الإثنين , 11 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » أطروحات » إشكالية الهوية وقضايا التحديث في المغرب

إشكالية الهوية وقضايا التحديث في المغرب

فتيحة مسعودي، صورة الشرق والغرب في الرحلات المغربية إشكالية الهوية وقضايا التحديث (النصف الثاني من القرن 18 -مطلع القرن 20). أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ، تحت إشراف عبد الرحمان المودن ولطفي بوشنتوف، نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة محمد الخامس بالرباط، بتاريخ 14 يونيو 2019.

تهدفُ دراسةُ صورةِ الآخرِ في الرحلات المغربية إلى بَحْثِ إشكاليـةِ الهويـةِ وقضايا التحديـث في المغرب خلال المرحلة الممتدة بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين، ورصد تمثلاتِ الرحالةِ المغربي ومستوياتِ إدراكِه للحداثةِ الأوروبيةِ التي اقتبست منها أممٌ متعددةٌ مثلَ ما عَبَّرَتْ عنه تجاربُ التحديثِ في مصرَ وتركيا واليابان، والبحثِ عن العلاقة بين المشروع الإصلاحي التحديثي لـدى دعاةِ الإصلاحِ في المغرب خصوصا في القرن التاسع عشر وبين صورة الآخـرِ التي سعى الرحالةُ المغربيُ إلى بلورتها بشكل أكثر إيجابيةً في المخيـال الشعبـي، والوقـوفِ على الميكانيزمات التي ساهمت فـي تَكَوُّن هذه الصـورة من المشاهدة إلى الإدراك والوعي، وتتبع تفاعل الهوية المغربية ذات الجـذور التاريخية الرصينة مع هـذه الصورة ومع ضرورة التحديث.

وقد قفت الأطروحة عند الخلاصات التالية:

1- على مستوى المشاهدة والادراك، اختلفت مواضيع الصورة التي رسمها الرحالون المغاربة عن الآخر، باختلاف نظرتهم له والظروف التي تمت فيها الرحلة، إذ شهدت الصورة تطورا واضح المعالم بين نظرتهم للآخر وشعورهم بالذات وانتقادها. كما شعر الرحالة باختلالِ التوازن الحاصل بين ضفتي المتوسط منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ويبدو ذلك من خلال اهتمامه بنقل صورٍ مفصلةٍ عن القضايا التي شغلت المخزن وفكر “النخبة العالمة” المغربية. كما يبدو من خلال تسجيلِ الرحالةِ لتفوقِ الدولةِ الأوروبيةِ الحديثةِ على المغرب في تنويعِ مصادرِ تمويل خزينة الدولة، ووضع قوانين مسيرة للدولة ومنظمة للجهاز الحاكم، وتدوينها في سجلاتها والتزامها بها، حيث تَظَلُّ القوانينُ ثابتةً مهما تغيَّرَ الحاكمُ. وانتبه الرحالة إلى الاختلاف بين الذات والآخر على عدة مستويات، كممارسة التجارة والحكم والقضاء وتنظيم أجهزة الدولة ومؤسسات السلطة في أوروبا وبعض العادات المرتبطة بالتسلية والفرجة والأكل ونظرة الأوروبي للمرأة. وأدرك الرحالة أن الفرجة في أوروبا متبادلة بين السفارة المغربية والأوروبيين.

