الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » أطروحات » المرأة والفضاء العمومي: تجربة نادلات المقاهي

المرأة والفضاء العمومي: تجربة نادلات المقاهي

Sana Benbelli,Les nouvelles formes de sociabilité féminine à Casablanca : cas des serveuses de cafés, thèse de doctorat en Sciences Sociales, sous la direction de Hayat Zirari. Faculté des Lettres et des Sciences Humaines Aïn Chock- Université Hassan II de Casablanca, 2018-2019.

تتطرق الأطروحة إلى موضوع تأنيث نشاط خدمة الطاولات داخل مقاهي الأحياء “الشعبية” بالدار البيضاء أو ما يعرف “بقهوة الدرب”، التي تعتبر مقاهي ذكورية بامتياز ترفض تواجد النساء سواء كزبونات أو كعاملات. يحاول البحث تحليل أسس سيرورة تأنيث هذا النشاط السوسيو اقتصادي، ورصد الأسباب التي أدت ببعض النساء إلى اقتحام هذا المجال، بالإضافة إلى معاينة الممارسة اليومية للنادلات داخل فضاء معتاد ومعدُ لاستقبال الرجال مما يفرض عليهن استعمال مختلف تقنيات التفاوض لكسب مكان لهن. وتخلص الأطروحة إلى إبراز أشكال المؤانسة الاجتماعية الجديدة التي تطورها النساء للتحرر من مجموعة من القيود الاجتماعية وكذا دور نادلات المقاهي في تغيير التمثلات الاجتماعية حول تواجد النساء في الفضاء العام.

تتكون الأطروحة من ستة فصول مقسمة إلى ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول، وقبل وصف الوظائف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمقاهي كفضاءات عامة ومكانها في اقتصاد الدار البيضاء ونسيجها الحضري، يتم الرجوع إلى تاريخ القهوة والمقاهي في مختلف البلدان بما في ذلك المغرب، حيث أن انتشار هذا المشروب لم يتحقق دون مقاومة من رجال الدين مسلمين ومسيحيين، أطباء وقادة، إلى درجة أنه كان يعتبر فعلا محرما أو لا وطنيا أو على الأقل غير مجتمعي، مما يوضح أسباب تقديم القهوة خارج الفضاء المنزلي الأسري في أماكن مخصصة للرجال. كما أن هذه النبذة التاريخية توضح جليا أن عملية تحضير وتقديم وحتى استهلاك القهوة لطالما ارتبطت بالرجال دون النساء، مما يجعلنا اليوم أمام ظاهرة تأنيث فعلي لنشاط نادلات المقاهي.

وفي نفس الجزء، يتم الوقوف أيضا على مجموعة من العادات والتمثلات المجتمعية التي تعوق ولوج النساء إلى الفضاء العام، وخاصة إلى فضاء المقاهي، بشكل يوضح كيف أن تأنيث نشاط خدمة الطاولات وظهور النادلة كشخصية فاعلة داخل المقاهي الأحادية الجنس المتواجدة في الأحياء الشعبية والأحياء الهامشية لمدينة الجار البيضاء، يمكن أن يكون بالفعل مؤشراً ذا صلة بالتغير الاجتماعي. وبشكل أكثر تحديداً، يتم في إطار البحث عن مكان للتعايش بين الرجال والنساء في الفضاء العام.

يشكل هذا الجزء محاولة لفهم طبيعة خدمة الطاولات داخل المقاهي انطلاقا من سوسيولوجيا علاقات العمل، باعتباره يدخل في علاقة تراتبية ثلاثية تضع النادلات بين المشغل والزبون في وضعية تجبرهن على الخضوع للاثنين من أجل الحفاظ على عملهن. كما أن تواجد المقاهي موضوع البحث بـ”الأحياء الشعبية”، وكون جل زبائنها اعتياديين أو من ساكنة الحي، يفرض على النادلات تقديم خدمة شخصية تقوم على العلاقة المباشرة مع الزبون، بدل الخدمة الموحدة التي تقدم في المقاهي الكبرى أو التابعة للعلامات العالمية.

         وتم تخصيص الجزء الثاني من الأطروحة لعرض المنهجية التي تعتبر جزءا مهما من هذا العمل العلمي الذي اعتمد أساسا المنهجية الاثنوغرافية التي تقوم على المعاينة النظرية عن قرب، وما فرضته من تحديات أهمها صعوبة الغوص في الميدان بالنسبة للمرأة الباحثة داخل فضاء ذكوري، وهو ما يطرح مسألة النوع بالنسبة للباحث الذي يتحول في وقت وجيز من مراقِب إلى  مراقَب. كما يوفر هذا الجزء للقارئ معلومات عن طرق واستراتيجيات الوصول إلى ميدان البحث التي تم تبنيها للانصهار في عالم النادلات ومراقبة حياتهن اليومية سواء في أماكن عملهن، وعبورهن (صالونات الحلاقة) وحتى إقامتهن.

