تتوخى هذه الورقة تقديم نظرة عن ثقافة اليابان من خلال معايشتي اليومية لهذا البلد الصديق زهاء ثلاث سنوات من المواكبة والمساءلة والمثاقفة عبر الكتابة والترجمة والفعل الثقافي، على أساس أن الثقافة هي خلاصة فعاليات شعب ما والمعبر الأصيل عن تاريخه وتمثله للعالم وتطلعاته للمستقبل. أحاول الإجابة عن سؤال منهج يتعلق بطريقة فهمنا لليابان، من خلال ثلاثة جوانب مجتمعية وتاريخية وثقافية.
1- ثقافة المجتمع الياباني:
إن ثقافة مجتمع ما هي ما يتصرف في سلوكه اليومي، على أساس أن السلوك اليومي ناتج عن فعاليات معقدة تاريخية ومؤسساتية، وفكرية واقتصادية وتقنية تندمج في كل مركب من مجموع السيرورات والنظم التي تحكم سلوك الأفراد والجماعات: نظم التشريع والقرابة والملكية والعمل والحرب واللعب والتخييل والتنشئة الاجتماعية.
أما مفهوم المجتمع فيمنح الفرصة لقراءة مجهرية لواقع الثقافة في تنوعها وسجلات فئاتها الاجتماعية ومواقعها الفكرية والإيديولوجية، على أساس أن هذه التشكيلات تعكس حيوية المجتمع وتعدد مستويات فئاته وتربيتهم وانتمائهم الفكري. فإذا كان مفهوم الثقافة يوحي بالوحدة والانسجام، فإن المجتمع يقتضي مراعاة التعدد والاختلاف.
أما مصطلح “الياباني”، فيفضي إلى التركيز على “روح اليابان”، أي ما يميز هوية المجتمع الياباني عن غيره من المجتمعات في مظاهر سلوكه ونمط إنتاجه وتصوره للعالم بدء من تحية الصباح إلى طقوس الضيافة وتنظيم العمل وإقامة شعائر العبادة وفن ترتيب الزهور وتطوير الصناعة وابتكار التقنية ونهج التفاوض، بما يعنيه كل ذلك من تدبير “الهوية” ونقل تمثلاتها إلى العالم في هيئة صورة وصوت ثقافيين. بهذا المعنى يستدمج مفهوم الثقافة الصورة والواقع معا، الثابت والمتحول.
من هذا المنظور، يتطلب فهم ثقافة معينة التواصل المباشر مع المجتمع الذي أنتج تلك الثقافة لفترة من الزمن تكون كافية لإدراك نمط حياته على مدار السنة، كشريحة زمنية قياسية في الحد الأدنى، وذلك للإحساس بإيقاع حياة الناس وتحولات مزاجهم مع تداول الفصول ومظاهر الاحتفال بالأعياد وإحياء الذكريات التاريخية والقومية والسياسية ونظام العمل ولحظات الجد والعبث اليومي، بمعنى آخر، الوقوف على التحولات الذهبية لحياة شعب ما على مدار دورة زمنية لالتقاط الثابت المترسب في الشخصية وكذلك المتحول في شكل موجة عمق مفتوحة على المستقبل. دون هذه المعايشة الواعية فإن كل خطاب حول ثقافة شعب تظل محض قول افتراضي منفصل عن واقع حياته في تحققها العيني داخل حركة التاريخ.
– 2 الثقافة اليابانية: المركب المزدوج
يعتبر آلكسيس دو طوكفيل أن الأمم تحمل معها باستمرار وصمة البدايات، وأن الظروف التي ترافق نشأتها وتساهم في تطورها تظل ملازمة لها مدى تاريخها ووجودها. على ضوء هذا الطرح أعتقد بأنه يمكن رصد أهم خصائص الثقافة اليابانية مما ترسب في حياة المجتمع كمحصلة لتاريخه. وذلك على أساس أن الثقافة هي ما يبقي من مخاضات التاريخ، أي ما تحتفظ به جماعة معينة كموروث وميسم لشخصيتها الجماعية.
