني والإنساني. وإنما تفتح عوالم الرواية وعالم الأمير، الخفية منها بالخصوص.

وحتى لو كانت هذه الوصية قد احتفظت هنا بكل تلك الدلالات التاريخية، فإنها قد تجاوزتها إلى كونها قد حركت في الكاتب أبعاداً جمالية حكائية وتخييلية. ثم جعلته يقدم لنا لوحات فنية متخيلة في البحر والطبيعة وداخل النفوس في صراعاتها التي تولدت عنها مشاعر الإحساس بالقوة الفرنسية وغطرستها، ومشاعر الحمية الوطنية والدينية عند الأمير وسكان الجزائر. وكذلك الإحساس بالذنب واحترام شرف الكلمة عند ديبوش الذي يدافع عن ذلك حفاظاً على شرف دولته. وهكذا نرى أن السرد قد انفتح على عوالم صغرى داخل النفس الإنسانية عند المسيحي وعند المسلم على السواء. ومن ثم تم تناسل العلاقة الإنسانية بين مختلف الديانات. وتلك كانت رغبة الأسقف ديبوش الدينية العميقة في محاولة إقناع الأمير بدينه. ولكن الأمير قام بالتجربة الروحية استجابة لديبوش، ولكنه اقتنع بسلامة عقيدته الدينية الإسلامية العميقة. وكثيراً ما تعرض السرد في الرواية إلى التشابهات الإنسانية بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي، سواء في الحرب أو في السلم.

لقد كشفت هذه الوثيقة عند تسريدها في الرواية عن الدور الذي كان يقوم به الأسقف ديبوش من أجل دينه المسيحي ومن أجل الفقراء والمحتاجين في الجزائر. وله كتابات عن الديانة المسيحية في إفريقيا، بل كثيراً ما كان السارد ديبوش يُنطق الأسقف المسيحي ديبوش، إذ كان يتمنى في قرارة نفسه أن يصبح الأمير مسيحياً، فيقوم بحلم يقظة يرى فيه الأمير أمام البابا يعمده في الفاتكان…! يقول السارد: “في تلك اللحظة رأى مونسينيور ديبوش الأمير وهو يركب بصحبته القطار المتجه إلى روما ليلقى التعميد من يدي البابا الأكبر. فكل النقاشات التي دارت بينهما كانت معطرة بآمال كبيرة وبعطر شرقي تصعب مقاومته”.(ص51)

ومثل هذا الكشف لا تقوله الوثيقة التاريخية الوصية في حد ذاتها، وإنما جرها السرد في الرواية لتفصح عن ذلك. ولكن حتى هذا الحلم نجد له ما يبرره في الكتابات التاريخية عن ديبوش. ولكن المؤرخ لا يعتد بأحلام اليقظة، ولكن السرد الروائي يوظفها. وعندما تعبر لنا الرواية عن هذه النوازع الإنسانية، يمكن القول بأن الكاتب استطاع أن يُشغل النص- الوثيقة الوصية تشغيلاً فنياً، كشف به عن عمق النفس البشرية، ومقاصدها العميقة التي قد لا تفضح عنها الوثيقة في سياقها التاريخي. وعندما نتعرف جيداً على حياة ديبوش في بعض المصادر نجده مخلصاً لعقيدته المسيحية، بل كان يرى بأن احتلال الجزائر دينياً قد ينجح أكثر من احتلالها عسكرياً، أو أنه يجب التركيز على الجانب الديني أيضاً وليس الجانب العسكري فقط؛ أي يجب أن يصاحب الإنجيل والصليب كلاًّ من السياسة والسيف(7)، وبخاصة في المراحل الأولى لاستعمار الجزائر. ولكن قد تفصح هذه الوثيقة عن كل ذلك عند المؤرخ أيضاً، ولكن من المؤكد أنه سيكون بوقع أوطعم آخر ومختلف. وذلك الوقع والطعم والمعنى، هو ما يميز الرواية عن التاريخ.

الواقع أن الرواية مشحونة بالوثائق والشهادات التاريخية الهامة. وقد تعرض بنوع من التتابع التاريخي المنتقى بمنتهى الدقة، فعلاً. فقد تعرضت الرواية إلى أهم المعارك التي خاضها الأمير، ولكن ليس كلها، لأن الأمير خاض حوالي ثلاثاً وثلاثين معركة مع الفرنسيين، وحوالي أربع وثلاثين معركة مع القبائل . ولهذا حاولت الرواية أن تنتقي بعضاً من هذه أو تلك. لا شك أن من أهم الأحداث التي عُرف بها تاريخ الأمير هو بناؤه لمدينة “تاكدامت”، لتكون عاصمة إمارته، بعد قضاء الفرنسيين على عاصمته الأولى مدينة معسكر. ثم اهتداؤه بعد ذلك إلى تبني مفهوم الزمالة. وهي في الأصل قبيلة في غرب الجزائر. والزمالة هي القبيلة المتنقلة أو العاصمة المتنقلة. تجمع بين القبائل ومفهوم الترحال ومفهوم الهجرة في نفس الوقت.