كما شكل هذا الجزء فرصة للوقوف على تجربة البحث الميداني، مع القيام بنقد عكسي لدور الباحث في الميدان والتزامه تجاه مواضيع بحثه بصفته وسيطا علميا تمر عبره المعارف، حيث أن دوره لا يقتصر فقط على جمع البيانات والمعلومات الميدانية وتحليلها بواسطة الأدوات العلمية وكذا مقاربتها بالنظريات السوسيوأنتربولوجية، بل هو مطالب أيضا بالرجوع إلى الميدان لتعميم وتقاسم نتائج البحث مع الأشخاص الذين ساهموا في إنتاجه، وهو ما يثير إشكالية قدرة عدد من الباحثين على تبسيط المصطلحات والمفاهيم العلمية.

ويطرح الجزء الثالث من الأطروحة سؤال العلاقة بين التغيير الاجتماعي وتأنيث نشاط خدمة الطاولات أو تقديم المشروبات داخل مقاهي “الأحياء الشعبية”، حيث أن ظهور نادلات المقاهي هو في الواقع نتيجة لتلاشي الروابط الأسرية. فالتغيرات الاجتماعية العالمية أثرت سلبا على علاقات البنوة والأخوة والزوجية والتضامن العائلي التقليدي، والتي لطالما وفرت للنساء الحماية داخل البنية الأسرية أو الزوجية. فقرار العمل داخل المقاهي لا يمكن اعتباره خيارا طوعيا، بقدر ما هو نوع من استراتيجيات البقاء بالنسبة لنساء شابات عشن قطيعة مع روابطهن التقليدية القوية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن فضاء المقهى يوفر لهؤلاء النساء مكانًا اجتماعيًا ثانويًا يسمح لهن، من جهة، بتطوير شخصيتهن الاجتماعية، ومن جهة أخرى بتشكيل نوع من التماسك المهني من خلال تطوير بعض الممارسات المالية المتبادلة كنظام “القرعة” أو ما يسمى كذلك ب “دارت” كنوع من أنواع التواصل النسائي والتضامن تسمح لهن بالتغلب على ضعف الروابط الاجتماعية التقليدية وتحمل ظروف العمل.

         في هذا الجزء يظهر أيضًا أن العلاقات بين النادلات والزبائن الرجال يمكن أن تتجاوز علاقة الخدمة الميكانيكية وتتطور إلى تبادل رمزي للهدايا والهبات التي تؤسس لعلاقات الصداقة والتضامن. ومن ثم فإن مقهى “الحي الشعبي” مع أنه مكان ذكوري فهو يشجع على تمكين النساء بما يسمح لهن بإعادة تقييم مكانتهن داخل الأسرة ومن ثم التفاوض حولها، لكن هذه المرة كفاعلات ومساهمات في المستوى الاقتصادي، كما يسمح لهن بتكوين شبكات اجتماعية شخصية مستقلة بعيدا عن شبكة العائلة.

وأخيرا تقوم الأطروحة بتصنيف فئات مختلفة من شخصية النادلة “السيرفورة، السرباية أو الكارصونة”، محاولة بذلك تسليط الضوء على تعددية الشخصيات والمسارات لهؤلاء النسوة اللواتي يميل تبنيهم لمظهر متشابه إلى إدراجهن في إطار موحد. حيث أن الباب المخصص لدراسة مظهر النادلات يبين أن تزيين الوجه والاستعمال المفرط أحيانا لمساحيق التجميل (“المكياج”) هو بمثابة قناع اجتماعي تضعه النادلات لحماية أنفسهن وخلق شخصية اجتماعية جديدة داخل المقهى أو “شخصية من أجل الآخر” تختفي بعد انتهاء عمل النادلة وخروجها من المقهى. هذا لا ينفي كون التجارب التي تتم مراكمتها والعلاقات التي تبنيها  النادلات داخل مقاهي “الأحياء الشعبية” تمكنها من ترميم أو إعادة بناء العلاقات التقليدية ووضع استراتيجيات من أجل المستقبل.

تعتبر الأطروحة محاولة لاقتحام ميدان قلًما تم استثماره من طرف الباحثين في المغرب، باستعمال منهجية كيفية اثنوغرافية من أجل دراسة ولوج النساء لفضاء (مقهى الحي الشعبي) ونشاط مهني (نادلات مقهى الحي الشعبي) ظلاً إلى وقت قريب حكرا على الرجال، وذلك بهدف رصد سيرورة الثأنيث من خلال معاينة التفاعلات والعلاقات بين الفاعلين على المستوى الميكروسوسيولوجي، ومدى تأثيرها على تواجد النساء في الفضاء العام بشكل أوسع.

- سناء بنبلي

باحثة في علم الاجتماع / الدار البيضاء

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.