آ – الإمبراطور وطريق الإلهة:
لقد راكم إنسان الأرخبيل الياباني تجارب وخبرات ممتدة منذ ما قبل التاريخ. تشهد على ذلك أعمال الحفريات الأركيولوجية التي تؤكد تواجد مجتمع رحل يعيش على الصيد وقطف الثمار منذ الألف الخامس قبل الميلاد، أطلق عليه اسم “جومون” نسبة إلى الأواني الفخارية “جوموني” التي تميزه. وابتداء من القرن الثالث قبل الميلاد، نشأ اقتصاد يقوم على زراعة الرز تشكلت من جرائه تكتلات بشرية وفئات اجتماعية ونظام عمل محكم، أدى تدريجيا إلى ظهور حضارة يايوئي )قرن 4 ق م – إلى قرن 3 م (التي تميزت باستعمالات البرونز والحديد عبر تأثيرات قارية آسيوية. وعلى الصعيد الروحي أنشأت المجتمعات اليابانية منظومة من الطقوس والمعتقدات الأرواحية سميت “طريق الآلهة) شينتو). ويعتبر الباحث إيتشيرو إشيدا أن الثقافة اليابانية أخذت شكلها الأساس في مرحلة يايوئي تحديدا حيث تكون شعب اليابان المتعدد الأعراق كوحدة إثنية متميزة.
وفي مرحلة ياماطو) ق 3 – 8(، تبلور نوع من النظام السياسي في منطقة نارا اتحدت فيه السلطتان الدنيوية والروحية في شخص الإمبراطور. تقدم السجلات المتوفرة معطيات عن إرسال بعثات من طرف دولة ياماطو إلى البلاط الصيني الذي استلهمت منه رموز الكتابة الصينية ونظم الإدارة الإمبراطورية والطرق الروحية البوذية والكونفوشية التي تجاورت وتعايشت مع طقوس الشينتو المحلية في مركب مزيج سمي “الشينطو المزدوج” .
في هذا السياق، شكلت فترة حكم الأمير شوطوكو595) م – (621عهد انفتاح كبير على حضارة الصين. بحيث أنشأ علاقات منتظمة معها، وسهر على ترسيخ البوذية. كما أسس حكومة مركزية أنشأ لها جهازا إداريا يقوم على أخلاق الطاعة الكونفوشي، وابتكر نظاما للمراتب والمراسيم الإمبراطورية سنة (603م( يقوم على الكفاءة والاستحقاق بدل الوراثة والنسب. كما كان له الفضل في استعمال اسم اليابان (نيهون” (منبع الشمس” ووضع أول وثيقة تأسيسية يابانية سنة 604 م عرفت باسم “دستور المواد السبعة عشرة” تقوم على المزج والمزاوجة بين القيم البوذية والتعاليم الكونفوشية.
وابتداء من القرن السابع، أخذ نفوذ أسرة فوجيوارا يظهر على المشهد السياسي الياباني مع القائد العسكري ناكاطومي كاماطاري (614-669) الذي قضى على حكم عائلة سوغا، وأقدم على إجراءات إدارية وسياسية واقتصادية عرفت باسم “إصلاحات طايكا”. تمثلت هذه الإصلاحات في تبيئة النظام السياسي والإداري الصيني مع متطلبات اليابان، ألغت الملكية الخاصة للأرض، وقسمت البلاد إلى أقاليم يسهر على إدارتها وتدبير شؤونها ولاة معينون من طرف الحكومة المركزية. منذئذ لعبت أسرة فوجيوارا دورا محوريا في سياسة اليابان إلى حدود القرن الحادي عشر من خلال احتكار منصب “الوصاية على العرش” وانتهاج أسلوب الزواج السياسي مع العائلة الإمبراطورية.
وعلى الصعيد الثقافي، عرفت مرحلة نارا (ق.8) انتشار القراءة ودراسة اللغة والديانة والآداب الصينية. وعلى هذا الأساس قام مؤرخو البلاط بتجميع الحكايات الشفاهية والأساطير القديمة التي احتفظت بها ذاكرة المجتمع الياباني. سلمت نتائج عملية التدوين هاته للبلاط الإمبراطوري في ما عرف باسم “الكوجيكي ” (سجلات الوقائع القديمة (712 ثم (سجلات اليابان 720م ( التي تروي سردية محكمة عن نشوء العالم، وتكوين اليابان، وتأسيس السلالة الإمبراطورية.