لقد حاولت الرواية أن ترسم لنا صوراً دالة عن تلك الأحداث، تعرض لها المؤرخون، بل هي مشهورة في تاريخ الأمير عبد القادر. غير أن الرواية بحكم السرد والوصف والتخييل أخرجتها من عالم الأحداث والشهادات التاريخية إلى عالم التخييل الذي تترك للقارئ حرية تخييلها وتصورها. وربما كان الكاتب ينظر هنا إلى الكتابة السينمائية البصرية والحركية. ولذلك نجد مثل هذه الأحداث في الرواية، وهي غنية بها، صالحة لأن تكون مصدراً جيداً للكتابة السينمائية. الرواية بهذه الصفة المذكورة قابلة لتكون عملاً سينمائياً هاماً. وقد استعان الكاتب في نقل صورة عن بعض هذه الأحداث ببعض الوثائق التي قلما يستغلها المؤرخون، وهي اللوحة الفنية. فقد حفظت ريشة الفنان هوراس فيرني الرسام العسكري الذي احتفظ لنا بصورة عن الهجوم على الزمالة من طرف الفرنسيين، -وكذلك رسم لوحة عن معركة وادي إيسلي سنة 1844-، وقد شاهدها الأمير في قصر فرساي لما زار باريس، مباشرة بعد إطلاق سراحه. وعلق عليها قائلاً، بأنهم يرسمون انتصاراتهم فقط، ولا يرسمون هزائمهم (ص583).

ولما كان الكاتب قد اعتمد على انتقاء الأحداث في روايته، وهذا أمر طبيعي في العملية الإبداعية. إلا أنه قد يتجاوز مهمته الفنية في ذلك الانتقاء، عندما تتعارض كتابته السردية مع الواقع التاريخي الموثق. من ذلك مثلاً طريقة معالجة الرواية لعلاقة الأمير مع السلطان المغربي، وبالخصوص في المراحل الأخيرة من الرواية، التي تصادف المراحل الأخيرة أيضاً من حياة الأمير الحربية، لما دخلت الرواية إلى الأراضي المغربية في الشمال الشرقي، في نواحي ملوية وبني يزناسن. لقد عرفت العلاقة بين السلطان مولاي عبد الرحمان وأمرائه وولاته، في هذه المرحلة فتوراً، بل توتراً، لأسباب معقدة جداً، حسب المؤرخين أنفسهم. ولكن المعالجة السردية لم تستطع إبراز ذلك التعقد الذي نجحت فيه عندما تعلق الأمر بتعقد علاقة الأمير مع الفرنسيين. مع التذكير بأن الرواية قد أشارت إلى المساعدات المغربية للأمير في مقاومته للفرنسيين ولبعض المنشقين عنه.

والملاحظ أن الرواية في بعض لحظاتها من مراحلها الأخيرة، قد جعلت السرد يتجه نحو تكوين صورة مختزلة عن أوضاع معقدة جداً. بل تجاوزت ذلك إلى اختلاق صفات لم نجدها عند أهم الذين تحدثوا عن العلاقة بين السلطان المغربي والأمير. وهي وصف الأمير محمد بن السلطان عبد الرحمن ب “العَكُّون” (ص385) وهي صفة تفيد الإنسان الأبله الذي لا يفهم في الأمور شيئاً. علماً بأن المصادر التاريخية المعروفة عن الأمير لم تشر إلى ذلك، وقد تكون من اختلاق الكاتب. كما أن أخلاق الأمير عبد القادر، وسلوكه وحسن منطقه وثقافته وتعففه، لا تسمح له بمثل ذلك التوصيف. ولكن معظم الذين يعتبرون عمدة في تاريخ الأمير، أو في تاريخ السلطان مولاي عبد الرحمان، أو محمد بن عبد الرحمن نفسه، لا يذكرون ذلك.

