*Nicolas Mathieu, Leurs enfants après eux, Acte Sud, 2018.
1– على سبيل تقديم:
تستعرض رواية “أبناؤهم بعدهم” للروائي الفرنسي نيقولا ماثيو،1 جملة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للفضاءات القصيّة في فرنسا، خلال تسعينيات القرن الماضي. ويتخذ الكاتب في الرواية مدينة “هيلانج” (Heillange)*، نموذجاً لتلك المدن القصية التي تعاني ويلات الانحسار الصناعي (Désindustrialisation)، وتحولات مرحلة التسعينيات من القرن العشرين بمخاضاتها العسيرة، وتحولاتها الجذرية بعد سقوط المعسكر الشرقي، وتغوّل نظام العولمة والرأسمالية الجديدة. ويرصد الأثر السلبي لتلك التحولات على الطبقة العاملة في الهامش الفرنسي (مدينة هيلانج شرق فرنسا). وعلاوة على ذلك يعرض العمل موضوعات أخرى، من أبرزها تسريد فصل الصيف بفورانه وجموحه، وانفلات الرغبات ونداءات الجسد فيه، خصوصاً لدى فئة المراهقين الميالين إلى التحرر والانطلاق، في ظل إكراهات الواقع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم لفضاء الأحداث. يحضر الحس الاجتماعي للرواية كذلك في إبراز التفاوتات الطبقية في مدينة هيلانج بين العمال المسرّحين من العمل بعد الانحسار الصناعي في المدينة، التي تعتمد على معامل صهر الحديد، وبين طبقة كبار التجار ومحترفي السياسة في المنطقة. كما تستحضر الرواية مشكلة المهمشين، خصوصاً مهاجري المغرب وشمال إفريقيا، وتتتبّع الحيف والاستغلال الذي لحقهم ومس أبناءهم من بعدهم. ويقتحم العمل أيضاً مجال التربية، محاولاً رصد اختلالاتها المتمثلة في العلاقة المتوترة بين الآباء والأبناء في الفضاء المتخيل.
وعلى هذا الأساس سنحاول قراءة هذا العمل مسترشدين بالأسئلة التالية: كيف تم تشييد الرواية من الناحية الفنية؟ ما هي العوامل السردية المحركة للأحداث والمحفزة لمواقف الشخصيات؟ ما هو الجديد الذي يمكن أن تكون الرواية قد حملته للمنجز الروائي الحديث في فرنسا، وهو ما قد يكون أهلها للفوز بجائزة غونكور؟
2– الحكاية:
تدور أحداث هذه الرواية في أصياف سنوات: 1992 و1994 و1996 و1998 بشرق فرنسا، حيث تقع مدينة عمالية صغيرة تدعى هيلانج، كانت الأفران لصهر الحديد (Les hauts-fourneaux)** السبب الرئيس في تواجدها. تتعقّب الرواية تبعات إغلاق تلك الأفران وتشريد عمالها، ما جعل المدينة تدخل في حالة من الركود الاقتصادي، والكثير من الأزمات والتوترات الاجتماعية. بطل الرواية هو الشاب أنطوني (Anthony) وأسرته المتشكلة من والده باتريك كاساتي (Patrick Casati) (عامل سابق في شركة صولوديا للصلب) ووالدته هيلين كاساتي (Hélène Casati). وتشاركه الحكاية مجموعة من الشخصيات الفاعلة سردياً مثل: الشاب حسين بوعلي (Hacine Bouali) ووالده مالك بوعلي (Malek Bouali) (عامل سابق بشركة صولوديا أيضاً)، والشابة ستيفاني شوسوي (Stéphanie Chaussoy) وأسرتها المكونة من والدها بيير شوسوي (Pierre Chaussoy) (تاجر سيارات، ورئيس جمعية نادي اليخوت، والعضو البارز في عِمادة المدينة) ووالدتها كارولين شوسوي (Caroline Chaussoy)، وصديقتها كليمونص (Clémence)، وابن عمة بطل الرواية، وابنة عمته كارين (Carine Mougel)، وصديقتها فانيسا ليونار (Vanessa Léonard)، وعمته إيرين (Iréne)، ولوك غروندمانج (Luc Grandemange) (جار باتريك كاساتي، وزميله في شركة صولوديا المفلسة) وزوجته إيفلين غروندمانج(Evelyne Grandemange)، والشاب سيمون روتيي (Simon Rotier) وأخوه رومان روتيي(Romain Rotier) (ابنا أسرة نافذة في المدينة)، وغيرها من الشخصيات الثانوية والعابرة.
· 1992 رائحة روح المراهقة:
تبدأ الحكاية صيف سنة 1992، حيث كان عمر أنطوني آنذاك أربع عشرة سنة. قرر حينها أن يعبُر رفقة ابن عمته (أربع وعشرون سنة) إلى شاطئ المؤخرات العارية. بعد سرقة قارب من أحد أندية الترفيه، وبلوغ الشاطئ، وجده الشابان فارغاً إلا من فتاتين وصديقٍ لهما(ستيفاني شوسوي وصديقتها كليمونص، وأليكس (Alex) الرياضي). بعد التعرف عليهما، سيقضون الليل جميعاً بالشاطئ يتناولون المخدرات. وفي اليوم الموالي سيسرق أنطوني دراجة والده النارية، وسيتوجه رفقة ابن عمته إلى الحفلة التي دعاهما إليها أليكس في بلدة درامبَلْوَا(Drimblois) المجاورة لمدينتهما. وسيداهم الحفلة الصاخبة الجانح حسين بوعلي، الذي تنحدر أسرته من مدينة تطوان، وصديقه. وبعد رفض دخولهما من الجمع المحتفل، سيسرقان دراجة أنطوني. هنا ستأخذ الأحداث منحى أكثر درامية. بعد عودة أنطوني إلى المنزل لم يخبر والده العنيف بقصة السهر والدراجة، لكن والدته التي رأته يُخرج الدراجة، صفعته خلسةً، وأمرته بمرافقتها إلى أسرة مالك بوعلي لاسترداد الدراجة، إلا أنهما لم يجدا أثراً لها ولا لحسين. ستتكرر زيارة ستيفاني وكليمونص لمنزل ابن العمة لاستهلاك المخدرات. في هذه الفترة سيغرم أنطوني بستيفاني رغم أنها لم تكن تعبأ به، لأنها على علاقة مع سيمون روتيي ابن العائلة الثرية. وفي اليوم الموالي، ستتفاجأ الأم هيلين وهي قادمة من المسبح، بنار كبيرة تلتهم دراجة الأب أمام منزلها، والفاعل هو حسين بوعلي انتقاماً من التعنيف القاسي الذي تلقاه من والده مالك. جُن جنون باتريك كاساتي نتيجة ذلك، واضطرت زوجته هيلين وابنها إلى الاختباء عند أختها إيرين. وفي الغد عثر أنطوني على مسدس، وتوجه إلى الضاحية لتصفية حسين، لكنه لم يستطع القيام بذلك، فاكتفى بالبصق في وجهه.