في نفس السياق، شهد عصر هيان (8م -12م (نشاطا أدبيا مهما حيث تم ابتكار نظامي الكتابة اليابانية المحلية هيراغانا وكاطاكانا (ق 8-9م) الذي بدأ العمل بهما تدريجيا جنبا إلى جنب مع نظام الرموز الصينية، كما انتشرت كتابة الرسائل الأدبية، واليوميات وصدرت المختارات الشعرية الإمبراطورية المعروفة “القصائد القديمة والحديثة “كوكينشو (905م ).
في هذا الإطار يعتبر الباحث محمد أعفيف آن الانفتاح على الصين، في عهدي نارا وهيان، شكل نقطة تحول كبرى في تاريخ اليابان وبداية دخولها عصر التدوين والكتابة والتأريخ. ومع ذلك فإن عملية نقل منجزات الثقافة الصينية جاءت مصحوبة بعملية استيعاب وتحويل جعلت من المقومات القارية المكتسبة تتخذ تدريجيا طابعا يابانيا.
ب – الأقحوانة والسيف:
في مرحلة كاماكورا ( ق 14-12 م) ستشهد اليابان تحولا نوعيا تمثل في انحسار دور الإمبراطور والأسر الأرستقراطية، وظهور الأسر العسكرية المعروفة باسم الساموراي. بدأ حكم طبقة الساموراي مع أسرة ميناموتو، حين حصل متزعمها ميناموتو يوريتومو عام1192 م على تفويض من الإمبراطور غو- توبا بحكم الأرخبيل تحت مسمى “الشوغون” آي الحاكم العسكري العام. فدخلت اليابان منذ ذلك الحين عهد ازدواجية الحكم الذي تتوزعه سلطة الإمبراطور كرمز للأمة وصاحب شرعيتها التاريخية من جهة، وسلطة الشوغون “باكوفو” من جهة ثانية.
من أهم الأحداث التي شهدتها اليابان تحت نظام الشوغونة، تعرض اليابان إلى هجمات المغول عام 1274م على يد كوبلاي خان، الذي كان قد أحكم قبضته منذ 1259م على كل من الصين وكوريا. وقد ترك اليابانيون خلافاتهم الداخلية جانبا واتحدوا لمواجهة الغزاة المغول الذين فشلوا في بلوغ الأراضي اليابانية مرتين بسبب عواصف بحرية kamikaze كبدتهم خسائر كبيرة وأثنت عزمهم على محاولة احتلال الجزر اليابانية. توقفت تهديدات المغول بعد وفاة القائد كوبلاي خان عام 1294م. وقد دون الرحالة ماركو بولو وقائع هذه الأحداث في أسفاره المعروفة حيث أطلق على الأرخبيل الياباني اسم” زيبانغو” الذي سيشتق منه اسم اليابان الجديد. ويذهب بعض الدارسين إلي آن وصف ماركو بولو كان فاتحة لعهد جديد لاهتمام الغرب ببلاد اليابان المجهولة.
ومن الناحية الثقافية، شكلت مرحلة كاماكورا لحظة تحول نوعية في تاريخ البوذية باليابان حيث انتقلت من ديانة خاصة بالنبلاء والرهبان والفئات العليا من المجتمع إلى ديانة شعبية. كما تعززت ببروز قادة روحيين عملوا على نشر “تعاليم الخلاص” ودخول بوذية الزن التأملية التي اتخذتها طبقة الساموراي كمنهج سلوك وحياة صارم عرف باسم “البوشيدو” أي طريق المحارب.
ومع الإمبراطور غو – دائيغو (1288-1339) ستستعيد المؤسسة الإمبراطورية زمام المبادرة من خلال الإطاحة بحكومة كاماكورا (1333) وظهور “شوغونة أشيكاغا” التي اشتهرت باسم موروماتشي (ق 14-16م) التي كانت مرحلة اضطراب وحروب انحسرت من جرائها سلطة الباكوفو المركزية مخلفة حالة فراغ سياسي نجم عنه ظهور قوي محلية بقيادة زعماء الدايميو الذين شكلوا مقاطعات مستقلة عن السلطة المركزية .
