مقدمة في السياق
1- لماذا يهتم اليابانيون بتاريخ المغاربة، ولم تجمعهم الجغرافية ولا التاريخ؟ هل يندرج ذلك ضمن الترف الأكاديمي؟ قد يقاس الاهتمام الذي يجسده لقاء 27 دجنبر 2017 الذي أثمر هذا الملف بمصالح طارئة تعكس المنافع الاقتصادية لبلاد الشمس الراغبة في كسر حصار طريق الحرير الجارف في زمننا الراهن، كما قد يؤصل بارتباط اليابان بالمنطقة العربية منذ أزمة النفط التي أعقبت حرب سنة 1973، بل وقد يوجد له تفسيرا في المد الإسلامي الحاضر في كل بقاع العالم تقريبا بما فيها البقعة اليابانية منذ اندلاع الثورة الإيرانية سنة 1979 وإشباع مقاومة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان بالفكر الجهادي.
غير أن بعض الدراسات اليابانية، ومنها دراستان لتورو ميورا، بينت أن اهتمام الباحثين اليابانيين بالعالم العربي-الاسلامي الذي أفضى بهم فيما بعد إلى الاهتمام بالمغرب يعود لزمن أقدم من هذه التواريخ جميعا. ومن علامات هذا الاهتمام المبكر استلهام يابان-الميجي من التجربة المصرية في مواجهة الاستعمار البريطاني ما قد يفيدها في ابتكار أساليب لمقاومة الضغوط الأجنبية، خصوصا في مجال الوصاية على قطاع القضاء. وأثمر هذا البحث المقارن والهادف دراستين لميسوكوري عن “شرعية القانون في مصر” سنة 1878 و”المحكمة المختلطة في مصر” سنة 1889. وتعرف اليابانيون بعيد ذلك على العالم العربي الإسلامي عبر مباشرة الرحلة الحجية إلى مكة والقدس سنوات 1906 و1902 و1924، ثم بفضل حركة نشيطة للترجمة شملت “القرآن الكريم” منذ 1920 و”سيرة الرسول” منذ 1905 و”مقاصد الفلاسفة” للغزالي سنة 1985 و”رحلات ابن جبير” سنة 1991 و”ألف ليلة وليلة” سنة 1992 …الخ. وتزامنت هذه الحركة مع ارتفاع عدد الإصدارات في موضوع الإسلام وتاريخه، وتعدد المعاهد المتخصصة في الدراسات الإسلامية سنوات الثلاثينيات والاربعينيات ثم ما بعد سنة 1956. كما تزامنت مع تزايد الاطلاع على الكتابات الغربية في موضوع الإسلام تاريخا وثقافة.
وكان من الطبيعي ان يستأثر المشرق العربي بهذا الاهتمام كمجال تعلم فيه اليابانيون الباحثون اللغة العربية الكلاسيكية والمتداولة وكموضوع للبحث والدراسة، قبل أن “يكتشفوا” في مرحلة لاحقة “الغرب الإسلامي” بمكوناته المجالية والتاريخية.
ولعل المناسبة-العلامة التي ولج منها الباحثون اليابانيون إلى هذا المجال “الطرف” البعيد تكمن في اهتمامهم بموضوع المدينة الإسلامية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. فقد أشرف معهد الثقافة الشرقية في طوكيو خلال ثلاثية 1988-1990 على إنجاز مشروع حول “التمدن والتحضر في الإسلام”. وساهم في المشروع مائة وعشرون باحثا يابانيا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، كونوا أربعة وعشرين مجموعة بحث، وعقدوا قرابة مائتي لقاء علمي ومؤتمرين دوليين، وأنجزوا مئات التقارير. ودشن هذا المشروع الكبير لمرحلة جديدة في حقل الدراسات الإسلامية باليابان، حيث أثمر تكون شبكة من الباحثين اليابانيين المتخصصين في الدراسات الغرب إسلامية، ومنهم الباحث تيو ميؤرا. كما أثمر المشروع وضع “عتبة ولوج” مناسبة للباحثين اليابانيين الراغبين في دراسة بلاد المغرب، حيث تم اعتماد توزيع مجالي خماسي في الكتاب الذي توج المشروع الضخم حول الدراسات الحضرية، مكون من آسيا وفارس وتركيا والمشرق العربي والمغرب الكبير.
وبالعودة إلى السؤال المتصدر لهذا التقديم في السياق يتبين أن غاية بحث اليابانيين في مفهوم المدينة الإسلامية، ثم تاريخ وثقافة بلاد المغرب بعيد ذلك، هو تفكيك النظرة الاستشراقية ذات المرجعية الغربية الموشومة بذهنية التفوق والرؤية الاستعمارية، والابتعاد عن التنميط بابتكار إطارات مرجعية جديدة ومغايرة، واختيار مقارنة بعيدة عن الانموذج الغربي، مع الصين والهند المجاورين والعالم الإسلامي شرقه وغربه البعيدين. تكمن الغاية في البحث عن معرفة أدق وأعمق باليابان عن طريق التاريخ المقارن، أي عبر انتاج فهم جديد.