· 1994 يمكن أن تكون لي:
سينتهي الأمر بالطلاق بين والدي أنطوني الذي سيواصل الحياة مع والدته هيلين. وفي صيف 1994 سيشتغل أنطوني في نادي اليخوت، لكنه سيدخل يوم حفلٍ خاصٍ يقيمه النادي في عراك مع رومان بسبب ممارسة الأخير للجنس مع القاصر صونيا (Sonia)، وسيطرد من العمل. بعد التحاقه بمخيم الكشفية في الغابة المتاخمة للمدينة، سيعيش أولى تجاربه الجنسية مع الشابة فانيسا، صديقة ابنة عمته. أما حسين بوعلي فسيضطره أبوه للسفر معه إلى المغرب. وللترفيه عن نفسه، وهروباً من الجو الممل في المغرب، ومن تقريعات كبار العائلة الذين لجأت الأسرة إلى منازلهم، بعد أن تفاجأ الأب بعدم اكتمال بناء منزله، بسبب فساد الإدارة والمسؤولين المغاربة، كان يستنجد حسين بالبحر والحشيش، وبالتملي بطلعة غزلان التي ستترك لديه فراغا بيّناً، بعد زواجها بالمعلم يزيد، والرحيل معه إلى مدينة فاس. وبعد عودة حسين وحيداً إلى أوروبا، سيصبح مُهرباً للحشيش بين المغرب وأوروبا بمساعدة قريبه إدريس. فكدس نتيجة ذلك أموالا مهمة من تهريب المخدرات، سيحاول استثمارها رفقة إدريس في مشاريع عقارية بشمال المغرب، إلا أن الأموال ستسرق منهما بسبب سذاجتهما، وجهلهما بالميدان، فتورطا مع القضاء، والمتعاملين معهم، وتجار المخدرات.
سيحضر لجنازة لوك غروندمانج، زميل بارتريك كاساتي ومالك بوعلي في شركة صولوديا، جميع العمال وأسرهم لتأبين الميت بمقر الشركة المفلسة. في غمرة حفل التأبين سيتوجه أنطوني إلى مرحاض الحانة المرتبط بمقر الشركة، وسيتبعه حسين بوعلي ويعتدي عليه. سيقصد الأب باتريك بدوره المرحاض، وسيشاهد الاعتداء على ابنه. بعد التعرف على هوية حسين، سدّد له باتريك لكمات قوية، تسببت في كسر أسنانه، وأدخلته في غيبوبة، انتقاماً للمأساة التي تسبب فيها له ولأسرته. وبعد انسحاب أنطوني من الحفل، التقى ستيفاني التي ستستغل تعلُّقه بها، وستحرضه على سرقة قنينة فودكا من نادي اليخوت، كما ستستغله في إشباع رغبتها الجنسية، دون أن تسمح له بتلبية كامل رغبته.
· 14 يوليوز 1996 الحمى:
حصل أنطوني على شهادة البكالوريا، وقرر الدخول إلى الجندية، والابتعاد قدر الإمكان عن والده الذي أصبح مدمن خمر، ويعيش حياة بائسة. أما حسين فقد اشتغل في شركة لهدم المنازل القديمة، وغير المرغوب فيها، وتزوج الشابة كورالي (Coralie)، في حين عاشت ستيفاني تجربة قاسية في باريس، بسبب عدم قدرتها على مواكبة الدراسة، وبسبب صعوبة الحياة في باريس. سيلتقي الجميع في حفل 14 يوليوز الوطني بشاطئ بحيرة المدينة. كما سيُلقي عمدة المدينة ونائبه بيير شوسوي خطاباً مملاً وزائفاً عن منجزات المدينة وآفاقها الواعدة خصوصاً في الجانبين الترفيهي والسياحي. بعد وقت وجيز سيلتقي أنطوني بستيفاني بعد ما تغير كل منهما، وسيرقصان على إيقاع موسيقى الحفل، وسيمارسان الجنس في سيارة أنطوني، لكن الأمر كاد أن ينتهي بكارثة، بعدما تحلق حول السيارة مجموعة من المنحرفين، وحاولوا اقتحامها، قبل أن ينطلق أنطوني بالسيارة بعيداً. أما باتريك الذي كان يبحث عن ابنه ليودعه قبل توجهه إلى الجندية، فقد رآه يراقص ستيفاني في الحفل، وسار ثملاً صوب البحيرة، وانتحر غرقاً، وقد شهد الواقعة حسين بوعلي الذي راقبه حتى غاب وسط المياه.