بالموازاة مع هذا الوضع المضطرب، تميزت مرحلة موروماتشي بانتعاش العلاقات التجارية والثقافية مع الصين، ورسوخ أفكار مذهب الزن الذي امتد تأثيرها إلى مختلف مناحي الحياة الثقافية والروحية كالرسم والشعر وفي تنسيق الأزهار ومراسم حفل الشاي ومسرح النوه. فضلا عن ذلك شهدت المرحلة دخول المسيحية مع البرتغاليين ابتداء من سنة1543 م. لقد اعتبر بعض المؤرخين هذا الانفتاح النسب بمثابة “شهادة واضحة على قدرة الروح اليابانية على المزج، بشكل بديع، بين الأفكار الأجنبية الوافدة وعناصر الثقافة المحلية”.
في عام 1573م أنهي آودا نوبوناغا نظام حكم آشيكاغا واستعاد سلطة الإمبراطور. وفسح المجال لطوكوغاوا اياسو (1546-1616) لاستكمال مشروع توحيد اليابان ابتداء من سنة1600 م في معركة سيكيغاهارا التي شكلت فاتحة عصر طوكوغاوا الذي امتد إلي القرن التاسع عشر (1600-1868) جعل طوكوغاوا من مدينة ايدو طوكيو لاحقا عاصمة حكمه وأخضع القادة المحليين لسلطة الشوغونة وفق نظام ولاء. قسم المجتمع إلي فئات محددة تنظمها أخلاق الطاعة الكونفوشية، كما جعل من رجال الدين تابعين للشوغونة بعد تجريدهم من كل إمكانية للتدخل في شؤون السياسة. عرفت اليابان خلال عصر طوكوغاوا حالة سلم وازدهار ثقافي وتوسع عمراني وتطور الحياة المدينية وانتشار المسارح ودور النشر ومدارس الشعر والأدب.
ومن أهم سمات عصر طوكوغاوا كذلك انتهاج سياسة العزلة ابتداء من القرن السابع عشر، وهي سياسة قامت علي حظر الديانة المسيحية وطرد المبشرين والتجار البرتغاليين والإسبان من أراضيها وإغلاق كل المنافذ البحرية في وجه الأجانب. ولم تحتفظ السلطات اليابانية إلا بعلاقات محدودة مع الصين وكوريا والهولنديين من الجانب الأوروبي. وقد دامت هذه السياسة زهاء مائتي وستين عاما إلى حين مقدم الكومودور بيري الأمريكي بالسفن السوداء عام 1853 حيث أرغم اليابان على فتح أسواقها في وجه التجارة الدولية وفرض عليها معاهدات مجحفة. بذلك انتهت مرحلة الشوغونة وبدأت مرحلة ميجي.
مع إصلاحات مرحلة ميجي (1868-1912م) ستبدأ مرحلة جديدة في تاريخ اليابان بانتهاجها لشعار “الاتجاه غربا” في محاولة للحاق بالغرب المتقدم تقنيا. وبذلك ستعتمد مركبا مزدوجا جديدا هو مركب الشرق/الغرب، وذلك من خلال عملية تغيير شاملة طالت مختلف النظم بوضع دستور جديد وإلغاء النظم الإقطاعية وتحويل النظام المالي بنظام بنكي حديث وإنشاء الجامعات وإرسال البعثات العلمية لاكتساب العلوم والتقنية الغربية الحديثة كأداة لتطوير صناعات استراتيجية. وقد أثبتت هذه الإصلاحات نجاعتها بتفوق اليابان في ظرف وجيز على الصين وروسيا، وهو المنحى الذي سيجر اليابان إلى الانخراط في الحرب العالمية الثانية.