2- على مستوى الوعي: يلاحظ تدرج مستويات الوعي عند الرحالين المغاربة خلال زمن الدراسة. فقد ارتبط الوعي بدايةً بالتعرف على الأسلحة المبتكرة عند الغرب واقتنائها لإخضاع القبائل المغربية، ثم انتقل إلى البحث عن الأسس التي سمحت للدولة الحديثة في أوروبا بامتلاك جيش قوي. فكانت إجابة بعض الرحالين المغاربة: سَنُّ الدولة الحديثة قوانينَ عادلةً لضبط الجيش، وإشراكُ فئةِ التجار الأوروبيين في تموينه. وامتد وعْي بعض رحَّالي القرن التاسع عشر إلى تقبل الزمن الأوروبي وإدراج التقويم الميلادي كأداة للتأريخ إلى جانب التقويم الهجري في متونهم الرِّحلية، واستعمال التوقيت الأوروبي الدقيق مع شيوع استعمال الساعة كوسيلة فعالة لضبط الوقت، عِوَضَ اعتماد توقيت المسلمين “غير الثابت” المرتبط بمواقيت الصلاة. ووقع الرحالة المغربي في التباسٍ أثناء تكوين مشاهداته حين نَظَرَ إلى العلاقات التي ربطت المغربَ بالشرق الإسلامي الذي قدم نفسه في صور منفصلة عن بعضها. والملاحظ هنا هو الفرق بين صورة المشرق العربي الذي مصرَ، أرضَ العلوم والمعارفِ، وبلادَ الحجازِ دولةَ الوهابيين، وصورة الدولة العثمانية دولة الخلافة والمرجعية الإسلامية المنافسة للمغرب في قيادة العالم الإسلامي السني. والتبس على الرحالة المغربي أيضا النظر إلى أوروبا، التي مثلت في الآن نفسه صورة العدو الكافر الذي وجبت محاربته، وصورة المعرفة والنظام اللذين مكناها من الهيمنة على حوض البحر المتوسط وعلى التجارة العالمية وامتلاك الأسلحة التي احتاجها السلطان المغربي لإخضاع القبائل الخارجة عن طاعته. وهذا الالتباس هو ما يفسر الازدواجية التي عبر عنها الرحالة أثناء تشكل صورة أوروبا بين الإعجاب والكراهية، تارة كعدو مستعمر وأخرى كنموذج للاقتداء.