· 1998 سأنجو:
عاد أنطوني إلى هيلانج خائباً من الجندية بسبب كسرٍ تعرض له في مباراة لكرة القدم، كما سيعود أكثر إحباطاً من باريس، بعدما فشل في إيجاد عمل هناك. وبعد مزاولة العديد من الأشغال بهيلانج، سيستقر في معمل غوردون للتلحيم والحدادة. أما حسين فقد بدأت ملامح فشله في الزواج تتجلى يوماً بعد آخر، خصوصاً بعد ميلاد ابنته أوسيان (Océane)، بسبب تغير مزاج كورالي، وتهوّر حسين ولامبالاته. في حين استقر والده بشكل نهائي في المغرب، يعاني الويلات مع مرض عضال. وبعد فوز منتخب فرنسا على كرواتيا في نصف نهائي كأس العالم، سيلتقي أنطوني بحسين، وفي غمرة النشوة وحماس الفوز، سيطلب أنطوني من حسين السماح له بتجريب دراجته النارية، ففر بها صوب منزل ستيفاني، لكنه وجدها قد تغيرت كلياً، وتستعد في اليوم الموالي، للذهاب إلى كندا حيث يوجد صديقها الجديد، وحيث تدرس الصحافة في معهد تكوين الصحفيين، وتشتغل نادلة بالموازاة مع ذلك، ما جعل أنطوني يعود إلى منزله منكسراً. في الغد قرر اللقاء بوالدته في الشاطئ، متجنباً الحديث عن الأب وعن كل المنغّصات. وبعد انسحاب هيلين لمتابعة مسلسلها، ظل أنطوني يتأمل مجموعة من المراهقين يعبثون في المياه، ويعزفون الموسيقى مذكرين إياه بالأيام الخوالي. فقرر بعد رجوعه من الشاطئ إلى منزله، إرجاع الدراجة النارية لحسين.
3- خطاب العتبات:
ورد عنوان الرواية وسط صفحة الغلاف، بعد اسم المؤلف مباشرة، وقد كُتب بخط بارز وبلون وردي باهت، وأسفله المؤشر الجنسي (رواية). العنوان هنا ذو طبيعة موضوعاتية، كما يندرج ضمن ما يسمى بـ”العناوين المقتبسة”،2 لأنه اقتطف من سِفْر “حكمة يشوع بن سيراخ”، من الإصحاح الرابع والأربعين، الآية التاسعة. وقد وضَعَ الكاتب هذه الآية كتصدير (Epigraphe) للرواية في الصفحة التاسعة، ونورد ترجمتها كالتالي: «ومنهُم مَنْ لا ذِكْرَ لهُم، وقدْ هَلَكُوا وكَأنَّهُم لم يكونوا قطُّ، ووُلِدوا كأَنّهم لم يُولَدوا هُم وبُنُوهُم بعْدهُم»3.المقصود بالآية كما يفهم من سياقها، هو أن الناس قسمان: قسم يترك خلفه أثراً (مجداً، سلطاناً، حكمة…) يتوارثه أبناؤه والأجيال من بعده. وقسمٌ نكرة، يَعبُر الحياة دون أن يخلّف أثراً يُذكَرُ به، وكأنه ما عبَرها، ويسير على نهجه خَلَفُهُ. فما علاقة هذه الشذرة الدينية/التاريخية بالرواية والسياق الحالي؟ الواقع أن الوضع الذي يعرضه الكتاب المقدس هنا يكاد يكون عابراً للسياقات التاريخية، إذا ما تم إنزاله من السماء (المقدس) إلى الأرض (الدنيوي). وغالباً هذا هو مرام الكاتب، فالمنطق الطبقي كما يرد في الرواية، يقضي أن الثري والنافذ يورّث لأبنائه الثراء والمجد، والفقير لا يورث لأبنائه سوى الشقاء والعوز، وهو حال الطبقة العاملة التي تُسرِّدها الرواية. أما اللون الوردي فله إحالتان: الأولى تشير إلى الحب والنشاط العاطفي والجنسي لمرحلة المراهقة، وهي تيمة أساسية في الرواية. والثانية تشير إلى التصور الوردي الذي قد يشكله المرء عن الحياة في مرحلة المراهقة، وفي ذروة النشاطين العاطفي والجنسي، والذي يخبو تدريجياً مع التقدم في العمر، وهو ما يتضح بجلاء في المسار السردي للشخصيات المراهقة داخل هذه الرواية (أنطوني، ابن عمته، ابنة عمته، حسين، ستيفاني، كليمونص، كورالي…).
يتضمن غلاف العمل الروائي صورة فوتوغرافية، في مركزها شابان يافعان يقبلان بعضهما البعض. يرتدي الشابان لباساً صيفياً/شاطئياً: سروال قصير بالنسبة للشاب، وحمالة صدر وسروال قصير بالنسبة للشابة. وأمامهما حذاء رياضي يغلب عليه اللون الأبيض وهو خاص بالشاب، وشِبْشِب خفيف ومذهّب خاص بالشابة. تعانق الشابة الشاب المتكئ على إحدى ذراعيه، وتقبّله، وفي كلتا يديهما سيجارة مشتعلة. يفترشان فوطتي بحر، وضعاها فوق غطاء خاص إما بمجاري المياه العادمة أو بأسلاك الهاتف. أما خلفية الصورة فهي عبارة عن أشجار كثيفة توحي لنا وكأن الأمر يتعلق بغابة، وبعض الحشائش وورود برية صفراء. كما يحيل لباس الشابين ووضعهما ومظهرهما أولاً على أن الزمن فصل صيفٍ، وثانياً على نوعٍ من اللامبالاة والاستهتار–خصوصاً الجلوس فوق غطائي أسلاك الكهرباء أو الصرف الصحي- التي تسم هذه المرحلة العمرية، ويتلاءم اللون الأخضر الطاغي على الصورة مع هذه المرحلة، وهي مرحة الشباب والانطلاق والاندفاع. أما علاقة الصورة بالنص، فهي علاقة ترابط وتضافر وتلخيص، إذ تحيل مؤثثات الصورة على جزء مهم من الفضاء الذي تجري فيه الأحداث (الغابة والشاطئ)، بينما تكثف صورة الشابين موضوع الرواية (الصيف، المراهقة، الحب، وتحرير طاقات الجسد…).