في سنوات الستينات من القرن العشرين، كان الهدف الرئيس هو”تحويل صورة يابان ما قبل الحرب” من دولة عسكرية إلى دولة ديمقراطية محبة للسلام. لهذه الغاية، وظفت اليابان ثقافة حب الطبيعة ومراسم حفل الشاي وفن تنسيق الأزهار، كما دأبت على تقديم صورة ليابان متقدمة صناعيا ذات قدرات تنافسية عالمية. وبتطور الاقتصاد الياباني سنوات الثمانينات والتسعينات وتوسع حضور اليابان على صعيد عالمي، أصبحت الدبلوماسية اليابانية تعتمد مفهوم “التعاون الثقافي” بغاية التصدي لإحساس الغرب بالتهديد التجاري من قبل اليابان. لذا شكلت استراتيجية “الشراكات” وسيلة للتعبير عن استعداد اليابان لتكون شريكا وبلورة صورة جديدة لهوية اليابان كدولة مسؤولة مساهمة في بناء السلام العالمي. ومع ظهور العولمة، أخذت اليابان تعيد تعريف هويتها الثقافية بتقديم صورتها كبلد ما بعد حداثي بتقديم منتوج قابل للتسويق دوليا تجمع فيه بين التكنولوجيا الالكترونية والثقافة التقليدية. يصفKazuo Ogoura ، عن جامعة أوياما غاكوين، نموذج هذه المرحلة ب”الرؤية الهجينة لليابان” hybrid vision of Japan وهي رؤية تؤلف بين القديم والجديد في استراتيجية واحدة.
3- النقد المزدوج وتفكيك الأسطورة:
إلى جانب النظرة الاجتماعية، والاستقراء التاريخي، هناك مفتاح آخر لفهم “ظاهرة اليابان”، وذلك عبر “الكتابة” كفعل سبر وتفكيك للأسطورة لولوج مخيال الياباني وفكره الأكثر حميمية. ذاك هو المسعى الذي حاول عبد الكبير الخطيبي اجتراحه في كتابه الوجيز “ظلال يابانية” (1987) من خلال قراءته لكتاب “مديح الظل” للكاتب الياباني جونيتشيرو تانيزاكي.
يدشن الخطيبي بطرح المهاد الضروري لكل قراءة عاشقة: إذ لا بد من تفكيك البنية الأسطورية في سبيل القبض على النسغ الحيوي لثقافة الياباني المركبة. لعل الخطيبي وجد في “ظاهرة اليابان”، كما يسميها، ذريعة ملائمة للسبر والتفكيك وموضوعا أنسب للعب الخطير، لعبة الهدم والبناء؛ التفكيك وإعادة التركيب. أليست اليابان أكثر أساطير الغرب إلغازا؟ أليست أسطورة بلاد الشمس الشارقة هي الأكثر إحكاما بين أساطير الشرق القصي التي نسجها عقل الغرب العجائبي؟
تحتاج الأساطير قرونا كي تتبلور. وقد تحتاج قرونا أخرى كي تتحلل. هكذا يذكرنا الخطيبي: ” مدة قرنين من الزمان ونحن نسمع ونقرأ نفس الكلام عن عادات هذا البلد وفنونه. ما نسمعه الْيَوْمَ عن صناعاته وتقنياته وحيله المركنتيلية يحيل إلى نفس البنية الأسطورية؛ فن السر أو لغز الشرق الأقصى، خداع بصري ملازم لشخصية الياباني في وقتنا الحالي: نسخ، وإعادة إنتاج، وسرقة بلا رحمة. هذه هي نظرة الغربي للياباني. يمكن لنا أن نقول بشكل مختلف أنه بحكم جوارهم مع الصينيين، تعلم اليابانيون العمل وفق معيارين؛ معيار خاص بهم، وآخر ابتكره غيرهم. لقد أصبح هذا النهج هو أساس استراتيجيتهم الدولية.
بالنسبة للغربي، استطاع الياباني، بدون جهد استثنائي، حيازة ثروات العالم وجعلها نصب عينيه الضيقتين. لكن الحقيقة بالنسبة لتانيزاكي أنه: “عندما يتحدث الغربي عن “سحر الشرق” ربما يقصد ذلك الهدوء المزعج الذي يفرزه الظل حين يمتلك هذه الخاصية”. فالظل نهج حضاري بامتياز.”