الخلاصة

حاولنا في هذا التقديم أن نوضح أهمية السرد التاريخي، كما عبرت عنه رواية كتاب الأمير، الذي يحاول أن يقرب المسافة بين الكتابة التاريخية والكتابة الروائية. ورأينا كيف تتحول الوثيقة التاريخية إلى نص سردي روائي يخدم مسار السرد فيها. كما كشفنا عن شفافية السرد الروائي الذي يحاول الاحتفاظ بكل مقومات الوثيقة ولا يحورها إلا بالقدر الذي يخدم السرد. فرأينا بأن الكاتب قد عمل جهداً كبيراً في جمع الوثائق التي أثث بها السرد الروائي، حتى إننا وصفنا هذا العمل بأنه يدخل في الكتابات الروائية التاريخية الحداثية، هدفها هو دفع الوقائع والأحداث والوثائق التاريخية لتكشف أكثر عن المناطق المجهولة في الوثائق وفي الأحداث التاريخية. كل ذلك وفق صوغ حكائي يسمح بالتخييل لينفتح أكثر على العوالم الإنسانية الدفينة في العلاقة بين الأشخاص والديانات والثقافات. وذلك ما عبرت عنه الرواية في مختلف مراحلها وفي لغاتها المتألقة ووثائقها الغنية والمتعددة والمتنوعة. والرواية في النهاية جديرة بالقراءة، لأنها حركت وكشفت عما يختزنه تاريخنا المغاربي والعربي والإسلامي من مخزون غني بالأحداث والأبطال والظواهر الإنسانية التي يمكن للسرد العربي أن يوظفها لإغناء كتابتنا السردية غنى تاريخنا وحضارتنا.

الهوامش:

1- واسني الأعرج، روائي وأستاذ باحث في كل من جامعة الجزائر العاصمة، وجامعة السوربون بباريس. بدأ مسيرته الروائية منذ الثمانينات من القرن الماضي. وأصدر جوالي ثلاث عشرة رواية قبل رواية كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد، وهي:

البوابة الزرقاء (وقائع من أوجاع رجل)، دمشق-الجزائر، 1980. وقائع الأحذية الخشنة، بيروت، 1981. ما تبقى من سيرة لخضر حمروش، دمشق، 1982. نوار اللوز، بيروت، 1983. مصرع أحلام مريم الوديعة، بيروت، 1984.ضمير الغائب، دمشق، 1990. الليلة السابعة بعد الألف: رمل الماية، دمشق-الجزائر، 1993. الليلة السابعة بعد الألف: المخطوطة الشرقية، دمشق، 2002. سيدة المقام، ألمانيا/الجزائر دار الجمل، 1995. حارسة الظلال، الطبعة الفرنسية، 1996- الطبعة العربية 1999. ذاكرة الماء، ألمانيا، دار الجمل، 1997. مرايا الضرير، باريس، 1998. شرفات بحر الشمال، بيروت، دار الآداب، 2001.

2 هناك مصادر ومراجع كثيرة عن حياة الأمير عبد القادر الجزائري. نذكر منها بالخصوص تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر، وضعه الأمير محمد بن عبد القادر ظهرت الطبعة الأولى منه سنة 1903، بالأسكندرية. والطبعة الثانية ، جزءان، قام بشرحها والتعليق عليها الدكتور ممدوح حقي، بيروت، دار اليقظة العربية للتأليف والنشر، 1966. وكتاب،الأمير عبد القادر، لشارل- هنري تشرشل (بالإنجليزية، سنة 1867). ترجمه إلى العربية وقدم له وعلق عليه، الدكتور أبو القاسم سعد الله. ظهرت منه ثلاث طبعات: الطبعة الأخيرة، عن ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2004. أما الطبعة الأولى فظهرت سنة 1974. وكتاب، محمد السيد محمد علي الوزير، الأمير عبد القادر الجزائري: ثقافته وأثرها قي أدبه، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، ،1986. وهناك كتب كثيرة عن الأمير، نذكر منها بالخصوص كتاب بول أزان ( بالفرنسية).

-3أذكر هنا كتاباً هاماً عن ديبوش، وهو: Vie de Mgr. DUPUCH, Premier Evéque d’Alger, par M. l’Abée E. Pioneau, Bordeaux, 1866.

4- إبراهيم ياسين، موقف المغرب من الاحتلال الفرنسي للجزائر: 1830-1874، رسالة جامعية مرقونة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بالرباط -أكدال، 1987. تحت رقم ر.ج. 964,02.

5- Dupuch A.A (Monseigneur), Abd el Qader au château d’Amboise, Bordeaux, Imprimerie Faye 1849, p125.

6- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الجزء الأول، الألفاظ والمذاهب ، المركز الثقافي العربي، بيروت-البيضاء، الطبعة الأولى، 1992، ص81.

7- حياة ديبوش المذكور، ص.x.

- أحمد بوحسن

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.