يقسم الكاتب هذه الرواية إلى أربعة فصول، ويضع لكل فصل إطاراً زمنياً وعنواناً. والعناوين عبارة عن اقتباسات لعناوين أغاني عالمية وسَمَ معظمها مرحلةً معينة من حقبة التسعينيات من القرن العشرين. الفصل الأول: “1992 روائح روح المراهقة“ (Smells Like Teen Spirit)، وهو عنوان أغنية شهيرة لمجموعة نيرفانا الأمريكية المتخصصة في صنف من الموسيقى الصاخبة (Rock and roll) يُدعى بـ “الروك البديل” (Alternative rock). والأغنية من الألبوم الثاني للمجموعة، والمعنون بـ “لا تكثرت”(Nevermind) (1991). وقد حقق الألبوم حينها مبيعات خيالية، وانتشر بشكل هائل بين فئة الشباب والمراهقين، وقد طبع المرحلة الممتدة من سنة 1991 إلى سنة 1994، تاريخ انتحار مغني الفرقة كورت كوبين (Kurt Cobain). الفصل الثاني: “1994 يمكن أن تكون لي“ (You Could Be Mine)، وهي أغنية معروفة للمجموعة الموسيقية الأمريكية (Guns N’ Roses) (بنادق لا ورود)، وهي كذلك فرقة مختصة في الموسيقى الصاخبة، وتحديداً في الصنف المدعو بالهارد روك (The Hard Rock). الأغنية من ألبوم “استثمر وهمك II” (Use Your Illusion II) الصادر سنة 1991، وقد حقق بدوره في المرحلة المذكورة، نجاحاً هائلاً في الولايات المتحدة وغيرها، وانتشر انتشاراً واسعاً خصوصاً لدى فئة الشباب والمراهقين، وغطى على غرار سابقه النصف الأول من حقبة التسعينيات. الفصل الثالث: “14 يوليوز 1996 الحمى” (La fièvre)، وهي أغنية لمجموعة الراب الفرنسية (سيبريم إن تي إم) التي ينحدر أعضاؤها من أحياء ضاحية سين سان دوني شمال باريس. الأغنية من الألبوم الثالث للمجموعة، والمعنون بـ “باريس تحت القنابل” (Paris sous les bombes)، الصادر عام 1995. الفصل الرابع: “1998 سأنجو” (I Will Survive)، وهي أغنية للمغنية الأمريكية غلوريا جينور (Gloria Gaynor)، ترد ضمن أنجح ألبوماتها “مسارات الحب” (Love Tracks) الصادر عام 1978. هذه الأغنية مزيج من إيقاعات البوب والسول والجاز، وهي أغنية طافحة بالكثير من البهجة والأمل. أما السؤال الذي يتمخض عما سبق ذكره فهو التالي: ما علاقة هذه الأغاني بالفصول التي تتصدرها؟ لعل أبرز وظيفة تظهر هنا في علاقة العناوين الداخلية بالفصول هي: تنشيط أفق انتظار المتلقي، لكن أيضاً التلخيص، على اعتبار أن الأغاني الثلاث الأولى هي عناوين مُلخصة لمراحل من حقبة التسعينيات بالنسبة لشريحة الشباب والمراهقين التي يمثلها في الرواية بطلها أنطوني وابن عمته، وابنة عمته، وصديقتها فانيسا، وحسين بوعلي، والشابتان ستيفاني وكليمونص، والأخوان سيمون ورومان… وهي فئات هائمة، متمردة، تبحث عن التحرر والانطلاق من خلال الموسيقى والمخدرات والجنس، في محاولة للانفلات من قبضة النظامين الاجتماعي والاقتصادي. موسيقى الروك الصاخبة هي أبرز مظهر من مظاهر التمرد الفني على الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الغربية. وقد ارتبطت خلال مراحل السبعينيات بظاهرة الهيبيزم(Hypisme) والمد اليساري، واستمر نفوذها الجماهيري إلى حدود حقبة التسعينيات، بعد انهيار المعسكر الشرقي، وتغوّل نظام العولمة والاقتصاد الرأسمالي الذي سحق الطبقات الدنيا في المجتمع، خصوصاً فئة العمال وأبنائهم المحرك الأساس للعمل الروائي. ثم إن الأغاني المقتبسة هنا تتلاءم إيقاعاتها مع إيقاع العملية السردية واندفاعات المراهقة، الرواية تنطلق بالموسيقى الصاخبة المتلائمة مع تصاعد السرد وفوران المراهقة، ثم تشرع في الخفوت مع أغنية الراب الكئيبة (الحمى) التي تشكل بداية الوعي الشقي لدى مراهقي الرواية، ويستمر الركود مع أغنية السول الهادئة، مؤشراً على هدوء مواقف الشخصيات ورضاها بواقعها المر الذي لا مفر منه، ومنسجماً مع انفراج العملية السردية، وانحدارها بهدوء صوب الوضع النهائي.