أن تتخلص من أنشوطة الأسطورة وتتحرر من رواسب النزعة الغرائبية المستحكمة في الذات، هو فعل أشبه باجتراح معجزة. يقول الخطيبي: ” أن أكتب. أن أكتب عن اليابان؟ متحررا من كل نزعة غرائبية؟ أمر أشبه بمعجزة. أن أصبح شخصا آخر، ذاك الآخر. أن أتحدث عن أناي من مسافة. معجزة الإيهام، معجزة الرغبة، واللعب الخطير، بل لعب “المزدوج” الأخطر من نوعه. لربما، ينبغي اجتراح فعل مزدوج لكل فكر، فعل إصغاء للنزوع الغرائبي، وآخر لبلوغ الحقيقة بالدخول إلى متخيل الأخ/ الياباني، هذا الأجنبي المسكون بإرادة الجوهري. قول الجوهري، فحسب.
لا يدعي الخطيبي إنجاز هذه المهمة بضربة حظ. لكنه لا يتردد في اجتراح المحاولة. محاولة الفهم عبر استحداث فكر متوازي ومغاير لفكر الاستشراق الأحادي البعد؛ فكر طباقي يستلزم تحري الدقة في رسم ملامح الأجنبي المتعددة، واستخراجها من كتلتها المبهمة، من بربريتها أو وداعتها. نقد مزدوج واع، فعل للإصغاء للنزوع ألغرائبي، وفعل: من أجل بلوغ الحقيقة في مواجهة الغريب.
كتاب “ظلال يابانية” محاولة للكتابة بفكر الظل المغاير. وعلى غرار تانيزاكي، يقترح علينا الخطيبي فكر الظل” كنهج حضاري بامتياز” بمثابة درس نموذجي: بحيث لا يمثل هذا الفكر بالنسبة للفلاسفة مجرد تقابل مع فكر “الضوء”، على شاكلة أفلاطونية معكوسة أو هيدغرية مفتوحة. وإنما هو فكر التقنية المركوز في قلب الذاكرة اليابانية.
“ظلال يابانية ” هو تمرين على القراءة ومحاولة فهم ثقافة برمتها من خلال كتاب. قراءة متأنية تتغيى القبض على النسغ الحيوي لثقافة باتت محتجبة في الظل بفعل نسيج الأسطورة وسطوة التقنية.
أي كتاب هذا الذي يمنح فرصة لاستكناه نسغ ثقافة برمتها؟ لقد أنشأ تانيزاكي كتابه بمداخل متعددة، بنوافذ وأبواب لك أن تدخلها بدعة أنى تشاء ومن حيث تشاء. كتاب لا يقدم نظرية صارمة، بل هو عبارة عن تداعيات حرة، لينة وتجوال في فضاءات بيت متعدد الحجرات، مسكون بالظلال، والصمت والمحو. الضوء والعتمة. كتاب ذو بوابات وطيات تأخذك عبر دروب الأدب والثقافة، فن الخط، والسينما، والمسرح، والموسيقى، فشعر الهايكو. ثم تعرج بك على الفضاءات العامة والأكثر حميمية من المتحف إلى الساحة العمومية إلى دورات المياه حيث الدخول إلى منطقة الظل لا يقل عذوبة ولذاذة عن أي لحظة أدبية ملهمة تعيد إلينا المصالحة مع إيقاعات الطبيعة.
بهذا المعنى فكتاب “ظلال يابانية” هو كتاب مختلف. كتابة على كتابة، أو قل هو نوع من القراءة المضاعفة. حوارية عميقة ومتوترة مع فكر الآخر الياباني وجمالياته. محاولة لاستشفاف صورة تكون أقرب إلى جوهر “الياباني” منها إلى الاكتفاء بمجرد تمثلاته الاستشراقية الغرائبية اللامتعينة.
تلك هي المداخل الثلاث التي نقترحها لفهم اليابان مجتمعا وتاريخا وثقافة. وهي تحتاج بكل تأكيد إلى مشروع متكامل لدراسة ظاهرة اليابان واستكناه تجربتها الحضارية والثقافية الغنية على أكثر من صعيد.