واليوم، يبحث اليابانيون في مواضيع دقيقة من تاريخ المغرب السياسي والثقافي والاجتماعي. وقد أثمر هذا المجهود الدؤوب، الذي ترعاه مؤسسات علمية وأكاديمية مثل دار الكتب الشرقية في طوكيو/ تيو-بونكو، باحثين مرموقين مثل ميؤورا وساتو وكيسايشي…الخ، وإنتاجا قيما بلغ درجة الاجتهاد في مواضيع جد دقيقة لم يسبق للباحثين المغاربة أن طرقوا بعضها. ولم يكن لهذا المسار أن يتكلل بالنجاح لولا الرعاية المثالية التي وفرتها المؤسسات الحاضنة، والتي وفرت للباحثين اليابانيين الوسائل المادية والعلمية الضرورية لكل مشروع بحث. ولا عجب اليوم أن نتلمس عيانا منتجا يابانيا في موضوع دقيق هو الوثائق العدلية المغربية في العصرين الحديث والمعاصر، ذات العلاقة بقضايا العقار ودواخل العلاقات الاجتماعية وطبيعة المجتمع وذهنية مكوناته… وقد تتهاوى الأسئلة إن أخدنا بعين الاعتبار اشتغال فريق البحث الياباني الآن على نصوص إضافية مكتوبة على الرق ومنقوشة على الخشب، إلى جانب الاشتغال على ترجمة رحلة العلامة عبد الرحمن بن خلدون إلى اللغة اليابانية!
2- في أحد أيام سنة 2010-2011 ، اتصل بي فريق بحث ياباني مكون من خمسة باحثين كانت لي معرفة مسبقة بأعمال اثنين منهم. وعرض علي الفريق الاشتغال معه في مراجعة بعض الوثائق العدلية المغربية المخطوطة المكتوبة على رق/جلد الحيوان، والتي تعود إلى الزمن الممتد بين القرنين الهجريين العاشر والرابع عشر/ السادس عشر والتاسع عشر الميلاديين. ولم أتردد في خوض التجربة، لسابق اشتغالي على متون تنتمي إلى نفس المرجعية، ولمعرفتي المسبقة بأسماء الأعلام الواردة في الوثائق. وخلال مراحل هذه التجربة المتتابعة، اكتشفت في الفريق اجتماع ما تفرق في غيره: العمل الجماعي والصبر والمثابرة ودربة اليد وكسب المهارات وطلب المعرفة المتواصل والمطبوع بالأخلاق الأكاديمية التي أضاف إليها التواضع الياباني مسحة إنسانية.
وفي إحدى الزيارات المنتظمة لأعضاء هذا الفريق للمغرب، سألوني أين يحفظ أرشيف القضاء والمحاكم الشرعية في المغرب حتى يطلعوا عليه متسلسلا ومرتبا. كانوا يحملون معهم حالهم وتجربة بلاد الشام، يبحثون عن الرسم والنظير في كنانيش العدول وسجلات القضاة التي تعود إلى ماضي مجتمعنا. وعاينت من ملامح وجوههم شعورا بالتعجب وإحساسا بالأسف، بعد أن أخبرتهم باستحالة العثور على مثل هذه المضان سوى عند بعض العائلات التي تبخل بها على الباحثين.
3– خلال اللقاء الغني والمثمر الذي نظمته مجلة رباط الكتب بشراكة مع دار الكتب الشرقية في طوكيو، واحتضنته المكتبة الوطنية للمملكة المغربية في 27 دجنبر 2017، وحضره عدد متميز واستثنائي من المهتمين، وقدم فيه كتاب الملف المكون من مجموع وثائق وعدد من الدراسات، تساءل البعض عن جدوى الموضوع الذي اجتمع حوله باحثون يابانيون ومغاربة وتطلب مجهودا لا يستهان به. نتمنى أن يجد بعض الإجابة في هذا الملف، ويتحلى بالصبر إذ سيجد في القريب صدى الموضوع جليا ومؤثرا في مناقشة بعض الأعمال والأطروحات الجامعية.
4– تقدم مجلة رباط
الكتب لقرائها ملفا كاملا عن كتاب “وثائق العقود المكتوبة على الرق في مغرب
ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، الجزء الاول “، الذي نسق محتوياته
تيو مييورا وساطو كنطارو، وصدر سنة 2015 عن دار الكتب الشرقية في طوكيو[1]. وتعد قراءها بملف
آخر متى صدر الجزء الثاني.
[1] The Vellum Contract Documents in Morocco in Sixteenth to Nineteenth Centuries, Part I, Edited by Miura Toru and Sato Kentaro, Tokyo-The Toyo Bunko, 2015, 296 pp.