يضاف إلى ذلك أن المعاني المباشرة لهذه المناصات أو النصوص الموازية (Paratextes) متساوقة مع مضامين الفصول التي تتصدرها؛ فهي تقوم هنا بوظيفة التكثيف. روائح روح المراهقة: تلخص اندفاعات المراهقة التي تسم الفصل الأول (سرقة البطل وابن عمته لمركب من نادي اليخوت؛ – تناول المخدرات رفقة مراهقين آخرين؛ – سرقة أنطوني لدراجة والده النارية؛ – محاولة استخدام السلاح الناري في مواجهة حسين بوعلي…). يمكن أن تكون لي: إحالة مباشرة على رفض بطل الرواية لحب الشابة فانيسا، ومحاولته امتلاك قلب ستيفاني شوسوي لكن دون جدوى. الحمى: تشير إلى القلق الذي حل بالشخصيات نتيجة تعسّفات الحياة وضغط الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، والذي كانت نتيجته النضج المبكر مباشرة بعد المرحلة الثانوية، وتوديع مرحلة اللهو والجنون (- اشتغال حسين بوعلي في عمل شاق (هدم المنازل)؛ – معاناة ستيفاني في باريس مع ظروف الدراسة والسكن؛ – محاولة الخلاص، وقرار الالتحاق بالجندية بالنسبة لأنطوني، إضافة إلى انتحار الأب). سأنجو: تؤشر على ضرورة مواصلة العيش بأي ثمن (اشتغال أنطوني في معمل للحدادة، وهجرة ستيفاني إلى كندا، والاشتغال نادلة لدعم دراستها للصحافة).
يتضمن ظهر الغلاف وجهة نظر الناشر حول العمل الروائي، وتعريفاً مقتضباً بالمؤلّف. وجهة نظر الناشر تجمع بين التلخيص والتعريف والقراءة الشخصية، بغاية تحقيق البعدين التواصلي والتسويقي للمنتوج. وتضع العمل في إطاريه الزماني والمكاني، وتعمل على تقديم الشخصية الرئيسية (البطل)، ثم العنصر المربك للعملية السردية (سرقة القارب رفقة ابن العمة)، ثم ما يليه من انخراط الشخصيات في مأساة الحياة. ينتقل الناشر بعد ذلك لرصد بعض موضوعات العمل خصوصاً ما يرتبط بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للمدن والبلدات النائية في فرنسا، وهي تتراوح بين عالمين: عالمٌ يحتضر، وآخر قادم بقوة وهو عالم العولمة وسطوة رأس المال.
4- الجوانب الفنية:
الرواية ذات طابع اجتماعي واقعي، تعرض وقائعها بلغة يطبعها الكثير من الهجنة، حيث تقترب أحياناً من لغة التخاطب اليومي، خصوصاً لغة فئة الشباب وأبناء المغاربيين والضواحي الذين يمزجون لغة البلد الأصلي باللغة الرسمية، ولغة الخطاب السياسي ممثلة في خطب عمدة المدينة وبيير شوسوي، ثم لغة الجسد المتمثلة في الممارسات الجنسية في الفصول الثلاثة الأولى، علاوة على اللغة الانجليزية. ومُؤدّى ذلك – إضافة إلى الحضور الطاغي للمكون الطبيعي والاهتمام الملفت للمؤلف باللباس والمظاهر باعتبارها دليلاً إما على الانتماء الطبقي أو اهتمامات الشباب- طغيان تقنية الوصف الخارجي الذي يلاحق المظاهر والأشكال. أما ما يطبع مكون الشخصية في الرواية، فهو حضور نوع من التقاطب والتضاد بين الآباء والأبناء (باتريك كاساتي وزوجته هيلين في مقابل أنطونيو -بيير شوسوي وكارولين شوسوي في مقابل ستيفاني -مالك بوعلي وزوجته رانيا في مقابل حسين -والدا فانيسا في مقابل فانيسا -إيرين أخت هيلين كاساتي في مقابل ابنها وابنتها كارين). وهذا يدل على أزمة عميقة في الجانب التربوي تحاول الرواية إبراز بعض تجلياتها. وما يسم الشخصية أيضاً في استراتيجية الكتابة، هو جعل شخصية واحدة مركز الأحداث في كل محور، وهذا التناوب في الأدوار يطغى على الرواية، فلا تسلم منه إلا محاور قليلة.
البناء السردي للرواية تقليدي يساير التعاقب المنطقي للزمن (من سنة 1992 إلى سنة 1998)، وحتى التبئير لا يشذ عن القاعدة، حيث يهيمن على الرواية التبئير الصفر، او السارد المحيط بالكون السردي. يتسم مكون المكان في بعض الأحيان، بالمفارقة؛ فهيلانج -مسرح الأحداث- هي مكان مُشتهى ومُستكره في نفس الوقت، مُشتهى لأنه فضاء الألفة والطفولة والذكريات والحنين والحب والمغامرات الجنسية في فضاءاته الطبيعية المتنوعة، ومُستقبح لأنه مكان الفقر والقهر والتهميش والعنف. أما باريس فإنها تبدو في الرواية كجزيرة معزولة صعبة المنال، ومكان ضاغط، عنيف، مُغرق في الأنانية، لافِظٌ للأغراب والمغامرين وشذاذ الآفاق (أنطوني وستيفاني).