3- حدود الرحلة والغالب والغائب فيها: اختزل السلاطينُ المغاربةُ علاقاتِهم الدبلوماسيةَ مع أوروبا في القرن الثامن عشر في المهادنة وافتكاك الأسرى، وتقديم المساعدة للدولة العثمانية في حربها ضد روسيا، وقضاء مصالحَ آنيةٍ مِثْلَ قضاء أغراض السلطان واقتناء الأسلحة. ولم تَرْقَ هذه العلاقات في أي مرحلة من المراحل إلى علاقات ترعى مصالحَ مغربية ممتدة في الزمن بأوروبا، بل ينتهي عمل السفير بمجرد عودته. واحتفظ السلطان بمنظوره الخاص للعمل الدبلوماسي المتمثل في “السخرة”.. وقَصَرَ الجهازُ المخزني التحديثَ على الإصلاحات العسكرية، دون أن تظهر أي بوادرَ طيلة القرن التاسع عشر تشير إلى تفكير السلطة المخزنية في إحداث مدارسَ عسكريةٍ أو قوانينَ ضابطةٍ للجيش المغربي. وبحث دعاة الإصلاح من النخبة العالمة عن مُسَوِّغاتٍ شرعية تبيحُ استلهامَ مقوماتِ الحداثة الأوروبية، فانخرط بعض علماء الفترة في تأليف مصنفاتٍ ورسائلَ بعضها يبيح اقتباس “جيش النظام”، والبعض الآخر يُؤَصِّل لكيفية تموينه وأخرى اهتمت بمصادر تمويل بيت المال وغيرها من قضايا التحديث، غير أن ترجمة “المثقفين” وتأويلهم “لجيش النظام” لم تتجاوز فكرة اقتفاء النموذج الإسلامي. ونجهل حدود تأثير نصوص الرحلة المغربية على تعميق فكرة الإصلاح لدى المخزن والفئة العالمة، لأن المصادر المغربية التي اطلعنا عليها لم تسعفنا في تبيان الدور الذي لعبته هذه الرحلات إلى أوروبا أو إلى المشرق في تحريك الوعي المغربي بضرورة الإصلاح، خصوصاً وأن بعض هذه الرحلات لم يكتب لها الانتشار والذيوع مع غياب المطبعة. ولم يتح السفير المغربي لنفسه فُرَص الاِطلاع على جوانبَ من صور الحياة بأوروبا، وذلك لسببين: الأول استعجاله في قضاء مصالح السلطان الخاصة والعامة، والثاني امتناع السفراء عن مخالطة المسيحيين. يضاف إلى ذلك صعوبة محاورة الأوروبيين بسبب عائق اللغة والاعتماد على مترجمين معظمهم أوروبيين، وتحرج الرحالة من الحديث عن أمور يُثِيرُ الخوضُ فيها الشعورَ الدينيَ ومشروعية النظر إلى الذات الموصوفة. لا تكاد تخلو الرحلات السفارية من ديباجة تُعَرِّف بالسلطان ولي نعمة السفير، وبمكانته العالية على سائر ملوك وحكام الأرض، وأصله الشريف وقيادته للجيوش الجهادية، ومن الوصف التقريري للمشاهد، واستعمال خطاب مخزني جاف في معظم الأحيان. لا يتيح للمطلع على الرحلة في الغالب إمكانية تخيل العوالم الموصوفة، مقارنة بالرحلات الأوروبية. ويحضر في معظم الرحلات المغربية تسجيل مراحل السفر، والمدن والقرى التي اجتازها الرحالة وأحيانا المدد الزمنية التي استغرقها في كل مرحلة، والمصاعب التي صادفها أثناء سفره. ويغيب في متن الرحلة المغربية الاهتمام ببعض التفاصيل أثناء الوصف كتسمية الموصوف، وشكله وحجمه وقيمته المادية. والاهتمام بالمعطيات الكمية إلا نادرا. كما يغيب ذكر علة السفر وأهداف السفارة، باستثناء رحلات افتكاك الأسرى. ويتحاشى الرحالة في الغالب عقد مقارنات بين الذات والغير وذلك ربما لاعتبارات دينية، بينما تتحكم المصالحُ الدنيويةُ في حياة الأوروبيين.

4- بين الذات والآخر: يُلاحظ تباينٌ على مستوى إظهار الرحالة لشعوره بتميزه عن الآخر ما بين الرحلات نحو الشرق والرحلات نحو الغرب، حيث يميل الرحالة المتجه نحو الشرق إلى التذكير دوما بالانتماء الجماعي لبلاد الإسلام التي قلما وضعوا حدودا جغرافيةً لها. لذا كان اعتزاز الرحالة بهُويته وتفاخره بها أقل وضوحاً من غيره، باستثناء ما يتعلق بالعقيدة الدينية وممارساتها. بينما ينطلق الرحالون المغاربة الموفدون إلى أوروبا من تكفير الأممَ المسيحية، وتحريم السفر إلى أرضهم لأنها أرض حرب. لذا اضطر معظمهم إلى تبرير رحلاتهم نحو أوروبا تحت عناوينَ بارزةٍ تكاد تتشابه عند جميعهم، وتأكيد تميزهم عن الأوروبيين الكفار أو المسيحيين. واتسمت رحلات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين بتراجع شعور الرحالة المغربي بالفخر والاعتزاز بالذات بعد انكسار المغرب أمام الحداثة الأوروبية، لذا أصبح ملزما وهو يدون تقريره السفاريَ بالاعتراف بتفوق الآخر الأوروبي، وضبطه لكافة الأمور الدنيوية بفضل المعرفة والنظام. ورافق تراجعُ تعظيم الرحالة للذات استعمالُه لمصطلحات أكثرَ دبلوماسيةً في وصف الآخر. لكنه ظل وفياً لمواقف الرحالين المتقدمين في انتقاد كل ما يتعلق بالعقيدة والممارسات الدينية.

- فتيحة مسعودي

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.