أما الزمن السردي فيبرز في تأطير الفصول الأربعة، إذ يُصدّر المؤلف كل عنوان من عناوين الفصول الأربعة بإطار زمني (1992- 1994- 1996- 1998) يفتتح أحداث الفصل، واحتلال الزمن لهذه المساحة يؤكد سطلته وتعاليه، وسطوة منطقه على مجريات الأحداث. ويظهر نفوذ الزمن وبطشه في أثره في الشخصيات التي تنضج أو تهرم في وقت قياسي. في العشرينيات تنمحي مظاهر المراهقة لدى أنطوني وستيفاني وكليمونص وحسين وكارين، ويجدون أنفسهم ملزمين بأن ينضجوا، وأن يغادروا بشكل نهائي أزمنة اللهو والعبث، وأن يغيروا المواقف والسلوكات، وأن يخفضوا سقف الطموحات، وأن يرضوا في النهاية بالمتاح. كما يظهر الهرم الشديد في شخصيات باتريك كاساتي، وهيلين كاساتي، وزوجة لوك غروندمانج في ظرف سنتين (بين عامي 1992 و1994)، ومرد ذلك كما يبدو، ليس إلى الزمن الفيزيائي، بقدر ما يعود إلى وطأة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية. وفي المحاور الخاصة بالجنس وكرة القدم -انتظار مقابلة نصف النهائي، وانتظار التعادل والفوز أمام كرواتيا- يتمدد الزمن النفسي خالقاً نوعاً من التشويق والمباغتة في العملية السردية. أما في أحياء الضاحية المهمشة، فـ”بعد الثالثة زوالاً، يصبح الوقت كعجينٍ منتفخ، ويتمدد بلا نهاية. كل يوم يشبه سابقه.” (الرواية، ص61)
تتفاعل رواية نيقولا ماثيو أيضاً مع فن السينما، أو مع فيلمين أمريكيين على وجه التحديد: الفيلم الأول للمخرج الأمريكي جيف نيكولس (Jeff Nichols)، وهو بعنوان: “ماد” (Mud)، خرج لصالات العرض عام 2013. تتقاطع الرواية مع هذا الفيلم في ثلاثة موضوعات أساسية: أ- التهميش المجالي: تدور وقائع الفيلم في بلدة نائية مهمشة قليلة الموارد، على ضفاف نهر الميسيسبي، ويؤثر ذلك بشكل سلبي على العلاقات البشرية في الفضاء الـمُسرّد، كما هو الحال في هيلانج الرواية. ب- المراهقة: من بين أبطال الفيلم مراهقين في عمر أنطوني هما إليس ونِكْبون، يعيش الأول منهم على غرار أنطوني، حدث طلاق الأبوين، وتبعاته النفسية.- المكون الطبيعي: يقع فضاء الأحداث، كهيلانج، بمحاذاة الغابة ومياه المسيسيبي. كما يتفاعل العمل الروائي وبشكل أكثر وضوحاً، مع فيلم “ليالي صيفية حارة” (Hot Summer Nights) (2017) للمخرج الأمريكي إيليا بينوم(Elijah Bynum).***وتتجسد نقط التلاقي بين العملين في العناصر التالية: أ- الزمن: تدور وقائع الفيلم في مرحلة التسعينيات التي تشكل الإطار الزمني للرواية أيضاً. ب- المراهقة: بطل الفيلم دانيال ميدلتون (الممثل ثيموتي شالاماي)، وصديقته ميكائيلا ستروبيري (مايكا مونرو) وشريكه في تجارة المخدرات هنتر ستروبيري (أليكس رو)… يعيشون جميعاً مراهقة عسيرة على غرار مراهقي الرواية. ج- الصيف: تدور وقائع الفيلم في فصل الصيف، إذ بعد زيارة المراهق د. ميدلتون لقبر والده، قررت والدته إرساله لإحدى قريباته في منطقة كيب كود جنوب شرق الولايات المتحدة ليقضي إجازته الصيفية هناك. د- المخدرات: في كيب كود سيتعرف د. ميدلتون على تاجر المخدرات هنتر ستروبيري، وسيصبح شريكه في استهلاك وتجارة المخدرات بالمنطقة الساخنة .ه- الانهيار الأسري ومشاكل التربية: في مطلع الفيلم تتضح العلاقة المتوترة بين الابن ميدلتون ووالدته التي ستحاول التخلص منه بإرساله عند إحدى قريباتها في المنطقة النائية، والأمر نفسه بالنسبة لهنتر ستروبيري الذي قطع الصلة بوالدته بسبب معارضتها لمتاجرته في المخدرات. و- الحب: يحضر الحب والجنس وأوهام المراهقة بقوة في الفيلم، كما هو الشأن في الرواية، في علاقة بطل الفيلم بأخت شريكه في تجارة المخدرات .ز- التيه والضياع: تعيش شخصيات الفيلم على غرار شخصيات العمل الروائي، المأساة والضياع بسبب مشاكل أسرية ومادية.
5– الانسحاق بين دولابي الجغرافيا والاقتصاد:
ما الذي يجعل الأسر المسرّدة في الرواية تعاني، وتعيش كل أشكال المأساة والبؤس؟ هل الخلل وجودي، أم له علاقة بنظام البشر؟ بالنسبة للباحث عن “الموضوعية” فإنه لن يجد الجواب في غير الشرط الإنساني. تعاني أسرة كاساتي وتتعرض للشتات. تعاني أسرة مالك بوعلي، فيجنح الأبناء، ويعيش الأب في الاغتراب، والأم في الانتظار بالبلد الأصلي. تعاني أسرة لوك غروندمانج، وينجرُّ لوك تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية إلى التطرف، بالتحاقه بالجبهة الوطنية اليمينية. بل حتى مترفو المدينة يعانون (أسرة شوسوي وخصوصاً ابنته ستيفاني)، لأن الجغرافيا غير منصفة. عزلة هيلانج في أقصى الشرق الفرنسي، وانعدام العدالة المجالية هو واحد من الأسباب التي جعلت شخصيات الرواية تعيش شتى أشكال البؤس (الضياع، الطلاق، العنف، التطرف، إدمان الكحول، استهلاك المخدرات والمتاجرة فيها، الإحباط، الانتحار…)، في حين يبدو المركز (باريس) فضاء متنائياً، متعالياً، غارقاً في مفارقاته وترفه الزائف، وغير مبالٍ بمآسي الهوامش. والنتائج احتضار هيلانج العمالية، التي ارتبط وجودها بأفران الحديد والمعادن قبل إفلاسها وتشرّد عمالها.
تتضافر الجغرافيا مع الاقتصاد، مشكلين عاملين معاكسين لمطامح الشخصيات في التحرر والانطلاق والرقي الاجتماعي. فضاء الأحداث مثل مدينة أشباح بعد إغلاق معامل صهر الحديد والصلب، وتوجه السياسة الاقتصادية نحو حلول جديدة تنسجم مع وعود العولمة، أي التوجه نحو الاستثمار في السياحة والترفيه، لجلب رفاه وهمي للساكنة التي تُقابل وعود السياسيين (عمدة المدينة وبيير شوسوي) بسخرية مُرَّة في احتفالات 14 يوليوز الوطنية. الاقتصاد (الرأسمالي) يحضر في الرواية كعنصر سردي مدمر للأفراد والجماعات. إنه رفقة الجغرافيا عنصر محفز لقلقٍ شبيه بقلق الانتقالات والمنعطفات الكبرى، كما يعبر عن ذلك في رواية “تس سليلة دربرفيل“4 لتوماس هاردي**** التي تجسد أوجاع التحديث وانتقال المجتمع البريطاني خلال القرن التاسع عشر إلى عصر التصنيع. رواية نيقولا ماثيو ذاكرة مدينة عمالية صغيرة ونائية تعاني أوجاع التسعينيات في صمت، وفي غفلة عن المركز. مدينة يعتصرها ألم وشقاء انتقال عسير من مرحلة التصنيع إلى عوالم الترفيه والسياحة ووعود زمن العولمة. لذلك تبدو فكرة الوطنية مهلهلة في هذه الرواية؛ فوطن الشخصيات هو هيلانج المحتضرة، ولا سبيل إلى لكسمبورغ المترفة، وباريس مجرد مرادف للفشل والإقصاء. والأعياد الوطنية (14 يوليوز مثلاً) ليست إلا مناسبات للرقص والجنس والسكر لتصريف القلق والبؤس. الوطنية مرتبطة في الرواية بكرة القدم لا غير، فبعد تأهل منتخب فرنسا إلى نهائي 1998 ستتناسى المدينة جل انكساراتها وخيباتها، وستضع إلى حينٍ خلافاتها وشروخها (تآلف أنطوني وحسين وانتشاؤهما بالنصر الصغير).
يحضر في هذه الرواية بشكل بارز إشكال المهمشين من خلال أسرة المغربي مالك بوعلي. إذ تعرِض الرواية مأساة مالك بوعلي بشكل مزودج ومضاعف مقارنة ببقية رفاقه في شركة صولوديا للصلب والمعادن، فقد أُستغل مالك كبهيمة لعقود إلى جانب بقية العمال المغاربيين، ثم غادرها بتعويض لا يحترم أدنى شروط الكرامة الإنسانية. ويتجلى الوجه الثاني لمعاناة الشخصية في تخلف البلد الأم وفساده، إذ كانت تذهب أغلب الأموال التي كان يرسلها مالك لزوجته المشرفة على بناء منزله في المغرب إلى الإدارات والمسؤولين الفاسدين، مما اضطره في نهاية الأمر إلى الاستقرار بالمغرب حتى يكمل بيت الأحلام، ولو في خريف العمر. أما ابنه حسين فيبدو أكثر استيعاباً لوضعه في مدينة هيلانج من أبيه المتواضع الثقافة. إلا أن التربية القاسية التي تلقاها من والده –نموذج ذلك العنف الشديد الذي وُوجِهَ به من طرف مالك بعد حادث سرقة الدراجة النارية- إلى جانب تعليمه المتواضع، والبيئة الجانحة التي ترعرع فيها (ضاحية المدينة)، كلها عوامل جعلته أكثر عدوانية وانحرافاً، فقد تاجر في المخدرات إلى جانب أبناء الحي الهامشي، ثم انتقل لتهريب الحشيش من المغرب إلى أوروبا. وإن كان مالك قد عاد في النهاية إلى المغرب ومكث فيه بشكل دائم بعد إصابته بمرض عضال، فقد كانت علاقة حسين بالبلد الأصلي هشة. لقد أتى إلى المغرب مراراً إلا أنه لم يكن يستطيع الاندماج مع أهله وذويه. لكن شخصية حسين سترضخ كغيرها، في نهاية المطاف، للواقع القاسي بإتباع خطى الآباء، ليؤكد مسارها، ومسار أنطوني بطل الرواية أيضاً، قاعدة توارث الكدح بين الآباء والأبناء، التي تُصرّ عليها الرواية، حيث اشتغل حسين في شركة لهدم المباني المتقادمة والمتخلى عنها، فكان أول ما شارك في هدمه شركة صولوديا التي اشتغل بها والده.
والمغرب الذي يقدم في الرواية لا شيء فيه إيجابي، فهو بلد التخلف والبؤس والفساد (فساد السلطة والإدارة والمجتمع). بلدٌ شرط وجوده واستمراره التهريب وتجارة الحشيش، كما يتضح في هذا المقطع السردي تمثيلاً لا حصراً: “كان حسين قد قدِم إلى المغرب مرات عديدة، خلال الإجازات الكبرى، إلا أنه لم يرغب مطلقاً في أن يختلط بساكنته. فقد وجدهم مثيرين للاشمئزاز، وأشعرته ذهنيتهم التي تحتفظ بشيء من القرون الوسطى بالارتياع[…] منطقة الريف تنتج سنوياً آلاف الأطنان من راتينج القنب الهندي. حقول خضراء متوهجة تغطي أودية بأكملها، تمتد على حد البصر، وعندما يُغمِض المسح العقاري عينيه، فكل واحد يدرك ما يتوجب عليه حيازته. وكان هناك أسفل المظهر المحترم، رجال ماكرون نراهم في شُرَفِ المقاهي، بذقونهم وبطونهم الكبيرة، يستأثرون في واقع الأمر بنهمٍ جديرٍ بمؤسسة وول ستريت. والمال غير المشروع يروي البلد من أعلاه إلى أسفله. بُنيت بتلك الملايين عمارات، ومدن، بل البلد بكامله. ولكلٍ سلمٌ لترويج البضاعة، تجار بالجملة، وموظفون، وأباطرة، وبغالٌ، ورجال الشرطة، ومنتخبون، وحتى الأطفال.” (الرواية، ص 220)
6- على سبيل الختم:
الملاحظ في فرنسا خلال السنوات الأخيرة أن هناك اهتماماً متزايداً، سواء في الإعلام أو على مستوى الجوائز الأدبية، بما يسمى بكتّاب المهمشين والشباب من أصحاب الرواية الأولى أو الثانية كما هو الحال مع نيقولا ماثيو. ويتضح هذا الأمر أكثر عند مراجعة بسيطة للحائزين على جائزة غونكور خلال السنوات الأخيرة (ليلى سليماني (المغرب)، كمال داود (الجزائر) عتيق رحيمي (أفغانستان)، ماري دياي (من أصول سنغالية)…). ولعل لهذا الأمر في كثير من الأحيان، خلفيات غير أدبية وفنية، وهذا ما يدفعنا إلى طرح سؤال الإضافة التي يمكن أن تضيفها رواية “أبناؤهم بعدهم” الحائزة على جائزة غونكور، للمنجز الروائي الفرنسي، خصوصاً وأن البعض قد يرى أن العمل مجرد استنساخ –من الناحية التقنية- لواقعية القرن التاسع عشر (زولا، بلزاك، ستاندال، فلوبير…). لكن يبدو لي -شخصياً- أن الإضافة النوعية التي يمكن أن تنفرد بها هذه الرواية أكثر من اهتمامها بموضوعات التهميش والإقصاء، هي بناؤها الموسيقي، حيث يُدَوْزِن المؤلف إيقاعات العملية السردية وفق إيقاعات الموسيقى أو بالأحرى الأغاني الشبابية التي انتقاها الكاتب بدقة كبيرة، حتى تتلاءم مع توترات واحترامات العملية السردية، أو مع استقرارها وفتورها عبر الفصول الأربعة للرواية، ولا شك أن هذا الأمر قد تطلب من المؤلف مجهوداً كبيراً. وعلى هذا الأساس يبدو أن تفاعل السرد مع الموسيقى في هذه الرواية هو ما يمنحها بعض الأفضلية إذا ما قورنت مثلا برواية “أغنية هادئة” للمغربية ليلى السليماني التي حازت جائزة غونكور عام 2016.
الهوامش:
1)– الرواية الأولى لنيقولا ماثيو بعنوان: “الحرب للحيوانات“.
Nicolas Mathieu, Aux animaux la guerre, Actes Sud, coll. « Actes noirs », 2014.
*) في الأصل هي مدينة هايانج (Hayange)، وهي مدينة تاريخية، تمتد جذورها التاريخية إلى القرون الوسطى. تقع في شرق فرنسا. تحيط بها الغابات، وأقرب نهر إليها هو لاموزيل. هي مدينة معدن الحديد بامتياز، وقد بُوشِر في استغلال أول منجم بها منذ القرن الثاني عشر ميلادي. تحوّلت هايانج خلال بداية القرن العشرين إلى مدينة صناعية، عندما أُسِّسَت بها العديد من الأفران العليا العصرية، الخاصة بصهر الحديد والمعادن. وشُرِع في إغلاقها في بداية التسعينيات، حتى أُغلقت جميعها سنة 2011. ولعل المؤلف قد حوّر الاسم من هايانج إلى هيلانج، لغايات تخييلية. (المصدر: موقع مدينة هايانج: https://www.ville-hayange.fr/fr/64/27/let39histoiredehayange.html. وموقع موسوعة ويكيبيديا: https://fr.wikipedia.org/wiki/Hayange#Histoire_industrielle.).
**) لمزيد من التفصيل حول هذه التقنية، يراجع الموقع الإلكتروني التالي:
(https://www.futura-sciences.com/sciences/dossiers/chimie-fer-tombe-masque-565/page/5/)
2)– عبد الحق بلعابد، عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص)، الدار العربية للعلوم ناشرون، ومنشورات الاختلاف، بيروت- الجزائر العاصمة، 2008، ص78- 84.
3)– سِفْر يشوع بن سيراخ (يوناني- انجليزي- عربي)، إعداد: باسم سليمان، الإصحاح الرابع والأربعين، الآية التاسعة، (دون مكان وتاريخ النشر).
***)-ترك نيقولا ماثيو في صفحته الرسمية في موقع فيس بوك، يوم 26 يونيو 2019، تدوينة يؤكد فيها عزمه السهر في تلك الليلة، لمشاهدة فيلم “ليالي صيفية حارة“، وعبّر في نفس التدوينة، عن إعجابه بالفيلم، وقدّم بعض موضوعاته. وقد أظهرت لي مشاهدتي الشخصية للفيلم، إلى أي حدٍ يتفاعل العمل الروائي مع الفيلم؟ تجدر الإشارة إلى أن الكاتب، له اهتمامٌ كبير بالسينما.كما كان بحثه في السلك الثاني بالجامعة، حول الجانب الفلسفي في سينما تيرانس ماليك (Terrence Malick).
4)– توماس هاردي، تس سليلة دربرفيل، ترجمة وتقديم: فخري أبو السعود، المركز القومي للترجمة، 2009.
****)– تحوّلت الرواية أيضاً إلى عمل سينمائي سنة 1978، على يد المخرج البولوني رومان بولانسكي الذي عمل على تجسيد القلق المذكور بشكل مميز جداً. (Tess: Directed by Roman Polanski)
مقال متميز لفت من خلاله الناقد الأنظار إلى ظاهرة الاستغلال الذي يتعرض له أفراد الجالية المغاربية في فرنسا والتيه الذي يعانون منه بسبب صعوبة الاندماج في المهجر وتخلف المجتمعات المغاربية على جميع الأصعدة. لذلك فهذه الشريحة تعيش بين سندان المهجر المستغل والقاسي ومطرقة جشع البلدان الاصلية الفاسدة التي تعتبر الجالية المغاربية البقرة الحلوب.